الاثنين 13 ذو القعدة 1445 هـ
20 مايو 2024 م
جديد الموقع   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-53، كتاب الوضوء، الحديث 192و193و194و195و196و197و198و199و200   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-52، كتاب الوضوء، الحديث 187و188و189و190و191   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-51، كتاب الوضوء، الحديث 183و184و185و186   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-50، كتاب الوضوء، الحديث 176و177و178و179و180و181و182   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-49، كتاب الوضوء، باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين.   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (124-129)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (117-123)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (111-116)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (107-110)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (97-106)      

تفريغ شرح صحيح البخاري-14، كتاب الإيمان، الحديث 33و34 و35و 36 و37و38

الدرس الرابع عشر 03/02/1445ه – 19/08/2023

الحمد لله رب العالمين، أما بعد:

فنحن اليوم في الدرس الرابع عشر من دروس شرح صحيح البخاري في كتاب الإيمان.

وصلنا عند الحديث الثالث والثلاثين، عند "باب علامة المنافق".

"باب: علامة المنافق

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ أَبُو الرَّبِيعِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ أَبُو سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ»".

هذا في الباب في ذكر المنافق "باب: علامة المنافق".

العلامة والآية بمعنى واحد، وهي: الشيء الذي يدل على صاحبه ظاهرًا.

النفاق: قال أهل اللغة: وهو اسم إسلامي، لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به.

وهو -أي المنافق-: الذي يستر كفره ويظهر إيمانه، وإن كان أصله في اللغة معروفًا.

يقال: نافق ينافق منافقة ونفاقًا، وهو مأخوذ من النافقاء: أحد جحرة اليربوع، إذا طلب من واحد هرب إلى الآخر وخرج منه.

اليربوع: حيوان صغير يحفر حفرة في الأرض ويجعل لها بابين (مخرجين)، إذا أغلق عليه مخرج خرج من الثاني.

وقيل: هو من النَّفَق، وهو: السرب الذي يستتر به لستره كفره. انتهى كلامهم.

وشرعًا: النفاق نوعان:

1- نفاق اعتقادي -ويسميه بعض العلماء نفاق أكبر- وهو: أن يظهر الإيمان ويبطن الكفر.

فهو في حقيقة أمره كافر، لكن الذي يظهره للناس أنه مسلم، فيشهد الشهادتين ويصلي معهم إلى آخره...؛ لكن في حقيقته هو كافر، في باطنه كافر، هذا المنافق.

2- ونفاق عملي -ويسميه بعض أهل العلم نفاق أصغر-.

النفاق الأكبر (النفاق الاعتقادي) كفر أكبر، وصاحبه في الدرك الأسفل من النار، وهذا النفاق (الكفر الأكبر) حصل في المدينة.

أول ما حصل في المدينة بعد هجرة النبي ﷺ.

فالصحابة المهاجرون لم يكن فيهم نفاق، إنما النفاق حصل في المدينة من بعض أهل المدينة، وذلك لأنه في مكة كان النبي ﷺ والصحابة ما لهم قوة، ما لهم شوكة؛ فلا يدخل في الإسلام إلا من هو مسلم بحق.

بخلاف الوضع في المدينة، لما هاجر النبي ﷺ إلى المدينة وأسلم غالب أهلها صارت القوة للمسلمين، ومن يخشى على نفسه ولا يريد الإسلام أظهر النفاق، أظهر الإسلام وهو في حقيقته كافر، فنشأ المنافقون من هنا.

فهذا النفاق هو النفاق الأكبر أو النفاق الاعتقادي صاحبه كافر في اعتقاده وإن كان يظهر الإسلام.

فهذا صاحبه في الدرك الأسفل من النار، مثل هؤلاء يوجدون في البيئة التي تكون فيها الغلبة والقوة لأهل الإسلام.

أما النفاق العملي فهذا غير مخرج من الملة، صاحبه مسلم مؤمن في حقيقته في اعتقاده؛ لكنه يعمل بأعمال المنافقين مع وجود أصل الإيمان، فمعناه: أن بعض المسلمين الذين هم مؤمنون بالله يتصفون ببعض صفات المنافقين ويعملون بأعمالهم.

مثل: الكذب في الحديث، الغدر في العهد، إخلاف الوعد، هذا نفاق عملي، صاحبه مؤمن؛ ولكن فيه خصلة من خصال المنافقين.

فيجتمع في المؤمن نفاق وإيمان بهذا المعنى؟

نعم، نفاق عملي يجتمع فيه هذا، هذا عند أهل السنة والجماعة، وإن كان لا يجتمع عند المرجئة.

قال الحافظ: (لما قدم) يعني البخاري (أن مراتب الكفر متفاوتة وكذلك الظلم أتبعه بأن النفاق كذلك)

حتى النفاق أيضًا مراتبه متفاوتة، نفاق أكبر ونفاق أصغر.

وقال النووي: (مراد البخاري بهذه الترجمة أن المعاصي تنقص الإيمان، كما أن الطاعة تزيده.

وقال ابن بطال: (معنى هذا الباب كالأبواب المتقدمة قبله: أن تمام الإيمان بالأعمال، وأنه يدخل على المؤمن النقص في إيمانه بالكذب، وخلف الوعد، وخيانة الأمانة، والفجور في الخصام، كما يزيد إيمانه بأفعال البر) انتهى.

المعاني هذه كلها جيدة.

"قال: حدثنا سليمان أبو الربيع" هو سليمان بن داود العَتَكي، أبو الربيع الزهراني، البصري، نزيل بغداد، هو بصري نزيل بغداد، ثقة، يروي عن أتباع التابعين، مات سنة 234 في البصرة، روى له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.

هذا سليمان بصري، وسائر الإسناد مدنيون.

"قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر" هو إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري، الزُّرَقِي مولاهم، أبو إسحاق المدني، قارئ أهل المدينة، من أتباع التابعين، ثقة.

قال يحيى: ثقة مأمون قليل الخطأ صدوق، انتهى.

مات ببغداد سنة 180، روى له الجماعة.

"قال: حدثنا نافع بن مالك بن أبي عامر أبو سهيل"

التيمي، المدني، الأصبحي، حليف بني تيِّم، عم مالك بن أنس، تابعي، ثقة، روى له الجماعة.

"عن أبيه" مالك بن أبي عامر الأصبحي، أبو أنس، ويقال: أبو محمد المدني، جد الإمام مالك بن أنس، تابعي، ثقة، مات سنة 74 على الصحيح، روى له الجماعة.

"عن أبي هريرة" رضي الله عنه وأرضاه صحابي، تقدم.

"عن النبي ﷺ قال: «آية المنافق ثلاث»" أي: علامة المنافق الدالة عليه ثلاث خصال.

"«إذا حدث كذب»" الكذب معروف وهو: نقيض الصدق.

قال المهلَّب: (والمراد بالحديث -والله أعلم- من يكون الكذب غالبًا على كلامه ومستوليًا على حديثه، والخيانة على أمانته، والخلف على مواعيده، فإذا كان هذا شأنه قويت العلامة والدلالة، وأما من كان الكذب على حديثه نادرًا في خبره تافهًا، والخيانة في أمانته شاذة يدعي العذر فيها، والخلف في أوعاده مثل ذلك، معتذر بآفات منعته من الإنجاز فلا يقضى عليه بالنادر اليسير؛ إذ لا يمكن أن يسلم أحد من الكذب) هكذا قال، وخالفه غيره.

"«وإذا وعد»" والوعد معروف، وضده: الخلف "«أخلف»" الإخلاف: هو عدم الوفاء بالوعد، وهو على نوعين:

أحدهما: أن يعد وفي نيته أن لا يفي بوعده، وهذا أشر الخلف، ولو قال: أفعل كذا إن شاء الله تعالى، ومن نيته أن لا يفعل كان كذبًا وخلفًا. قاله الأوزاعي.

الثاني: أن يعد ومن نيته أن يفي، ثم يبدو له فيخلف من غير عذر له في الخلف. قاله ابن رجب، أدخلوا هذا أيضًا في الخلف في الوعد.

لكن قال غيره: خلف الوعد لا يقدح إلا إذا كان العزم عليه مقارنًا للوعد، فإن وعد ثم عرض له بعده مانع أو بدا له رأي فليس بصورة النفاق. انتهى.

إذًا هذه الصورة محل خلاف، أن يعد وهو في نيته أن يفي بوعده لكن طرأ له طارئ وغير رأيه -سواء له عذر أو لا عذر له- المهم غير رأيه، هل هذا يعتبر خلفًا أم لا.

