الاثنين 13 ذو القعدة 1445 هـ
20 مايو 2024 م
جديد الموقع   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-53، كتاب الوضوء، الحديث 192و193و194و195و196و197و198و199و200   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-52، كتاب الوضوء، الحديث 187و188و189و190و191   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-51، كتاب الوضوء، الحديث 183و184و185و186   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-50، كتاب الوضوء، الحديث 176و177و178و179و180و181و182   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-49، كتاب الوضوء، باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين.   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (124-129)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (117-123)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (111-116)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (107-110)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (97-106)      

تفريغ شرح صحيح البخاري-2 تتمة المقدمة والحديث 1و2

الدرس الثاني: بتاريخ: 7/10/1444ه – 27/05/2023

الحمد لله رب العالمين، وأشهد ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:

اليوم هو المجلس الثاني من مجالس شرح صحيح البخاري.

المجلس الأول تحدثنا فيه عن المقدمة وما نحتاجه في أثناء دراسة هذا الكتاب ولم نكمل، فنتمم اليوم إن شاء الله المقدمة، ثم نبدأ بمادة الكتاب.

اليوم سنتحدث عن اليونيني ونسخته.

اليونيني: هو المحدث الفقيه والعالم الفاضل أبو الحسين علي بن محمد بن أحمد الشامي البعلبكي اليونيني الحنبلي.

(الشامي): نسبة إلى الشام فهو من الشام.

(البعلبكي): هو من بعلبك خصوصًا، بعلبك من الشام، وبعلبك هذه مدينة في لبنان اليوم، من بلاد الشام.

(اليونيني): نسبة إلى يونين وهي قرية من ضواحي بعلبك.

(الحنبلي): نسبة إلى المذهب فمذهبه حنبلي، وبعلبك كان فيها الكثير من الحنابلة في ذاك الوقت، والنسبة إليها البعلي.

ينتهي نسبه رحمه الله إلى الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ولد ببعلبك سنة 621ه، وقد نشأ في بيت علم، وأسرة لها شأن عظيم في العلم، والديانة، وحفظ الحديث.

من شيوخه: البهاء عبد الرحمن المقدسي، والحافظ المنذري وغيرهم.

من تلاميذه: ابن تيمية، والبرزالي، والذهبي وغيرهم.

أثنى عليه العلماء بالفضل والصلاح والعلم بالحديث والفقه واللغة، توفي سنة 701ه .

"اليونيني" لماذا ذكرناه هنا؟ لأننا ذكرنا في المقدمة سابقًا أننا سنتحدث عن كيفية وصول صحيح البخاري إلينا، وذكرنا بعض الأسانيد المهمة، فتتمة لذلك نذكر اليونيني وما الذي فعله.

اليونيني يروي صحيح البخاري بأسانيده عن شيوخه من عدة طرق تجتمع مع أصحاب الروايات التي جمع نسخها، فاليونيني جمع نسخًا لصحيح البخاري، هذه النسخ هي روايات بأسانيد أصحابها، منها نسخة أبي ذر الهروي -وقد علمتم إسناده-، ومنها نسخة أبي الوقت السجزي -وقد علمتم إسناده- وسيأتي ذكر البقية.

جمع اليونيني عدة أصول لنسخ، امتازت كل نسخة بمميزات، فجعل نسخته أصلًا، ثم قابل باقي النسخ عليها بقراءة جمع من المشايخ والعلماء.

إذن "اليونيني" عنده نسخة من صحيح البخاري، وهذه النسخة مكتوبة ومروية بإسناده.

هو بينه وبين أبي الوقت رجل.

ثم قابل هذه النسخة على عدة نسخ، وهذه النسخ موصوفة بالإتقان والدقة، وهذه النسخ مسموعة لأصحابها، فهي نسخ مكتوبة متقنة موثوقة مسموعة غاية في الجودة.

قلنا منها:

- رواية الحافظ أبي ذر الهروي عن شيوخه الثلاثة: أبي محمد الحمويي، وأبو إسحاق المستملي وأبو الهيثم الكشميهني.

- وأيضًا قابلها بأصل مسموع على أبي محمد الأصيلي، وهذا أبو محمد الأصيلي يروي عن أبي زيد المروزي وأبي أحمد الجرجاني عن الفربري.

- وعنده أصل أبي القاسم ابن عساكر الدمشقي صاحب التاريخ، الذي توفي سنة 571ه.

وابن عساكر لم يذكر اليونيني إسناده في نسخته، ابن عساكر يروي صحيح البخاري من طرق، منها:

§ طريق أبي سهل الحفصي عن الكشميهني عن الفربري.

§ وعن أبي عثمان سعيد العيار عن أبي علي الشبوي عن الفربري.

§ ومن طريق أبي عمر المليحي عن أبي حامد النعيمي عن الفربري.

طرق، ويروي بطرق أخرى أيضًا.

- وبأصل مسموع أيضًا على أبي الوقت عبد الأول السجزي، والذي هو أصلًا إسناد اليونيني من هذه الطريق.

- وعنده أيضًا أصل مسموع على أبي الوقت السجزي، عن أبي الحسن الداودي، عن الحمويي، عن الفربري، عن البخاري بقراءة أبي سعيد عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني صاحب كتاب الأنساب متوفى سنة 562ه.

وهذه النسخة -نسخة أبي الوقت التي هي بقراءة السمعاني- قال فيها اليونيني: "أصل أصيل وهو أحد أصول سماعات دمشق المحروسة وخراسان وهو قد سمع على جماعة من الحفاظ وسمع بقراءة جماعة من الحفاظ" انتهى.

هذا الأصل كما ذكرنا إسناده نفس إسناد اليونيني.

وقابل أيضًا اليونيني هذه الأصول بحضرة جمع من الشيوخ والعلماء، منهم: ابن مالك النحوي (صاحب الألفية) بدمشق سنة 676ه.

مع حضور أصل سماع الحافظ أبي محمد عبد الغني المقدسي متوفى سنة 600 هجري، وأصل أبي محمد هذا من رواية أبي الوقت السجزي، وقابله على نسختين من رواية كريمة المروزية عن الكشمهني (أم الكرام وكانت فاضلة ثقة متقنة رحمها الله).

هذه أهم الأصول -أصول النسخ والروايات- التي اعتمدها اليونيني في نسخته.

قال الذهبي رحمه الله: "قابله -أي قابل نسخته من صحيح البخاري- في سنة واحدة، وأسمعه إحدى عشرة مرة في سنة واحدة ".

من هذا نعلم قدر جودة هذه النسخة، ومع هذا لم تستوعب جميع الروايات الأخرى، هناك روايات أخرى.

قريب من هذا أو مثله صنعه الصاغاني أيضًا، وهذه النسخة التي تسمى بالنسخة البغدادية وهي نسخة متقنة الأخرى، لكن المطبوع الآن والذي بين أيدينا هي النسخة اليونينية.

هذا الذي ذكرناه يتعلق بماذا؟ عندما تفتحون صحيح البخاري النسخة السلطانية مثلًا سترون في الحاشية رموزًا: ص س ه ك... إلى آخره، هذه الرموز هي رموز تشير إلى هذه الروايات التي ذكرنا.

"ه": مثلًا يكتبها دائرة، هذه تشير إلى رواية أبي ذر الهروي.

"س": رواية ابن عساكر، "ص": رواية الأصيلي، "ح": رواية الحمويي، وهكذا...

ولذلك ذكرنا لكم هذه الأسانيد وكيف وصل إلينا صحيح البخاري.

هذه النسخة اليونينية انتشرت انتشارًا واسعًا بالنسخ منها، والنسخ المنسوخة عنها سميت: "فروع اليونينية"، "فرع عن اليونينية"، فهي منسوخة من اليونينية مباشرة.

وربما تنسخ النسخة عن فرع عن اليونينية فيكون فرع عن فرع اليونينية منسوخ.

اليونينية نفسها كانت موقوفة في إحدى المكتبات الإسلامية كانت وقفًا.

والقسطلاني لما شرح صحيح البخاري وقف على فرع لها، أراد أن يجود المتن وأن يتقنه فقابله على فرع لها لأنه لم يحصل على اليونينية نفسها، والفرع هذا "فرع الغزولي" موجود منه إلى اليوم الجزء الثاني النصف الثاني، لكن كان عند القسطلاني كاملًا فقابل عليه، ووصفه بأنه: "فرع متقن نفيس".

ثم بعد ذلك وقف على اليونينية، وأعاد وقابل على اليونينية نفسها، وهذا الذي يعطي هذا الكتاب مزية، فعند اختلاف النسخ يرجع إلى نسخة القسطلاني لمعرفة ما هو موجود في النسخة اليونينية.

الآن لما حقق أصحاب النسخة السلطانية صحيح البخاري حققوه على فروع، ومنها: "فرع البصري" "فرع سالم البصري" أو "عبد الله البصري" أظن "سالم" ابنه.

