الاثنين 13 ذو القعدة 1445 هـ
20 مايو 2024 م
جديد الموقع   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-53، كتاب الوضوء، الحديث 192و193و194و195و196و197و198و199و200   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-52، كتاب الوضوء، الحديث 187و188و189و190و191   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-51، كتاب الوضوء، الحديث 183و184و185و186   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-50، كتاب الوضوء، الحديث 176و177و178و179و180و181و182   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-49، كتاب الوضوء، باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين.   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (124-129)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (117-123)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (111-116)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (107-110)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (97-106)      

تفريغ شرح صحيح البخاري-9، كتاب الإيمان، الحديث 21,20,19

الدرس التاسع: بتاريخ: 27/12/1444ه – 15/07/2023

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، أما بعد:

فدرسنا اليوم هو الدرس التاسع من شرح صحيح البخاري، وصلنا عند الباب الثاني عشر من أبواب "كتاب الإيمان" الحديث التاسع عشر.

"بابٌ: من الدين الفرار من الفتن

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏:‏ «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ»".

"(بابٌ: من الدين الفرار من الفتن)" يريد الإمام البخاري رحمه الله من هذا التبويب أن يبيّن لنا خصلة من خصال الإيمان، فلمّا بيّن أن الإيمان شُعب وخصال، ذكر في أكثر من باب من تبويباته بعضًا من خصال الإيمان، منها ما هو من أعمال القلوب، ومنها ما هو من معرفة القلوب، ومنها ما هو من أعمال الجوارح، الفرار من الفتن خصلة من خصال الإيمان وهي من أعمال الجوارح، فهذه خصلة من خصال الإيمان، واستعمل المؤلف الدين بدل الإيمان والمعنى واحد إلا إنه أراد أن يوافق لفظ الحديث.

قال: "حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ" عبد الله بن مسلمة بن قعْنب القَعْنَبي الحارثي أبو عبد الرحمن المدني نزيل البصرة، أصله من المدينة وسكنها مدة، ثقة، حجة، عابد، عده الذهبي في الحفاظ، كان ابن معين وابن المديني لا يقدّمان عليه في الموطأ أحداً.

وقال الإمام ابن خزيمة سمعت نصر ابن مرزوق يقول: "أثبت الناس في الموطأ القعنبي، وعبد الله بن يوسف بعده" وقال أبو عبد الله الحاكم: قال الدارقطني: "يقدم في الموطأ مَعْن بن عيسى، وابن وهب، والقعنبي، ثم قال: "وأبو مصعب ثقة في الموطأ"، وقال محمد بن عبد الوهاب الفرّاء: "سمعتهم بالبصرة يقولون عبد الله بن مسلمة من الأبدال"، هذه الكلمة تمر معكم في التراجُم كثيراً، الأبدال ورد فيها أكثر من حديث، منها قول النبي ﷺ: (الأبدال بالشام، وهم أربعون رجلاً، كلما مات رجلٌ أبدل الله مكانه رجلاً يُسقى بهم الغيث، ويُنتصر بهم على الأعداء، ويُصرف عن أهل الشام بهم العذاب" وهو حديث ضعيف، وكل ما ورد في الأبدال ضعيف لا يصح، وكثيرٌ من الأئمة إذا أرادوا وصف رجلٍ بالصلاح، والزهد، والعبادة، قالوا هو من الأبدال يشيرون إلى هذه الأحاديث، وهذا سبب تسميتهم بهذه التسمية أنه ما يذهب رجل إلا يبدله الله برجل آخر، فمعنى أنه من الأبدال أنه كان عابدًا، زاهدًا، صالحًا، وهذه شهادة له أو تعديل في الدين وفي عدالته، وقال إسماعيل القاضي: " كان القعنبي من المجتهدين في العبادة" وقال الحُنيني: "كنا عند ابن مالك فقدم ابن قعنب من سفرٍ، فقال مالك: قوموا بنا إلى خير أهل الأرض" يروي عن أتباع التابعين، مات في أول سنة 221 بمكة، روى له الجماعة سوى ابن ماجه.

قال: "عن مالك" هو ابن أنس أبو عبد الله المدني، الفقيه الكبير، إمام دار الهجرة، تقدمت ترجمته.

"عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي صعصعة" الأنصاري المازني المدني، ومنهم من يقول فيه: عبد الرحمن بن عبد الله ابن أبي صعصعة، فتجده في التراجم هكذا وهكذا، فيُنسب عبد الله إلى جده، ومنهم من يقول فيه: عبد الرحمن ابن أبي صعصعة فينسبه إلى جد أبيه، ومنهم من يقول فيه: عبد الله ابن عبد الرحمن ابن أبي صعصعة فيقلب اسمه، وكل هؤلاء رجلٌ واحد، وهو ثقة، وثّقه أبو حاتم والنسائي، من أتباع التابعين، روى له البخاري أبو داود والنسائي وابن ماجه.

"عن أبيه": هو عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي صعصعة الأنصاري المازني المدني، ثقة، روى عنه مالك، ووثقه ابن البَرْقي والنسائي وذكره ابن حبان في الثقات.

وقال مالك: "وكان لآل أبي صعصعة حلْقةٌ فيما بين القبر والمنبر كان فيهم رجالٌ أهل علمٍ وروايةٍ له ومعرفة به وكلهم كان يفتي " انتهى كلامه رحمه الله، ومع إخراج البخاري له في الصحيح، لا وجه لقول من قال هو مجهول أو غير مشهور، هو تابعي روى له البخاري وأبو داوود والنسائي وابن ماجه.

"عن أبي سعيد الخدري" رضي الله عنه سعد بن مالك بن سنان الأنصاري من الخزرج، مشهورٍ بكنيته، صحابي ابن صحابي، استصغر يوم أحد، ثم شهد ما بعدها من المشاهد مع النبي ، وكان ممن حفظ عن رسول الله ﷺ سننًا كثيرة، وروى عنه علمًا جمًّا، وكان من نُجباء الأنصار وعلمائهم وفضلائهم، توفي بالمدينة سنة 74، روى عنه جماعة من الصحابة وجماعة من التابعين، روى له الجماعة.

روى أبو نضرة، عن أبي سعيدٍ الخدري، عن النبي ﷺ قال: «لا يمنعن أحدكم مخافة الناسِ أن يتكلم بحقٍ إذا رآه أو عرفه» قال أبو سعيد: (فحملني ذلك على أن ركِبت إلى معاوية فملأت أذنيه ثم رجعت) هذا عمل السلف بحديث النبي، جاء الحديث إذًا انتهى الأمر، كما قال عبد الله بن مُغَفَّل لابن عمه: "روى له أن النبي ﷺ نهى عن الخذف، فأخذ حجراً وخذف، فقال: (أقول لك نهى النبي ﷺ عن الخذف وتخذف؟! والله لا كلمتك بعدها أبدًا) بهذا يرفع الله العبد عنده، بتمسكه بكتاب ربه، وبسنة نبيه ﷺ في كل صغيرة وكبيرة، هذا الفعل من أبي سعيد يبيّن لنا كيف يكون الإنكار على ولاة الأمور، معاوية كان ولي أمر، ولما ذكر أبو سعيد هذا الحديث ذهب إلى معاوية وتكلّم ونصح، فالنصيحة عند السلف لولاة الأمور تكون عندهم، لأن المقصود من النصيحة هو أن يبيَّن لولي الأمر الحق من الباطل، وأن تقام عليه الحجة، ولعله يرجع عن باطله فيكون في ذلك منفعة للجميع، فهي نصيحة وليست فضيحة، النصيحة لولاة الأمور في العلن مفسدتها كبيرة، عندما تصعد على المنبر وتقول لهم افعلوا كذا، وأنتم لا تفعلون كذا وكذا، يحصل من ذلك إيغار لصدور العامة فوق ما هي مليئة أصلاً بالضغائن على ولاة الأمور بسبب ما يقع عليهم من ظلم، فيأتي هذا وينصح على المنبر فيزيد الأمر سوءًا، ويزيد الطين بِلّة، فَيَهيجُ العامة فتقع الفتنة، وهذه الفتنة إذا وقعت ليست لمصلحة أحد، هو عبارة عن قارب إذا دبت فيه الفتنة غرق الجميع، هذا الواقع الذي شاهدناه اليوم كنا في السابق نقرأ من كلام أهل العلم، ونصائح أهل العلم الذين عندهم علم بالكتاب والسنة، وعندهم من التجربة ما هم أعمق فيه منا، ونسلّم، لكن اليوم صار عِلمًا مشاهداً، وصلنا فيه إلى عين اليقين، فينبغي أن يُغلق هذا الباب؛ لأنه باب شرٍ مفسدته عظيمة.