وقال ابن رجب: (وقد اختلف العلماء في وجوب الوفاء بالوعد، فمنهم من أوجبه مطلقًا، وذكر البخاري في صحيحه أن ابن أشوَع قضى بالوعد، وهو قول طائفة من أهل الظاهر وغيرهم، ومنهم من أوجب الوفاء به إذا اقتضى تغريمًا للموعود) يعني إذا شخص وعد آخر، وبناء على هذا الوعد الثاني حصل تغريم فيه يعني خسارة وقعت عليه بسبب هذا الوعد، قالوا في هذه الحالة فهو مؤاخذ، وهذا محكي عن مالك، وكثير من الفقهاء لا يوجبونه مطلقًا. انتهى.

سيأتي في موضوعه إن شاء الله شرح هذا الموضوع، ليس موضوعنا الآن.

"«وإذا اؤتمن»" بصيغة المجهول، أي: جُعل أمينًا "«خان»" لا يؤدي ما اؤتمن عليه.

قال الترمذي رحمه الله: "وإنما معنى هذا عند أهل العلم نفاق العمل، وإنما كان نفاق التكذيب على عهد رسول الله ﷺ، هكذا روي عن الحسن البصري شيء من هذا أنه قال: النفاق نفاقان: نفاق العمل ونفاق التكذيب" انتهى.

فلا ضير في تسميته نفاق اعتقادي ونفاق عملي.

وقال أبو عبيد القاسم بن سلَّام: "وكذلك الحديث «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» ليس وجوب هذه الآثار كلها من الذنوب أن راكبها يكون جاهلًا ولا كافرًا ولا منافقًا وهو مؤمن بالله وما جاء من عنده ومؤدٍّ لفرائضه، ولكن معناها: أنها تتبين من أفعال الكفار، محرمة منهي عنها في الكتاب وفي السنة ليتحاماها المسلمون ويتجنبوها، فلا يتشبهوا بشيء من أخلاقهم ولا شرائعهم" انتهى.

وقد أجمع العلماء على أنه من كان مؤمنًا وفعل هذه الخصال لا يُحكم عليه بكفر ولا هو منافق يخلد في النار.

وقالوا: قد حدث إخوة يوسف فكذبوا، ووعدوا فأخلفوا، واؤتمنوا فخانوا ولم يكونوا منافقين.

وقال ابن أبي زمنين: "والنفاق: لفظ إسلامي لم تكن العرب قبل الإسلام تعرفه، وهو مأخوذ من نافِقِ اليربوع، وهو جحر من جحوره يخرج منه إذا أُخذ عليه الجحر الذي فيه دخل، فيقال: قد نفق ونافق ومنافق، يدخل في الإسلام باللفظ ويخرج منه بالعقد، شبيه بفعل اليربوع؛ لأنه يدخل من باب ويخرج من باب، فما كان من الأحاديث فيها ذكر النفاق وليس معناها أن من فعل شيئًا مما ذكر فيها فهو منافق كنفاق من يظهر الإسلام ويسر الكفر أنها معناها أن هذه الأفعال والأخلاق من أخلاق المنافقين وشيمهم وطرائقهم، هذا ومثله يدلك على ذلك" انتهى.

أخبر النبي ﷺ بهذا الخبر لأمرين: -فائدة تستفيدها من هذا الحديث-:

الأول: أن نحذر من هذه الصفات الذميمة؛ لأنها من علامات النفاق.

الأمر الثاني: لنحذر ممن يتصف بهذه الصفات، ونعلم أنه منافق يخدعنا ويلعب بنا ويضرنا بحلاوة لفظه وحسن قوله، فلا نثق به ولا نعتمد عليه في شيء؛ لأنه منافق.

قال ابن عثيمين وغيره: "وعكس ذلك يكون من علامات الإيمان، فالمؤمن إذا وعد أوفى، والمؤمن إذا اؤتمن أدى الأمانة على وجهها، وكذلك إذا حدّث كان صادقًا في حديثه مخبرًا بما هو الواقع فعلًا" انتهى كلامهم رحمهم الله.

هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم من طرق عن إسماعيل بن جعفر.

وأخرجه مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحُرَقَة، عن أبيه، عن أبي هريرة به.

ومن طريق حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة به.

وفيهما زيادة: «وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم».

قال ابن رجب: (وخرجاه في الصحيحين أيضًا من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» وفي رواية لمسلم: «وصلى وزعم أنه مسلم»، وفي رواية له أيضًا: «من علامة المنافق ثلاث») انتهى.

فالحديث صحيح ثابت عن أبي هريرة رضي الله عنه من طرق، فصحيح لا إشكال فيه، والزيادة محل الكلام عليها في صحيح مسلم إن شاء الله.

"حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ، كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ.» تَابَعَهُ شُعْبَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ"

"حدثنا قبيصة بن عقبة" هو ابن محمد بن سفيان بن عقبة بن ربيعة السُّوائي، من بني عامر بن صعصعة، أبو عامر الكوفي، يروي عن أتباع التابعين، صدوق، تكلموا في روايته عن سفيان الثوري.

الرواية التي معنا من رواية من؟ من رواية قبيصة، عن سفيان هو الثوري.

تكلموا في هذه الرواية أهل العلم الحفاظ لأنه سمع منه وهو صغير، ولكنه متابَع كما سيأتي إن شاء الله، مات سنة 215، روى له الجماعة.

ومما تعلمناه من شيخنا الوادعي رحمه الله في دروسه في مجالس صحيح البخاري قال: قبيصة بن عقبة ليس له في البخاري عن ابن عيينة إلا حديث واحد، وما عدا ذلك فهو عن سفيان الثوري.

يعني قبيصة يروي عن السفيانين، في صحيح البخاري التمييز بينهما سهل: رواية واحدة فقط لقبيصة عن سفيان ابن عيينة، والباقي كله قبيصة عن سفيان الثوري.

هذه الرواية هي حديث ابن عباس رقم 3053 «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده أبدًا» هذا الحديث رقم 3053، حديث ابن عباس الوحيد الذي جاءت فيه رواية قبيصة عن سفيان بن عيينة.

قال ابن حجر: (حدثنا قبيصة، حدثنا ابن عيينة كذا لأكثر الرواة عن الفربري، وكذا في رواية النسَفي، ولم يقع في الكتاب لقبيصة رواية عن سفيان بن عيينة إلا هذه، وروايته فيه عن سفيان الثوري كثيرة جدًا) انتهى.

"قال: حدثنا سفيان" هو ابن سعيد بن مسروق الثوري، أبو عبد الله الكوفي، أحد أئمة الإسلام في زمنه.

قال الحافظ أبو بكر الخطيب: (وكان إمامًا من أئمة المسلمين، وعلمًا من أعلام الدين، مجمعًا على إمامته بحيث يستغنى عن تزكيته، مع الإتقان والحفظ والمعرفة والضبط والورع والزهد) انتهى كلامه رحمه الله.

وقال شعبة وابن عيينة وأبو عاصم ويحيى بن معين وغيرهم: سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث.

وقال عباس الدُوري: رأيت يحيى بن معين لا يقدم على سفيان أحدًا في زمانه، في الفقه والحديث والزهد وكل شيء.

وقال أحمد بن حنبل: قال لي ابن عيينة: لن ترى بعينيك مثل سفيان الثوري حتى تموت.

وروى المروّذي عن أحمد بن حنبل قال: أتدري من الإمام؟ الإمام سفيان الثوري لا يتقدمه أحد في قلبي. انتهى.

كان ربما دلس رحمه الله.

ولد في خلافة سليمان بن عبد الملك، وقال محمد بن سعد: اجتمعوا على أنه توفي بالبصرة سنة 161، روى له الجماعة.

قال عبد الرحمن بن مهدي: سمعت سفيان يقول: ما بلغني عن رسول الله ﷺ حديث قط إلا عملت به ولو مرة.

بمثل هذا رفعهم الله، وليس بالتسلط على طلبة العلم بالقدح والجرح الباطل من أجل أن يتصدر المجالس ويقال فلان صلب في السنة.

الصلابة في السنة لا تكون بهذا، تكون بالورع والتقوى والعمل والتمسك بالكتاب والسنة والعمل بهما وتحري السنة والدفاع عنها، وبغض أهل البدع ومفارقتهم والولاء والبراء في الإسلام والسنة، بهذا تكون الصلابة في السنة، وبهذا كان هؤلاء الأئمة يعرفون بها، بمثل هذا.

قال أبو هشام: حدثنا وكيع، سمعت سفيان يقول: (ليس الزهد بأكل الغليظ ولبس الخشن، ولكنه قِصر الأمل وارتقاب الموت).

هذا معنى الزهد، وليس الزهد المـُتكلَّف كعمل المتصوفة وغيرهم، هذا زهد خارج عن السنة.