فرع "البصري" هذا فرع متقن أثنى عليه العلماء، والفرع إذا أثنى عليه العلماء يأخذ مزية.

فاعتمدوا على فرع البصري وغيره، لكنهم لم يذكروا التفاصيل.

وفيما يذكر من كلامهم: أن النسخة اليونينية أرسلت إليهم من إسطنبول إلى أستان.

وبعد ذلك قابلوا الكتاب على اليونينية، فهل فعلًا وقفوا على اليونينية نفسها؟ ربما! وإذا كان كذلك فأين هي الآن؟

فيما بلغنا من الأخبار أنه لم يعثر عليها إلى الآن، لكن هذا الكلام الذي ذكره من حقق السلطانية -إن صح أنها اليونينية- فمعنى ذلك أنها موجودة إلى اليوم إلا أنها دفينة في طيات المكتبات.

لكن على كل حال يوجد فروع متقنة عنها.

لما حقق أصحاب بيت السنة نسختهم من صحيح البخاري اعتمدوا على فرع من فروع اليونينية وهو فرع "النويري"، نسختان له: الأولى والخامسة.

و"النويري" هذا من أهل العلم، وكان ينسخ، ونسخ صحيح البخاري عدة مرات.

فهذا الفرع فرع متقن قابلوا عليه، وقابلوا على فروع أخرى.

التحقيق -تحقيق النسخة، تحقيق كتب العلم، وخاصة كتب السنة- يحتاج إلى أشياء مهمة:

أول أمر: هو المحقق نفسه، ينبغي أن يكون متقنًا للعلم الذي سيحقق فيه كتابًا، يعني الكتاب في علم من العلوم هو متقنه، إذا لم يكن كذلك لن يجيد التحقيق.

الأمر الثاني: العثور على نسخ خطية نفيسة للكتاب جيدة، هذا أمر ليس سهلًا، هذا الأمر عسر، وذلك لأن كتب المخطوطات في العالم كثيرة جدًا، والمخطوطات بالملايين، بملايين المجلدات، فالبحث عن هذا الأمر ليس سهلًا.

والطبعات تختلف في جودتها بالمخطوطة التي اعتمد صاحبها عليها، هذا مهم جدًا، فالمخطوطة إذا كانت:

· بخط المؤلف تكون قمة في الجودة.

· إذا كانت مقروءة على المؤلف.

· إذا كانت بخط ناسخ لكنها للمؤلف، يعطي المخطوطة نفاسة.

إذا كانت لتلميذ المؤلف لطالبه، أو قوبلت على أصل المؤلف تكون نفيسة لكنها أنزل درجة من التي قبلها.

إذا كانت المخطوطة بين يدي العلماء، أو من كتابة بعض العلماء الاعتناء بها يكون عظيمًا، تكون نفيسة.

إذا سُمعت على العلماء، أو قُرئت على العلماء، أو تملكها العلماء، كل هذا يعطي المخطوطة نفاسة.

فأنت بحاجة إلى أن تدرس المخطوطات في الكتاب الذي تريد أن تحققه حتى تنتقي منها أجودها وأعلاها، فالأقرب إلى المؤلف أجود بشرط أن تكون كاملة ومتقنة.

تجد مخطوطات ناقصة كثيرة، أو غير واضحة، أو فيها تآكل، أو غير ذلك...

إذن المخطوطة النفيسة تعطي جودة للتحقيق.

فما الذي اعتمدت عليه في تحقيق الكتاب؟ هذا مهم.

ربما الكتاب تكون لك فيه خيارات واسعة كثيرة، إذ إن المخطوطات تكون كثيرة في العالم الإسلامي كمخطوطات البخاري، هذا الكتاب متواتر، مخطوطاته بالآلاف، فهنا تحتاج إلى جهد كبير لانتقاء المخطوطات، وربما يكون الكتاب ليس له من مخطوطات إلا واحدة أو اثنتين. فتكون الخيارات أمامك ضيقة، فإما تستطيع أن تشتغل الكتاب أو لا تستطيع.

ما هي هذه المخطوطة؟ هي نسخ مكتوبة، صحيح البخاري هذا كله كانوا يكتبونه باليد، ما كان في مطابع، لكن كان في إيش؟ كان في نساخ يسمون، أو يسمى الواحد منهم "الوراق"، هذا "الوراق" يكتب، ينسخ، ينسخ لك مصحفًا، تريد مصحفًا يكتب لك مصحفًا، تريد صحيح البخاري يكتب لك صحيح البخاري بثمنه، بدل المطبعة التي هي موجودة اليوم تذهب وتطبع نسخة من الكِتَاب، هم يكتبون لك كتابة.

هذا الكتاب المكتوب هو المخطوطة، مخطوط باليد، هذا الحال كان قديمًا، فالعالم كان إما أن يكتب الكتاب بيده، أو أن يوكل شخصًا أن يكتب له بأجرة بثمن.

لكن إذا امتلك النسخة لا بد أن تقابل، وإلا ما يبقى لها مزية ولا فضيلة، إذ إن السقط يكون فيها، والتحريف، وأشياء كثيرة فيها أثناء النسخ، بعد النسخ لا بد من المقابلة.

وعادة العلماء أنه لما تكون عنده نسخة يعتني بها، يقابلها، يصححها، فتصير نسخة نفيسة امتلكها عالم.

هذا ما صنعه اليونيني رحمه الله، لما أراد أن يفعل نسخته ويجود نسخته أخذ عدة نسخ، وقابلها على النسخة التي عنده بحضور جمع من أهل العلم والمشايخ، ومنهم من هو متخصص في اللغة كابن مالك.

فإذًا كانت الروايات على صورة معينة وجهها ابن مالك.

فهكذا يكون تحقيق الكتاب في أجود صوره، جمعٌ من أهل العلم والفضل، وللمشايخ وأهل الاختصاص نسخ نفيسة وصفها اليونيني وصف بعضها بالجودة.

أهل علم، أصحاب مكانة، وأهل اختصاص، ومنهم اليونيني رحمه الله، وما بقي شيء.

خرجت هذه النسخة التي هي نسخة اليونيني.

اليونيني أثبت المتن الأصل كما سمعه هو، ثم قابل النسخ الأخرى، حصل هناك فروق في النسخ، ماذا يفعل بهذه الفروق؟ أعطى كل نسخة رمزًا، ثم النسخة التي خالفت ما عنده يضعها في الحاشية، ويضع الرمز ويقول لك في تلك النسخة كذا وكذا، هذه دقة في العمل.

هو ليس في معرض أي الألفاظ أصوب، وأي خطأ، مش هذا الموضوع، الآن هو وضع بين أيدينا الروايات كما رويت، بعدين عمل الشراح: هو النظر في هذه الفروق، وتصويب الصواب، وتخطئة الخطأ.

أسباب اختلاف النسخ كثيرة، منها:

1- تصحيفات وأوهام للرواة.

2- ومنها: اختلاف اجتهاد البخاري نفسه، فكان يقدم ويؤخر في التبويبات، وفي الكتاب إلى آخره، كما هو عادة كل مؤلف يغير ويبدل ويصحح.

3- ومنها: أن بعض الكلمات تكون بمعنى واحد، لكن تستعمل أكثر من لفظ.

4- ومنها: الإدراج، أحيانًا يكون أحد الرواة قد فسّر لفظًا في المتن، أو وضّح اسمًا من أسماء الرواة، وظنه راوٍ آخر أن هذا من البخاري، فأدخله في الكتاب.

هذا موجود، أسباب الاختلاف كثيرة، اختلاف النسخ.

الآن ما الفرق بين الطبعات الموجودة اليوم لصحيح البخاري؟ طبعات كثيرة، لكن الطبعة التي أثنى عليها العلماء، وذكروا أنها أجود الطبعات هي: "الطبعة السلطانية" نسبة إلى "السلطان عبد الحميد" الذي أمر بطباعتها.

شارك في تحقيق هذه الطبعة جمعٌ من أهل العلم، وهذا العمل يكون أتقن من أن يشتغل في الكتاب شخص واحد، خاصة إذا كان أهل العلم من أهل الاختصاص في اللغة، وفي الحديث، في كتاب كهذا يكون العمل أجود، لكن ما وصفوه أهل العلم عن هؤلاء أنهم أكثرهم فقهاء، ما كانوا من أهل الحديث، حسب ما وقفت عليه من أوصافهم، لكن على كل حال هم من أهل العلم، وهم جمع، وتمت مراجعته من أهل العلم أيضًا.

فهذا يعطي الكتاب جودة أفضل من أن يشتغل فيه واحد، فهذه المزية موجودة في هذه الطبعة.

النسخ التي اعتمدوا عليها:

اعتمدوا على فروع لليونينية، عرفنا منها فرع البصري.

