الثلاثاء 24 ذو القعدة 1446 هـ
20 مايو 2025 م
جديد الموقع   تفسير القرآن: تفسير سورة يوسف 36-42   تفسير القرآن: تفسير سورة يوسف 23-35   تفسير القرآن: تفسير سورة يوسف 1-22   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-96 كتاب الصلاة، الحديث 443و444و445و446   الصوتيات: شرح سنن الترمذي الدرس 8 الحديث 27و28و29و30و31   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-95 كتاب الصلاة، الحديث 439و440و441و442   الصوتيات: شرح سنن الترمذي الدرس 7 الحديث 21و22و23و24و26,25   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-94 كتاب الصلاة، الحديث 432و433و434و435و436و437و438   الصوتيات: شرح سنن الترمذي الدرس 6 الحديث 16و17و18و19و20   الصوتيات: شرح سنن الترمذي الدرس 5 الحديث 12و13و14و15      

تفسير سورة يوسف 1-22

تفسير سورة يوسف 1-22
تفسير سورة‌‌ يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام

قال أهل العلم: هي مكية.

أخرج إسحاق بن راهويه كما في المطالب العالية وابن حبان والحاكم وغيرهم ‌عن سعد بن أبي وقاص، قَالَ: "أنزل الله الْقُرْآنَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَتَلَا عَلَيْهِمْ زَمَانًا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ قَصَصْتَ عَلَيْنَا، فَأَنْزَلَ اللهُ تبارك وتعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينَ} إِلَى قَوْلِهِ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ}، فَتَلَاهَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَمَانًا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ حَدَّثْتَنَا، فَأَنْزَلَ اللهُ: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} الآيَةَ، كُلُّ ذَلِكَ يُؤْمَرُونَ بِالْقُرْآنِ".

وفي رواية: "كل ذلك تؤمرون بالقرآن أو تؤدبون بالقرآن".

‌‌﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) ﴾

{الر} تقدم المعنى المقصود من هذه الحروف في أول سورة البقرة {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} أي هذه آيات الكتاب، وهو القرآن {الْمُبِينِ} أي: البين الواضح، الذي يبين الأشياء ويفسرها.

﴿ِإنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)﴾

{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أي أن الله تبارك وتعالى أنزل القرآن باللغة العربية {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: لتفهموه وتؤمنوا به.

قال ابن كثير: "‌وذلك ‌لأن ‌لغةَ ‌العربِ أفصحُ اللغاتِ وأبينُها، وأوسعُها، وأكثرُها تأديةً للمعاني التي تقوم بالنفوس، فلهذا أنزلَ أشرفَ الكتبِ بأشرفِ اللغاتِ، على أشرفِ الرسلِ، بسفارةِ أشرفِ الملائكةِ، وكان ذلك في أشرفِ بِقاعِ الأرضِ، وابتُدِئ إنزالُه في أشرفِ شهورِ السنةِ وهو رمضان، فكمُلَ مِن كلِّ الوجوه؛ ولهذا قال تعالى":

﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)﴾

{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} يا محمد {أَحْسَنَ الْقَصَصِ} وذلك لصدقها وسلاسة عبارتها ورونق معانيها {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} بإنزالنا عليك هذا القرآن.

{وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ} من قبل إنزال القرآن عليك {لَمِنَ الْغَافِلِينَ} من الذين لا يعلمون عن هذه القصص شيئاً.

قال السعدي: "ولمّا مدح ما اشتمل عليه هذا القرآن من القصص، وأنها أحسن القصص على الإطلاق، فلا يوجد من القصص في شيء من الكتب مثل هذا القرآن، ذكر قصة يوسف وأبيه وإخوته، القصة العجيبة الحسنة، واعلم أن الله ذكر أنه يَقُصُّ على رسُولِه أحسن القصصِ في هذا الكتاب، ثم ذكرَ هذه القصةَ وبسطَها، وذكرَ ما جرى فيها، فعُلم بذلك أنها قصةٌ تامةٌ كاملةٌ حسنةٌ، فمَن أراد أن يُكمِّلَها أو يُحسِّنَها بما يُذكر في الإسرائيليات التي لا يُعرفُ لها سندٌ ولا ناقلٌ، وأغلبُها كذبٌ؛ فهو مُستدركٌ على اللهِ، ومُكملٌ لشيءٍ يزعم أنه ناقصٌ، وحسبُك بأمرٍ ينتهي إلى هذا الحد قُبحًا، فإنَّ تضاعيفَ هذه السورةِ قد مُلئت في كثيرٍ مِن التفاسير، مِن الأكاذيبِ والأمورِ الشنيعةِ المناقضةِ لِمَا قصَّه اللهُ تعالى بشيءٍ كثير.