الزهد هو الذي كان عليه النبي ﷺ، إذا وجدت لباسًا لبست، إذا وجدت طعامًا أكلت، إذا لم تجد لم تبحث، والدنيا في يدك وليست في قلبك، هذا معنى الزهد الذي ذكره سفيان هنا.

وقال: (المال داء هذه الأمة، والعالم طبيب هذه الأمة، فإذا جر العالم الداء إلى نفسه فمتى يُبرئ الناس).

كيف سيعالج الناس من داء قد جره إلى نفسه، ومرض هو به؟

ففتنة المال عظيمة، وعلى العالِم كذلك، لأن الإنسان إذا فتن بالمال -العالم إذا فتن بالمال- صار قوله وفعله للمال يبيع دينه من أجل المال.

فمن عُرف عنه طالب علم يعرف عنه التلاعب بالمال لا يؤتمن على دين الله، لأنه يبيع دينه لمن يدفع أكثر، ويغير من أجل المال.

لذلك يجب على طلبة العلم أن يكونوا حذرين من فتنة المال أكثر من غيرهم.

اجعل الدنيا في يدك ولا تجعلها في قلبك، وكن على يقين بأنه لن يأتيك منها إلا ما كتب الله لك، انتهى الأمر، فلا تحرص عليها، احرص على تقوى الله سبحانه وتعالى؛ لأن الإنسان إذا كان همه الآخرة أتته الدنيا راغمة، بس، وهذا أمر قد شاهدناه في مشايخنا.

وقال: (لا نعلم شيئًا أفضل من طلب العلم بنية).

هذا من أفضل القرب إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن الإنسان لا يمكنه أن يكون عابدًا لله بحق إلا بعلم، إذا لم يتعلم لم يعبد الله سبحانه وتعالى كما أراد سبحانه، ولن يعرف التوحيد ولن يعرف الشرك، لا يتمسك بالتوحيد ويترك الشرك إلا بالعلم.

وقال: (زينوا العلم والحديث بأنفسكم ولا تتزينوا به).

تُظهر للناس أنك عالم وأنك تعمل بالكتاب والسنة، وحقيقة الأمر ليس كذلك، فتتكثر بالسنة وتتزين بها أمام الناس! زيّن نفسك بالكتاب والسنة وذلك بالعمل بهما، وليس العكس.

نصائح السلف عظيمة، وذات قدر، كلمات يسيرة تعطي معانٍ عميقة، وليست ككلام الخلف.

ترجمته حافلة بالفوائد، أنصح بقراءتها.

"عن الأعمش" هو سليمان بن مهران، إمام تقدم.

"عن عبد الله بن مرة" الهمْداني، الخارثي، الكوفي، تابعي، ثقة، مات سنة 100، وقيل قبلها، روى له الجماعة.

"عن مسروق" ابن الأجدع بن مالك الهمْداني، الوادعي، من وادعة همدان -قبيلة يمنية كبيرة-، أبو عائشة الكوفي، مخضرم، من أصحاب ابن مسعود الذين يُقرئون ويفتون، ثقة، فقيه، عابد، مات سنة 62، ويقال سنة 63، وقيل غير ذلك، روى له الجماعة.

قال ابن عيينة: بقي مسروقٌ بعد علقمة لا يُفضّل عليه أحد.

وقال علي بن المديني: ما أُقدّم على مسروق أحدًا من أصحاب عبد الله.

وقال يحيى بن معين: ثقة لا يُسأل عن مثله.

قال مسروق: (كفى بالمرء علمًا أن يخشى الله تعالى، وكفى بالمرء جهلًا أن يعجب بعمله).

﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾ فالعلم هو الذي يؤدي إلى خشية الله، وإذا لم يكن كذلك فليس بعلم، لا ينفع.

والعجب بالعمل: أن تعمل العمل وترى نفسك فيه، تتكبر حتى تزدري أعمال الناس.

"عن عبد الله بن عمرو" وهو صحابي جليل، تقدمت ترجمته.

"أن النبي ﷺ قال: «أربع»" أي: أربع خصال "«من كن فيه»" من كان متصفًا بها.

"«كان منافقًا خالصًا»" أي: خالصًا في نفاقه العملي.

"«ومن كانت فيه خصلة واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها»" أي: إلى أن يترك الخصلة.

فهذا يدل على أنه يجتمع في المرء إيمان ونفاق بهذا المعنى.

"«إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب»": هاتان تقدمتا.

"«وإذا عاهد غدر»": العهد: العقد، يقال عاهد فلان أي: عقد عقدًا يوجب عليه القيام بما ضمن.

والغدر: نقض العهد.

"«وإذا خاصم»": إذا اختلف مع شخص وتنازع هو وإياه "«فجر»" في الخصومة، أي: مال عن الحق، وقال الباطل.

قال ابن رجب: ويعني بالفجور: أن يخرج عن الحق عمدًا حتى يصير الحق باطلًا والباطل حقًا.

قال النووي رحمه الله: (حصل من مجموع الروايتين) الحديث الأول وهذا الحديث -حديث أبي هريرة وحديث عبد الله بن عمرو- (حصل من مجموع الروايتين خمس خصال للمنافق وهي: الكذب والخيانة والخلف والغدر والفجور).

قال الشراح: (ولم يرد النبي ﷺ بالنفاق المذكور في هذين الحديثين النفاق الذي صاحبه في الدرك الأسفل من النار الذي هو أشد الكفر، وإنما أراد أنها خصال تشبه معنى النفاق؛ لأن النفاق في اللغة: أن يظهر المرء خلاف ما يبطن، وهذا المعنى موجود في الكذب، وخلف الوعد، والخيانة، فإن قيل) ولأجل هذا أتينا بهذا الكلام (فإن قيل: قد قال في حديث عبد الله بن عمرو: «كان منافقًا خالصًا» قيل: معناه خالصًا في هذه الخلال المذكورة في الحديث فقط لا في غيرها) انتهى المراد.

وإن قال قائل: عد هذا الحديث أربع خصال، وفي حديث أبي هريرة آية المنافق ثلاث، فكيف يوفق بين الحديثين؟

أجاب ابن حجر بجواب، لكن الجواب الصحيح جاء في تتمة كلامه في آخره، قال: (على أن في رواية مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه ما يدل على إرادة عدم الحصر) أي: أن علامات المنافق ليست محصورة في هذه الخمسة، هناك علامات أخرى، قال: (فإن لفظه: من علامة المنافق ثلاث، وكذا أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه) بناء على ذلك لا اختلاف بين ثلاث وأربع، فهنا قال من علامة المنافق ثلاث، فلا يمنع من زيادة الرابع، والصحيح أنها غير محصورة أيضًا لا بثلاث ولا بأربع ـ

قال: (وإذا حمل اللفظ الأول) يعني علامة المنافق ثلاث (على هذا لم يرد السؤال) ما عاد في إشكال أصلًا (فيكون قد أخبر ببعض العلامات في وقت وببعضها في آخر) انتهى.

وكلام ابن رجب رحمه الله يبين لنا أن الأمر غير محصور لا بهذه الثلاث ولا بالأربع ولا بالخمس كلها.

قال ابن رجب: (النفاق الأصغر وهو نفاق العمل، وهو: أن يظهر الإنسان علانية صالحة، ويبطن ما يخالف ذلك) هذا عام (وأصول هذا النفاق ترجع إلى الخصال المذكورة) أصوله في هذه الأحاديث (وهي خمسة) وقال: (وحاصل الأمر أن النفاق الأصغر كله يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية، قاله الحسن، وقال الحسن أيضًا: "من النفاق اختلاف القلب واللسان، واختلاف السر والعلانية، واختلاف الدخول والخروج")

هذا خلاصة الموضوع، هذا هو النفاق، وكل ما كان من هذا القبيل فهو من النفاق العملي إلا أن أصول هذا النفاق هي الخمس التي ذُكرت في الحديثين.

وقال: (وقال الأوزاعي: قد خاف عمر النفاق على نفسه، قيل له: إنهم يقولون إن عمر لم يخف أن يكون يومئذ منافقًا حتى سأل حذيفة، ولكن خاف أن يبتلى بذلك قبل أن يموت، قال: هذا قول أهل البدع)

يعني ما سلّم الأوزاعي أن عمر رضي الله عنه كان يخشى على نفسه من النفاق الأكبر، لا، هو كان يخشى على نفسه من النفاق الأصغر.

قال: (يشير إلى أن عمر كان يخاف على نفسه في الحال) في نفس الوقت الذي كان فيه خائفًا من النفاق، قال: (والظاهر أنه أراد أن عمر كان يخاف على نفسه في الحال من النفاق الأصغر، والنفاق الأصغر وسيلة وذريعة إلى النفاق الأكبر، كما أن المعاصي بريد الكفر، فكما أن يخشى على من أصر على المعصية أن يسلب الإيمان عند الموت كذلك يخشى على من أصر على خصال النفاق أن يسلب الإيمان فيصير منافقًا خالصًا).