من قال بجواز الإنكار العلني على ولاة الأمور هل هو قطبي؟ سروري؟ خارجي؟

المسألة فيها تفصيل، إن كان يقول بهذا -بالإنكار العلني على ولاة الأمور- مع تجويز الخروج فهو خارجي، أما إن قال بهذا وقيّد -كما كان شيخنا الوادعي يفعل رحمه الله- كان ينكر إنكارًا علنيًا على ولاة الأمور لكنه كان يقول لا أجيز الخروج عليهم ولا أجيز الثورات ويمنع هذا، هل يقال هذا سروري خارجي إلى آخره؟ لا، الأصل هو الخروج وهذه فرعٌ عن هذا الأصل، فيُنظَر إلى ما يترتب عليه عند القائل ويُحكم عليه بناءً على ذلك، خطأ خطأ، زلة عالم؟! نعم، هي زلة عالم، لا يجوز لأحد أن يتابعه عليها؟ نعم، لا يجوز لأحد أن يتابعه عليها، لكن لهذا فقط نقول هو خارجي وسروري؟! لا، لكن إذا ضُمّ إليها غيرها عندئذ نقول هو سروري أم لا، ما في سروري بالدنيا يقول لك يجوز الإنكار العلني على ولاة الأمور ولا يجوز الخروج عليهم، ما في سروري في الدنيا يقول هذا، لكن نقول هذا التقييد الذي ذكرتَه يخرجك من السرورية والقطبية نعم، لكن حقيقةً من حيث التطبيق الواقعي هل يمكن توقّع المفسدة التي ستحصل من إنكارك العلني على المنبر حتى تعلم هل سيحصل من وراء ذلك خروج أم لا؟ لا يمكن، العامة لا تستطيع أن تضبطهم، إذا وقعت الفتنة انتهى، تصعد على المنبر وتنكر على ولاة الأمور علنًا! بعد ذلك ما الذي سيحدث؟ لا تستطيع أن تضمنه، فلذلك هذا التقييد غلط، مش نفس التقييد الغلط فقط، لا؛ نفس الحكم غلط، والتقييد لا فائدة منه حقيقة، لأن توقع المفسدة لا يمكن توقعها في غالب الأمر، فلا بد من إغلاق هذا الباب؛ لأن المفسدة عظيمة وخاصة في زماننا هذا الذي نعيشه، لبعد الناس عن السنة، وضعف الوازع الديني، وكثْرة الظلم عليهم، والقلوب ملأى، فهذه الأمور كلها تساعد على إثارة الفتنة، وأهل الضلال والبدع كُثر الذين يحرضون الناس على هذا، فإغلاق هذا الباب واجب، فلا إفراط ولا تفريط، لا مع ولاة الأمور ولا مع الدعاة، الحق يجب أن يُتبع، ويجب أن يقال العدل والصواب في المسألة من غير ظلم، ومن غير تجاوز، ومن غير أن يكون للنفس حظٌ من ذلك، هذا الحق الذي نَدين الله به في هذه المسألة، فلا يجوز لأحدٍ إن وقع شيخه في خطأ أن يدافع عن الخطأ من أجل الدفاع عن شيخه، هذه ليست طريقة سلفية، هذه طريقة أهل الضلال أصحاب الأهواء، الحق فوق الجميع.

قال رحمه الله: "أنه قال: قال رسول الله ﷺ: ‏«يُوشِكُ»" أي: يقرُب "«أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ»" أو "«يَتَّبِعُ»" كلاهما صحيح "«بِهَا»" أي: بالغنم "«شَعَفَ الْجِبَالِ»" رؤوس الجبال وأعاليها.

و"«شَعَفَ»" جمع "شَعَفَة" قال ابن عبد البر: (وشَعَف الجبال عند أهل اللغة: رؤوسها، وشَعَفَةُ كل شيءٍ أعلاه) قال الأخفش: (الشَعَفُ: أطراف الجبال وظهورها وأعاليها، الواحدة شَعَفَةٌ).

"«وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ»" أي المطر، و"المواقع": جمع موقعٍ، وهو موضع نزول المطر.

"«يَفِرُّ»" يهرب "«بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ‏»‏‏" جمعُ فِتْنَة، أصل الفتنة: الاختبار، ثم استُعملت فيما أخرجه الاختبار من مكروه، ثم كثر استعماله في أبواب المكروه، والمقصود بالفتنة هنا: ما يضر بالدين.

أشار ﷺ بهذا الحديث إلى أن الفتن تكثر في آخر الزمان، ويحُلُّ فسادٌ كثيرٌ بين الناس، فينبغي لمن يخاف على دينه من مخالطة أهل الشر والفساد أن ينعزل عنهم في رؤوس الجبال وبطون الأودية، وأن يكون عنده أغنام يرعاها في هذه المواضع، وينتفع بدرِّها ونسلها، ويفعل ذلك لإحراز دينه، وسلامة دينه مما يضره فيه، مما يحصل بسبب خلطة الناس، قال ابن رجب: (وإنما كان الغنم خير مال المسلم حينئذ لأن المعتزل عن الناس بالغنم يأكل من لحومها ونَتَاجها ويشرب من ألبانها، ويستمتع بأصوافها باللُبس وغيره، وهي ترعى الكلأ) يعني: العشب (في الجبال، وترد المياه، وهذه المنافع والمرافق لا توجد في غير الغنم) الغنم مباركة، فيها بركة، في كل شيء فيها منتفع، (ولهذا قال: «يتبع بها شعف الجبال» وهي رؤوسها وأعاليها، فإنها تعصم من لجأ إليها من عدوٍّ، «ومواقع القطر» لأنه يجد فيها الكلأ والماء فيشرب منها، ويسقي غنمه وترعى غنمه من الكلأ) انتهى

المقصود من هذا الحديث: الحث على العزلة، والفرار بالدين مما يضره عند كثرة الفتن.

وهل الأفضل للمسلم العُزلة أم الاختلاط؟! هذا يختلف على حسب الشخص وعلى حسب الزمان والمكان، الأصل أن الأفضل: من يخالط الناس ويصبر على أذاهم، هذا أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم، لكن أحيانًا تحدث أمور تكون العُزلة فيها خيرًا من الاختلاط بالناس، من ذلك إذا خاف الإنسان على نفسه فتنة مثل أن يكون في بلد يُطلب منه أن ينحرف بدينه، أو يُطلب منه أن يدعو إلى بدعة، أو يرى الفسق كثيرًا يؤثر على دينه، أو يخشى على نفسه من الفواحش، أو ما أشبه ذلك...، فهذه فيها العزلة خير، كحالنا اليوم، الشر والفساد كثير في كل مكان، فالاعتزال والبعد أفضل، إذًا الاعتزال خير إن كان في الاختلاط شر وفتنةٌ على الدين، وإلا الأصل أن الاختلاط أفضل، لماذا؟ لما يحصل في الاختلاط من إقامة شعائر الله، وإقامة الجُمع والجماعات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأشياء كثيرة هي من الدين لا يمكن فعلها إلا بالاجتماع مع الناس ومخالطة الناس، فالمسألة تختلف في زمن الفتن والشر والخوف من المعاصي مع الخلطة، وتختلف بالزمن الذي ليس فيه هذا وتكون الخلطة فيه مفيدة للدين أكثر.