فعلى العبد أن يفهمَ عن اللهِ ما قصَّه، ويدعَ ما سوى ذلك مما ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم يُنقل". انتهى

﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)﴾

فقال تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ} اذكر لقومك يا محمد في قصصك عليهم قصة يوسفَ بنِ يعقوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ الخليل، عليهم الصلاة والسلام، نبي بن نبي بن نبي بن نبي، سئل النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ‌أَكْرَمُ ‌النَّاسِ؟ قَالَ: "أَتْقَاهُمْ"، فَقَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: "فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ".. الحديث، إذ قال يوسف {لأبِيهِ} يعقوب عليه السلام، ويعقوب هو إسرائيل {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ} في المنام {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} قال بعض العلماء في الفرق بين الكوكب والنجم: الْكَوْكَب: اسْم للكبير من النُّجُوم، وكوكبُ كلِّ شَيْءٍ معظمه، والنَّجمُ: عَامٌ فِي صغيرِها وكبيرِها". انتهى، قال يوسف: {وَ} رأيتُ في المنام {الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ} كلَّ أولئكَ {لِي سَاجِدِينَ} قال ابن عباس وعبيد بن عمير: "رؤيا الأنبياءِ وحيٌ".

فكانت هذه الرؤيا مقدِّمة لما وصل إليه يوسف عليه السلام من الارتفاع في الدنيا والآخرة.

قال السعدي رحمه الله: "وهكذا إذا أراد الله أمرا من الأمور العظام قدم بين يديه مقدمة، توطئة له، وتسهيلا لأمره، واستعدادا لما يرد على العبد من المشاق، لطفا بعبده، وإحسانا إليه، فأوَّلها يعقوب بأن الشمس: أمه، والقمر: أبوه، والكواكب: إخوته، وأنه ستنتقل به الأحوال إلى أن يصير إلى حال يخضعون له، ويسجدون له إكراما وإعظاما، وأن ذلك لا يكون إلا بأسباب تتقدمه من اجتباء الله له، واصطفائه له، وإتمام نعمته عليه بالعلم والعمل، والتمكين في الأرض.

وأن هذه النعمة ستشمل آل يعقوب، الذين سجدوا له وصاروا تبعا له فيها". انتهى

﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)﴾

{قَالَ} يعقوب ليوسف {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} لا تذكر رؤياك لإخوتك؛ فيفهموها، ويحسدوك أن تكون أنت الرئيس الشريف المقدم عليهم {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} فيدبروا لك مكيدة حتى يبعدوك بها عن طريقهم {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} واضح العداوة، فالبعد عن الأسباب التي يتسلط بها على العبد أولى، فامتثل يوسف أمر أبيه، ولم يخبر إخوته بذلك، بل كتمها عنهم.

﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)﴾

{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} أي: وكما رأيت تلك الرؤيا يختارك ربك بما يمنُّ به عليك من الأوصاف الجليلة والمناقب الجميلة {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ} أي: من تعبير الرؤيا {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} ويكمل نعمته عليك بالنبوة {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ} من قبلك {إِبْرَاهِيمَ} الخليل {وَإِسْحَاقَ} ابن إبراهيم عليهما السلام، حيث أنعم الله عليهما بنعم عظيمة.

{إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} إن ربك عليم بخلقه، حكيم في تدبيره؛ فيعطي كل واحد منهم ما تقتضيه حكمته تبارك وتعالى، فإنه حكيم يضع الأشياء مواضعها.

‌‌﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) ﴾

يقول تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي} خبر {يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ} أي: عبر وعظات {لِلسَّائِلِينَ} عن أخبارهم.

قال السعدي: لكل من سأل عنها بلسان الحال أو بلسان المقال، فإن السائلين هم الذين ينتفعون بالآيات والعبر، وأما المعرضون فلا ينتفعون بالآيات، ولا في القصص والبينات". انتهى

﴿إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)﴾

{إِذْ قَالُوا} حين قال إخوة يوسف فيما بينهم: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ} أي: شقيقه، وإلا فكلهم إخوة {أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} أي: جماعة، فكيف يفضلهما علينا بالمحبة؟ {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ} لفي خطأ {مُبِينٍ} بين واضح في محبته لاثنين وتقديمهما على الجماعة في المحبة.

﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)﴾

فقال بعضهم لبعض: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} أي: غيبوه عن أبيه في أرض بعيدة لا يتمكن من رؤيته فيها.

فإنكم إذا فعلتم أحدَ هذين الأمرين {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} أي: يخلص لكم وجه أبيكم، ويتفرغ لكم، ويحبكم محبة كاملة، فإنه قد اشتغل قلبه بيوسف شغلا لا يتفرغ لكم {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ} أي: وتكونوا من بعد ما تفعلونه من قتله أو تغييبه {قَوْمًا صَالِحِينَ} أي: تتوبون إلى الله، وتستغفرون من بعد ذنبكم.

قال السعدي: "فقدموا العزم على التوبة قبل صدور الذنب منهم؛ تسهيلا لفعله، وإزالة لشناعته، وتنشيطا من بعضهم لبعض". انتهى

‌‌﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) ﴾

{قَالَ قَائِلٌ} من إخوة يوسف: {لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ} فإن قتله أعظم إثما وأشنع، والمقصود يحصل بإبعاده عن أبيه من غير قتل {وَأَلْقُوهُ} وارموه {فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} في قعر البئر {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} يأخذه بعض المسافرين الذين يَمُرُّون به، فهذا أخف ضررًا من قتله، إن كنتم عازمين على ما قلتم بشأنه.

قال السعدي: وهذا القائل أحسنهم رأيا في يوسف، وأبرهم وأتقاهم في هذه القضية، فإن بعضَ الشر أهونُ من بعض، والضررَ الخفيف يُدفع به الضررُ الثقيل". انتهى

‌‌ ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) ﴾

فلما اتفقوا على هذا الرأي الأخير، بدؤوا باستعمال الحيلة مع أبيهم ليصلوا إلى التفريق بين يوسف وأبيه، فقالوا: {يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} أي ما لك لا تجعلنا أمناء على يوسف؟ {وَ} الحال {إِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} أي: مشفقون عليه، ونحن عليه أمناء، نرعاه ونحفظه مما يضره، فما الَّذي يمنعك من إرساله معنا؟

قال السعدي: "وهذا يدل على أن يعقوب عليه السلام لا يترك يوسف يذهب مع إخوته للبرية ونحوها.

فلما نفوا عن أنفسهم التهمة المانعة من عدم إرساله معهم، ذكروا له من مصلحة يوسف وأنسه الذي يحبه أبوه له، ما يقتضي أن يسمح بإرساله معهم، فقالوا:

﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)﴾

{أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا} اسمح لنا نأخذه معنا غدًا {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} ينشط ويفرح ويلعب في البرية {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} من كل أذى يصيبه.

﴿قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)﴾

فأجابهم أبوهم بقوله: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} أي: مجرد ذهابكم به يحزنني، لأنني يشق علي فراقه، ولو مدة يسيرة.

قال ابن كثير: "أي: يشق عليَّ مفارقته مدة ذهابكم به إلى أن يرجع، وذلك لفرط محبته له، لما يتوسم فيه من الخير العظيم، وشمائل النبوة، والكمال في الخَلق والخُلق، صلوات اللَّه وسلامه عليه".

فهذا مانع من إرساله {وَ} مانع ثان، وهو أني {أَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} أي: في حال غفلتكم عنه لا تشعرون به؛ لأنه صغير لا يمتنع من الذئب.

قال ابن كثير: "فأخذوا من فمه هذه الكلمة وجعلوها عذرهم فيما فعلوه". أي بعد أن ألقوا يوسف في الجب.

﴿قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)﴾

{قَالُوا} قال إخوة يوسف لأبيهم في وقت هذا الجدال: {لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} أي: جماعة {إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} إنا إذن لعجزةٌ هالكون إن أكله الذئب وغلبنا عليه ونحن جماعة حريصون على حفظه.

فلما ذكروا له هذا سمح لهم بأخذه معهم ليأنس ويلعب.

﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)﴾

﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ} أذِن يعقوب عليه السلام لأخوة يوسف بأخذه معهم، فلما أخذوه معهم بعيداً {وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} وعزموا على إلقائه في غيابة البئر {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} أوحى الله إلى يوسف في هذه الحال {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} قال السعدي: "أي: سيكون منك معاتبة لهم، وإخبار عن أمرهم هذا، وهم لا يشعرون بذلك الأمر، ففيه بشارة له، بأنه سينجو مما وقع فيه، وأن الله سيجمعه بأهله وإخوته على وجه العز والتمكين له في الأرض".

﴿وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16)﴾

{وَجَاءُوا أَبَاهُمْ} ورجع أخوة يوسف إلى أبيهم بعد أن ألقوا يوسف في البئر {عِشَاءً} في وقت العشاء {يَبْكُونَ} ليخدعوا أباهم فيصدقهم فيما سيكذبونه.

﴿قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)﴾

فـ {قالوا} متعذرين بعذر كاذب {يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} من السباق، أَي يسابق بَعْضنَا بَعْضًا في رمي السهام فننظر أينا سهمه أسبق، أو نتسابق على الأقدام {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا} وتركنا يوسف عند ثيابنا وأزْوَادنا ليحفظها {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} ونحن بعيدون عنه {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} وما أنت بمصدقنا {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} وإن كنا في الواقع صادقين فيما أخبرناك به.

﴿وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)﴾

{وَ} مما أكدوا به قولهم، أنهم {جَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} فجاؤوا بقميص يوسف ملطّخًا بدم غير دمه؛ زعموا أنه دم يوسف حين أكله الذئب، فلم يصدقهم أبوهم بذلك، و {قَالَ} ليس الأمر كما قلتم {بَلْ سَوَّلَتْ} أي زينت {لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} قبيحا في التفريق بيني وبينه؛ لأنه رأى من القرائن والأحوال ومن رؤيا يوسف التي قصَّها عليه ما دلّه على ما قال.

{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} أي: أما أنا فوظيفتي سأحرص على القيام بها، وهي أني أصبر على هذه المحنة صبرا جميلا سالما من السخط والتَّشكِّي إلى الخلق، وأستعين الله على ذلك، لا على حولي وقوتي، فوعد من نفسه هذا الأمر وشكى إلى خالقه في قوله: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} لأن الشكوى إلى الخالق لا تنافي الصبر الجميل، لأن النبي إذا وعد وفى.

﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)﴾

أي: مكث يوسف في البئر ما مكث، حتى {جَاءَتْ سَيَّارَةٌ} أي: جماعة مسافرون، فالسيارة: هم الْقَوْم المسافرون، سموا سيارة لأَنهم يَسِيرُونَ فِي الأَرْض {فَأَرْسَلُوا} أي فأرسل القوم المسافرون {وَارِدَهُمْ} رجل منهم، يرسلونها ليحضر لهم الماء، فالوارد: "هُوَ الَّذِي يقدم الْقَوْم ليستقي المَاء من الْبِئْر". {فَأَدْلَى} فأرسل، أي فأنزل ذلك الرجل الوارد {دَلْوَهُ} في البئر الذي فيه يوسف، والدلو: إِنَاء يستقى بِهِ من الْبِئْر، يكون مربوطا بحبل، فتعلق يوسف عليه السلام في الدلو وخرج، فلما رآه الرجل الذي أرسل الدلو {قَالَ} وهو مسرور فرح {يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ} أي: استبشر، وقال: هذا غلام.

نادى البشرى، بشارة لنفسه، أو لقومه، كأنه قال: يا بشرى احضري ‌فهذا وقتك.

والبشرى هنا: قول يقال لإظهار الفرح والسرور بالشيء.

{وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} فيها قولان: قول: إن الذين أسروه، وكتموا حقيقته هم الوارد إلى البئر ومن معه، كتموا حقيقته عن بقية السيارة الذين معهم حتى لا يقاسموهم فيه، وقالوا: اشتريناه وتبضعناه من أصحاب الماء.

والقول الثاني: إخوة يوسف أسروا شأنه، وكتموا أن يكون أخاهم، وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته، واختار البيع، فذكره إخوته لوارد القوم، فنادى أصحابَه {يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ} يباع، فباعه إخوته.

{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)} قال ابن كثير: "أي: عليم بما يفعله إخوة يوسف ومشتروه، وهو قادر على تغيير ذلك ودفعه، ولكن له حكمة وقدر سابق، ليمضي ما قدره وقضاه {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}".

﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)﴾

{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} وباعه إخوته بثمن قليل. والبخس: هو النقص، أي: قليل جدا، فسره بقوله: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}.

