الاثنين 10 صفر 1447 هـ
04 اغسطس 2025 م
جديد الموقع   تفسير القرآن: تفسير سورة يوسف 43-104   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-103 كتاب الصلاة، الحديث 477و478و479و480و481و482   الصوتيات: شرح سنن الترمذي الدرس 12 الحديث 53و54و55و56و57   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-101 كتاب الصلاة، الحديث 468و469و470و471   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-100 كتاب الصلاة، الحديث 463و464و465و466و467   الصوتيات: شرح سنن الترمذي الدرس 11 الحديث 48و49و50و51و52   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-99 كتاب الصلاة، الحديث 458و459و460و461و462   الصوتيات: شرح سنن الترمذي الدرس 10 الحديث 38و39و40و41و42و43و44و45و46و47   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-98 كتاب الصلاة، الحديث 453و454و455و456و457   الصوتيات: شرح سنن الترمذي الدرس 9 الحديث 32و33و34و35و36و37      

تفسير سورة يوسف 43-104

تفسير سورة يوسف43-104

﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)﴾

قال السعدي: "لما أراد الله تعالى أن يخرج يوسف من السجن، أرى الله الملك هذه الرؤيا العجيبة، الذي تأويلها يتناول جميع الأمة، ليكون تأويلها على يد يوسف، فيظهر من فضله، ويبين من علمه ما يكون له رفعة في الدارين، ومن التقادير المناسبة أن الملك الذي ترجع إليه أمور الرعية هو الذي رآها، لارتباط مصالحها به.

وذلك أنه رأى رؤيا هالته، فجمع لها علماءَ قومه وذوي الرأي منهم" {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى} رأيت في المنام {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ} أي يأكلهن سبع بقرات {عِجَافٌ} هزيلات، عكس السمان، قال السعدي: "وهذا من العجب، أن السبع العجاف الهزيلات اللاتي سقطت قوتُهُن، يأكلن السبعَ السمان التي كنَّ نهاية في القوة".

قال: {وَ} رأيتُ في المنام {سَبْعَ سُنْبُلاتٍ} جمع سُنبلة، وهي جزء النبات الذي يتكون فيه الحب {خُضْرٍ} جمع خضراء {وَ} رأيت سبعاً {أُخَرَ} أي ورأيت سبعَ سنبلات أخر {يَابِسَاتٍ} قالوا: أَي: سبع سنبلات يابسة اِلتَوت على الْخُضْر حَتَّى غلبت عَلَيْهَا فَلم يبْق من خُضْرتها شَيْء. وقالوا: لم يذكر هذه التتمة اكتفاء بما ذكره في البقر. والله أعلم.

قال الملك: {يَا أَيُّهَا الْمَلأ} يا أيُّها السادةُ والأشرافُ مِن رجالى وأصحابي {أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ} عبروا لي هذه الرؤيا، وفسروها لي {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} إن كان عندكم علم بتعبير الرؤيا.

فتحيروا، ولم يعرفوا لها وجها.


﴿قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)﴾

و {قَالُوا} قال هؤلاء الملأ الذين سألهم الملك عن الرؤيا: {أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} أَخْلاطُ أحلام كاذبة، لا حقيقة لها.

قال الطبري: "وهي جمعُ ضِغْثٍ، والضِّغْثُ أصلُه: الحُزْمةُ مِن الحَشيشِ، تُشَبَّهُ بها الأحلامُ المختلطةُ، التي لا تأويل لها.

والأحلامُ جمعُ حُلْمٍ، وهو: ما لم يَصْدُقُ مِن الرُّؤْيا. انتهى

{وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ} المختلطة التي من الشيطان {بِعَالِمِينَ} إنما نعبر الرؤيا الصادقة.

﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)﴾

{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا} أي: من الفتيين، وهو: الذي رأى أنه يعصر خمرا، وهو الذي أوصاه يوسف أن يَذكره عند ربه {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي: وتذكر الفتى يوسف، وما جرى له في تعبيره لرؤياهما، وما وصاه به، وعلم أنه القادر على تعبير هذه الرؤيا بعد مدة من السنين، فقال: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} أنا أخبركم بتأويل ما رآه الملك، بسؤال من له علم بتأويلها {فَأَرْسِلُونِ} فابعثني -أيها الملك- إلى يوسف لأسأله عنها.