وذكروا أنهم قابلوها على اليونينية، إذا صحَّ هذا فهذا أجود ما يقابل عليه.

طبعة بيت السنة مقارنة بها قام على تحقيقها جمعٌ أيضًا من طلبة العلم والمشايخ.

فهو ليس عملًا فرديًا، هو عمل جماعي كذلك.

قابلوها على فروع لليونينية. وليس على أصلها، لكنها فروع متقنة جيدة.

فهنا العمل جماعي، وهنا عمل جماعي، هنا اعتمدوا على فروع، وإن صح أنهم اعتمدوا على اليونينية فتكون المنقبة لهم قد حازوها في هذه النقطة على طبعة بيت السنة.

في الطبعة السلطانية أضافوا فروقًا للنسخ ليست موجودة في طبعة بيت السنة، ليش؟ لأنها ليست من اليونينية.

بيت السنة قد قيدوا أنفسهم بالنسخة اليونينية فقط لا يريدون الخروج عنها، فإذا وجدت فروق خارج اليونينية لا يضعونها يحذفونها في بيت السنة.

في الطبعة السلطانية لا، يثبتونه.

مثال ذلك: في أول حديث، حديث: (إنما الأعمال بالنيات). في السند تجده قال: "حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري"، في السلطانية: ستجد حاشية فيها بدل "حدثنا" "عن" والرمز، وأعلاها "هاء" يعني في رواية أبي ذر الهروي، "عن" بدل "حدثنا" وهذه طبعًا النسخة السلطانية اعتمدوا اعتمادًا كبيرًا على متن القسطلاني وهذه موجودة في متن القسطلاني وموجودة في فتح الباري في كلام الحافظ ابن حجر.

نحن عرفنا في الدرس السابق أن الحافظ ابن حجر اعتمد رواية أبي ذر الهروي، هذه منها، فلذلك تجد المتن عند الحافظ ابن حجر مش المتن الموجود فوق المتن الذي في الشرح، وهذا الذي نتحدث عنه الذي فوق قلنا هذا ليس من عمل الحافظ، تجد المتن عند الحافظ ابن حجر عن يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم نبه الحافظ في الشرح أن أكثر الروايات: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، شفت كيف الشرح تم؟ فالظاهر أن أصحاب الطبعة السلطانية اعتمدوا على القسطلاني، وربما يكون القسطلاني اعتمد على الحافظ ابن حجر في ذلك، أو وقف على نسخة فيها هذا، لكن في حاشية شرح القسطلاني قالوا بأن في إحدى نسخ شرح القسطلاني نبه على أن هذه ليست في اليونينية، هذا الفرق ليس في اليونينية، وهذا هو السبب أنك لا تجدها في المخطوطات، مخطوطات اليونينية.

وأنا لما نظرت في طبعة بيت السنة ما وجدت هذه الحاشية، رجعت إلى المخطوطات حتى نتثبت منها، ما هي موجودة في المخطوطات فعلًا، إلا أنها موجودة في مخطوطة البصري، التي قالوا بأن مخطوطة البصري نفسها فيها زيادات على اليونينية أصلًا.

إذن ربما تجد في السلطانية فروقًا للنسخ ليست موجودة في بيت السنة، وذلك لأن بيت السنة تقيدت بالنسخة اليونينية، وأنا لو كان العمل لي، كنت أفضّل في مثل هذا، أن توضع في الحاشية، فأكون قد فعلت، واستفدت فائدتين: الأولى: أنني حرصت على إخراج اليونينية، كما أرادها مؤلفها، وهذا المفروض أن يحرص عليه كل محقق للكتاب، أنت عندما تحقق الكتاب تريد من ذلك أن تخرج لنا الكتاب كما أراده مؤلفه، فلا تلعب في الكتاب، لا تتصرف في الكتاب مطلقًا، ضع الكتاب كما أراده مؤلفه، عندك أي تعليق أو حاشية ضعه في الحاشية، الحاشية عندك فيها مجال، لكن لا تتصرف في أصل الكتاب، فلذلك لو وضعت هذه الفروق في الحاشية، ونبه على أنها ليست في اليونينية، لحصلت الفائدة للقارئ وفي نفس الوقت، أخرجنا الكتاب كما أراده مؤلفه.

لكن لا يعاب... هذا الذي صنعه أصحاب بيت السنة لا يعاب عليهم، لأنهم حرصوا على إخراج الكتاب، كما أراده مؤلفه، هذا الصح، هذا الأساس.

الطبعة السلطانية أهملت فروق رواية كريمة المروزية عن الكشمهني، هذه الفروق مثبتة في المخطوطات بالحمرة، لأن أصل نسخة عبد الغني المقدسي، ونسخة عبد المغني المقدسي من طريق أبي الوقت السجزي، ومن طريق كريمة، في رواية عبد الغني المقدسي ميزت رواية كريمة بالحمرة، هذه الفروق أهملت في النسخة السلطانية، وهذا يعاب على النسخة. أن يهمل فيها شيء كان موجودًا في أصل اليونينية.

وهذه الفروق أثبتها أصحاب بيت السنة. وهذا مما تتميز به طبعة بيت السنة على السلطانية.

قال الشيخ أحمد شاكر: "وقد ظهر لي هذا المجلد -وقف الشيخ أحمد شاكر على فرع لليونينية مجلد منه فقال على أن النسخة السلطانية لم يثبت طابعوها كل ما أثبت من التعليقات على هامش اليونينية، بل تركوا أكثرها ولم يذكروا إلا أقلها، بل وجدت فيه -أي: المجلد- أشياء أثبتها، لم يذكرها القسطلاني في شرحه". انتهى.

وهذا مما يعاب على هذه النسخة.

وذكر أصحاب بيت السنة -وهذا أنا لم أتحقق منه-أنه يوجد أخطاء في الرموز، في نقل الرموز في الطبعة السلطانية.

والطبعة السلطانية تركوا طباعة مقدمة اليونيني، المقدمة اليونينية التي سماها: "فرخة"، وهذه مهمة، قد ذكر فيها بعض الرموز وما أراد بها، وذكر أسانيده والنسخ التي اعتمدها في هذه "الفرخة" وهذا قد عالجه أصحاب بيت السنة.

اختبرت اختبارًا عاجلًا بعض الصفحات من الطبعتين، من أولها ووسطها وآخرها، في أثناء المقابلة وقفت على سقط في كلمة في إحدى الحواشي إحدى الفروق في الطبعة السلطانية.

لم أقف على سقط في طبعة بيت السنة.

هذا حكم آني وقتي، لأن الاستقراء ليس كاملًا، بعض الصفحات من أول الطبعة، من وسط الطبعة، من آخر الطبعة، فهذا ما ظهر معي.

من حيث المتن: هذا متقن، وهذا متقن، ما وجدت أخطاء، لا هنا ولا هنا، في الصفحات التي قابلتها.

لكن هذه في الفروق -في فروق النسخ- وجدت هذا، والكلام الآن، لو تلاحظون ما أخذ على السلطانية في الفروق.

سأل بعض الطلبة عن طبعة "دار التأصيل"، ما درستها دراسة وافية، لكن هي ماذا فعلوا؟ صوروا السلطانية، كـ"طبعة طوق النجاة"، نفس الشيء، صوروا السلطانية تصوير.

إيش الفرق بين التصوير وبين إعادة الطباعة من جديد؟ التصوير الخطأ فيه نادر، ممكن أن تسقط معك صفحة، ممكن أن تقدم وتؤخر صفحة بس أثناء التصوير، إذا كان التصوير متقنًا ما يحصل معك هذا، لكن لا يكون هناك أخطاء في نفس الكلمات، وترتيب الجمل، إلى آخره... ليش؟ لأنه ما فيش صف جديد، ما فيش كتابة جديدة، الصفحة هي هي، تصوير فقط، فلذلك إن وجد خطأ في السلطانية قديمة تجده في المصورة، ما فيها خطأ ما تجد في المصورة خطأ، لأنهم ما فعلوا إلا أنهم صوروها تصويرًا فقط، فهذه مصورة طبعة "طوق النجاة"، وكذلك طبعة "التأصيل" مصورة، والسقط الذي وجدته في السلطانية موجود هنا وموجود هنا، نفس الشيء، لأنها صورة.

الذي فعله أصحاب "دار التأصيل"، أضافوا إضافات، وهذه طبعًا أضافوا إضافات خدمية، أصحاب التأصيل أضافوا إضافات وإضافة فيها فائدة إضافية أيضًا أنهم استدركوا الفروق الموجودة في مخطوطة البقاعي وأضافوها على طبعتهم.

هذه مقابلة بين النسخ الموجودة هذه، هذه أفضل النسخ التي تحدثنا عنها، والحكم كما قلنا مبدئي:

طبعة بيت السنة تتفوق على الطبعة السلطانية لذلك سنعتمدها إن شاء الله، وأيضًا سنقرأ من السلطانية ستكون بين يدي بعض الطلبة من أجل أن نزيد النظر في الطبعات.