وذِكر النبي ﷺ للغنم هنا يبيّن أن الإنسان لا بد له من مصدر من للرزق، لا بد، لذلك ذكر له هنا الغنم، كي يسترزق منها، هذا سبب لا بد منه، سبب قدَرَي وسبب شرعي، فالعزلة من غير أسباب الرزق لا يمكن أن تحصل، وهنا الذين يحتاجون للعُزلة أصعب شيء عليهم في تحقيقها هو سبب الرزق، فلذلك يتقي الله الإنسانُ ما استطاع، ونُسأل كثيرًا عن هذه الأمور، المجتمعات دبَّ فيها الفساد بشكل كبير جدًا، وصار الإنسان بمخالطته للناس يخشى على دينه، فماذا يفعل؟! من استطاع أن يعتزل كما جاء بهذا الحديث اليوم في زمننا هذا فليفعل، هذا أفضل شيء، لأن المصلحة اليوم في العُزلة؛ لكثرة الشر والفساد، طيب من لم يستطع -وهذا حال الأكثر-؟ يتقي الله ما استطاع، ويعتزل بحسب القدرة، كيف يعتزل بحسب القدرة؟ إن كان يعمل في مصنع مع أناس يشغل نفسه في عمله، ويبتعد عن مخالطة مَن في المصنع، لأنه في الغالب من في المصنع لا يصلون، أو كثير منهم لا يصلي، ومنهم من يسب الرب، ويسب الدين، هذه موجود وبكثرة ونُسأل عنه كثيراً، اعتزل، ابتعد عنهم، وابقَ في عملك فقط، ولو حتى أن تضع شيئًا في أذنيك تسمعه من قرآن أو غيره إذا كان لا يتعارض مع إتقان عملك، إذًا القاعدة: "اتقِ الله ما استطعتِ، وكل واحد أدرى بمجتمعه الذي هو فيه، وبالواقع الذي يعيشه، قال ابن عبد البر: (وهذا الحديث إنما ورد خبراً عن حال آخر الزمان، وما المحمود في ذلك الوقت لكثرة الفتن؟ وقد كان ﷺ يحضُّ في أول الإسلام على لزوم الحواضر) يعني الحضر يعني المدن، (للجماعات والجمُعات) أي: لإقامة الجماعات والجُمُعات (ويقول: «من بدى جفا» والحديث المذكور في هذا الباب من أحسنِ حديثٍ في العزلة، والفرار من الفتنة، والبعد عن مواضعها من الحواضر وغيرها، قال: والفتنة المذكورة بهذا الحديث تحتمل أن تكون فتنة الأهل والمال، وفتنة النظر إلى أهل الدنيا، وفتنة الدخول على السلطان وغير ذلك من أنواع الفتن...) يعني ممكن تكون هذه وهذه وهذه، طيب قال: (ولم يُرِدْ الفتنة النازلة بين المسلمين الحاملة على القتال في طلب الأمارة دون غيرها من الفتن) يعني لا يذهب ذهنك إلى أن المقصود من الفتنة في هذا الحديث هي المعروفة، الفتنة التي حذر منها النبي ﷺ في أكثر من حديث وهي الاقتتال بين المسلمين، إذا حصل اقتتال بين المسلمين على الدنيا، طبعًا كثير من السلف فسروا أحاديث الفتن الواقعة بهذا، الفتنة متى تكون فتنة؟ في حال الاقتتال إذا كان القتال بين المسلمين على الدنيا، فقال لا تظن أن المقصود من هذا الحديث هذه الفتنة فقط، قال: (بل أراد بقوله: «يفر بدينه من الفتن»، جميع أنواع الفتن) وهذا الصح، لأن النبي ﷺ ما قيد «يفر بدينه من الفتن» عموم، اللفظ فيه لفظ عموم، يشمل الفتن كلها، كل فتنة تضر في دينك فهي مقصودة، لا يمكنك المحافظة على دينك وعلى سلامته إلا باعتزالها إذًا لا بد لك أن تعتزلها، قال: (وفي ذلك دليل على فضل العُزلة والانفراد في آخر الزمان كزماننا هذا) هذا متى يتكلم؟! في القرن الخامس، يعني ما يخفاكم بعد ألف سنة إيش صار الحال، وقال غيره: (وأما الفرار والعزلة في الفتنة فواجب) هذا حكمها إذا خشيت على دينك ولا يمكنك حفظ دينك إلا بها فهي واجبة، لا شك، قال: (وفيه النجاة إن شاء الله، وأما إذا كانت الدَعَة، ولم يكن زمان فتنة؛ فمخالطة الناس، والجماعة، وحضور الجمعة، والجنائز، وحِلق العلم أفضل من العزلة) انتهى.

قال ابن حجر في "الفتح": (والخبر دالٌ على فضيلة العزلة لمن خاف على دينه، وقد اختلف السلف في أصل العزلة، فقال الجمهور: الاختلاط أولى لما فيه من اكتساب الفوائد الدينية للقيام بشعائر الإسلام، وتكثير سواد المسلمين، وإيصال أنواع الخير إليهم من إعانة وإغاثة وعيادة وغير ذلك...، وقال قومٌ: العزلة أولى لتحقق السلامة بشرط معرفة ما يتعين) يعني يكون عنده فقه في الدين فيما يحتاجه من أمور دينه.

وقال النووي: (المختار تفضيل المخالطة لمن لا يغلب على ظنه أنه يقع في معصية، فإن أشكل الأمر يقع) ولا ما يقع؟ قال: (فالعزلة أولى).

وقال غيره: (يختلف باختلاف الأشخاص، فمنهم من يتحتم عليه أحد الأمرين) إما العزلة أو الاختلاط (ومنهم من يترجح) في حقه إما العزلة أو الاختلاط (وليس الكلام فيه) يعني أمره واضح (بل إذا تساويا فيختلف باختلاف الأحوال، فإن تعارضا اختلف باختلاف الأوقات، فمن يتحتم عليه المخالطة من كانت له قدرة على إزالة المنكر فيجب عليه إما عيناً وإما كفايةً بحسب الحال والإمكان، وممن يترجح: ممن يغلب على ظنه أنه يسلم في نفسه إذا قام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وممن يستوي: من يأمن على نفسه ولكنه يتحقق أنه لا يُطاع، قالوا: وهذا حيث لا يكون هناك فتنة عامة، فإن وقعت الفتنة ترجحت العزلة لما ينشأ فيها غالباً من الوقوع في المحذور، وقد تقع العقوبة بأصحاب الفتنة فتعم من ليس من أهلها، كما قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال: 25] ويؤيد التفصيل المذكور حديث أبي سعيد أيضاً: «خير الناس رجلٌ جاهد بنفسه وماله، ورجلٌ في شِعْب من الشعاب يعبد ربه ويَدَع الناس من شره») انتهى باختصار.

الخلاصة في هذه المسألة: الواجب هو حفظ دينك، والأفضل لدينك تفعله، فإذا كانت الخلطة لا تضر دينك؛ بل فيها إقامة شعائر الإسلام وأحكامه فهي أفضل، وإذا كان فيها ضرر على دينك فالعزلة أفضل، هذا خلاصة الأمر.

