الثلاثاء 24 ذو القعدة 1446 هـ
20 مايو 2025 م
جديد الموقع   تفسير القرآن: تفسير سورة يوسف 36-42   تفسير القرآن: تفسير سورة يوسف 23-35   تفسير القرآن: تفسير سورة يوسف 1-22   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-96 كتاب الصلاة، الحديث 443و444و445و446   الصوتيات: شرح سنن الترمذي الدرس 8 الحديث 27و28و29و30و31   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-95 كتاب الصلاة، الحديث 439و440و441و442   الصوتيات: شرح سنن الترمذي الدرس 7 الحديث 21و22و23و24و26,25   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-94 كتاب الصلاة، الحديث 432و433و434و435و436و437و438   الصوتيات: شرح سنن الترمذي الدرس 6 الحديث 16و17و18و19و20   الصوتيات: شرح سنن الترمذي الدرس 5 الحديث 12و13و14و15      

تفسير سورة يوسف 23-35

تفسير سورة يوسف 23-35
﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)﴾

قال السعدي: "هذه المحنةُ العظيمةُ أعظمُ على يوسفَ مِن محنةِ إخوتِه، وصبرُه عليها أعظمُ أجرًا، لأنه صبرُ اختيارٍ، مع وجودِ الدواعي الكثيرة لوقوعِ الفعلِ، فقدَّم محبةَ اللهِ عليها.

وأما محنتُه بإخوتِه، فصبرُه صبرُ اضطرارٍ، بمنزلةِ الأمراضِ والمكارِه التي تُصيبُ العبدَ بغيرِ اختيارِه وليس له ملجأٌ إلا الصبرَ عليها، طائعًا أو كارهًا، وذلك أن يوسفَ عليه الصلاة والسلام بقي مُكرَّما في بيتِ العزيز، وكان له مِنَ الجمالِ والكمالِ والبهاءِ ما أوجبَ ذلك، أنْ راودتْهُ التي هو في بيتِها عن نفسه". انتهى.

قال تبارك وتعالى {وَرَاوَدَتْهُ} أي دعت امرأة العزيز يوسف إلى جماعها برفق ولين {الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} يعني امرأةَ العزيز {عَنْ نَفْسِهِ} أي وطلبت امرأة العزيز برفق ولين من يوسف عليه السلام الزنا بها.

فهو غلام حسن جميل، وتحت تدبيرها، والمسكن واحد، يتيسر إيقاع الأمر المكروه من غير إشعار أحد، ولا إحساس بشر، فالظروف مهيئة والأمر سهل التحصيل.

{وَغَلَّقَتِ الأبْوَابَ} غلقت الأبواب بابا بعد باب؛ لتهيئة المكان، والأمن من دخول أحد عليهما، أو رؤية أحد من الناس لهما.

فصار المكان خاليا، وهما آمنان من دخول أحد عليهما، بسبب تغليق الأبواب، ودعته إلى نفسها {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} أي: أقبِل وتعال إليّ واقترب مني، أي دعته ليبدأ بفعل الفاحشة معها.

قال السعدي: "ومع هذا فهو غريب، لا يحتشم مثله ما يحتشمه إذا كان في وطنه وبين معارفه، وهو أسير تحت يدها، وهي سيدته، وفيها من الجمال ما يدعو إلى ما هنالك، وهو شاب عزب، وقد توعدته، إن لم يفعل ما تأمره به بالسجن، أو العذاب الأليم؛ فصبر عن معصية الله، مع وجود الداعي القوي فيه، لأنه قد هم فيها هما تركه لله، وقدم مراد الله على مراد النفس الأمارة بالسوء، ورأى من برهان ربه - وهو ما معه من العلم والإيمان، الموجب لترك كل ما حرم الله - ما أوجب له البعد والانكفاف، عن هذه المعصية الكبيرة". انتهى.

{قَالَ} يوسف {مَعَاذَ اللَّهِ} أي: أعتصم بالله وأستجير به من فعل ما دعوتني إليه {إِنَّهُ} أي إن زوجك عزيز مصر {رَبِّي} سيدي {أَحْسَنَ مَثْوَايَ} أحسن إليّ في مقامي عنده وأكرمني، وأتمنني؛ فلا يليق بي أن أقابله في أهله بأقبح مقابلة، فلن أخونه {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} فإن خُنتُه كنت ظالماً، والظالم لا يفوز.