هكذا نكون عرفنا كيف وصل إلينا صحيح البخاري، وكم اعتنى المسلمون بهذا الكتاب حتى وصل إلينا على هذه الصورة، حتى إنك لن تجد كتابًا اعتني به هذا الاعتناء كما حصل في صحيح البخاري، أما كتاب الله فهو متواتر فعلى ما هو عليه، والاعتناء فيه أكبر وأعظم، لكن الشغل الذي يحتاجه صحيح البخاري أكثر لأن طريقة النقل مختلفة.

هذا ما أردنا أن نذكره من مقدمة لهذا الكتاب.

الآن لا بد أن تعرف الرموز الموجودة في صحيح البخاري، ذكروها، ذكرت طبعة بيت السنة، ذكرت "الفرخة" هذه التي هي مقدمة اليونيني، وذكر هناك بعض الرموز ومعانيها، فمن حفظ هذه الرموز بإمكانه بعد ذلك أن يفهمها بسهولة في أثناء دراسته أو قراءته لصحيح البخاري.

بقي تنبيه أخير نسيت أن أذكره. في طبعة "بيت السنة" وطبعة "التأصيل" أيضًا ما وضعوا الرموز كما أرادها اليونيني، ماذا فعلوا؟ شرحوها، يعني مثلًا رمز "س" تعني رواية ابن عساكر أو نسخة ابن عساكر، فهم يذكرون لك نسخة ابن عساكر أو رواية ابن عساكر كذا وكذا، رمز "ه" في رواية أبي ذر الهروي يذكرون لك هذا.

وهذا العمل بالنسبة لي ما أراه صوابًا هكذا، أرى إن أردت أن تفعل ذلك، أن تضع الرموز كما أرادها مؤلفها، ثم اشرح بعد ذلك لا مشكلة، لكن لا تحذف ما وضعه المؤلف، ليش؟ فك هذه الرموز... شرح هذه الرموز منها ما هو واضح، ما فيه إشكال، لكن منها ما سيدخله الاجتهاد ولا بد.

وعندما يدخل الاجتهاد، سأختلف أنا وأنت، فأنت ستقرؤها بصورة وأنا أقرؤها بصورة ثانية، وهذا فعلًا ما ستجده في بعض شروح الفروق، فستجد مثلًا القسطلاني يقول في فرق من الفروق في رواية أبي ذر عن الكشمهني، هم أيش يقولون؟ في رواية أبي ذر والكشمهني، هنا فرق بين هذا وهذا، قراءة اختلفت ولا لا؟ اختلفت، وهذا مما أخذ على -أو أنا عندي بالنسبة لي- ما أعجبني هذا التصرف في طبعة بيت السنة، لا يعني أن الطبعة سيئة صارت، لا طبعًا، ما في كتاب كامل، كل كتاب وفيه أخطاء، كل كتاب وفيه ما يؤخذ عليه، لكن الحكم نحن في مثل هذا في الجملة طبعة جيدة، على حسب ما وقفت عليه من خلال دراستي القليلة لها طبعة ممتازة، لكن هذه النقطة لو أنهم وضعوا الرموز كما هي وشرحوا بعد ذلك لكان العمل ممتاز.

لكن هناك أمر، وهو أنه قبل استدركوا ذلك بماذا؟ بوضع المخطوطات في تطبيقهم الذي صنعوه لصحيح البخاري، هذا التطبيق نفيس حقيقة، وخدموا صحيح البخاري فيه خدمة عظيمة جزاهم الله خيرًا، طبعًا هذا العمل عمل جماعي، عمل مؤسس جماعي أصلًا، ثلاث مؤسسات مشتركة في الأعمال هذه، مؤسسة الراجحي، مؤسسة عطاءات العلم، ومؤسسة الكمال المتحدة، ثلاث مؤسسات، وفيها جموع من الناس، اشتغلت على هذا العمل، وهذا عمل طيب جدًا حقيقة، فهذا الأمر، بإمكانك بعد ذلك، إذا أشكلت عليك حاشية من الحواشي، أن ترجع إلى المخطوط مباشرة، فهنا المشكلة تكون قد عولجت، وأنت مش دائمًا طبعًا تحتاج أن تعرف هذه رواية من، وهذه الرواية من، إلى آخره...

هذه الفروق بشكل عام هي فروق منها ما هو مؤثر، منها ما ليس مؤثرًا أصلًا.

هذا ما أردنا أن نذكره في هذه المقدمة.

الآن سنبدأ إن شاء الله بصحيح البخاري نفسه.

طبعًا طبعة القسطلاني طُبع طبعات قديمة، طبعة بولاق كانت طبعة جيدة، وبعدة طبعات.

هذه الطبعة طبعة جديدة؛ طبعة دار عطاءات العلم ودار ابن حزم، وأيضًا بتحقيق المكتب العلمي بدار كمال المتحدة بإشراف عطاءات العلم، طبعة جديدة.

وأيضًا من خلال ما اطلعت عليه منها: الطبعة نفيسة، قابلت منها صفحات على طبعة بولاق التي عندي وهي الطبعة السادسة، فوجدتها أتقن من طبعة بولاق الطبعة السادسة، أجود، عالجت تصحيفات موجودة في تلك الطبعة ما وجدتها موجودة هنا، ما وجدت فيها سقطًا.

أسوأ شيء يكون في الطبعة: هو السقط، ثم التحريف والتصحيف وأشياء أخرى، لكن هذه أهمها، وما وجدت في هذه الطبعة شيء من ذلك، من خلال ما قابلته من الصفحات، وهي قليلة، ليست كثيرة، وهو حكم مبدئي، والظاهر أنها طبعة متقنة، والله أعلم.

طبعًا نحن ركزنا على القسطلاني لما ذكرناه لأن المتن مهم، فهو مقابل على فرع الغزولي، وعلى النسخة اليونينية نفسها، فهذا يجعلها أيضًا فرع من فروع اليونينية حقيقة.

طبعًا بداية ذكر اليونيني رحمه الله إسناده فقال: "حدثنا الشيخ سراج الدين أبو عبد الله الحسين بن المبارك بن محمد بن يحيى الزبيدي في شوال سنة 630ه بدمشق بالجامع المظفري بسفح جبل قاسيون، أخبرنا أبو الوقت عبد الأول ابن عيسى ابن شعيب ابن إسحاق بن إبراهيم السجزي الصوفي ثم الهروي قراءة عليه ونحن نسمع ببغداد في آخر سنة اثنتين وأول سنة 553"

رأيتم بين اليونيني وأبي الوقت كم؟ واحد، ثم هذه التي بين أيدينا هي نسخة اليونيني، هذا هو إسنادنا إلى صحيح البخاري رحمه الله، هذه نسخة متواترة، أي نعم، والمتواتر لا يسأل فيه بعد ذلك عن الإسناد لأنه متواتر، انتهى الأمر.

"قال: أخبركم الإمام جمال الإسلامي أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن محمد بن داوود بن أحمد بن معاذ بن سهل بن الحكم الداوودي قراءة عليه. ببوشانج في ذي القعدة سنة 465ه، أخبرنا الإمام أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حموية بن أحمد بن يوسف بن أعين السرخسي قراءة عليه في صفر سنة 381ه، أخبرنا الإمام أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشر بن إبراهيم البخاري الفربري بفربر سنة 316ه، حدثنا الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن الأحنف الجعفي مولاهم البخاري بفربر سنة 248ه مرة، ومرة سنة 52ه قال:..."

هنا ذكر إسناده رحمه الله إلى صحيح البخاري فهو من طريق أبي الوقت عبد الأول، والمتن الذي سيذكره متن هذا الإسناد، والفروق ستجدونها في الحاشية.

بعد "قال" "بسم الله الرحمن الرحيم" هذه غير موجودة عندكم في المتن ليش؟ لأنها ليست في رواية أبي الوقت ولكنها في رواية أبي ذر والأصيلي، وقد عرفتم إسناد أبي ذر، وإسناد الأصيلي.

"قال" في رواية أبي ذر والأصيلي زيادة "بسم الله الرحمن الرحيم" هكذا شرحوه عندي في بيت السنة، عندكم المفروض أن يكون: "هاء صاد" صح؟ في الرموز: "هاء صاد: في رواية أبي ذر والأصيلي"

"هاء" تكتب عنده به كدائرة، هكذا بقية الفروق بهذه الطريقة تفهمونها.

إذن في روايتين يوجد زيادة "بسم الله الرحمن الرحيم"، وفي بقية الروايات التي اعتمدها اليونيني ليس فيها البسملة.

القارئ: "بسم الله الرحمن الرحيم، قال الشيخ المؤلف الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري رحمه الله تعالى آمين. وعلى شيخنا حفظه الله تعالى".