فأرسله الملك، فجاء الفتى إلي يوسف، ولم يعنفه يوسف على نسيانه، بل استمع إلى ما يسأله عنه، وأجابه عن ذلك.

﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)﴾

فقال الفتى: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} أي: كثير الصدق في أقواله وأفعاله {أَفْتِنَا} أخبرنا عن تأويل هذه الرؤيا: {فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ} إلى الملك ومن عنده {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} تعبير رؤيا الملك؛ فإنهم متشوقون لتعبيرها، ولعلهم يعلمون فضلك ومكانتك.

﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)﴾

فعبر يوسف له الرؤيا، قال السعدي: قال -أي يوسف-: "السبع البقرات السمان والسبع السنبلات الخضر، بأنهن سبع سنين مخصبات، والسبع البقرات العجاف، والسبع السنبلات اليابسات، بأنهن سنين مجدبات، ولعل وجه ذلك - والله أعلم - أن الخصب والجدب لما كان الحرث مبنيا عليه، وأنه إذا حصل الخصب قويت الزروع والحروث، وحسن منظرها، وكثرت غلالها، والجدب بالعكس من ذلك.

وكانت البقر هي التي تحرث عليها الأرض، وتسقى عليها الحروث في الغالب، والسنبلات هي أعظم الأقوات وأفضلها، عبرها بذلك، لوجود المناسبة، فجمع لهم في تأويلها بين التعبير والإشارة لما يفعلونه، ويستعدون به من التدبير في سني الخصب، إلى سني الجدب". انتهى

{قال} يوسف {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} أي: متتابعات.

{فَمَا حَصَدْتُمْ} في كل سنة من تلك السنين من تلك الزروع {فَذَرُوهُ} فاتركوه {فِي سُنْبُلِهِ} في سنابله؛ منعًا له من التسوّس {إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ} إلا قليلًا مما تحتاجون لأكله من الحبوب.

﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)﴾

{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي: بعد تلك السنين السبع المخصبات {سَبْعٌ شِدَادٌ} أي: مجدبات جدًا {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} أي: يأكل الناس فيها جميعَ ما ادخروه ولو كان كثيرا {إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ} أي: مما تحفظونه.

﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)﴾

{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي: بعد السبع الشداد {عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} ثم يجيء بعد تلك السنين المجدبة عام تنزل فيه الأمطار، وتنبت الزروع {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} ويعصر فيه الناس ما يحتاج للعصر كالعنب والزيتون والقصب.

"ولعل استدلاله على وجود هذا العام الخصب، مع أنه غير مصرح به في رؤيا الملك؛ لأنه فهم من التقدير بالسبع الشداد، أن العام الذي يليها يزول به شدتها، ومن المعلوم أنه لا يزول الجدب المستمر سبع سنين متواليات، إلا بعام مخصب جدا، وإلا لما كان للتقدير فائدة.

فلما رجع الرسول إلى الملك والناس، وأخبرهم بتأويل يوسف للرؤيا، عجبوا من ذلك، وفرحوا بها أشد الفرح". انتهى

﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)﴾

{وَقَالَ الْمَلِكُ} لمن عنده {ائْتُونِي بِهِ} أي: بيوسف عليه السلام، بأن يخرجوه من السجن ويحضروه إليه {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ} فلما جاء الرسولُ إلى يوسف، وأمره بالحضور عند الملك. قال السعدي: "امتنع يوسف عن المبادرة إلى الخروج، حتى تتبين براءته التامة، وهذا من صبره وعقله ورأيه التام".

فـ {قَالَ} للرسول: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} إلى سيدك يعني به الملك {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} اللاتي جرّحن أيديهن، أي: اسأله ما شأنهن وقصتهن، فإن أمرهن ظاهر متضح {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} إن ربي بما صنعن بي من المُرَاودة عليم، لا يخفى عليه شيء من ذلك.

﴿قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)﴾

فأحضرهن الملك {وقال} الملك للنسوة {مَا خَطْبُكُنَّ} أي: ما شأنكن {إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} حين طلبتن من يوسف بحيلة؛ عمل الفاحشة؟

فبرَّأنه و{قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} أي: لا قليل ولا كثير فـ {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} الآن ظهر الحق وتبين {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} أنا حاولت إغواءه ولم يحاول إغوائي {وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} في أقواله وبراءته.

﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)﴾

{ذَلِكَ} الإقرار، الذي أقررت أني راودت يوسف {لِيَعْلَمَ} يوسف {أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} لم أخنه في حال غيبته عني ولم أفتر عليه {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} فإن كل خائن، لا بد أن تعود خيانته ومكره على نفسه، ولا بد أن يتبين أمره.
﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)﴾

قال السعدي: "ثم لما كان في هذا الكلام نوعُ تزكيةٍ لنفسها، وأنه لم يجر منها ذنب في شأن يوسف، استدركت فقالت: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} أي: من المراودة والهمِّ، والحرص الشديد، والكيد في ذلك {إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} أي: لكثيرة الأمر لصاحبها بالسوء، أي: الفاحشة، وسائر الذنوب، فإنها مَركبُ الشيطان، ومنها يدخل على الإنسان {إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي} إلا ما رحمه الله من النفوس، فعصمها من الأمر بالسوء، حتى صارت نفسه مطمئنة إلى ربها، منقادة لداعي الهدى، متعاصية عن داعي الردى، فذلك ليس من النفس، بل من فضل الله ورحمته بعبده.

{إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ} لمن تاب من عباده {رَحِيمٌ} بهم.

قال السعدي: "وهذا هو الصواب أن هذا من قول امرأة العزيز، لا من قول يوسف، فإن السياق في كلامها، ويوسف إذ ذاك في السجن لم يحضر". انتهى


﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)﴾

يقول تعالى إخبارًا عن الملك حين تحقق براءة يوسف، عليه السلام، ونزاهة عرْضه مما نسب إليه، قال الملك لأعوانه: {ائْتُونِي بِهِ} أي: أخرجوا يوسف من السجن وأحضروه إلي {أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} قال ابن كثير: "أي: أجعله من خاصّتي وأهل مشورتي"، وقال غيره: "أَيْ أَجْعَلُهُ خَالِصًا لِنَفْسِي، أُفَوِّضُ إِلَيْهِ أَمْرَ مَمْلَكَتِي" {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} أعجبه كلامه، وعلم ما هو عليه من خَلْق وخُلُق وكمال، فقال له: {إِنَّكَ} يا يوسف قد صرت {الْيَوْمَ لَدَيْنَا} أي: عندنا {مَكِينٌ أَمِينٌ} ذا مكانة وأمانة.

﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)﴾

فـ {قَالَ} يوسف للملك: {اجْعَلْنِي} ولني {عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ} أي: على خزائن جبايات الأرض وغلالها، يعني الأموال والخيرات التي تخرج من الأرض، اجعلني عليها وكيلا حافظا مدبرا.

{إِنِّي} خازن {حَفِيظٌ عَلِيمٌ} وهذا ما يحتاجه هذا العمل.

يوسف عليه السلام مدح نفسه وسأل الوِلاية، وكلاهما منهي عنه؛ لذلك قال ابن كثير:
"مدح نفسه، ويجوز للرجل ذلك إذا جُهِل أمره، للحاجة.

وذكر أنه (حَفِيظٌ) أي: خازن أمين (عَلِيمٌ) ذو علم وبصرٍ بما يتولاه.

قال شيبة بن نَعَامة: حفيظ لما استودعتني، عليم بِسِني الجَدْب. رواه ابن أبي حاتم.

وسأل العمل لعلمه بقدرته عليه، ولِما في ذلك من المصالح للناس، وإنما سأل أن يُجْعَل على خزائن الأرض، وهي الأهرام التي يُجمع فيها الغلات، لما يستقبلونه من السنين التي أخبرهم بشأنها، ليتصرف لهم على الوجه الأحوط والأصلح والأرشد، فأجيب إلى ذلك رغبةً فيه، وتكرِمَةً له؛ ولهذا قال تعالى وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ.. ". انتهى

قال ابن تيمية: وأما سؤال الوِلاية فقد ذمه النبي صلى الله عليه وسلم، وأما سؤال يوسف في قوله: {‌اجْعَلْنِي ‌عَلَى ‌خَزَائِنِ ‌الْأَرْضِ}؛ فلأنه كان طريقا إلى أن يدعَوهم إلى الله، ويعدلَ بين الناس، ويرفعَ عنهم الظلم، ويفعلَ مِن الخير ما لم يكونوا يفعلوه.." إلى آخر ما قال، ولكلامه تتمة ينظر في موضعه.

﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)﴾

قال تعالى: {وَكَذَلِكَ} أي وكما مَنَنَّا على يوسف بالبراءة والخلاص من السجن {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ} مننَّا عليه بالتمكين له في أرض مصر {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} قال الطبري: "يتخذ منها منزلا حيث يشاء، بعد الضيق والحبس والإسار" {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ} نعطي من رحمتنا في الدنيا من نشاء من عبادنا.

{وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} بل نوفيهم إياه كاملًا غير منقوص.

قال ابن كثير: "أي: وما أضعنا صبر يوسف على أذى إخوته، وصبرَه على الحبس بسبب امرأة العزيز؛ فلهذا أعقبه اللهُ عز وجل السلامة والنصر والتأييد".

﴿وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)﴾

{وَلأجْرُ الآخِرَةِ} ولَثوابُ الله الَّذي أعدّه في الآخرة {خَيْرٌ} من أجر الدنيا {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} قال السعدي: أي: لمن جمع بين التقوى والإيمان، فبالتقوى تترك الأمور المحرمة من كبائر الذنوب وصغائرها، وبالإيمان التام يحصل تصديق القلب، بما أمر الله بالتصديق به، وتتبعه أعمال القلوب وأعمال الجوارح، من الواجبات والمستحبات".

قال ابن كثير: " يخبر تعالى أن ما ادخره الله لنبيه يوسف، عليه السلام، في الدار الآخرة أعظم وأكثر وأجل، مما خوله من التصرف والنفوذ في الدنيا كما قال تعالى في حق سليمان، عليه السلام: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 39، 40]".

﴿وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)﴾

قال السعدي: أي: لما تولى يوسف عليه السلام خزائن الأرض، دبرها أحسن تدبير، فزرع في أرض مصر جميعها في السنين الخصبة، زروعا هائلة، واتخذ لها المحلات الكبار، وجبا من الأطعمة شيئا كثيرا وحفظه، وضبطه ضبطا تاما، فلما دخلت السنون المجدبة، وسرى الجدب، حتى وصل إلى فلسطين، التي يقيم فيها يعقوب وبنوه، فأرسل يعقوب بنيه لأجل الميرة إلى مصر".

{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ} وقدم إخوة يوسف إلى أرض مصر ببضاعة لهم {فَدَخَلُوا عَلَيْهِ} على يوسف {فَعَرَفَهُمْ} عرف أنهم إخوته {وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} أي: لم يعرفوه؛ لطول المدة وتغير هيئته؛ لأنه كان صبيًّا حين رموه في البئر.

﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)﴾

{وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} ولما أعطاهم ما طلبوه من المِيرَة، ووَفَّاهم كيلهم، وحمل لهم أحمالهم.

{قَالَ} يوسف لهم: {ائْتُونِي} جيئوني {بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} وهو شقيق يوسف، ثم رغبهم في الإتيان به فقال: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ} أكمل الكيل ولا أنقصه {وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزلِينَ} وأنا خير المضيفين.

﴿فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)﴾

ثم رهبهم بعدم الإتيان به، فقال: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ} أي: إن لم تقدموا به معكم في المرة الثانية، فليس لكم عندي ميرة، فلن أعطيكم شيئا.

وهو يعلم اضطرارهم إلى الإتيان إليه، وسيحملهم هذا على الإتيان به.

﴿قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)﴾

فـ {قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} فأجابه إخوته قائلين: سنحرص على مجيئه إليك بكل ما يمكننا، ولا نبقي مجهودا في ذلك {وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} لما أمرتنا به.

﴿وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)﴾

{وَقَالَ} يوسف {لِفِتْيَانِهِ} لغلمانه الذين في خدمته: {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ} أي: الثمن الذي دفعوه مقابل الطعام الذي أخذوه، قال ابن كثير: " وهي التي قدِموا بها ليمتاروا عِوضًا عنها" {فِي رِحَالِهِمْ} أي: في أمتعتهم من غير أن يشعروا بذلك {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا} أي: يعرفون بضاعتهم {إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ} إذا رجعوا إلى أهلهم فرأوها في رحالهم {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} بها.

قال ابن كثير: قيل: خشي يوسف، عليه السلام، ألا يكون عندهم بضاعة أخرى يرجعون للميرة بها.