وقال: (ومن أعظم خصال النفاق العملي: أن يعمل الإنسان عملًا ويظهر أنه قصد به الخير، وإنما عمله ليتوصل به إلى غرض له سيء فيتم له ذلك، ويتوصل بهذه الخديعة إلى غرضه، ويفرح بمكره وخداعه وحمد الناس له على ما أظهره وتوصل به إلى غرضه السيء الذي أبطنه، وهذا قد حكاه الله في القرآن عن المنافقين واليهود) انتهى كلامه رحمه الله باختصار.

قال: "تابعه شعبة" أي تابع شعبةُ سفيان "عن الأعمش".

وصل هذه المتابعة المؤلف نفسه في كتاب المظالم رقم 2459، وأخرجها الطبراني في الكبير وغيره بإسناد ضعيف، ضعيف جدًا عند الطبراني الإسناد فيه راوٍ متروك.

لكن عند ابن منده في الإيمان بإسناد جيد، وفيه: «وإذا اؤتمن خان» موجودة عند ابن منده هذه الزيادة بهذا اللفظ فلا يأتي أحد بعد ذلك ويقول رواية شعبة مخالفة في اللفظ، لا، هذه اللفظة بالذات موجودة عند ابن منده في كتاب الإيمان، وإن كانت غير موجودة عند البخاري في رواية شعبة، لكن الظاهر أن البخاري لما البخاري رحمه الله يعطف بهذه الطريقة بالمعنى إذًا المعنى عنده واحد رواية شعبة ورواية سفيان، المعنى واللفظ أو المعنى فقط دون اللفظ، لكن المعنى لا بد أن يكون واحدًا إلا إذا حصل اختلاف يذكره ينص عليه، حتى وإن روى رواية شعبة وليس فيها هذه اللفظة إلا أنها ربما تكون عند البخاري، وهذا غالب الظن أنها موجودة في هذه اللفظة، والذي يؤكد هذا أن ابن منده أخرجها بهذا اللفظ.

طبعًا ابن منده ذكر خصال المنافق أربع، وذكر ثلاثًا، سقطت واحدة، لا أدري هي من النسخة هي من الراوي، لكن على كل التي نريدها «إذا اؤتمن خان» موجودة ثابتة.

وقد تابعه وكيع وغيره في روايته عن سفيان خارج الصحيح، ومنها عند الخرائطي من رواية جرير عن الأعمش بنفس لفظ رواية قبيصة عن سفيان، وله متابعة بنفس اللفظ عند أبي بكر الإسماعيلي في معجم أسماء أسامي شيوخه.

ما عاد في إشكال، رواية قبيصة عن سفيان متابعة إما متابعة تامة أو متابعة قاصرة، وهي صحيحة بفضل الله.

هذا الحديث خرجاه في الصحيحين من طرق: عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

وروي عن عبد الله من وجه آخر، وقد روي هذا عن النبي ﷺ من وجوه أخر.

وقال الترمذي في العلل الكبير: سألت محمدًا عن حديث زياد بن عبد الله البكائي عن منصور عن شقيق عن عبد الله بن مسعود عن النبي ﷺ قال: «ثلاث من كن فيه فهو منافق» فلم يعرفه من حديث منصور مرفوعًا، وقال: الأعمش يقول: عن أبي وائل، عن مسروق، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي ﷺ، ويروون هذا عن عبد الله بن مسعود قوله.

هذا كلام الإمام البخاري رحمه الله، جعل الصواب رواية الأعمش لهذا الحديث بهذا الإسناد الذي معنا، المرفوع إلى النبي ﷺ.

أما رواية حديث ابن مسعود فهي موقوفة، رويت مرفوعة، وهذا سؤال الترمذي حول هذا، رواية ابن مسعود رويت مرفوعة ورويت موقوفة، الذي يشير إليه البخاري رحمه الله إلى أن رواية ابن مسعود المحفوظ فيها الوقف، وجعل رواية الأعمش صحيحة ثابتة، لكن خالفه الترمذي وصحح رواية ابن مسعود أيضًا مرفوعة، لكن ما ذهب إليه الإمام البخاري هو الصواب.

على كل حال الترمذي والبخاري ولا غيرهم من العلماء نازعوا في صحة رواية الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ لهذا الحديث.

حديث عبد الله بن عمرو لا يشكون في صحته، والحمد لله، هذا بفضل الله سبحانه وتعالى.

الخلاصة: أن الحديث صحيح لا غبار عليه لا هو ولا حديث أبي هريرة المتقدم.

‌‌"بَابٌ: قِيَامُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ الْإِيمَانِ

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»"

"بَابٌ: قِيَامُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ الْإِيمَانِ"

رجع المؤلف رحمه الله إلى بيان خصال الإيمان وشعبه، أي: قيام ليلة القدر خصلة من خصال الإيمان وشعبة من شعبه، أو: أن الأعمال -أعمال الجوارح- من الإيمان.

والذي يدل على ذلك أن قيام ليلة القدر من الإيمان.

وذكر أنه «إيمانًا واحتسابًا» فجعل قيام ليلة القدر إيمانًا.

وعلى كل كله صحيح، وكله يدل عليه هذا الحديث: أن أعمال الجوارح من الإيمان، وأن قيام ليلة القدر خصلة من خصال الإيمان وشعبة من شعبه.

"حدثنا أبو اليمان" الحكم بن نافع البهراني الحمصي، ثقة، تقدم.

"قال: أخبرنا شعيب" ابن أبي حمزة، أبو بشر الأموي، الحمصي، ثقة حافظ، تقدم.

"قال: حدثنا أبو الزناد" عبد الله بن ذكوان القرشي، أبو عبد الرحمن المدني، ثقة حافظ فقيه، تقدم.

شوف كلهم تقدم تقدم الآن سيكون عندكم تقدم كثير، المفروض الآن هذه حفظت عندكم التراجم، ونعيد ذكر أحوالهم حتى يحفظ.

"عن الأعرج" عبد الرحمن بن هرمز، أبو داود الأعرج المدني، ثقة حافظ عالم، تقدم.

"عن أبي هريرة" رضي الله عنه صحابي فاضل، مكثر، تقدم مرات.

"قال: قال رسول الله ﷺ: «من يقم ليلة القدر»"

أي بالصلاة، وهل المقصود أصل القيام، أم أكثر الليل، أم كل الليل؟

فيه نزاع، سيأتي في موضعه إن شاء الله، لكن كثير من أهل العلم يرجح أصل القيام.

"«إيمانًا»" بالله، وبما أعد الله من الثواب للقائمين فيها.

"«واحتسابًا»" لوجه الله تعالى، لا يقومها رياء ولا سمعة ولا شيء من هذا، إنما راجيًا الأجر من الله تبارك وتعالى.

"«غُفر له ما تقدم من ذنبه»" غير حقوق الآدميين، لأن الإجماع منعقد على أن حقوق الآدميين لا تسقط إلا برضاهم.

والغفر: التغطية والستر.

والغفر والغفران والمغفرة واحد، والمغفرة: هي ستر الذنب، والعفو والتجاوز عنه، فلا يعاقب عليه فاعله.

اختلف أهل العلم هل المقصود بـ «ما تقدم من ذنبه» الصغائر فقط، أم الصغائر والكبائر؟

الذي عليه أكثر أهل العلم، وهو الصواب الذي لا ينبغي أن يقال غيره حقيقة: أن هذه الإطلاقات الواردة في مثل هذا الحديث مقيدة باجتناب الكبائر، لأن النبي ﷺ قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر» هنا تقييد «ما اجتنبت الكبائر» هذا القيد نأخذه ونقيد به كل ما ورد من مثل هذا؛ لأن إذا كانت هذه العبادات العظيمة التي هي دعائم الإسلام لا تكفر إلا باجتناب الكبائر فما دونها من باب أولى، فيحمل ما أطلق في بعض الأحاديث على هذا، وأن المراد: إلا الكبائر؛ فإن الكبائر لا بد لها من توبة، ثم لو قلنا: إن مثل هذه الأعمال تكفر الكبائر لأبطلنا التوبة وفتحنا باب شر عظيم، أيش هذا الباب؟

تنبه له ابن عبد البر رحمه الله عندما سمع من قال بهذا القول، وأن هذه الأعمال تكفر الصغائر والكبائر فاشتد نكيره على قائله، والظاهر أنه لم يعلم عن أحد من السلف قال بهذا القول.