الشيخ: طبعًا أخونا يقرأ من السلطانية، من الطبعة السلطانية، نعم، تفضل.

القارئ: قال: "كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ، وقول الله جل ذكره: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده)"

الشيخ: لا يوجد في هذا الموضع لفظ "كتاب"، وإن أدخله بعض المحققين عند تحقيقهم لصحيح البخاري.

بدؤوا هنا بـ "كتاب بدء الوحي" لكن هنا لا يوجد "كتاب" لم نجده في شيء من النسخ والروايات، ونص بعض الشراح على أن البخاري لم يضعها هنا.

البخاري رحمه الله بدأ مباشرة بـ "باب" فلا يقال هنا "كتاب" بما أنه لا يوجد في شيء من النسخ والروايات.

"باب" الباب لغة: ما يدخل ويخرج منه كباب الدار، واصطلاحًا: اسم لجملة مختصة من العلم.

العلماء يركّبون كتبهم ومؤلفاتهم بطريقة تسهل على الطالب العلم، فيقسمون الكتاب الذي يريدون تأليفه إلى كتاب وأبواب وربما فصول أيضًا، وهذه يكون بينها رابط.

الكتاب أعم، الباب أخص، الفصل أو المسألة أخص من الباب.

مثلًا: تقول "كتاب الطهارة" هذا عام يشمل كل أحكام الطهارة التي وردت في السنة، فيضع في هذا الكتاب مسائل الطهارة عمومًا، لكن هذه المسائل كثيرة، بعضها بينها ارتباط لا يوجد في البعض الآخر، فيخصونه بباب نقول: " كتاب الطهارة، باب المياه" المياه لها تعلق بالطهارة، ولا لأ؟ تدخل في ضمن الطهارة، لكن المياه أخص، باب المياه، باب التيمم، باب الغسل، باب الحيض، باب النفاس، كل هذا يدخل في الطهارة، لكن كل واحد من هذه الأبواب له تعلق ببعضه، وأخص من غيره، فلذلك يضعونه في باب مستقل.

ثم بعد ذلك هناك مسائل هي أخص من الباب، فيخصونها بفصول أو مسائل فيكون بين هذه الترتيبات عموم وخصوص مطلق.

هذه طريقة من طرق الترتيب لتسهيل العلم على المتعلم.

هذا باب عقده الإمام البخاري رحمه الله كي يبين فيه كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ؟ أي كيف كان ابتداء الوحي إلى رسول الله ؟ ولكنه لم يقتصر فقط على الأحاديث التي تتعلق ببيان كيفية بدء الوحي فقط، لا، وسّع فذكر أحاديث تتعلق بهذا الموضوع.

من ذكره لهذه الأحاديث علمنا أنه لا يعني بهذا التبويب أنه سيقتصر على هذا النوع من الأحاديث فقط، لا، عليها وعلى ما يتعلق بهذا الشأن أيضًا، فيذكر مثلًا: كيف يأتي الوحي إلى النبي ، هذا أمر إضافي، لكنه يتعلق أيضًا بموضوع الوحي وإتيان الوحي إلى النبي ، فلذلك يذكر هذه الأحاديث.

هذا عرفناه أنه مقصود للبخاري من أين؟ من الأحاديث التي ذكرها في هذا الباب، عرفنا مقصوده منها.

"الوحي": أصل الإيحاء: إلقاء الموحي إلى الموحى إليه، يعني مثلًا: جبريل ألقى معنى إلى النبي هذا يسمى وحيًا، وهذا الإلقاء قد يكون بكتاب أو إشارة أو إيماء أو إلهام أو رسالة، يرسل له رسالة، أو كتاب، أو يشير إليه إشارة، أو يومي إيماء، أو إلهام، إيش الإلهام؟ الإلهام: أن يلقي الله في النفس أمرًا، يبعث هذا الأمر على الفعل أو الترك، يلقي الله سبحانه وتعالى في قلب العبد أمرًا يبعثه يدفعه إلى أن يفعل شيئًا، أو أن يترك شيئًا هذا يسمى إلهامًا، كقول الله تبارك وتعالى: ﴿وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه﴾ الآية، هذا ليس وحي رسالة باتفاق أهل العلم، إجماع، أم موسى ليس موحًا إليها على أنها مرسلة من عند الله سبحانه وتعالى، قال ابن كثير رحمه الله: "وهو وحي إلهام بلا خلاف" لم يختلف العلماء في هذا أبدًا.

كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتًا﴾ هذا الوحي إلهام وهداية وإرشاد للنحل، أي: ألقى ذلك إليها فألهمها.

قال أهل اللغة: والوحي أيضًا: الإشارة، والكتابة، والرسالة، والإلهام، والكلام الخفي، وكل ما ألقيته إلى غيرك فتكلمه بكلام خفي وحي.

عرفه بعض أهل العلم بأنه: الإعلام بسرعة وخفاء.

وأما الوحي إلى الأنبياء فعرفه بعض أهل العلم بقوله: إعلام الله نبيه بحكم شرعي ونحوه بواسطة أو بغير واسطة.

هذا تعريف الوحي والمراد بالوحي، "وقول الله جل ذكره" أي: "بابٌ كيف كان" أو "بابُ كيف كان"، يصح بالتنوين، ويصح من غير تنوين، وبعض أهل العلم قال: يصح بالسكون أيضًا، أي: "بابْ كيف كان ابتداء الوحي"

ومعنى قول الله ﴿إنا أوحينا إليك﴾ وحي أيش؟ وحي إرسال، هذا الوحي إلى النبي وحي إرسال، وليس وحي إلهام، ﴿كما أوحينا﴾ أي: كوحينا إلى نوح والنبيين من بعده.

المعنى الذي أراده المؤلف من هذه الآية -والله أعلم-: أن الله تبارك وتعالى أوحى إلى محمد كما أوحى إلى سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله، وحي رسالة، لا وحي إلهام؛ لأن الوحي أنواع كما تقدم.

وكذلك إن أول أحوال النبيين في الوحي بالرؤيا، كما كان النبي أول أمر بالوحي بالنسبة له: الرؤيا، كما سيأتي في الحديث، كذلك بقية الأنبياء، قال علقمة بن قيس الفقيه التابعي صاحب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام حتى تهدأ قلوبهم، ثم ينزل الوحي بعد في اليقظة". انتهى كلامه رحمه الله.

إذن الوحي إلى النبي كالوحي إلى بقية الأنبياء، يبدأ بالمنام، وهو وحي إرسال.

خلاصة الموضوع مما أراده البخاري رحمه الله بهذا التبويب، فهو باب معقود لبيان كيف كان ابتداء الوحي إلى نبي الله ، وما يتعلق به، ككيفية نزوله عليه، وبيان معنى الآية، وكذلك هو بيان لمعنى الآية المذكورة، هذا معنى التبويب المذكور.

بدأ المؤلف رحمه الله بهذا بالوحي لماذا؟ لأنه كتاب جمعه للسنة -سنة النبي - والسنة وحي من الله ﴿وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى﴾ فالوحي هو مصدر السنة، والوحي هو مبدأ السنة، فلذلك بدأ المؤلف رحمه الله بالوحي، يعني كأنه بدأ من البداية من الصفر قبل أن تبدأ أنت بمسألة الإيمان، أول واجب عليك هو الإيمان، لكن قبل هذا الإيمان، كيف وجب علينا؟ بالوحي، فبدأ رحمه الله بالوحي، فذكر لنا كيف ينزل على النبي ، وكيف بدأ مع النبي ، ثم بعد ذلك بدأ ببيان الأحكام الشرعية.

القارئ: شيخ! -الله يحفظكم- أنا ما قرأت كلمة "باب" لأنه مش موجودة بالأصل، هل أعيد الكلام؟

لا، ما في داعي، هي كلمة "باب" هذه موجودة في رواية ابن عساكر ورواية السمعاني عن أبي الوقت، وفي المتن هي عندي غير موجودة، لكن أردنا أن نشرحها ونبينها لأنها أول شيء، وإلا نحن نريد أن نعتمد على ما هو في المتن، والروايات هذه نأخذ منها ما نحتاجه فقط.

القارئ: قال رحمه الله: "حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر، قال: سمعت رسول الله يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)."

الشيخ: "حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير" أبو بكر الأسدي المكي، ثقة، حافظ، فقيه، سلفي، إمام، صاحب فضل ودين، وهو أثبت الناس في ابن عيينة، إذا قلنا في الراوي هو أثبت الناس في ابن عيينة فمعنى ذلك أن روايته عنه أتقن الروايات وأصح الروايات، وهذا نحتاجه عند اختلاف الرواة على ابن عيينة رحمه الله، وهذا ما نستفيده من هذه الكلمة، وهي مهمة جدًا، وقد مر معكم هذا المبحث في شرح العلل.