قال ابن رجب رحمه الله: (بوّب البخاري على أن الفرار من الفتن من الدين، وليس في الحديث إلا الإشعارُ بفضل من يفر بدينه من الفتن، لكن لما جعل الغنم خير مال المسلم في هذه الحال دل على أن هذا الفعل من خصال الإسلام، والإسلام هو الدين) أي لما جعل الغنم خير مالٍ للمسلم -يعني المتصف بالإيمان- لأنه يعينه على الفرار من الفتن ويحفظ دينه؛ دل على أن الفرار بالدين من خصال الإيمان، وقال: (وأصرح من دَلالة هذا الحديث الذي خرّجه هنا، الحديث الذي خرّجه في أول الجهاد من رواية الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد قال: "قيل: يا رسول الله! أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله ﷺ: «مؤمنٌ يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله، قالوا: ثم من؟ قال: مؤمن في شِعب من الشعاب يتقي الله ويَدَع الناس من شره»" قال: وليس في الحديث ذكر الفتن، وخرجه أبو داود وعنده: "سُئل النبي ﷺ: أي المؤمنين أكمل إيمانًا؟" فذكره...، وهذا فيه دَلالة على أن الاعتزال عن الشر من الإيمان، قال: وفي المسند وجامع الترمذي: عن طاوس، عن أم مالك البهزية) الآن ابن رجب يسوق الأحاديث هذه كي يقوّي جانب استدلال البخاري على أن الفرار من الفتن من الدين، خصلة من خصال الإسلام أو الإيمان، قال: (عن أم مالك البهزية قالت: قال رسول الله ﷺ: «خير الناس في الفتنة رجلٌ معتزلٌ في ماله، يعبد ربه، ويؤدي حقه، ورجلٌ آخذٌ بعِنان فرسه في سبيل الله» وروي عن طاوس، عن ابن عباس عن النبي ﷺ، خرجه الحاكم، وروي عن طاووس مرسلًا، وخرّج الحاكم أيضاً من حديث أبي هريرة مرفوعاً: «أظلّتكم فتنة كقِطع الليل المظلم، أنجى الناس منها صاحب شاهقةٍ يأكل من رِسْل غنمها، ورجلٌ من وراء الدروب بعِنان قرسه يأكل من فَيء سيفه» وقد وقفه بعضهم، قال: فهذه الروايات المقيّدة بالفتن تقضي على الروايات المطلقة) يعني الرواية المطلقة تقيّد بالروايات المقيدة بالفتنة، انتهى كلامه رحمه الله.

رجال هذا الحديث كلهم مدنيون، والحديث من أفراد البخاري عن مسلم، ومن أحاديث الموطأ، روي من طرق عن مالك به، وتابعه عبد العزيز ابن أبي سَلَمة ابن الماجشون عند البخاري كما رواه مالك، وتابعه ابن عيينة ويحيى بن سعيد إلا أنه عندهما مقلوب، ففيه: عن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري عن أبيه، ذكرنا في البداية أن عبد الرحمن يسمونه: عبد الله، هذه منها، قال ابن المديني: (وهِم ابن عيينة في نسبه، حيث قال عبد الله بن عبد الرحمن) وقال الشافعي: (يُشبه أن يكون مالكٌ حفظه) انتهى، يعني: الصواب التسمية التي ذكرها مالك له، هو رجل واحد، لكن هل اسمه عبد الله ولا عبد الرحمن ، عبد الله بن عبد الرحمن أم عبد الرحمن بن عبد الله؟

وزاد "مُؤَمَّلٌ بن سعيد" في الإسناد: نهاراً العبدي: بين ابن أبي صعصعة وأبي سعيد، هذا خطأ آخر واقع في الإسناد، هل الصواب ابن أبي صعصعة عن أبي سعيد مباشرة أم بينهما واسطة؟ هذا الواسطة هو نهار العبدي، هذا زاده مؤمّل بن سعيد.

قال الدارقطني في العلل: (ووهم في ذكر نهار العبدي) من؟ مؤمل، مؤمل وهم فيه فزاد فيه نهارًا، قال: (وإنما روى هذا الحديث ابن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد) يعني كما أخرجه البخاري، ومؤمّل أصلًا ضعيف وروايته منكرة.

وقال بن رجب: (وقد روي عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن، عن أبي سعيد) بين مالك وعبد الرحمن: زيد بن أسلم، قال: (وهو وهم) انتهى.

أخرجه ابن مندة من طريق القَعْنَبي والتِّنِّيسي عن مالك، من أجود من يروي الموطأ عن مالك، والحديث في الموطأ، وقال: (هذا إسناد صحيح عند الجماعة، ولم يخرّجه مسلم، ولا علة له) فالحفاظ وافقوا البخاري على صحة هذا الحديث بهذا الاسناد، والله أعلم.

‌‌"بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللهِ، وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ فِعْلُ الْقَلْبِ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾

حَدَّثَنَا ‌مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ‌عَبْدَةُ، عَنْ ‌هِشَامٍ، عَنْ ‌أَبِيهِ، عَنْ ‌عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَرَهُمْ أَمَرَهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ، قَالُوا: إِنَّا لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَغْضَبُ حَتَّى يُعْرَفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللهِ أَنَا»"

"بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللهِ" "أعلمكم": أفعل تفضيل يدل على أن العلم بالله يتفاضل، وهو درجات، وأن بعض الناس فيه أفضل من بعض، والعلم بالله مع التصديق يشمل توحيده وشرعه وما يتعلق بذلك، فهذا من الإيمان؛ بل هو أصلٌ في الإيمان.

وقوله: "وأن المعرفة فعل القلب لقول الله تعالى..."

"﴿بما كسبت قلوبكم﴾": كسْب القلب: عمله، أي عزمتم وقصدتم اليمين، وكَسَب القلب: أي عَقَد النية، وهذا يدل على أن للقلب عملًا، كما أن للجوارح عملًا، وهذه الآية بمعنى الآية الأخرى التي قال الله تبارك وتعالى فيها: ﴿ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الأيمان﴾ قال مجاهد في قوله تعالى: ﴿ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الأيمان﴾ قال: (أن تحلف على الشيء وأنت تعلمه) هنا الشاهد، لذلك قال البخاري: "المعرفة: فعل القلب" يعني المعرفة التي معها تصديق من عمل القلب، يعني بقوله: "من عمل القلب" أنها مما في القلب من الإيمان، وهي خَصلة من خصال الإيمان، وتتفاضل، وقد تقدم هذا.

إذًا يتحدث الإمام البخاري رحمه الله عن خصلة من خصال الإيمان، وهي من عمل القلب، أو مما في القلب.

الإيمان عند أهل السنة والجماعة: علم وتصديق وأعمال القلوب وأعمال الجوارح.

"علم وتصديق": وهذا يسمونه قول القلب، الإمام البخاري ما أراد هذا التفصيل وإنما أراد ما في القلب، وأن للقلب عمل، ومما في القلب هو المعرفة، ولكن أهل العلم من السلف رضي الله عنهم يقولون قول القلب ويريدون: المعرفة مع التصديق، المعرفة والتصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله وكل ما جاء به الرسول ﷺ، هذه المعرفة التي توجب أعمال القلوب من محبة الله، وخشيته، والإخلاص، ومحبة رسوله، وغيره من أعمال القلوب.

هذه المعرفة توجب أعمال القلوب في القلوب السليمة.

يمكن تقول إبليس عرف، فرعون عرف؛ ما أوجبت لهم أعمال القلوب! يقال هنا إيش؟ هذه قلوب ليست سليمة، فيها من الكِبر والحَسَد ما منع هذا الإيجاب.

إذًا هذه المعرفة والتصديق توجب أعمال القلوب في القلوب السليمة، هذه مهمة بهذا القيد، ثم أعمال القلوب يلزم منها أعمال الجوارح، فهما متلازمان؛ عمل القلب وعمل الجوارح، لا ينفكان عن بعضهما، شوف الارتباط، كلها مرتبطة ببعضها، خصال الإيمان هذه كلها.

ورد في كلام السلف استعمال المعرفة بمعنى العلم والتصديق معًا، والعلماء يجعلون المعرفة مع التصديق قول القلب، وأعمال القلوب من محبة وتعظيم وخشية وغيرها... عمل القلوب.

الأشاعرة -وهم مرجئة- يقولون الإيمان تصديق، ولكنهم يدخلون أعمال القلوب في الإيمان، وبهذا يفترقون عن الجهمية.

الجهمية يقولون: الإيمان المعرفة، ولا يدخلون أعمال القلوب في الإيمان.

والجهمية ومن تبعهم مختلفون في التفريق بين المعرفة والتصديق.