قال: (وقال ‌بعضُ ‌المـُنتَمِينَ ‌إلى ‌العِلم من أهل عصرِنا: إنّ الكبائرَ والصغائرَ تكَفِّرُها الصلاةُ والطهارةُ، واحتجَّ بظاهرِ حديث الصُّنابحيِّ هذا، وبمثله من الآثار، وبقوله ﷺ: «فما ترَون ذلك يُبْقي من دَرَنِه؟» وما أشْبَه ذلك، وهذا جَهْلٌ بَيِّنٌ، ومُوافَقةٌ للمُرجِئة فيما ذهَبوا إليه من ذلك، وكيف يجوزُ لذي لُبٍّ أن يَحملَ هذه الآثارَ على عُمومِها وهو يسمَعُ قولَ الله عز وجل: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾ [التحريم: 8]، وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31] في آي كثير من كتابه، ولو كانت الطَّهارةُ والصلاةُ وأعمالُ البرِّ مُكَفِّرةً للكبائر، والمـُتطَهِّرُ المـُصَلِّي غير ذاكرٍ لذنبِه الموبِق، ولا قاصدٍ إليه، ولا حضَره في حينِه ذلك الندمُ عليه، ولا خطَرت خَطيئتُه المـُحيطةُ به ببالِه- لما كان لأمرِ الله عز وجل بالتوبةِ معنًى، ولكان كلُّ مَن توضَّأ وصلَّى يُشهَدُ له بالجنة بإثرِ سَلامِه من الصلاة، وإن ارتكَب قبلَها ما شاء من الموبقاتِ الكبائر، وهذا لا يقولُه أحدٌ ممّن له فَهْمٌ صحيحٌ، وقد أجمَع المسلمون أنّ التوبةَ على المـُذْنب فرضٌ، والفُروضُ لا يَصِحُّ أداءُ شيءٍ منها إلّا بقَصْدٍ ونيّةٍ واعتقادِ أن لا عَوْدةَ، فَأمّا أنْ يُصلِّيَ وهو غيرُ ذاكِر لما ارْتَكَبَ من الكبائر، ولا نادم على ذلك، فمُحالٌ، وقد قال رسولُ الله ﷺ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» وقال ﷺ: «الصَّلَواتُ الخمسُ، والجُمُعة إلى الجُمُعة، كفَّارةٌ لما بينهنَّ ما اجْتُنِبَتِ الكبائرُ»)

وقال أيضًا: (وهذا يُبَيِّنُ لك ما ذكَرْنا، ‌ويُوضِّحُ ‌لك ‌أنّ ‌الصغائرَ ‌تُكفَّرُ ‌بالصلواتِ ‌الخمس لمن اجْتَنَبَ الكبائرَ، فيكونُ على هذا معنى قول الله عز وجل: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [النساء: 31]: الصَّغائرَ بالصلاةِ والصوم والحجِّ وأداءِ الفرائضِ وأعمالِ البِرِّ، وإن لم تَجتَنِبوا الكبائرَ ولم تتوبوا منها لم تَنْتَفِعُوا بتكْفيرِ الصغائرِ إذا واقَعْتُم المـُوبقاتِ المـُهلكاتِ، والله أعلمُ.

وهذا كلُّه قبلَ الموت، فإن مات صاحبُ الكبير فمَصيرُه إلى الله؛ إن شاء غفَر له، وإن شاء عذَّبه، فإن عذَّبه فبجُرمِه، وإن عَفا عنه فهو أهلُ العفوِ وأهلُ المغفرة، وإن تابَ قبلَ الموتِ وقبلَ حضورِه ومُعايَنتِه، وندِم، واعتقَد ألّا يَعودَ، واستغفَر ووَجِل، كان كمن لم يُذنِبْ، وبهذا كلِّه الآثارُ الصِّحاحُ عن السَّلَفِ جاءت، وعليه جماعةُ علماءِ المسلمين، ولو تَدبَّر هذا القائلُ الحديثَ الذي فيه ذكرُ خروجِ الخطايا من فَمِه وأنفِه ويدَيه ورِجْليه ورأسِه، لعلِم أنّها الصغائرُ في الأغلب، ولعلِم أنّها مَعْفُوٌّ عنها بتَرْكِ الكبائرِ؛ دليلُ ذلك قولُه ﷺ: «العينان تَزْنيان، واليَدان تَزْنيان، والفمُ يَزْني، ويُصَدِّقُ ذلك كُلُّه الفَرْجُ أو يُكَذِّبُه» يريدُ، واللهُ أعلمُ، أنّ الفَرْجَ بعملِه يُوجِبُ المهلكَةَ، وما لم يكنْ ذلك فأعمالُ البِرِّ يَغْسلْنَ ذلك كلَّه، وقد كنتُ أرغَبُ بنفسِي عن الكلام في هذا الباب لولا قولُ ذلك القائل، وخَشِيتُ أن يَغتَرَّ به جاهلٌ فيَنْهَمِكَ في المـُوبقاتِ اتِّكالًا على أنّها تُكَفِّرُها الصلواتُ الخمسُ دونَ الندم عليها والاستغفارِ والتوبةِ منها، واللهُ أعلم، ونسألُه العِصمةَ والتوفيق) انتهى.

هذا المحذور في هذا القول، وهذه خطورته، إن تبنى متبن هذا الكلام يذهب ويفعل ما يشاء من كبائر الذنوب، يقول لك أصلي الصلوات الخمس وأذهب من الجمعة إلى الجمعة وخلص وينتهي الأمر، أو أتوضأ في كل وضوء تخرج خطاياي وتحط ذنوبي فلا يبقى من درني شيئًا، إذًا أفعل ما أشاء من الذنوب بعد ذلك، هذه خطورة هذا القول.

حتى هذا الحديث الذي معنا حجة أيضًا على أن الأعمال إيمان؛ لأنه جعل الصيام والقيام إيمانًا.

ومن لطائف إسناد هذا الحديث ما قيل: إن أصح أسانيد أبي هريرة: أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة.

فالحديث متفق عليه من رواية أبي الزناد به.

ومن رواية أبي سلمة عن أبي هريرة، وهذه الرواية ذكرها الدارقطني في العلل، سنذكرها في موضعها إن شاء الله.

تنبيه: ورد في هذا الحديث خارج الصحيحين زيادة: «وما تأخر» «غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» وهي زيادة منكرة، جاءت في بعض الأحاديث الأخرى وقال فيها النسائي بأنها منكرة، مع أن الذي زادها ثقة وذلك لأن الحفاظ أحيانًا كثيرة يطلقون المنكر على ما هو أعم من مخالفة الضعيف للثقات، ولا يخصونه بهذه الصورة، فيطلقون المنكر حتى على الشاذ، وأنا أستعمل هذا الاصطلاح.

هذه الزيادة منكرة، أعني شاذة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (كل حديث) هذه قاعدة عامة يذكرها ابن تيمية (كل حديث ورد فيه «وما تأخر» غير صحيح؛ لأن هذا من خصائص النبي ﷺ، حتى أهل بدر ما قيل لهم ذلك بل قيل «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» لأنهم فعلوا هذه الحسنة العظيمة في هذه الغزوة فصارت هذه الحسنة العظيمة كفارة لما بعدها) قاله ابن عثيمين رحمه الله، وصحح هذا القول والله أعلم.

‌‌"بَابٌ: الْجِهَادُ مِنَ الْإِيمَانِ

حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَارَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «انْتَدَبَ اللهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ، لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي"

الشيخ: و؟ هكذا عندك؟

القارئ: نعم.

الشيخ: تمام عندي هذه في رواية ابن عساكر، أما المتن عندي «أو تصديق»، أيش عندك في الحاشية؟ في عليها حاشية؟

النسخة التي مع أخينا الشيخ أبي حذيفة هي السلطانية، والنسخة التي معي هي بيت السنة، ونحن نقابل بينهما في أثناء القراءة حتى نعرف مكانة كل نسخة.

النسختان متوافقتان، وإن كانوا هم أثبتوا في المتن غير ما أثبته بيت السنة، وما فعلوه بيت السنة أصوب، لأن رواية ابن عساكر تفردت بـ «وتصديق»، الثابت في المتن في نسخة اليونيني ينبغي أن تكون «أو تصديق» أما في الحاشية في رواية ابن عساكر «وتصديق».

على كل حال بما أنهم نبهوا على هذا فما في إشكال، الحمد لله.

القارئ: قال: "«انْتَدَبَ اللهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ، لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي، أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ»"

"باب: الجهاد" عرفنا الجهاد سابقًا، وهو: القتال المشروع لإعلاء كلمة الله تعالى.

"من الإيمان" أي: الجهاد شعبة من شعب الإيمان.

الجهاد عمل من أعمال الجوارح، وكونه إيمانًا، إذًا أعمال الجوارح من الإيمان، وهو خصال وشعب، وهذه شعبة منها.