وهو أجلُّ أصحاب ابن عيينة صاحب المسند، له كتاب المسند، مطبوع في مجلدين.

توفي سنة 219.

يروي عن أتباع التابعين وليس منهم، روى له الجماعة، ونعني بالجماعة: البخاري ومسلمًا وأبا داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، لكن هنا استثنينا، فقلنا إلا مسلمًا لم يرو له في الصحيح، ولكنه روى له في المقدمة، وهناك فرق بين أن يروي له في المقدمة، وأن يروي له في الصحيح، في الصحيح هو على شرطه، أما في المقدمة فلا، وروى له ابن ماجه في التفسير.

قال: "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة الهلالي الكوفي أبو محمد، سكن مكة، ثقة، حافظ، فقيه، إمام، سلفي، من أتباع التابعين، قرين الإمام مالك، كان يدلس ولكن تدليسه لا يضره، وقيل: اختلط في آخر عمره.

قال الذهبي رحمه الله: "أجمعت الأمة على الاحتجاج به".

توفي سنة 198. روى له الجماعة.

هذا التفصيل في التراجم نذكره في البداية، ثم بعد ذلك إذا مر معنا الراوي مرة ثانية لا نفصل.

إذا كان الراوي ممن يحتج به قلنا ثقة ومشينا، وإذا كان لا يحتج به، قلنا ضعيف.

"ثقة" سواء كانت ثقة أو كان صدوقًا نقول ثقة ونمشي من أجل الاختصار، وهذا استعمال لبعض أهل الحديث قديمًا.

وإذا كان ضعيفًا نقول ضعيف ونمشي، سواء كان ضعفه شديدًا أو خفيفًا.

إذا مر معنا الراوي أول مرة نفصل فيه هذا التفصيل، المرة الثانية نختصر.

قال: "حدثنا يحيى بن سعيد" بن قيس الأنصاري النجاري أبو سعيد المدني من صغار التابعين قاضي المدينة ثقة حافظ فقيه توفي سنة 143ه. روى له الجماعة.

نذكر لكم: اسمه، نسبه، كنيته، ومن أين هو، ومن أي طبقة، ونذكر حاله، ومتى توفي، ومن أخرج له.

هذا كله ينفعك.

قال: "أخبرني" هكذا بالإفراد أخبرني وليس "أخبرنا"، وهو لما قرأه بنفسه على الشيخ وحده، وهذه قد مرت معكم في المصطلح، هكذا يستعملها الكثير من أهل الحديث، يقول أخبرني إذا أخبره وحده، إذا قرأ وحده على الشيخ.

"محمد بن إبراهيم" بن الحارث التيمي نسبة إلى تيم قريش، أبو عبد الله المدني من أوساط التابعين -التابعون منهم كبار ومنهم أوساط ومنهم صغار- وثّقه جمع من أئمة هذا الشأن من أئمة الحديث، وقال فيه الإمام أحمد: "في حديثه شيء، يروي أحاديث مناكير أو منكرة".

ذهب بعض أهل العلم إلى أن الإمام أحمد أراد بالمناكير هنا التفرد فقط، فهو يطلق المنكر أحيانًا على تفرد الراوي إذا لم يكن من الحفاظ المتقنين، هكذا قالوا، إن صح هذا فهذا جوابه، فإخراج البخاري له لا إشكال فيه، وإلا يقال الأصل الاحتجاج بحديثه إلا ما ثبتت نكارته، ليش؟ لأن حفاظ الحديث يوثقونه جميعًا، هذه الكلمة ذكرها الإمام أحمد فقط، ولو كان حديثه يرد لما وثقوه، فمثله يحتج بحديثه، إلا إن تبين أن روايته هذه منكرة فترد، وإلا فلا، وهذا ليس من المنكرات، فهو حديث أجمع علماء الإسلام على صحته وتلقيه بالقبول.

توفي رحمه الله سنة 120ه. روى له الجماعة.

"أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي" المدني من كبار التابعين ثقة نبيل قليل الحديث توفي في خلافة عبد الملك بن مروان، وعبد الملك توفي سنة 86. روى له الجماعة.

"يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه" أبو حفص القرشي العدوي الفاروق صاحب رسول الله ، مثل هذا ما يحتاج إلى ذكر حال أكثر من هذا، صاحب رسول الله خلاص، هو في القمة، أمير المؤمنين رضي الله عنه، استشهد سنة 23ه، وأمه حنتمة بنت هشام المخزومية أخت أبي جهل، أسلم في السنة السادسة من النبوة، وله 27 سنة.

"قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر" المنبر النبوي المدني فـ "أل" فيه عهدية، "أل" في "المنبر" عهدية، المنبر المعهود، وهو المنبر النبوي.

"قال" أي عمر، وفي رواية لصحيح البخاري، "يقول: سمعت رسول الله "

(إنما الأعمال) واقعة أو حاصلة بالنيات، هكذا فسره كثير من أهل العلم، وهو منسوب للسلف، أن هذه الجملة الأولى: (إنما الأعمال بالنيات) هي جملة خبرية، فالتقدير فيها: إنما الأعمال واقعة أو حاصلة بالنيات جمع ونية، وهي لغة: القصد والإرادة، أو قريبة من ذلك، وشرعًا: العزم على فعل العبادة تقربًا إلى الله تعالى.

وكما ذكرنا هذا خبر عن الأعمال الاختيارية، أنها لا تقع إلا عن قصد من العامل، أي: كل عمل لا بد فيه من نية، هذا تقدير الكلام، كل عمل لا بد فيه من نية، فكل عمل يعمله الإنسان وهو عاقل مختار فلا بد فيه من نية، فمعنى الجملة: أنه ما من عمل، أو ما من عامل إلا وله نية، ولكن النيات تختلف، إذا أردت أن تأكل سبقتك النية ووجدت منك نية للأكل، إذا أردت الخروج إلى العمل وجدت منك النية للخروج، وهكذا...، فما من عمل يفعله العاقل المختار إلا وله فيه نية، هذا معنى: (إنما الأعمال بالنيات) وهذا التفسير هو الراجح.

(وإنما لكل امرئ ما نوى) (وإنما لكل امرئ) لكل رجل، (ما نوى) أي: الذين نواه، وكذا لكل امرأة ما نوت لأن النساء شقائق الرجال في العبادة، والأصل في المرأة أنها كالرجل في عبادتها إلا ما ورد الدليل على الاختلاف بينهما، أما حديث: (النساء شقائق الرجال) فالراجح ضعفه، ويستدل به بعض مرضى النفوس على المساواة بين الرجل والمرأة، وهو باطل، فهذا في العبادات، وذاك قال الله تبارك وتعالى فيه على لسان أم مريم: ﴿وليس الذكر كالأنثى﴾ وقال أيضًا: ﴿بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم﴾ هذا الذي يدل على المفارقة بين الرجل والمرأة، فما في مساواة، أما في العبادات فكما ذكرنا.

وقوله هنا: (وإنما لكل امرئ ما نوى) هذا إخبار عن حكم شرعي.

الأول إخبار عن الأعمال أنها تقع بالنيات، والباء في (إنما الأعمال بالنيات) للمصاحبة أو للسببية.

(وإنما لكل امرئ نوى) هذا حكم شرعي، وهو أن حظ العامل من عمله نيته، فإن كان صالحة فعمله صالح فله أجره، وإن كانت فاسدة، فعمله فاسد، فعليه وزره.

ثم فصل وذكر مثالًا: (فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها) أي يحصلها (أو إلى امرأة ينكحها) أي يتزوجها، (فهجرته إلى ما هاجر إليه) من الدنيا والمرأة.

هذا ما يحصله من هجرته ولا نصيب له في الآخرة من هذه الهجرة.

هذا بيان بالمثال.

وأصل "الهجرة": هي الترك، وفي الشرع: ترك بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، والمراد هنا ترك الوطن، يؤجر العبد إذا تركه لله لا للدنيا.

وذكر المرأة مع الدنيا للتنبيه على زيادة التحذير من فتنتهن، وهو من باب: "ذكر الخاص بعد العام تنبيهًا عليه".

هكذا روى البخاري هذا الحديث هنا مختصرًا.

وسيأتي تامًا إن شاء الله، وفيه: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه) أي: من كانت هجرته إلى الله ورسوله قصدًا ونية، فهجرته إلى الله ورسوله أجرًا وثوابًا.

والنية قلنا هي نوع من القصد والإرادة.

النية في كلام العلماء تقع بمعنيين:

1- أحدهما:

أ‌- تمييز العبادات بعضها عن بعض: كتمييز صلاة الظهر عن صلاة العصر، وتمييز صيام رمضان عن صيام غيره.

ب‌- أو تمييز العبادات عن العادات: كتمييز غسل الجنابة عن غسل التبرد، ونحو ذلك.