الأشاعرة يفرّقون بين معرفة القلب وتصديقه، ليش؟ ليُخرجوا أنفسهم من إشكالات وردت على مذهبهم في الإيمان وإلزامات تُبطل قولهم في الإيمان بأنه تصديق، كإبليس وفرعون واليهود الذين صدّقوا لكنهم كفار، فقالوا: لا، هناك فرق بين المعرفة والتصديق، فرعون وإبليس وغيرهم هؤلاء عرفوا ولم يصدّقوا، حتى يَخرجوا من هذا.

ما في أحد يقول بأن المعرفة هي نفسها التصديق، لا إشكال، فالمعرفة علم ضده الجهل، التصديق تصديق ضده التكذيب، لكن الإشكال وين؟ هل يمكن أن يكون المرء عارفًا غير مصدق؟ هذا الموضوع، الأشاعرة قالوا: نعم، حتى يخرجوا من هذا الإشكال، ففرّقوا، قالوا إبليس وفرعون وغيره...، قالوا: كانوا يعرفون لكنهم ما كانوا مصدقين؛ لذلك كفروا.

قال ابن تيمية رحمه الله: (وأيضًا فإن الفرق بين معرفة القلب، وبين مجرّد تصديق القلب الخالي عن الانقياد الذي يُجعل قول القلب: أمرٌ دقيقٌ، وأكثر العقلاء ينكرونه) ما في فرق بين المعرفة والتصديق، يعني من حيث الوقوع، ممكن يكون الشخص عارفًا غير مصدق، أنا عرفت أن محمدًا صادق لا يكذب، عرفته بذلك؛ لكني مكذّب به بنفس الوقت في قلبي، بغض النظر عن اللسان، اللسان ممكن يكذب الإنسان ويقول على لسانه ما ليس في قلبه، هذا ممكن مش موضوعنا، موضوعنا في القلب: تحصل المعرفة من غير أن يكون الشخص مصدقًا؟ هون الموضوع، الأشاعرة يقولون: نعم.

قال ابن تيمية: (وأكثر العقلاء يقولون: لا) حتى بعض الأشاعرة أنفسهم يقولون: لا، لا يمكن هذا، ما يحصل، عرف معناها صدّق.

قال: (وأكثر الناس لا يتصورون الفرق بين معرفة القلب وتصديقه، ويقولون: إن ما قاله ابن كلاب والأشعري من الفَرْق كلام باطل لا حقيقة له، وكثير من أصحابه اعترف بعدم الفرق.

وقال: (ولهذا قالوا: إن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بقلبه خبرٌ بخلاف علمه، وإنما يمكنه أن يقول ذلك بلسانه، وأما أنه يقوم بقلبه خبرٌ بخلاف ما يعلمه فهذا غير ممكن، والله أعلم).

فعلى هذا: قول الجهمة: "الإيمان المعرفة"، يدخل فيه التصديق، لكن هل يلتزمون بهذا أم لا؟!

الخلاصة: أن البخاري أراد أن يثبت أن القلب له عمل، وأن العلم من عمله، وأن العلم يتفاضل.

على كلٍّ: القلب فيه إيمان العلم، والتصديق، وأعمال القلوب، هذه كلها في القلب موجودة.

عقيدة أهل السنة والجماعة: العلم والتصديق هو قول القلب، وأعمال القلوب هي أعمالها؛ محبة، خشية، رجاء، توكل إلى آخره...، هذه كلها من الإيمان.

وخالف في المعرفة وأنها من الإيمان: "مرجئة الكَرَّاميَّة"، أتباع "محمد بن كَرَّام أبي عبد الله السجستاني" المتوفى في القدس سنة 255ه، هؤلاء ماذا قالوا؟ طبعا مهم جدًا معرفة الأقوال، ليش؟ ماذا نستفيد؟ عرفت الشر لا للشر، ولكن لتوقيه، يقول ابن تيمية رحمه الله -بمعنى كلامه- قال: "من لم يعرف أقوال الفرق اضطرب وتخبط" هذا صحيح، لأن أقوالهم تكون مبنية على أصولهم، ربما توافقهم فيها وأنت لا تشعر، فلا بد من معرفتها، ومعرفة على ماذا بنيت؟ هذا مهم جدًا.

فقالوا: الإيمان الكلمة، فمن نطق بالشهادتين فقد آمن، فالمنافقون مؤمنون عندهم، إيش يعني الكلمة؟ الكلمة النطق بالشهادتين، فإذا قال الرجل: "لا إله إلا الله محمد رسول الله" فهو مؤمن عندهم، حتى لو كان منافقا في حقيقة الأمر، هذا من حيث الاسم.

يسمي العلماء مسألة الإيمان هذه: "الأسماء والأحكام"

"الأسماء": ماذا تسميه؟ تسميه مؤمنًا، تسميه فاسقًا، تسميه كافرًا.

"الأحكام": ماذا تحكم عليه في الآخرة؟ هل هو مخلد في النار؟ هل هو مخلد في الجنة أم لا؟ هل يعذب في النار ثم يخرج أم لا؟ هذا يسمى أحكامًا.

هؤلاء في الدنيا يسمونه مؤمنًا، وفي الآخرة هل يحكمون عليه بدخول الجنة؟ هذا ما سيأتي إن شاء الله.

قال أبو الحسن الأشعري -وهو يذكر فِرَق المرجئة-: (والفرقة الثانية عشرة من المرجئة: الكرامية، أصحاب محمد بن كرام، يزعمون أن الإيمان: هو الإقرار والتصديق باللسان) الإقرار عندهم عندما يطلقون الإقرار أيش يريدون؟ النطق بلا إله إلا الله ومحمد رسول الله، فهنا أبو الحسن الأشعري عندما يطلقه هذا ما يريده، قال: (الإقرار والتصديق باللسان دون القلب) القلب عندهم مش داخل في موضوع الإيمان (وأنكروا أن تكون معرفة القلب أو شيء غير التصديق باللسان إيمانًا) عندهم هذه كلها ليست إيمانًا، (وزعموا أن المنافقين الذين كانوا على عهد النبي ﷺ كانوا مؤمنين على الحقيقة، وزعموا أن الكفر بالله هو الجحود والإنكار له باللسان) انتهى كلامه رحمه الله.

رأيتم كيف التلازم بين الإيمان والكفر؟ منضبط، الأقوال منضبطة، من قال الإيمان كذا فضده إيش؟ الكفر عنده، لما قالوا: "الإيمان هو الكلمة" الكفر إيش كان عندهم؟ الجحود والإنكار باللسان فقط.

التخبط يأتي ممن؟!! من الجهال، فيأخذ الإيمان من عند أهل السنة والجماعة، ويأخذ الكفر من عند المرجئة ويقول لك هذه عقيدة أهل السنة والجماعة، هذا جاهل متخبط، انتهى كلامه رحمه الله.

قال ابن تيمية: (والقول الثاني من أقوال المرجئة: من يقول: هو مجرد قول اللسان، وهذا لا يُعرف لأحد قبل الكرامية)

وقال: (وأحمد ذكر أنه لا بد من المعرفة والتصديق مع الإقرار) المعرفة والتصديق: قول القلب، الإقرار: النطق باللسان، وقال: (إنّ من جحد المعرفة والتصديق فقد قال قولًا عظيمًا، فإن فساد هذا القول معلوم من دين الإسلام، ولهذا لم يذهب إليه أحد قبل الكرامية، مع أن الكرامية لا تنكر وجوب المعرفة والتصديق؛ ولكن تقول: لا يدخل في اسم الإيمان حذرًا من تبعّضه وتعدده)

انتبه هنا: ليش قالت الكرامية قولها هذا في الإيمان؟ قال: (حذرًا من تبعضه وتعدده) هذه أكبر مصيبة لدى المرجئة شبهة المرجئة العظيمة؛ أنهم يقولون: الإيمان شيء واحد، وإذا تبعّض وذهب بعضه ذهب كله، فلا يتبعض، يقولون: الإيمان شيء واحد، لذلك يمنعون التبعض بأي طريقة، لأنهم التزموا بلوازم باطلة.