"حدثنا حرمي بن حفص" هو ابن عمر العَتَكي، أبو علي البصري، ثقة، يروي عن أتباع التابعين، مات سنة 223 أو نحوها، روى له البخاري وأبو داود والنسائي، وهو الراوي الثاني في البخاري الذي اسمه حرمي، هذا وهو شيخ البخاري، ولم يرو له سوى هذا الحديث.

والأول تقدم، وهو شيخ شيوخه حرمي بن عمارة، وروايته عن هذا أكثر، روايته عنه في كتابه هذا، كلاهما عتكي، وكلاهما بصري، يختلفان في اسم الأب والجد والكنية.

وابن عمارة روى له مسلم، ولم يروِ لهذا.

قال ابن حجر: ذكر ابن عساكر أن مسلمًا روى عنه، وذلك وهم.

وقال ابن ناصر الدين الدمشقي في توضيح المشتبه: (وأبو علي حرمي بن حفص بن عمر العتكي البصري شيخ البخاري، وذكر ابن عساكر في معجم النَّبَل أن مسلمًا روى عنه أيضًا، وإنما روى عن رجل عنه، ذكره الحافظ الضياء فيما وجدته بخطه، وحكاه أبو الحجاج المزي عنه، وقال: أما أنا فلم أجد له ذكرًا في صحيح مسلم) انتهى.

ولا ذكره في رجال مسلم الحاكم أبو عبد الله في المدخل إلى معرفة رجال الصحيحين، ولا ذكره أبو بكر أحمد بن منجويه في رجال مسلم أيضًا. انتهى.

الصحيح أنه لم يخرج له مسلم.

ولا يوجد في الكتب الستة من اسمه حرمي سوى هذين، ويوجد ثالث هو لقب له، اسمه إبراهيم بن يوسف البغدادي، لم يرو عنه من أصحاب الكتب الستة سوى النسائي، والله أعلم.

"قال: حدثنا عبد الواحد" هو ابن زياد العبدي مولاهم، البصري، ويقال له الثقفي، وهو ثقة، وثقه جمع، تكلموا في حديثه عن الأعمش، فهو ثقة إلا في الأعمش.

قال ابن عبد البر: أجمعوا لا خلاف بينهم أن عبد الواحد بن زياد ثقة ثبت.

وقال ابن القطان الفاسي: ثقة لم يعتل عليه بقادح.

قال أبو داود: عمد إلى أحاديث كان يرسلها الأعمش فوصلها كلها، يقول: حدثنا الأعمش، قال: حدثنا مجاهد في كذا وكذا. انتهى.

هذا جرح مفسر في روايته عن الأعمش.

وقال صالح بن أحمد بن حنبل عن علي بن المديني: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما رأيت عبد الواحد بن زياد يطلب حديثًا قط بالبصرة ولا بالكوفة، وكنا نجلس على بابه يوم الجمعة بعد الصلاة نذاكره حديث الأعمش فلا يعرف منه حرفًا.

وقال معاوية بن صالح: قلت ليحيى بن معين: من أثبت أصحاب الأعمش؟ قال: بعد سفيان وشعبة أبو معاوية الضرير، وبعده عبد الواحد بن زياد.

لكن الراجح ما ذكره السابقون لأنه جرح مفسر.

مات سنة 176 وقيل بعدها، روى له الجماعة.

قال ابن حجر: وفي طبقته عبد الواحد بن زيد، بصري أيضًا، لكنه ضعيف، ولم يخرج عنه في الصحيحين شيء.

"قال: حدثنا عُمارة" هو ابن القعقاع بن شرهم الضبي، الكوفي، ثقة، من أتباع التابعين، أرسل عن ابن مسعود، روى له الجماعة.

"حدثنا أبو زرعة بن عمرو بن جرير" هو ابن عبد الله البجلي الكوفي.

اختلف في اسمه، قيل هرم وقيل اسمه كنيته، وقيل غير ذلك.

تابعي، ثقة، روى له الجماعة.

"قال: سمعت أبا هريرة" رضي الله عنه يروي، أو يخبر "عن النبي ﷺ قال: «انتدب الله»"

في رواية: «تضمن الله» وفي أخرى: «تكفل الله» وفي أخرى: «تكفل الله أو تضمن الله أو انتدب الله» وكلها بمعنى واحد، فالمراد أنه تبارك وتعالى ضمن وتكفل وألزم نفسه به تفضلًا منه تبارك وتعالى.

قال ابن حجر: ووقع في رواية الأصيلي هنا (ائتدب) بياء تحتانية مهموزة بدل النون، من المأدبة، وهو تصحيف، وقد وجهوه بتكلف، لكن إطباق الرواة على خلافه مع اتحاد المخرج كاف في تخطئته.

"«لمن خرج»" للقتال "«في سبيله»" لإعلاء كلمة الله، لا حمية ولا رياء ولا سمعة ولا شجاعة.

ولا يكون العمل وَفق شرع الله (وَفق، وليس وِفق) هذه يخطئ فيها كثيرًا الإعلاميون، يقولون (وِفق) الصواب بفتح الواو (وَفق) شرع الله، فيلتزم المجاهد أوامر الله سبحانه وتعالى.

"«لا يخرجه»": أي لا يكون الدافع لخروجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي، فيخرج لله مخلصًا في ذلك.

"«أن أرجعه»" أي: أرده إلى مسكنه.

"«بما نال من أجر»" مجرد عن الغنيمة، أجر فقط بدون غنيمة.

"«أو غنيمة مع الأجر»" إن وجدت الغنيمة.

في الحالة الأولى إذا ما وجدت غنيمة يرجع بالأجر، وفي الحالة الثانية إذا وجدت الغنيمة يرجع بالأجر مع الغنيمة.

"«أو أدخله الجنة»" أي: تضمنت وتكفلت له أن أدخله الجنة في حال موته إن مات شهيدًا.

قال النووي: قالوا معناه أرجعه إلى مسكنه مع ما حصل له من الأجر بلا غنيمة إن لم يغنموا، أو مع الأجر والغنيمة معًا إن غنموا.

"«ولولا أن أشق»": أي لولا حصول المشقة.

"«على أمتي ما قعدت خلف سرية»" أي: أنه ﷺ ما منعه من الخروج إلى الغزو مع كل سرية تخرج إلا حصول المشقة على الأمة بفعل هذا لعظم أجر الخروج للغزو، هذا الذي أراد أن يبينه ﷺ.

سبب المشقة أنه إذا خرج أرادوا الخروج معه.

الصحابة لا يقبلون أن النبي ﷺ يخرج وهم لا يخرجون معه، ولا تطيب أنفسهم بهذا، ولكنهم غير قادرين فيتخلفون عن الغزو معه، فلا قدرة لهم على السير معه لضيق الحال، ولا يجد هو ﷺ ما يحملهم عليه، والخروج للغزو يحتاج إلى نفقة وكلفة.

قال ذلك ﷺ شفقة على أمته، ففي رواية ستأتي في البخاري إن شاء الله «والذي نفسي بيده لولا أن رجالًا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله»

السرية: قطعة من الجيش تنفرد بالغزو، قال في النهاية: يبلغ أقصاها 400.

وقال في المحكم: ما بين خمسة أنفس إلى ثلاثمئة -عددهم يعني-

وقيل: هي من الخيل نحو أربعمئة.

قال في النهاية: سُموا بذلك لأنهم يكونون خلاصة للعسكر وخيارهم، من الشيء السري النفيس.

"«ولوددت»" أي: أحببت.

"«أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل»" ختمه بقوله «أقتل» لأن الغرض الشهادة فجعلها آخرًا.

قال الشراح: والود: -كما قال الراغب- محبة الشيء وتمني حصوله، وتمني الفضل والخير لا يستلزم الوقوع، فقد قال ﷺ: «وددت أن موسى عليه السلام صبر» وكان الأمر قد انتهى فلا يقع، فكأنه أراد المبالغة في بيان فضل الجهاد وتحريض المسلمين، وبهذا يجاب عن استشكال صدور هذا التمني منه ﷺ مع أنه يعلم أنه لا يقتل.

هذا الأمر واضح، ولكن خلاص الاشكالات أحيانًا يأتي بها بعض الناس ويشوشون بها مع أنها أمر واضح، لا يحتاج.

قال الشراح: ووجه مطابقة الترجمة أن المخرج للجهاد في سبيل الله تعالى لما كان هو كونه مؤمنًا بالله ومصدقًا برسله كان خروجه من الإيمان، والجهاد هو الخروج في سبيل الله للقتال مع أعدائه، وقد ثبت أن الخروج من الإيمان، فينتج أن الجهاد من الإيمان.