قال السعدي: "والحاصل أنه جعل الموانع له من هذا الفعل تقوى الله، ومراعاة حق سيده الذي أكرمه، وصيانة نفسه عن الظلم الذي لا يفلح من تعاطاه، وكذلك ما منَّ الله عليه من برهان الإيمان الذي في قلبه، يقتضي منه امتثال الأوامر، واجتناب الزواجر، والجامع لذلك كله أن الله صرف عنه السوء والفحشاء، لأنه من عباده المخلصين له في عباداتهم، الذين أخلصهم الله واختارهم، واختصهم لنفسه، وأسدى عليهم من النعم، وصرف عنهم من المكاره ما كانوا به من خيار خلقه". انتهى

﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)﴾

{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} لفعل الفاحشة {وَهَمَّ بِهَا} يوسف أيضاً {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} لَوَاقَعَ الْمَعْصِيَةَ، ولكنه امتنع لما رأى برهان ربه، هذا هو الظاهر، وهو الذي عليه السلف، ولا يجوز تفسير كتاب الله بغيره إلا بدليل ولا يوجد {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} وقد أرينا يوسف برهاننا لنصرف عنه الإثم أو القبيح، فَقيل: السُّوءُ: الْإِثْمُ، وَقِيلَ: السُّوءُ: الْقَبِيحُ، وَالْفَحْشَاءُ: الزِّنَا، أي ونبعده عن الزنا {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} إن يوسف من عبادنا الذين أخترناهم لنبوتنا ورسالتنا.

ذكر الطبري عن السلف كيف هم بها يوسف، وأخرج عنهم أنهم قالوا: جلس بين رجليها ينزع ثيابه.

صح هذا عن ابن عباس ومجاهد وجمع من السلف.

وقد أخطأ كثير من المتأخرين ففسروا معنى الهم بخلاف حقيقته وخرجوا به عن أقوال السلف رضي الله عنهم، زعما منهم أنهم يريدون تنزيه يوسف عن هذا.

فمنهم من قال هم بضربها، وبعضهم قال: تمنى أن تكون له زوجة، وقيل غير ذلك.

وأنكر الطبري وأبو عبيد والبغوي وغيرهم على من خالف أقوال السلف في هذا.

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ: "وَالْقَوْلُ مَا قَالَ مُتَقَدِّمُو هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِاللَّهِ أَنْ يَقُولُوا فِي الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ". انتهى

وقال البغوي: وَقِيلَ: هَمَّتْ بِيُوسُفَ أَنْ يَفْتَرِشَهَا، وَهَمَّ بِهَا يُوسُفُ أَيْ: تَمَنَّى أَنْ تَكُونَ لَهُ زَوْجَةً.

وَهَذَا التَّأْوِيلُ وَأَمْثَالُهُ غَيْرُ مُرْضِيَةٍ لِمُخَالَفَتِهَا أَقَاوِيلَ الْقُدَمَاءِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُؤْخَذُ عَنْهُمُ الدِّينُ وَالْعِلْمُ.

قال ابن الأنباري: "والَّذي نَذْهب إِليه ما أَجمع عليه أَصحاب الحديث وأَهلُ العلم، وصحَّت به الرواية عن علي ين أَبي طالب رضوان الله عليه، وأَبي صالح، ومحمد بن كعب القُرظيّ، وقَتادة، وغيرهم، من أَنَّ يوسف عليه السلام هَمَّ هَمًّا صحيحاً على ما نصَّ الله عليه في كتابه، فيكون الهمّ خطيئةً من الخطايا وقعت من يوسف عليه السلام، كما وقعت الخطايا من غيره من الأَنبياء، ولا وجهَ لأنْ نُؤَخِّرَ ما قدَّم الله، ونُقدِّم ما أَخَّر الله".