قال: (حذرًا من تبعضه وتعدده؛ لأنهم رأوا أنه لا يمكن أن يذهب بعضه، ويبقى بعضه) هذه شبهتهم، هذه شبهة المرجئة، لا يمكن أن يتجزأ -يذهب بعضه ويبقى بعضه-، إذا ذهب ذهب كله، فإذًا قالوا هو شيء واحد، التزمت المرجئة بالأشياء التي ذُكرت عنها، أخرجوا أعمال الجوارح من مسمى الإيمان، والتزمت الخوارج بطريقتها كما تقدم سابقًا.

وقال: (حتى الكرامية الذين يسمون المنافق مؤمنًا، ويقولون: "الإيمان هو الكلمة" يقولون: لا ينفع في الآخرة إلا الإيمان الباطن) يعني إيش؟ يعني أنهم يقولون أن المنافق مخلد في نار جهنم، إذًا خالفوا في الاسم لا في الحكم في حق المنافق، قال: (وقد حكى بعضهم عنهم: أنهم يجعلون المنافقين من أهل الجنة، وهو غلط عليهم، إنما نازعوا في الاسم لا في الحكم، بسبب شبهة المرجئة في أن الإيمان لا يتبعّض ولا يتفاضل) هذه هي شبهتهم، وقال: (والكرامية توافق المرجئة والجهمية في أن إيمان الناس كلهم سواء، ولا يستثنون في الإيمان؛ بل يقولون: هو مؤمن حقًا فيمن أظهر الإيمان، وإذا كان منافقًا فهو مخلد في النار عندهم، فإنه إنما يدخل الجنة من آمن باطنًا وظاهرًا، ومن حكى عنهم أنهم يقولون: أن المنافق يدخل الجنة فقد كذب عليهم؛ بل يقولون أن المنافق مؤمن لأن الإيمان هو القول الظاهر كما يسمّيه غيرهم مسلمًا، إذ الإسلام هو الاستسلام الظاهر، ولا ريب أن قول الجهمية أفسد من قولهم من وجوه متعددة شرعًا ولغةً وعقلًا، وإذا قيل: قول الكرامية قول خارج عن إجماع المسلمين، قيل: وقول الجهم في الإيمان قول خارج عن إجماع المسلمين قبله، بل السلف كفّروا من يقول بقول جهم في الإيمان) انتهى كلامه رحمه الله.

انتهينا من قول الكرامية، طيب ما هو قول الجهم؟ ذكره أبو الحسن الأشعري في "مقالات الإسلاميين"، قال: (فالفرقة الأولى منهم) أي: من المرجئة (يزعمون أن الإيمان بالله هو: المعرفة بالله ورسله، وبجميع ما جاء من عند الله فقط، وأن ما سوى المعرفة من الإقرار باللسان، والخضوع بالقلب، والمحبة لله ولرسوله، والتعظيم لهما، والخوف منهما، والعمل بالجوارح فليس بإيمان) شوف هنا إيش قالت؟! الإيمان هو: المعرفة بالله ورسله وبجميع ما جاء من عند الله، هذا هو الإيمان، (المعرفة) الظاهر أنه يريد بذلك العلم والتصديق، من تأمل كلام أبي الحسن الأشعري في نقله عن الأشاعرة وغيرهم يعرف أنه يريد بالمعرفة هذا، المعرفة مع التصديق، لكنهم يُخرجون بقية خصال الإيمان من الإيمان، بس هذا هو الإيمان عندهم، إذًا هو محصور عندهم بقول القلب فقط، أو إذا قلنا لا يريدون التصديق فيكون بجزء من قول القلب وهو العلم فقط.

قال: (وزعموا) انظر هنا الآن! ألم يقولوا أن الإيمان هو المعرفة؟ فالكفر إيش يكون عندهم؟ قال: (وزعموا أن الكفر بالله هو الجهل به، وهذا قول يُحكى عن جهم بن صفوان، وزعمت الجهمية أن الإنسان إذا أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه أنه لا يكفر بجحده، وأن الإيمان لا يتبعض، ولا يتفاضل أهله فيه) رأيتم كيف الإمام البخاري ركز على موضوع التفاضل؛ التفاضل في الإيمان، التفاضل في المعرفة، التفاضل في أعمال القلوب، التفاضل في أعمال الجوارح ، ركّزَ عليها جدًا، لأنه عرف من هم المرجئة، وما هي أقوالهم.

قال: (وأن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل أهله فيه) لأن الشبهة واحدة، وهي: جزء واحد، لا يتبعض ولا يتجزأ، ولا يزيد ولا ينقص، (وأن الإيمان والكفر لا يكونان إلا في القلب دون غيره من الجوارح). انتهى

وقال ابن تيمية: (وهؤلاء المعروفون، مثل: حماد بن أبي سليمان، وأبي حنيفة وغيرهما من فقهاء الكوفة...، كانوا يجعلون قول اللسان واعتقاد القلب من الإيمان) هؤلاء مرجئة الفقهاء، قال: (وهو قول "أبي محمد بن كُلَّاب" وأمثاله، لم يختلف قولهم في ذلك، ولا نُقل عنهم أنهم قالوا: الإيمان مجرد تصديق في القلب، لكن هذا القول حكَوه عن الجهم بن صفوان) الذي هو أيش؟ أن الإيمان هو مجرد تصديق القلب (ذكروا أنه قال: الإيمان هو مجرد معرفة القلب وإن لم يقر بلسانه) ابن تيمية رحمه الله يجعل قول الجهم بن صفوان داخلًا فيه التصديق؛ لذلك أحيانًا ينقل عنه صراحة، الجهم يقول: الإيمان تصديق بالقلب، قال: (ذكروا أن الإيمان هو مجرد معرفة القلب وإن لم يقر بلسانه، واشتد نكيرهم لذلك حتى أطلق وكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وغيرهما كفر من قال ذلك؛ فإنه من أقوال الجهمية) انتهى.

بهذا نكون قد عرفنا قول الكرامية، وقول الجهمية في الإيمان، والذين خالفوا في مسألة المعرفة هم الكرامية، أما الجهمية فيقولون الإيمان هو المعرفة، فيدخل في ذلك قول القلب فقط؛ لذلك كفروهم.

قال رحمه الله: "حدثنا محمد بن سلَام" بتخفيف اللام، روي ذلك عنه نفسه أنه قال بأنها بتخفيف اللام، في خلاف لكن بما أنه صح عنه أنه قال سلَام خلاص انتهى الأمر.

هو ابن الفرج السُّلمي مولاهم، أبو عبد الله البخاري البيكندي، من كبار المحدثين، وله حديث كثير ورحلة، وله مصنفات في كل باب من العلم، ثقة، حافظ، يروي عن أتباع التابعين، مات سنة 225 ه، روى له البخاري فقط من أصحاب الكتب الستة.

قال: "أخبرنا عَبْدة" هو ابن سليمان الكِلَابي، أبو محمد الكوفي، يقال اسمه: عبد الرحمن، وعبدة لقب، ضابط اللقب: ما أشعر بمدحٍ أو ذم، والكُنية: ما بُدأ بأب أو أم، والاسم: ما دل على مسمى، قال أحمد: (ثقة ثقة وزيادة)، وقال بن حبان: (مستقيم الحديث جدًا) وهو من أتباع التابعين، مات 187 ه وقيل بعدها، روى له الجماعة.

"عن هشام" هو ابن عروة بن الزبير، وهو ثقة حافظ تقدم.

"عن أبيه" عروة بن الزبير بن العوام ثقة حافظ فقيه تقدمت ترجمته.

"عن عائشة" أم المؤمنين تقدمت.

قالت: "كان" كثيرًا ما تأتي بمعنى: لم يزل.