وقيل: تذمم -أي استحيى- أن يأخذ من أبيه وإخوته عوضا عن الطعام.

وقيل: أراد أن يردهم إذا وجدوها في متاعهم تحرجًا وتورعًا؛ لأنه يعلم ذلك منهم. والله أعلم". انتهى

﴿فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)﴾

{فَلَمَّا رَجَعُوا} فلما رجع أخوة يوسف {إِلَى أَبِيهِمْ} يعقوب، وأخبروه بما حصل معهم {قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} أي: لم يعطنا يوسف الطعام مرة أخرى إن لم ترسل معنا أخانا {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ} الطعام، أي: ليكون ذلك سببا لكيلنا، ثم التزموا له بحفظه، فقالوا: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} من أن يصيبه مكروه.

﴿قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)﴾

{قَالَ} لهم يعقوب عليه السلام: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} أي: قد تعهدتم من قبل بحفظ يوسف، ومع هذا لم تفوا بما تعهدتم به، فلا أثق بالتزامكم وحفظكم، وإنما أثق بالله تعالى.

{فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا} لمن أراد حفظه {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} أي: يعلم حالي، وأرجو أن يرحمني، فيحفظه ويرده علي.

قال السعدي: "وكأنه في هذا الكلام قد لان لإرساله معهم".

﴿وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)﴾

{وَ} إنهم {لَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ} أوعية طعامهم {وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ} وجدوا بضاعتهم التي كانوا دفعوها ثمنا للطعام {رُدَّتْ إِلَيْهِمْ} قال السعدي: "هذا دليل على أنه قد كان معلوما عندهم أن يوسف قد ردها عليهم بالقصد، وأنه أراد أن يملكهم إياها".

فـ {قَالُوا} لأبيهم - ترغيبا في إرسال أخيهم معهم -: {يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي} أي: أي شيء نطلب بعد هذا الإكرام الجميل، حيث وفَّى لنا الكيل، ورد علينا بضاعتنا على الوجه الحسن.

{هَذِهِ بِضَاعَتُنَا} التي هي ثمن طعامنا {رُدَّتْ إِلَيْنَا} ردها إلينا تفضلًا منه علينا {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} أي: إذا ذهبنا بأخينا صار سببا لكيله لنا، ونجلب الطعام لأهلنا {وَنَحْفَظُ أَخَانَا} من الضياع أو أن يصيبه مكروه {وَنزدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} بإرساله معنا، فإنه يكيل لكل واحد حِملَ بعير {ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ}

قال السمعاني: "فِيهِ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: ذَلِك كيل قَلِيل؛ يَعْنِي: مَا حملناه قَلِيل لَا يكفينا وأهلنا، فَأرْسل مَعنا أخانا؛ ليكْثر مَا نحمله من الطَّعَام.

وَالْمعْنَى الثَّانِي: ذَلِك كيل يسير أَي: هَين على من يكتاله".

﴿قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)﴾

فـ {قَالَ} لهم يعقوب: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنْ اللَّهِ} أي: عهدا مؤكداً، وتحلفون بالله {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} لتُرجعونه إليَّ {إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} أي: إلا أن يأتيكم أمر لا قبل لكم به، ولا تقدرون على دفعه {فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} فلما أعطوه عهد الله المؤكد على ذلك {قَالَ} يعقوب {اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} أي: الله شهيد علينا بأن نوفيَ بما نقول جميعاً.

قال ابن كثير: قال ابن إسحاق: وإنما فعل ذلك؛ لأنه لم يجد بداً من بعثه؛ لأجل الميرة، التي لا غنى لهم عنها، فبعثه معهم".

﴿وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)﴾

ثم لما أرسله معهم وصاهم، إذا هم قدموا مصر {وَقَالَ لا تَدْخُلُوا} مصر {مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} كلكم {وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} قال غير واحد من السلف: قال لهم ذلك لأنه خاف عليهم العين. أي خاف أن تصيبهم العين؛ لأنهم كانوا ذوي جمال وأبناءَ رجل واحد.