وقال: "ولَوْلَا حرف مبتدأ جوابه محذوف بعده؛ يراد به: لولا أَن رأَى برهان ربّه لزنا بها بعد الهمّ، فلمَّا رأَى البرهان زال الهمّ ووقع الانصراف عن العزم. وقد خبّر الله جلّ وعزّ عن أَنبيائه بالمعاصي الَّتي غفرها، وتجاوز عنهم فيها، فقال تبارك وتعالى: {وعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}، وقال لنبيّه محمد عليه السلام: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكْ. ووَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ. الَّذي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} وخبَّر بمثل هذا عن يونس وداود عليهما السلام، وقال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: "ما مِنْ نَبِيٍّ إِلَاّ قَدْ عَصَى أَوْ هَمَّ إِلَاّ يحيى بن زكريا".

وقال: "وإِلى مذهبنا هذا كان يذهب علماء اللغة: الفرَّاء وأَبو عُبيد وغيرهما". انتهى باختصار.

قال البغوي: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْقَدْرَ الَّذِي فَعَلَهُ يُوسُفُ عليه السلام كَانَ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَالصَّغَائِرُ تَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام.

وقال: وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ ذُنُوبَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام فِي الْقُرْآنِ لِيُعَيِّرَهُمْ، وَلَكِنْ ذَكَرَهَا لِيُبَيِّنَ مَوْضِعَ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ، وَلِئَلَّا يَيْئَسَ أَحَدٌ مِنْ رَحْمَتِهِ.

وَقِيلَ: إِنَّهُ ابْتَلَاهُمْ بِالذُّنُوبِ لِيَتَفَرَّدَ بِالطَّهَارَةِ وَالْعِزَّةِ، وَيَلْقَاهُ جَمِيعُ الْخُلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى انْكِسَارِ الْمَعْصِيَةِ.

وَقِيلَ: لِيَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً لِأَهْلِ الذُّنُوبِ فِي رَجَاءِ الرَّحْمَةِ وَتَرْكِ الْإِيَاسِ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالْعَفْوِ". انتهى باختصار.

وقد ذكر الطبري معنى هذا.

فنحن نقول بمال قاله السلف، ولكن لا يصح شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في كيفية هم يوسف بها.

فيقال أقبل عليها يوسف، والله أعلم إلى أين وصل معها هل حل السراويل أم لا؟ هل جلس منها مجلس الرجل من امرأته أم لا؟ إلا أنه لم يزنِ بها قطعا، وتوقف وامتنع لما رأى برهان ربه.

أصل البرهان في اللغة: الدليل والحُجّة الْفَاصِلَةُ الْبَيِّنَةُ، وَإِيضَاحُهَا.

واختلفوا في برهان ربه الذي رآه يوسف فامتنع لما رآه؛ على أقوال:
منها أنه سمع صوتا نهاه عن ذلك، ومنها أنه رأى تمثالَ يعقوبَ عاضًّا على إصبعِه، وقيل غير ذلك.

ولا يوجد دليل صحيح يعين هذا البرهان، فالله أعلم به.

قال الطبري رحمه الله: "والصوابُ أن يقالَ في ذلك، ما قاله اللهُ تبارك وتعالى، والإيمانُ به، وتركُ ما عدا ذلك إلى عالمِهِ". انتهى

﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)﴾

ولما رأى برهان ربه وامتنع من فعل الفاحشة؛ ذهب ليهرب عنها ويبادر إلى الخروج من الباب ليتخلص، ويهرب من الفتنة {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} وتسابقا إلى الباب، أي أراد يوسف الهروب منها فأسرع إلى الباب للخروج، وهي أسرعت إلى الباب لتمنعه من الخروج، فأدركته فأمسكت بقميصه {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ} وشقت قميصه {مِنْ دُبُرٍ} من الخلف.

فلما وصلا إلى الباب {وَأَلْفَيَا} أي ووجدا {سَيِّدَهَا} يعني زوجها {لَدَى الْبَابِ} أي عند الباب، وهما في تلك الحال فرأى زوجها أمرا شق عليه، فأسرعت إلى الكذب، فقالت: يوسف هو الذي راودني عن نفسي فأراد فعل الفاحشة معي، فدفعتُه عن نفسي فشققت قميصه، و{قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} ما جزاء من أراد فعل الفاحشة بزوجتك {إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: ليس له عقاب إلا أحد هذين: إما أن يسجن، أو يعذب عذابا أليما.