وهذه النية والكلام عليها هو الذي يوجد بكثرة في كتب الفقهاء.

2- والمعنى الثاني: تمييز المقصود بالعمل، كقوله هنا: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله) فهل المقصود بالعمل هو الله سبحانه وتعالى أم غيره؟ أم المقصود الله وغيره بعملك؟ شرك.

هذه النية هي التي يتكلم فيها العلماء في العقيدة، في كتبهم، في كلامهم على الإخلاص وتوابعه، وهي التي توجد كثيرًا في كلام السلف المتقدمين.

وهذا الحديث هو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام.

§ فهذا الحديث فيه الأمر بإصلاح الباطن، فهو ميزان الباطن، النيات في القلوب.

§ وحديث (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد) ميزان الظاهر.

ولذلك قال أهل العلم: هذان الحديثان يجمعان الدين كله.

حديث عمر: (إنما الأعمال بالنيات) ميزان للباطن، وحديث عائشة: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد) ميزان الظاهر.

فالعمل لا يقبل إلا بصلاحهما، لا ينفع أن تقول في العمل: نيتي صالحة فالعمل مقبول، لا، العمل لا يقبل حتى تجتمع فيه النية الصالحة والعمل الصحيح كما شرعه الله، قال النبي في الخوارج: (يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم).

فلذلك يجب على المسلم أن يحرص على تصحيح الباطن والظاهر، فالعمل لا يقبل منك حتى تصحح كلا الأمرين، إذا كان الظاهر صحيحًا، والباطن فاسدًا لا يقبل، وإذا كان الباطن صحيحًا، والظاهر فاسدًا لا يقبل، حتى يصلح كلا الأمرين.

هذا الحديث "متفق عليه" يعني: أخرجه البخاري ومسلم، وهو حديث غريب، فلم يروه عن النبي إلا عمر، ولم يروه عن عمر إلا علقمة، ولم يروه عن علقة إلا محمد بن إبراهيم، ولم يروه عن محمد بن إبراهيم إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، وعنه انتشر فرواه جمع كبير، لكنه غريب، لتفرد هؤلاء به.

البخاري أخرجه في صحيحه عن أربعة: عن سفيان، ومالك، وحماد بن يزيد، وعبد الوهاب الثقفي، من أفضل من روى عن يحيى ين سعيد هؤلاء الأربعة وأقواهم، ومنهم من له في يحيى بن سعيد خصوصية وفضيلة.

وأخرجه مسلم عن هؤلاء الأربعة، وعن غيرهم أيضًا.

هنا تعرف قدر صحيح البخاري، وكيف يخرج الأحاديث.

إذا كان له في الحديث مجال بحيث يكون الحديث قد روي عن جمع من الرواة عن الراوي المكثر ينتقي أعلى المراتب فيهم أقوى أصحاب الرجل يخرج حديثه، هؤلاء يكونون طبقات وقد مر معكم هذا الكلام في شرح العلل.

لماذا أقول لكم دائمًا لدراسة صحيح البخاري لا بد أن تكون قد أنهيت المستويات الخمس؟ لأن هذا يساعدك على الفهم، أما إذا ما أنهيت المستويات الخمس ستفهم غالبًا، لكن ستفوتك أشياء.

وروي هذا الحديث عن غير عمر بن الخطاب، لكنه لا يصح بالاتفاق، ما صح هذا الحديث إلا عن عمر.

هذا من حيث اللفظ، أما من حيث المعنى فالأدلة كثيرة التي تدل على وجوب تصحيح النيات.

وقد اختلف العلماء في سبب إدخال هذا الحديث في "باب بدء الوحي"، مع أنه ليس فيه ذلك، ما في شيء من ذكر الوحي هنا في حديث إنما الأعمال بالنيات، إذن أين الشاهد؟ لماذا أدخل البخاري رحمه الله هذا الحديث في هذا الموضع؟

الإمام البخاري إمام عالم كبير وفقيه وهو يكتفي بالإشارة في مواضع كثيرة من كتابه، لذلك قال أهل العلم: "تبويبات البخاري حيرت العلماء" حتى يستطيعوا أن يفهموا هذه الإشارات التي وضعها الإمام البخاري رحمه الله في تأليفه هذا، هذه منها، لماذا أدخل هذا الحديث في هذا الباب؟

حقيقة ما وجدت إجابة شافية لهذا الموضوع، لكن نذكر لكم بعض ما قاله أهل العلم.

- قال بعضهم: أراد بيان حسن نيته.

قال ابن رشيد: "لم يقصد البخاري بإيراده سوى بيان حسن نيته في هذا التأليف، وقد تكلفت مناسبته للترجمة، فقال كلٌ بحسب ما ظهر له". انتهى.

وهذا الكلام ردوه، قالوا لو كان هذا الكلام صحيحًا لوضع هذا الحديث قبل التبويب، لا بعد التبويب، لما يضعه بعد التبويب إذن له مناسبة في التبويب.

لذلك بعض من استخرج على الصحيح وضع هذا الحديث قبل التبويب في إشارة إلى هذا المعنى.

- وقال بعضهم: إنه أراد أن يقيمه مقام الخطبة للكتاب.

يعني الإمام البخاري رحمه الله ما بدأ بخطبة للكتاب، مقدمة يعني، بدأ بالموضوع مباشرة، فقالوا: وضع هذا الحديث كخطبة للكتاب يعني كمقدمة للكتاب.

لكن لو نظرنا في كتب هذه الحقبة من الزمن من أئمة السلف رحمهم الله نجد غالبهم ما يكون قد بدأ بخطبة للكتاب أصلًا، قليل منهم من كان يبدأ بخطب كما فعل مسلم رحمه الله، لكن لو نظرت في سنن أبي داوود والترمذي النسائي وابن ماجه ما تجدهم قد بدؤوا بخطبة.

- وقال المهلب ما محصله -مهلب بن أبي صفرة-: قصد البخاري الإخبار عن حال النبي في حال منشئه، وأن الله بغض إليه الأوثان، وحبب إليه خلال الخير ولزوم الوحدة فرارًا من قرناء السوء، فلما لزم ذلك أعطاه الله على قدر نيته، ووهب له النبوة، كما يقال الفواتح عنوان الخواتم، والله أعلم.

هذا أنسب، هذا أنسب لتعلقه ببدء الوحي.

على كل هي كلها اجتهادات والله أعلم بمراد البخاري رحمه الله.

القارئ: قال رحمه الله: "حدثنا عبد الله بن يوسف، قال، أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله : (أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي فيفصم عني، وقد وعيت عنه ما قال وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلًا فيكلمني فأعي ما يقول) قالت عائشة رضي الله عنها: "ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصَّد عرقًا".

هذا الحديث الثاني من أحاديث بدء الوحي.

"عبد الله بن يوسف": التنيسي، أبو محمد الكلاعي، نزل تنيس من عمل مصر، وأصله دمشقي، ثقة، متقن، وهو من أتقن الناس وأثبتهم في الموطأ، كذا وصفه يحيى بن معين، توفي سنة 218ه، روى له البخاري وأبو داوود، والترمذي، والنسائي، يعني أن مسلمًا وابن ماجه لم يرويا عنه.

قال: "أخبرنا مالك" هذه "أخبرنا" تستعمل للقراءة، إذا قرؤوا على الشيخ قالوا: أخبرنا، في جماعة، ومالك رحمه الله كان السماع منه غالبه قراءة عليه، كانوا يقرؤون، يقرأ واحد والباقي يسمع.

"مالك": هو مالك بن أنس، بن مالك، بن أبي عامر الأصبحي الحميري، أبو عبد الله المدني، إمام دار الهجرة، ثقة، حافظ، إمام، فقيه، سلفي، أحد أئمة الإسلام، تواتر فضله وعلمه، ولد في المدينة ومات فيها سنة 179 هجري، بلغ 90 سنة، روى له الجماعة، وهو من أتباع تابعين.

قال: "عن هشام بن عروة" هشام بن عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي ثقة، فقيه، حجة، إمام، قال النسائي: "من الحفاظ" تابعي، ربما دلس عن أبيه في رواية أهل العراق عنه خاصة، حديث أهل المدينة عنه أقوى من حديث أهل العراق، وقالوا، تدليسه نادر، وأنكر بعض أهل العلم تدليسه أصلًا، مات سنة 145 أو 146ه، وله 87 سنة، روى له الجماعة.

"عن أبيه": أبوه عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي أبو عبد الله المدني، أبوه هو الزبير بن العوام، والد عروة هو الزبير بن العوام، وأمه هي أسماء بنت أبي بكر، وعائشة خالته، وأخوه عبد الله بن الزبير، كلهم صحابة، هو ليس صحابيًا، هو تابعي، ثقة، فقيه، حافظ، عالم فاضل مشهور، أحد فقهاء المدينة السبعة.