كان فعل ماضي، كان حاصلًا كذا ثم انقطع، هكذا ينبغي أن يفهم، لكن هذا أحد معانيها أنها تدل على الماضي وانقطاعه، لكن من معانيها أيضًا: الاستمرار، المداومة، بمعنى لم يزل، سيأتي معنا إن شاء الله في صحيح البخاري أن رجلًا استشكل الآيات التي فيها ﴿وكان الله غفورًا رحيمًا﴾ ومثل هذه الآيات كثيرة، وعَرض هذا على ابن عباس، سيأتي إن شاء الله معنا، وكان جواب ابن عباس أنها بمعنى: (لم يزل كذلك) هكذا قال ابن عباس رضي الله عنه، هذه من تلك، هنا كان تدل على الاستمرار: هكذا كان يفعل النبي ﷺ...

"(كان رسول الله ﷺ إذا أمرهم)" إذا أمر الناس بعمل من الأعمال.

"(أمرهم من الأعمال بما يطيقون)" بما يستطيعون عليه، رحمةً بهم وتخفيفًا، الطاقة: هي القدرة والاستطاعة، قال الله تعالى: ﴿لا يكلف الله نفسًا إلا وُسعها﴾ والوسع: الاستطاعة.

"(قالوا: إنا لسنا كهيأتك يا رسول الله)" لما رخص لهم النبي ﷺ في عمل من الأعمال أراد أن يخفف عنهم، قالوا: نحن ليس كهيأتك، إيش يعني؟؟ ليس حالنا كحالك.

"(فإن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر)" يعني أنت لا تحتاج لكثرة العمل، فالأخذ بالرفق والرخَص يناسبك؛ لأن الله تبارك وتعالى غفر ذنوبك، بخلافنا نحن، نحن لم تُغفر ذنوبنا كما غُفرت ذنوبك، فنحتاج إلى كثرة العمل، والرخَص لا تناسبنا، الأخذ بالأرفق لا يناسبنا.

"(فيغضب)" أي فغضب النبي ﷺ من قولهم هذا "(حتى يُعرف)" أي: عُرف الغضب بوجهه، أي: ظهر أثره على وجهه، ورأوه منه، غضبه هذا حصل لماذا؟ لأنهم أرادوا ترك سنته واتباع هديه ﷺ كما جاء في الحديث الآخر بنفس الحادثة قال: (من رغب عن سنتي فليس مني) هذا القول خطير، خروج عن سنة النبي ﷺ، فتحُ هذا الباب خطير جدًا، ثم بيّن لهم أن مغفرة الذنوب لا تجعله يقلل من العمل؛ بل هذا يحثه على الاجتهاد فيه شكرًا لله سبحانه وتعالى، فالاجتهاد للعمل ليس فقط من أجل مغفرة الذنوب، فهو لمغفرة الذنوب بالنسبة لنا، وكذلك شكرًا لله سبحانه وتعالى، كما جاء في حديث المغيرة بن شعبة قال: (قام النبي ﷺ حتى تورمت قدماه، فقيل له) أي: قالوا له لو تخفف عن نفسك، ليش هذا كله؟ (فقيل له: غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: «أفلا أكون عبدا شكورًا؟») هذا ما يقتضيه الشكر: كثرة العمل.

"ثم يقول: «إن أتقاكم»" أي أفضلكم تقوى، ومن كان أفضل تقوى كان أفضل عملًا، فمِن تقوى الله الاجتهاد في العمل.

"«وأعلمكم بالله أنا»" أي: أفضلكم علمًا بعظمة الله، وحقه على العباد، وحدوده الشرعية، ونحو ذلك...، فمن كان أعلم بالله فهو أشد اجتهادًا في العمل، فلا عذر لأحد في ترك سنته ﷺ، ومخالفة هديه ، والخروج عن طريقته.

قال ابن رجب رحمه الله: (فكونه أتقاهم لله يتضمن شدة اجتهاده في خصال التقوى وهو العمل، وكونه أعلمهم به يتضمن أن علمه بالله أفضل من علمهم بالله، وإنما أراد علمه بالله بمعنيين:

أحدهما: زيادة معرفته بتفاصيل أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه وعظمته وكبريائه، وما يستحقه من الإجلال والإكرام والإعظام.

والثاني: أن علمه بالله مستند إلى عين اليقين، فإنه رآه) النبي ﷺ رأى الله، فعلمه أعظم من علم الناس؛ لأنه هو رأه وغيره لم يره، قال: (إما بعين بصره، أو بعين بصيرته) على خلاف بين أهل العلم هل رآه بعينيه أم لا، والصحيح أنه لم يره بعينيه، بل رآه بعين بصيرته كما سيأتي في موضعه إن شاء الله.

(قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما: "رآه بفؤاده مرتين، وعلمهم به" هذا المقارنة بين علم النبي ﷺ وعلم بقية أهل الإيمان، قال: "وعلمه به مستند إلى علم يقين، وبين المرتبتين تباين" فرق واسع.

وقال:(فلما زادت معرفة الرسول بربه زادت خشيته له وتقواه، فإن العلم التام يستلزم الخشية)

وأقف عند كلمة "التام" هنا وقفة صغيرة مهمة، فبعض من دخل في شبه المرجئة يتعلق بها.

فعندما يجد مثل هذه الكلمة يظن أن التمام عندهم هو الكمال أركانه وواجباته ومستحباته، فيستدل بهذا على أن أعمال الجوارح إذا زالت بقي الإيمان! هذا باطل، التمام عندهم يُستعمل على معانٍ.

"التام" بمعنى التمام الذي يصح به العمل، يعني أن إيمانه لا يصح إلا به، فيقولون: "التام"، يقول لك العلم التام يستلزم الخشية، أصل العلم لا يستلزم الخشية، ممكن الشخص يعلم بالله تعالى ويصدّق أيضًا لكنه لا يخشاه، فأصله يكون عنده لكن إذا تم التمام الواجب عندئذ يستلزم الخشية.

(كما قال الله تعالى: ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾ فمن كان بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه أعلم كان له أخشى وأتقى، إنما تنقص الخشية والتقوى بحسب نقص المعرفة بالله، وذكر أحاديث بمعنى هذا الحديث وفيها: «إني لأخشاكم لله»).

وقال: (ففي هذه الأحاديث كلها الإنكار على من نسب إليه التقصير بالعمل للاتكال على المغفرة) يعني كونه قد غفر له خلص يقصر في العمل، قال: أنكر عليهم النبي ﷺ هذا.

(فإنه كان يجتهد في الشكر أعظم الاجتهاد، فإذا عوتب على ذلك وذُكرت له المغفرة أخبر أنه يفعل ذلك شكرًا، كما في الصحيحين عن المغيرة: "أن النبي ﷺ كان يقوم حتى تتفطر قدماه" فذكر الحديث...، وقد يواصل في الصيام وينهاهم ويقول: «إني لست كهيأتكم، إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني»، قال: فنسبة التقصير إليه في العمل لاتكاله على المغفرة خطأ فاحش، لأنه يقتضي أن هديه ليس هو أكمل الهدي وأفضله، وهذا خطأ عظيم؛ ولهذا كان الرسول ﷺ يقول في خطبته: «خير الهدي هدي محمد ﷺ»، ويقتضي أيضًا هذا الخطأ أن الاقتداء به في العمل ليس هو أفضل؛ بل الأفضل الزيادة على هديه في ذلك، وهذا خطأ عظيم جدًا) وكم وكم من المسلمين يقع في هذا الخطأ اليوم؟ مع إنكار النبي ﷺ لمن ظن هذا الظن، قال: (فإن الله تعالى قد أمر بمتابعته وحث عليها، قال تعالى: ﴿قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم﴾ فلهذا كان ﷺ يغضب من ذلك غضبًا شديدًا لِما في هذا الظن من القدح في هديه، ومتابعته، والاقتداء به) انتهى باختصار .

خلاصة الأمر: يغضب النبي ﷺ ممن يُكثر في العمل إذا كانت كثرة العمل خارجة عن هديه.