هذه كيفية استدلال الإمام البخاري رحمه الله من هذا الحديث على أن الجهاد من الإيمان.

وفي الحديث:

§ جواز تمني الشهادة، لقوله: «وددت».

§ واستحباب طلب القتل في سبيل الله.

§ وفضل الجهاد، لكن هذا كله كما قيدنا سابقًا أن يكون قتالًا شرعيًا موافقًا للسنة، وليس على طريقة الخوارج.

§ قال أهل العلم: وفيه رفقه ﷺ بأمته ورأفته بهم، وأنه يترك بعض أعمال البر خشية أن يتكلفوه فيشق عليهم، وهو أصل في الرفق بالمسلمين. انتهى.

الحديث متفق عليه، ولا إشكال فيه بفضل الله.

قال ابن العراقي: أخرجه مسلم من هذا الوجه من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن همام.

الطريق التي معنا رواية أبي زرعة، رواية عمارة عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير.

وأخرجه مسلم من هذا الوجه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن همام.

ومن طريق أبي الزناد عن الأعرج.

وأخرجه البخاري من طريق شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن سعيد بن المسيب.

واتفقا عليه من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، عن أبي صالح.

ومن طريق عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة، خمستهم عن أبي هريرة. انتهى.

خمسة يروونه عن أبي هريرة، قلت: طريق أبي الزناد عن الأعرج أيضًا متفق عليها، هو قال بأنها أخرجها مسلم، هي متفق عليها، أخرجها البخاري في أكثر من موضع، وأخرجه البخاري في كتاب التمني رقم 7226 من طريق عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب، وأخرجه مسلم من طريق جرير عن سهيل عن أبيه.

كل هذه الطرق لهذا الحديث في الصحيحين، الحديث قوي ثابت لا إشكال فيه.

‌‌"بَابٌ: تَطَوُّعُ قِيَامِ رَمَضَانَ مِنَ الْإِيمَانِ

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»"

باب: تطوع" تنفُّل "قيام رمضان": أي بالصلاة في ليالي شهر رمضان.

"من الإيمان": أي من شعب الإيمان: هذه شعبة من شعب الإيمان، وهي نافلة.

التطوع التنفل كما جاء في الحديث: «إلا أن تطوع» أي: تفعله طواعية باختيارك من غير إلزام.

في هذا بيان أن المستحبات ومنها قيام رمضان من الإيمان، فليست فقط الواجبات من الإيمان؛ بل والمستحبات أيضًا من الإيمان.

قال إسحاق بن منصور: قلت لإسحاق: هل للإيمان منتهى حتى يستطيع المرء أن يقول مستكمل الإيمان؟ قال: لا؛ لأن جميع الطاعة من الإيمان... إلى آخر ما قال.

وقال محمد بن نصر المروزي: ومن الدليل على أن التطوع من الإيمان قوله ﷺ: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا» قال ابن منده: ذكر ما يدل على أن الإيمان هو الطاعات كلها... إلى آخر ما قال.

قال ابن رجب رحمه الله: فإن جمهور أهل السنة على أن الطاعات كلها من الإيمان فرضها ونفلها، وإنما أخرج النوافل من الإيمان قليل منهم.

"حدثنا إسماعيل" هو ابن عبد الله بن عبد الله بن أويس، أبو عبد الله ابن أبي أويس المدني، ابن أخت مالك بن أنس، ضعيف، البخاري ينتقي من حديثه، تقدم.

"قال: حدثني مالك" إمام دار الهجرة.

"عن ابن شهاب" الإمام الزهري.

"عن حميد بن عبد الرحمن" في الموطأ وغيره من طريق مالك زيادة: ابن عوف، فميز وعرف من هو، وهو القرشي الزهري المدني، أبوه الصحابي أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأخوه أبو سلمة بن عبد الرحمن أحد الفقهاء السبعة على قول، وأمه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط أخت عثمان بن عفان لأمه وكانت من المهاجرات، ثقة، روى له الجماعة.

هما اثنان يقال لهما: حُميد بن عبد الرحمن، تابعيان، يرويان عن أبي هريرة وابن عباس وابن عمر، وأخرج لهما أصحاب الكتب الستة.

الأول هذا، روى عن جماعة من الصحابة لم يروِ عنهم الثاني.

والثاني الحميري البصري الفقيه، وهو أصغر من هذا.

الزهري روى عن الأكبر منهما، وهو ابن عوف القرشي، ولم يروِ الزهري عن الحِميري.

التمييز بينهما بمن روى عنهما ورويا عن من سهلٌ، فنادرًا ما يشتركان فيهم، إن اشتركا في الشيخ لا يشتركان في التلميذ، لكن تارة يشتركان، فكلاهما مثلًا روى عن أبي هريرة، لكن الزهري الذي يروي هنا عن حميد لم يرو عن الحميري وروى عن الزهري هذا المدني فعرف بذلك، وكذلك بالتقييد الوارد في رواية مالك في الموطأ.

"عن أبي هريرة" رضي الله عنه.

رواة الحديث كلهم مدنيون.

"أن رسول الله ﷺ قال: «من قام رمضان»" أي: مصليًا في ليالي شهر رمضان.

وهذا دليل على جواز إطلاق لفظ رمضان من غير إضافة شهر إليه، خلافًا لمن منع ذلك وألزم بقول شهر، يعني لا يجوز عندهم أن تقول رمضان هكذا من غير شهر، قال لأن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، وهذا ورد في حديث لا يصح وهذا الإشكال في التساهل في تصحيح الأحاديث، يبنى على هذا فقه خاطئ وعقيدة خاطئة أيضًا.

"«إيمانًا»" بالله، وبما أعد الله من الثواب للقائمين فيها.

"«واحتسابًا»" لوجه الله تبارك وتعالى لا رياء ولا سمعة، بل راجيًا الأجر من الله تبارك وتعالى.

"«غفر له ما تقدم من ذنبه»" نفس الكلام الذي تقدم في الحديث السابق.

قال أبو العباس القرطبي: يدل على أن قيام الليل في رمضان من نوافل الخير، ومن أفضل أعمال البر، لا خلاف في هذا. انتهى.

وقال النووي: واجتمعت الأمة على أن قيام رمضان ليس بواجب؛ بل هو مندوب.

وقال: والمراد بقيام رمضان صلاة التراويح، واتفق العلماء على استحبابها -استحباب صلاة التراويح- انتهى.

قال الكرماني: (التحقيق أن يقال: التراويح محصلة لفضيلة قيام رمضان) يعني إذا صليت التراويح حصلت على فضيلة أنك قمت رمضان (ولكن لا تنحصر الفضيلة فيها) يعني إذا ما صليت التراويح ما تفوتك فضيلة قيام رمضان (ولا يخص المراد بها، بل في أي وقت من الليل صلى تطوعًا حصل هذا الفضل) انتهى.

وقال ابن حجر: (باب فضل من قام رمضان أي: قام لياليه مصليًا، والمراد من قيام الليل ما يحصل به مطلق القيام كما قدمناه في التهجد سواء، وذكر النووي أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح، يعني أنه يحصل بها المطلوب من القيام لا أن قيام رمضان لا يكون إلا بها، وأغرب الكِرماني فقال: اتفقوا على أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح) انتهى.

يعني هذا الاتفاق غير صحيح.

هذا الحديث حجة على أن الأعمال إيمان، لأنه ﷺ جعل الصيام والقيام إيمانًا، وأن النوافل من الإيمان، وأن قيام رمضان خصلة من خصال الإيمان.

الحديث متفق عليه بهذا اللفظ.

والحديث الذي بعده من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة وفيه «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا» سنتكلم عن الخلاف في هذا الحديث في الحديث القادم إن شاء الله.

‌‌"بَابٌ: صَوْمُ رَمَضَانَ احْتِسَابًا مِنَ الْإِيمَانِ

حَدَّثَنَا ابْنُ سَلَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»"

"باب: صوم رمضان احتسابًا من الإيمان"

أي خصلة من خصال الإيمان، فالأعمال -أعمال الجوارح- من الإيمان، والإيمان شُعب، وصوم رمضان شعبة منه، كل هذا مراد وصحيح، وكل هذا فيه رد على المرجئة.

"حدثنا ابن سلام" هو محمد بن سلام البيكندي، ثقة حافظ تقدم.

"قال: أخبرنا محمد بن الفضيل" ابن غزوان بن جرير الضبي مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفي، ثقة أو صدوق يحتمل، كان شيعيًا من أتباع التابعين، توفي سنة 194 وقيل سنة 195، روى له الجماعة.

قال حرب بن إسماعيل عن أحمد بن حنبل: كان يتشيع، وكان حسن الحديث.