إذا قيـــــــل من في العلم سبعــــــــة أبحر ***** روايتهم ليســــــــت عن العلم خارجة

فقل هم عبيد الله، عروة، قاســــــــــــــــم ***** سعيد، أبو بكر، سليمان، خارجة

هؤلاء هم فقهاء المدينة السبعة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وخارجة بن زيد، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وسليمان بن يسار، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود. وكلهم من أبناء الصحابة، إلا سليمان فأبوه يسار لا صحبة له.

وعروة المذكور في البيت هو ابن الزبير، مات رحمه الله سنة 94 على الصحيح، ومولده في أوائل خلافة عثمان رضي الله عنه ورحمه، روى له الجماعة.

"عائشة": هي أم عبد الله، أم المؤمنين، وأم المؤمنين هذا مأخوذ من قوله تعالى: ﴿وأزواجه أُمَّهَاتُهُم﴾ أي: في الاحترام وتحريم نكاحهن، وهي زوج النبي ، بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، حبيبة النبي ، المبرأة من فوق سبع سماوات، كانت عالمة، فاضلة، تقية، صالحة، أفقه النساء مطلقًا، وأفضل نساء النبي إلا خديجة ففيها خلاف، ماتت سنة 57ه، وقد قاربت السبعين، روى لها الجماعة، وكان القاسم، وعروة، وعَمرة أعلم الناس بحديثها.

"الحارث بن هشام" بن المغيرة المخزومي أبو عبد الرحمن المكي، أخو أبي جهل شقيقه، أسلم يوم الفتح، وكان من فضلاء الصحابة، وقتل في فتوح الشام في خلافة عمر، روى له ابن ماجه.

قولها: "سأل" هذا المحفوظ في الحديث، "سأل" المحفوظ في الحديث، عائشة تروي الحادثة، فتكون عائشة حضرت ذلك، هذا الظاهر، فالحديث من مسند عائشة لا من مسند الحارث، وذكرنا هذا لسبب سيأتي إن شاء الله.

"فقال يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟" أي: كيف يأتيك حامل الوحي؟ هذا الحديث لكيفية إتيان الوحي، لا لبدء الوحي، هذا يبيّن لنا أن البخاري رحمه الله ما أراد فقط بيان بدء الوحي، أيضًا حتى كيفية بدء الوحي يريدها، وهي مما يتعلق بالموضوع،

"فقال رسول الله : (أحيانًا)" أحيانًا: جمع حين، ويطلق على كثير الوقت وقليله، والمراد به هنا مجرد الوقت، فكأنه قال: أوقاتًا يأتيني كذا وكذا.

رواه البخاري من وجه آخر، عن هشام في بدء الخلق، قال: (كل ذلك يأتي الملك) أي: كل ذلك حالتان، فذكرهما.

"(فيأتيني الملك بالوحي مثل صلصلة الجرس)" في رواية مسلم: (في مثل صلصلة الجرس)

الصلصلة في الأصل: صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، ثم أطلق على كل صوت له طنين.

والجرس: هو الجلجل الذي يعلق في رقبة الدواب.

قال أهل العلم: يعني قوة صوت الملك بالوحي، وهذا لماذا يكون قويًا بهذا الشكل؟ قالوا: ليشغله عن أمور الدنيا، ويفرغ حواسه للصوت الشديد الذي يأتيه.

قال: "(وهو أشده علي)" هذا يفهم منه أن الوحي كله شديد على النبي ، ولكن هذه الصفة أشدها، وهذا المفهوم صحيح لأن النبي كما سيأتي ذكر من الحالات في نزول الوحي من العرق الشديد والاحمرار في وجه ما يدل على شدة الوحي عليه .

قال أهل العلم: فائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة من زيادة الأجر ورفعة الدرجات.

"(فيَفصم)" وفي نسخة: (فيُفصم)، وكلاهما صحيح، أي: يقلع الوحي ويتجلى ما يغشاني، وأصل الفصم: القطع، ومنه قوله تعالى: ﴿لا انفصام لها﴾.

قال: "(فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال)" يعني وقد فهمت عنه ما قال وحفظته.

"(وأحيانًا يتمثل لي)" أي يتصور لي "(الملك رجلًا)" يعني أحيانًا يأتيني الملك في صورة رجل.

"الملك" ألف ولام العهدية هذه؛ من هو الملك؟ هو جبريل، وقد وقع التصريح به في رواية خارج الصحيح، وفيه دليل على أن الملك يتشكل بشكل البشر، وجاء هذا صريحًا في رواية قال فيها: (نزل جبريل في صورة دحية الكلبي)

"(فيكلمني فأعي ما يقول)" في رواية خارج الصحيح: (وهو أهونه علي)

"قالت عائشة رضي الله عنها" هو بالإسناد الذي قبله، هذا حديث ثان، هذا حديث آخر لكنه بالإسناد المتقدم، وما قال "و" قالت.

يذكر هنا الحافظ ابن حجر من خلال الاستقراء أنه إذا جاء الإمام البخاري بحرف العطف، فهنا يكون تعليقًا، أما إذا لم يأت به، فيكون تابعًا للإسناد الذي قبله.

ومسلم رحمه الله أخرج الحديثين وفصل بينهما. وكذلك فعل غيره.

قالت: "ولقد رأيته ينزل عليه الوحي" رأت النبي ينزل عليه الوحي "في اليوم الشديد البرد" يعني في اليوم البارد برودة شديدة "وإن جبينه ليتفصد عرقًا" وهذا دلالة على كثرة معاناة النبي وتعبه عند نزول الوحي، فنزول العرق في اليوم الشديد البرد هذا دليل على شدة التعب والمعاناة والجهد الذي يبذله .

وأيضًا يدل على شدة المعاناة ما جاء في بعض الأحاديث أنه النبي : "أن وجهه يحمر احمرارًا شديدًا، ويصيبه غطيط" وهذان مذكوران في حديث يعلى بن أمية.

وكذلك "لما كان النبي نائمًا على فخذ زيد بن ثابت، ووجد زيد شدة على فخذه لما نزل الوحي على النبي حتى كادت فخذه ترتض.

قال ابن إسحاق: "وللنبوة أثقال ومؤنة لا يحملهما ولا يستطيع لها إلا أهل القوة والعزم من الرسل، بعون الله عز وجل".

لَيتفصد: مأخوذ من الفصد: وهو قطع العرق لإسالة الدم، شبّه جبينه بالعرق المفصود، قالوا هذا مبالغة في كثرة العرق، وهذه كثرة العرق في اليوم البارد الشديد البرودة، يدل على شدة الأمر عليه .

هذا الحديث متفق عليه، ومداره على هشام بن عروة تفرد به، ورواه عنه جمع، وحصل فيه اختلاف عليه.

سئل الدارقطني عن هذا الحديث فقال: "يرويه هشام بن عروة، واختلف عنه، فرواه عامر بن الصالح الزبيري، وابن هشام بن عروة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن الحارث" فصار من مسند من؟ من مسند الحارث لا من مسند عائشة، قال: "فأسنداه عن عائشة عن الحارث، ورواه أيوب السختياني، عن هشام، عن أبيه، عن الحارث بن هشام، ولم يذكر عائشة" عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة، عن الحارث، ما فيش عائشة أصلًا، هذه صورة ثانية، قال: "وأصحاب هشام الحفاظ عنه يروونه عن هشام عن أبيه عن عائشة أن الحارث بن هشام سأل رسول الله فيكون مسندًا عن عائشة، وهو الصحيح". انتهى كلام الدارقطني.

من حيث العدد حفاظ كثر، ومن حيث الحفظ هم أحفظ وأتقن لحديث هشام من غيرهم، فلذلك رجح الدارقطني هذا الذي فعله البخاري ومسلم، حيث أخرجاه من حديث عائشة لا من مسند الحارث، لا بذكر عائشة، ولا من غير ذكرها، هو من حديث عائشة روته عن النبي بسؤال الحارث له، فالراجح هو ما فعله البخاري ومسلم رحمهما الله، جعلاه من مسند عائشة.

دراسة مثل هذه العلل تبين لك منزلة الصحيحين وقوة هذين الكتابين، خاصة صحيح البخاري، عندما يمر معك حديث فيه تعليل كهذا ركز عليه وادرسه جيدًا، وانظر ترجيح البخاري، في النهاية ستجد عجبًا من قوة علم هذا الرجل ومن حسن اختياراته.

قال البغوي: "هذا حديث متفق على صحته" هذه الخلاصة.

والحمد لله، ونكتفي بهذا القدر اليوم، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى. والله أعلم.

قائمة الخيارات
0 [0 %]
الاحد 1 ذو الحجة 1444
عدد المشاهدات 243
جميع الحقوق محفوظة لشبكة الدين القيم © 2008-2014 برمجة وتصميم طريق الآفاق