قال السعدي: "لأنه لم يكن لهم قصد إلا تغييبه وإبعاده عن أبيه، ولم يكن لهم قصد في أخذ ثمنه، والمعنى في هذا: أن السيارة لما وجدوه، عزموا أن يُسِرُّوا أمره، ويجعلوه من جملة بضائعهم التي معهم، حتى جاءهم إخوته فزعموا أنه عبد أبق منهم، فاشتروه منهم بذلك الثمن، واستوثقوا منهم فيه لئلا يهرب، والله أعلم

﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)﴾

{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ} أي: لما ذهب به السيارة إلى مصر وباعوه بها، اشتراه عزيز مصر، قال ابن كثير: "وكان الذي اشتراه من مصر عزيزها وهو الوزير"، وقال: "يخبر تعالى بألطافه بيوسف عليه السلام: أنه قيض له الذي اشتراه من مصر، حتى اعتنى به وأكرمه، وأوصى أهله به، وتوسم فيه الخير والفلاح، فقال لامرأته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} مَعْنَاهُ: أكرميه فِي الْمطعم والملبس وَالْمُقَام. والمثوى فِي اللُّغَة: مَوضِع الْإِقَامَة، وَيُقَال: ثوى بِالْمَكَانِ إِذا أَقَامَ. {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} لعله ينفعنا في القيام ببعض ما نحتاج إليه {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} أو نتبناه، أي نجعله ولدًا لنا بالتبنِّي، قال تبارك وتعالى: {وَ} كَمَا خلصنا يوسف من الْهَلَاك، ونجيناه من ظلمَة الْبِئْر، فصيَّرْناه إلى الكرامة والمنزلة الرفيعة عند عزيز مصر {كَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ} أي أرض مصر، مَلَّكه فيها. أي مكنا له بالتمليك، وَبسطِ الْيَد، وَرَفْعِ الْمنزلَةِ إِلَى أَن بلغ مَا بلغ، حتى صار له أمر ونهي فيها.

{وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ} من تعبير الرؤيا {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} أي: لَا يمنعهُ منه مَانع، وَلَا يردهُ عَمَّا يُرِيد راد، يفعل ما يشاء {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} ولكن غالب الناس -وهم الكفار- لا يعلمون ذلك.

﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)﴾
{وَلَمَّا بَلَغَ} يوسف {أَشُدَّهُ} أي: كمال قوته، وصلح لأن يتحمل الأحمال الثقيلة.

قيل لمّا بلغ الحُلُم، وقيل أكثر من ذلك، والْأَكْثَرُونَ على أَن الأشد: ثَلَاث وَثَلَاثُونَ سنة وإليها تَنْتَهِي قُوَّةُ الشَّبَاب.

والله أعلم به.

{آتَيْنَاهُ} أعطيناه {حُكْمًا وَعِلْمًا} قال البغوي: فَالْحُكْمُ: النُّبُوَّةُ، وَالْعِلْمُ: الْفِقْهُ فِي الدِّين.

وَقِيلَ: حُكْمًا يَعْنِي: إِصَابَةً فِي الْقَوْلِ: وَعِلْمًا: بِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا

وَقِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَكِيمِ وَالْعَالِمِ، أَنَّ الْعَالِمَ: هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ، وَالْحَكِيمَ: الَّذِي يَعْمَلُ بِمَا يُوجِبُهُ الْعِلْمُ". انتهى

{وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي "وكما جزَيْتُ يوسُفَ فآتَيْتُه بطاعتِه إياي الحكمَ والعلمَ، ومكَّنْتُه في الأرضِ، واسْتَنْقَذْتُه مِن أيدي إخوتِه الذين أرادوا قتلَه؛ كذلك نَجْزِي مَن أَحْسَن في عملِه فأطاعني في أمري، وانْتَهَى عما نهَيْتُه عنه مِن معاصي". قاله الطبري.

فيوسف عليه السلام كان محسنًا في عمله، عاملا بطاعة ربه تعالى.

وهذا جزاء الله تبارك وتعالى لكل محسن ينجيه من كل كرب، ويرزقه من العلم النافع، والحكمِ بالعدل.

قائمة الخيارات
0 [0 %]
الثلاثاء 24 ذو القعدة 1446
عدد المشاهدات 7
جميع الحقوق محفوظة لشبكة الدين القيم © 2008-2014 برمجة وتصميم طريق الآفاق