وقال عثمان بن سعيد الدرامي عن يحيى بن معين: ثقة.

وقال أبو زرعة: صدوق من أهل العلم.

وقال أبو حاتم: شيخ.

وقال أبو داود: كان شيعيًا محترقًا.

قال علي بن المديني: كان ثقة ثبتًا في الحديث، وما أقل سقط حديثه.

وقال الدارقطني: كان ثبتًا في الحديث إلا أنه كان منحرفًا عن عثمان.

وقال العِجلي: كوفي، ثقة يتشيع، وكان أبوه ثقة وكان عثمانيًا.

من المفارقات.

الذي وجدته في كلام الأئمة في معنى عثماني: أنهم يطلقونه تارة على من يفضل عثمان على علي، ولا شك أن هذا مذهب السلف، إذًا ما الداعي إلى ذكرها؟

يذكرونها للتفريق بينه وبين من يفضل علي على عثمان، لانتشار هذا القول في وقتهم، خاصة في الكوفيين، لذلك يجمعون أحيانًا بين قولهم صاحب سنة وعثماني للتأكيد على أنه ممن يقدم عثمان على علي رضي الله عنهم.

طبعًا التقديم في الفضل والخلافة.

تقدمت المسألة هذه معكم في شرح الواسطية، وستأتي في موضعها إن شاء الله، ما الذي يخرج من السنة وما الذي لا يخرج، تفصيله في موضعه.

أخرج الخلال في السنة عن إبراهيم بن بكر أبي إسحاق الشيباني قال: قال سعيد بن أبي عروبة: كان المشيخة الأول إذا مر بهم الرجل قالوا: هذا عثماني يعجبهم ذلك، قال فقلت لسعيد: كيف هذا؟ قال: إنه إذا قدم عثمان لم يبغض عليًا.

ربما يكون هذا المعنى هو الذي أراده ابن سعد لما قال في حماد بن زيد إنه عثماني، قدمنا هذا الكلام واعترضنا على ابن سعد على قوله هذا، إن أراد هذا المعنى فلا تعارض بين أن يكون صاحب سنة وعثمانيًا، أما إن أراد المعنى الثاني فاعتراضنا عليه صحيح.

هذا الكلام كنا ذكرناه في الحديث الحادي والثلاثين في ترجمة حماد.

قال العجلي في عبد الله بن إدريس: ثقة ثبت صاحب سنة زاهد صالح، وكان عثمانيًا ويحرم النبيذ.

شوف كيف جمع بين أمرين، ليش عثماني ويحرم النبيذ؟

عبد الله بن إدريس هذا كوفي، والمنتشر في الكوفة خلاف السنة تقديم علي على عثمان في الفضل وإباحة النبيذ، قولان انتشرا في الكوفة، وهما مخالفان للسنة، فلذلك كانت منقبة للكوفي أن يكون من الذين يقدمون عثمان على علي ويقول بتحريم النبيذ، فيخصونه بالذكر هذا.

يأتيك شخص من بلاد قد انتشر فيها مذهب الخوارج، تقول فلان صاحب سنة ليس خارجيًا، لا يكفر بالكبيرة، لا يستبيح دماء المسلمين، ألا يكفي أن تقول صاحب سنة؟

لا، للتأكيد، فإن هذا جاء في موطن يشتبه به في هذا الأمر لانتشاره في بلده.

هذا المعنى الأول لقولهم عثماني.

المعنى الثاني: يطلقونه على من وقع في الغلو في عثمان، حتى حمل على علي وأبغضه، فهو ناصبي أو فيه نصب، كما قالوا ذلك في عبد الله بن شقيق، قالوا: كان عثمانيًا وهو ممن كان يحمل على علي.

قال أحمد بن حنبل: كان ثقة وكان يحمل على علي.

وقال ابن خراش: كان ثقة وكان عثمانيًا يبغض عليًا.

وقال العجلي: ثقة وكان يحمل على علي.

وممن قال إنه عثماني: ابن سعد.

فإذًا استعملها ابن سعد بهذا المعنى أيضًا، فما الذي يريده في ترجمة حماد بن زيد؟ الله أعلم.

على كل حماد بن زيد صاحب سنة ومعروف بهذا، فلهذا يحمل كلام ابن سعد على المعنى الأول في حماد بن زيد.

وقال العجلي في إبراهيم بن مقسم: وكان عثمانيًا، وقال: ويحمل على علي بعض الحمل.

والله أعلم.

هذا الكلام ينقل إلى ترجمة حماد بن زيد الذي تقدم.

"قال: حدثنا يحيى بن سعيد" هو ابن قيس الأنصاري، أبو سعيد القاضي، ثقة حافظ فقيه، تقدم.

"عن أبي سلمة" هو عبد الرحمن بن عوف إمام تقدم.

"عن أبي هريرة" رضي الله عنه "قال: قال رسول الله ﷺ: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه»"

يعني من صام شهر رمضان.

قال ابن هبيرة: والمراد من صامه تصديقًا بالأمر به، عالمـًا بوجوبه، خائفًا من عقاب تركه، محتسبًا جزيل الأجر في صومه، وهذه صفة المؤمن. انتهى.

الحديث متفق عليه.

قال النسائي في رواية ابن فضيل عن يحيى: هذا حديث منكر من حديث يحيى، لا أعلم أحدًا رواه غير ابن فضيل.

هذا أول إسناد يمر بنا عند البخاري منتقد.

النسائي يقول فيه إنه منكر.

انتقاد الإسناد لا يلزم منه انتقاد المتن.

النسائي يتحدث عن هذا الإسناد خاصة، رواية بن فضيل عن يحيى.

فالحديث هذا لا يرويه عن يحيى بن سعيد إلا بن فضيل، وغيره يرويه عن غير يحيى بن سعيد، منهم يحيى بن كثير وغيره، فالحديث محفوظ وصحيح من غير هذه الطريق.

هذه الطريق حصل فيها خلاف، البخاري يصححها، أخرجها في صحيحه، النسائي يقول هي منكرة لأن الذين رووا الحديث هذا غير ابن فضيل رووه عن غير يحيى بن سعيد، وتفرد ابن فضيل بروايته عن يحيى بن سعيد، فهل يقال ابن فضيل ثقة إذا روى حديثًا كهذا عن يحيى بن سعيد يقبل منه، أم يقال لا، الحفاظ الآخرون جميعًا قد رووه عن غير يحيى بن سعيد لماذا هو يتفرد بهذا إذًا روايته هذه منكرة؟

هما قولان، النسائي تبنى واحد والبخاري تبنى الثاني.

على كل حال الحديث صحيح لا إشكال فيه.

وقد حصل خلاف في طرق هذا الحديث والذي قبله أيضًا، ذكر هذا الخلاف النسائي في الكبرى، والدارقطني في العلل، وابن عبد البر في التمهيد، أطال ابن عبد البر النفس في ذكره طرقه والخلاف فيه.

ذكره يطول، لو أردنا أن نذكره نحتاج صفحات، ارجعوا إليه في المصادر التي ذكرنا للنسائي في الكبرى والدارقطني في العلل رقم 1731 و3805 وابن عبد البر في التمهيد في المجلد الخامس صفحة 99 مؤسسة الفرقان طبعة بشار.

ستجدون هناك كيفية ترجيح ما رجحه البخاري ومسلم، ما رجحاه في هذا الإسناد في هذا الحديث قوي جدًا، بغض النظر عن هذا الطريق التي حصل فيها خلاف، لكن الحديث صحيح من طرق أخرى.

خلاصة صحة الألفاظ الثلاث في:

«من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه»

«من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه»

«من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه»

الألفاظ الثلاثة صحيحة وثابتة، ولا إشكال فيها إن شاء الله، وإن كان حصل فيها خلاف بين رواتها خاصة من قام رمضان ومن صام رمضان، هل كلاهما ثابت، أم إحدى اللفظتين هي الصواب والأخرى خاطئة؟

الصواب أن الألفاظ الثلاثة صحيحة ثابتة لا إشكال فيها بفضل الله، والله أعلم.

كل من وقفت على كلامه من أهل العلم صحح هذه الألفاظ الثلاثة، لم أجد من قال بضعفها مطلقًا هكذا، وإن كانوا يرجحون بعض الطرق دون بعض.

وصحيح الحديث أيضًا من رواية حميد وأبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه، والله أعلم.

وبهذا نكتفي، والحمد لله.

أنه لن يأتيك منها إلا ما كتب الله لك انتهىالأ

قائمة الخيارات
0 [0 %]
الثلاثاء 4 ربيع ثان 1445
عدد المشاهدات 275
جميع الحقوق محفوظة لشبكة الدين القيم © 2008-2014 برمجة وتصميم طريق الآفاق