هذه المسلمون جميعًا بحاجة أن يفهموها جيدًا، ليست العبرة بإجهاد نفسك، بإتعاب نفسك بالكثرة، العبرة بالاقتداء بمتابعة النبي ﷺ، فكم ممن يُتعب نفسه وليس من وراء تعبه هذا فائدة؛ بل يقال له: «من رغب عن سنتي فليس مني» ويقال له: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»، تصور عناء وتعب وصبر ثم بعد ذلك يقال له: «فهو رد»، فخاب وخسر من عمل من غير أن يتعلم هدي النبي ﷺ.

في هذا الحديث من الفوائد التي ذكرها أهل العلم:

- الحث على الرفق، وعدم المشقة على النفس في العمل، حرصًا على المداومة وعدم الانقطاع، قليل دائم خير من كثير منقطع، قد قال ﷺ: «عليكم من العمل ما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا» (وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه).

- وفيه: أن العبرة ليست بكثرة العمل؛ بل باتباع السنة، فكثرة العمل مع مخالفة السنة مذمومة؛ لذلك غضب النبي ﷺ من قولهم، وصاحبُها غير مأجور عليه وإن صلحت نيته.

هؤلاء نيتهم كانت صالحة، ما أرادوا إلا الخير، فأرادوا الطاعة والزيادة في ذلك، فغضب عليهم النبي ﷺ، غضب من قولهم هذا، وصحح لهم.

- وفيه: التنبيه على شدة رغبة الصحابة رضي الله عنهم في العبادة، طلبهم الازدياد من الخير هذا يدل على تقواهم وعلى صلاحهم رضي الله عنهم.

- وفيه: مشروعية الغضب عند مخالفة الأمر الشرعي، وهذا ما كان يفعله النبي ﷺ.

- وفيه: الإنكار على الحاذق المتأهل لفهم المعنى إذا قصّر في الفهم تحريضًا له على التيقظ.

- وفيه: جواز تحدّث المرء بما فيه من فضلٍ بحسب الحاجة، إن جعل الله سبحانه وتعالى فيه فضلًا وفيه عمل صالح، له أن يتحدث بذلك إن وجدت حاجة لذلك، وأمن على نفسه.

- وفيه: بيان أن لرسول الله ﷺ رتبة الكمال الإنساني، قالوا: لأنه منحصر في الحكمتين: العلمية والعملية، وأشار إلى العلمية بقوله: «إني أعلمكم»، وإلى العملية بقوله: «أتقاكم».

- وفيه: أن للنبي ﷺ ذنوبًا يغفرها الله له، كما في قوله تعالى: ﴿ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر﴾.

الشرّاح يتكلمون هنا عن مسألة العصمة -عصمة الأنبياء- ويتخبطون ويذكرون من البدع ما يذكرون -بعض الشراح طبعًا-.

فعصمة الأنبياء من الذنوب مطلقًا قول باطل مخالف للأدلة الشرعية.

والحق في هذه المسألة ما نُقل عن السلف وأهل الحديث وأكثر علماء الإسلام، قال ابن تيمية -طبعًا ابن تيمية في النقول دقيق جدًا، ونقوله قوية غاية، بعد تتبع كلام أهل العلم في المسألة ومقارنة نقوله بنقولات أخرى تبيّن هذا، وحتى المخالفون يعتمدون على نقوله-

قال ابن تيمية: (والقول بأن الأنبياء معصومون من الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام) إيش هو القول؟؟ الأنبياء معصومون من الكبائر، وغير معصومين من الصغائر، قال: (هو قول أكثر علماء أهل الإسلام، وجميع الطوائف، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام، كما ذكر أبو الحسن الآمدي أن هذا قول أكثر الأشعرية، وهو أيضًا قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل لم يُنقل) وهذا الذي يهمنا هنا أكثر (بل لم ينقل عن السلف، والأئمة، والصحابة، والتابعين، وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول).

وقال أيضًا عن أهل السنة: (هم متفقون على أنهم لا يقرّون على خطأ في الدين أصلًا، ولا فسوق، ولا على كذب، ففي الجملة: كل ما يقدح في نبوتهم وتبليغهم عن الله فهم متفقون على تنزيههم عنها، وعامة الجمهور الذين يجوّزون عليهم الصغائر يقولون إنهم معصومون من الإقرار عليها، فلا يصدر عنهم ما يضرهم) وإن وقعت منهم الصغائر فلا يقرون عليها.

وقال: (إن الله سبحانه وتعالى لم يذكر عن نبي من الأنبياء ذنبًا إلا ذكر توبته منه) هذا أمر آخر، يعني: تقع منهم الصغائر، لا يقرون عليها، ويتوبون منها ولا بد، قال: (لم يذكر عن نبي من الأنبياء ذنبًا إلا ذكر توبته منه، ولهذا كان الناس في عصمة الأنبياء على قولين:

1- إما أن يقولوا بالعصمة من فعلها.

2- وإما أن يقولوا بالعصمة من الإقرار عليها، لا سيما فيما يتعلق بتبليغ الرسالة، فإن الأمة متفقة على أن ذلك معصوم أن يُقر فيه على خطأ، فإن ذلك يناقض مقصود الرسالة، ومدلول المعجزة) انتهى.

يعني معصومون مما يقدح في دينهم، أو يقدح في الشريعة، فلا يُقرون على خطأ في الشريعة.

وقال أيضًا: (واعلم أن المنحرفين في مسألة العصمة على طرفي نقيض) هنا يبين لك الأقوال الباطلة، انتهينا الآن من القول الصواب، يبين لك الانحراف الآن، الضلال في مسألة العصمة، قال: (واعلم أن المنحرفين في مسألة العصمة على طرفي نقيض، كلاهما مخالف لكتاب الله من بعض الوجوه:

- قوم أفرطوا في دعوى امتناع الذنوب حتى حرّفوا نصوص القرآن المخبِرة بما وقع منهم من التوبة من الذنوب ومغفرة الله لهم، ورفع درجاتهم بذلك) كما وقع لآدم عليه السلام، قال تعالى: ﴿وعصى آدم ربه فغوى﴾ ثم تاب الله عليه، حصلت المعصية ولا ما حصلت؟ أنكروا ما جاء في القرآن، وما جاء من السنة من هذا.

- قال: (وقوم أفرطوا في أنْ ذكروا عنهم ما دل القرآن على برآتهم منه، وأضافوا إليهم ذنوبًا وعيوبًا نزّههم الله عنها، وهؤلاء مخالفون للقرآن، ومن اتبع القرآن على ما هو عليه من غير تحريف كان من الأمة الوسط، مهتديًا إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) انتهى كلامه رحمه الله.

بهذا تعلمون موطن الاتفاق، أين اتفق أهل العلم وأين اختلفوا، وما قول أهل السنة والجماعة، وما أقوال أهل البدع في هذه المسألة، وتفصيل هذه المسألة سيأتي بموضعه إن شاء الله، ذكرتها هنا لأجل الانحراف الذي حصل من بعض الشراح في هذه المسألة في هذا الموطن.

قال ابن حجر: (وهذا الحديث من أفراد البخاري عن مسلم، وهو من غرائب الصحيح، لا أعرفه إلا من هذا الوجه، فهو مشهور عن هشام، فرْدٌ مطْلقٌ من حديثه عن أبيه عن عائشة) والله أعلم، يعني تفرد به هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قال: (وقد أشرت إلى ما ورد في معناه من وجه آخر عن عائشة في "باب: من لم يواجه") يعني من لم يواجه الناس بالعتاب، وسيأتي هذا في صحيح البخاري من كتاب الأدب،

قال: (وذكرت به ما يؤخذ منه تعيين المأمور به ولله الحمد) انتهى كلامه.

يعني هنا حديث عائشة: (صنع النبي ﷺ شيئًا فرخّص فيه، فتنزّه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي ﷺ، فخطب، فحمد الله، ثم قال: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية»)

والله أعلم، والحمد لله، نكتفي بهذا القدر اليوم، نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.

قائمة الخيارات
0 [0 %]
الخميس 18 محرم 1445
عدد المشاهدات 216
جميع الحقوق محفوظة لشبكة الدين القيم © 2008-2014 برمجة وتصميم طريق الآفاق