﴿قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)﴾

فبرأ يوسف نفسه مما رمته به، ولم يسكت، و{قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} هي التي دعتني إلى فعل الفاحشة معها.

قال السعدي: "فحينئذ احتملت الحالُ صدقَ كل واحد منهما، ولم يعلم أيهما.

ولكن الله تعالى جعل للحق والصدق علامات وأمارات تدل عليه، قد يعلمُها العبادُ وقد لا يعلمُونها، فمنَّ الله في هذه القضية بمعرفة الصادق منهما، تبرئة لنبيه وصفيه يوسف عليه السلام". انتهى

{وَ} بعد أن علموا بما حصل {شَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} فانبعث شاهد من أهل بيتها، وكان رجلا حكيماً، هذا ما قاله غير واحد من السلف وهو الظاهر، ولم يصح شيء أنه كان صبيا في المهد، شهد هذا الرجل بقرينةٍ تدل على صدق أحد الطرفين، فقال: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ} قميصُ يوسف {قُدَّ} شُقَّ {مِنْ قُبُلٍ} من أمامه {فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} لأن ذلك يدل على أنه هو المقبل عليها، المراود لها المعالج، وأنها أرادت أن تدفعه عنها، فشقت قميصه من هذا الجانب.

﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)﴾

{وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ} من خلفه {فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} لأن ذلك يدل على هروبه منها، وأنها هي التي طلبته فشقت قميصَه من هذا الجانب.

﴿فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)﴾

{فَلَمَّا رَأَى} زوجها، العزيز {قَمِيصَهُ قُدَّ} شق {مِنْ دُبُرٍ} من خلف؛ عرف بذلك صدق يوسف وبراءته، وأنها هي الكاذبة.

فـ {قَالَ} لها زوجها: {إِنَّهُ} إن هذا الكذب الذي كذبته على يوسف {مِنْ كَيْدِكُنَّ} من جملة كيدكن، يعني من كيد النساء، وقال: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}

قال السعدي: "وهل أعظم من هذا الكيد، الذي برأت به نفسها مما أرادت وفعلت، ورمت به نبي الله يوسف عليه السلام، ثم إن سيدها لما تحقق الأمر، قال ليوسف":

﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)

{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} أي: اترك الكلام فيه، ولا تذكره لأحد، طلبا للستر على أهله {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} أي اطلبي المغفرة أيتها المرأة مِنْ زَوْجِكِ حتى لا يعاقبك على ذنبك الذي فعلته، وهي مراودة يوسف عن نفسه {إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} من المذنبين.


﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)

{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} يعني: أن الخبر اشتهر وشاع في البلد، وتحدث به النسوة فجعلن يلمنها، ويقلن: {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} زوجة العزيز تدعو عبدها إلى الزنا بها، أي: هذا أمر مستقبح، هي امرأة كبيرة القدر، وزوجها كبير القدر، ومع هذا لم تزل تراود فتاها الذي تحت يدها وفي خدمتها عن نفسه.

{قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} أي: وصل حبه إلى شَغَاف ‌القلب، وهو باطنه وسويداؤه، وهذا أعظم ما يكون من الحب، أي حبه تمكن من قلبها واستحكم {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} في ضلال واضح.

﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)﴾

{فَلَمَّا سَمِعَتْ} امرأة العزيز {بِمَكْرِهِنَّ} بإنكارهن عليها واغتيابهن إياها {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} تدعوهن إلى منزلها للضيافة.

{وَأَعْتَدَتْ} وهيأت {لَهُنَّ مُتَّكَأً} أي: محلا مهيأ بأنواع الفرش والوسائد، وما يقصد بذلك من المآكل اللذيذة، وكان في جملة ما أحضرته لهن في تلك الضيافة، طعام يحتاج إلى سكين {وَآتَتْ} وأعطت {كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ} من النسوة المدعوات {سِكِّينًا} ليقطعن بها الطعام {وَقَالَتِ} ليوسف: {اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} في حالة جماله وبهائه.

{فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} أي: أعظمنه في صدورهن، واندهشن لحسنه، وانبهرن بجماله، ورأين منظرا فائقا لم يشاهدن مثله {وَقَطَّعْنَ} وجرَّحن {أَيْدِيَهُنَّ} من شدة الانبهار به بتلك السكاكين اللاتي معهن {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} أي: تنزيها لله {مَا هَذَا بَشَرًا} ليس هذا بشرًا، يعنين يوسف {إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ}

فما هو فيه من الجمال لم يُعْهد في البشر، ليس إلا مَلَكًا كريمًا من الملائكة الكرام.

كان يوسف بارع الحسن، فائق الجمال، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: "أُعْطِيَ ‌شَطْرَ ‌الْحُسْنِ". أخرجه مسلم.

يعني نصفه.

﴿قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)﴾

{قَالَتْ} امرأة العزيز للنسوة لما رأت ما أصابهن من جمال يوسف {فَذَلِكُنَّ} فهذا هو الفتى {الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} بسبب حبه {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} قالت: ولقد طلبت منه فعل الفاحشة، وحاولتُ إغواءه، وَإِنَّمَا صرحت بذلك لِأَنَّهَا علمت أَنه لَا ملامة عَلَيْهَا مِنْهُنَّ بعد ذَلِك، وَقد أصابهن مَا أصابهن من رُؤْيَته {فَاسْتَعْصَمَ} فامتنع.

{وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ} ما أطلب منه فعله مستقبلًا {لَيُسْجَنَنَّ} ليعاقبن بِالْحَبْسِ {وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} أَي: من الأذلاء.

هذا تهديد ووعيد منها له حتى يقبل بفعل ما تريد.

﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)﴾

فعند ذلك اعتصم يوسف بربه، واستعان به على كيدهن و {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} يعني إذا دار الأمر بين أحد هذين الأمرين ولابد فالسجن أحب إلي من فعل الفاحشة.

قال السعدي: "وهذا يدل على أن النسوة، جعلن يشرن على يوسف في مطاوعة سيدته، وجعلن يكدنه في ذلك.

فاستحب السجن والعذاب الدنيوي على لذة حاضرة توجب العذاب الشديد". انتهى

{وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} شرهن {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أي: أمِل إليهن {وَأَكُنْ} إن فعلت ما يردن مني فعله {مِنَ الْجَاهِلِينَ} قال السعدي: "فإن هذا جهل، لأنه آثر لذة قليلة منغصة، على لذات متتابعات وشهوات متنوعات في جنات النعيم، ومن آثر هذا على هذا، فمن أجهل منه؟!! فإن العلم والعقل يدعو إلى تقديم أعظم المصلحتين وأعظم اللذتين، ويؤثر ما كان محمود العاقبة". انتهى

﴿فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)﴾

{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ} حين دعاه {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} كيد امرأة العزيز ومن معها من النسوة {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لدعاء الداعي {الْعَلِيمُ} بحال الداعي.

قال السعدي: "فهذا ما نجى الله به يوسف من هذه الفتنة الملمة والمحنة الشديدة، وأما أسياده فإنه لما اشتهر الخبر وبان، وصار الناس فيها بين عاذر ولائم وقادح.

﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)﴾
{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ}
ثم ظهر للعزيز وقومه {مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ} من بعد ما شاهدوا الأدلة على براءة يوسف {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} إلى مدة غير معلومة، قال السعدي: "لينقطع بذلك الخبر ويتناساه الناس، فإن الشيء إذا شاع لم يزل يذكر ويشاع مع وجود أسبابه، فإذا عدمت أسبابه نسي، فرأوا أن هذا مصلحة لهم، فأدخلوه في السجن". انتهى

قائمة الخيارات
0 [0 %]
الثلاثاء 24 ذو القعدة 1446
عدد المشاهدات 7
جميع الحقوق محفوظة لشبكة الدين القيم © 2008-2014 برمجة وتصميم طريق الآفاق