قال السمعاني: "أَكثر الْمُفَسّرين على أَنه خَافَ الْعين: لِأَنَّهُ كَانُوا أعْطوا جمالا وَقُوَّة وامتداد قامة، هَذَا قَول ابْن عَبَّاس وَغَيره من الْمُفَسّرين؛ وَالْعين حق. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه كَانَ يعوذ الْحسن وَالْحُسَيْن فَيَقُول: "أُعِيذكُمَا بِكَلِمَات الله التَّامَّة من كل شَيْطَان وهَامة، وَمن كل عين لَامة "

وَفِي الْبَاب أَخْبَار كَثِيرَة، وَفِي بعض الْآثَار: " الْعين حق، تدخل الْجمل الْقدر وَالرجل الْقَبْر". انتهى

{وَ} إلا فـ {مَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} أي هذا الفعل لا يرد قدر الله وقضاءه، فلا أقدر على دفع الضرر عنكم إن أراده الله بكم، فالمقدر لا بد أن يكون {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} ما القضاء والحكم إلا لله فلا راد لقضائه، فالقضاء قضاؤه، والأمر أمره، فما قضاه وحكم به لا بد أن يقع {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي: على الله وحده اعتمدت في كل أموري وبه وثقت، لا على ما وصيتكم به من السبب {وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} وعليه يعتمد المعتمدون، وَبِه يَثِق الواثقون.

﴿وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)

{وَلَمَّا} ذهبوا ومعهم أخوهم شقيق يوسف، و {دَخَلُوا} مصر {مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ} من أبواب متفرقة {مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} ما كان دخولهم من أبواب متفرقة يدفع عنهم شيئًا مما قدره الله عليهم {إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} وإنما هي شفقة يعقوب على أولاده ومحبته لهم، لذلك وصاهم بذلك، فحصل له بفعلهم ذلك نوع طمأنينة، وقضاء لما في خاطره.

وليس هذا قصورا في علمه، فإنه من الرسل الكرام والعلماء الربانيين، ولهذا قال عنه: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ} أي: لصاحب علم عظيم {لِمَا عَلَّمْنَاهُ}

قال السمعاني: قَالَ أهل التَّفْسِير: مَعْنَاهُ: وَأَنه كَانَ يعْمل مَا يعْمل عَن علم، لَا عَن جهل.

وَمِنْهُم من قَالَ: وَإنَّهُ لذُو علم بِسَبَب تعليمنا إِيَّاه". انتهى

وقال ابن كثير: قال قتادة والثوري: لذو عَمَل بعلمه.

وقال ابن جرير: لذو علم لتعليمنا إياه". انتهى

قَالَ سُفْيَانُ: مَنْ لَا يَعْمَلُ بِمَا يَعْلَمُ لَا يَكُونُ عَالِمًا.

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} قالوا: " لا يعلمون ما يعلم يعقوب؛ لأَنهم لم يسلكوا طَرِيق الْعلم"، وقال آخرون: " لَا يَعْلَمُ الْمُشْرِكُونَ مَا أَلْهَمَ اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ".


﴿وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)﴾

{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ} أي: لما دخل إخوة يوسف على يوسف {آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} أي: ضمه إليه، يعني شقيقَه الذي أمرهم بالإتيان به {قَالَ} يوسف لشقيقه سرّاً {إِنِّي أَنَا أَخُوكَ} يوسف {فَلا تَبْتَئِسْ} أي: فلا تحزن {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} لما كان يصنعه إخوتك من الأعمال الطائشة؛ من إيذاء وحقد علينا، وإلقائهم إياي في البئر؛ فإن العاقبة خيرٌ لنا.

﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)﴾

{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} أي فلما أمر يوسف خَدَمه بتحميل إبل إخوته بالطعام {جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} جعل يوسف إناء الملك الذي يشرب به ويكيل به الطعام في متاع أخيه الشقيق دون علمهم، حيلة منه حتى يتمكن من أخذ أخيه وإبقائه عنده.
قال الطبري: "جعَل الإناءَ الذي يكِيلُ به الطعامَ في رحْلِ أخيه.

والسِّقايةُ هي المِشْرَبةُ، وهى الإناءُ الذي كان يشْربُ فيه الملِكُ، ويكِيلُ به الطعامَ".

فجهزوا أنفسهم وجمعوا متاعهم {ثُمَّ} لما ارتحلوا عائدين إلى أهلهم {أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} نادى منادٍ {أَيَّتُهَا الْعِيرُ} يا أصحاب الإبل المحملة بالمِيرة {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}.

﴿قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71)﴾

{قَالُوا} أي: إخوة يوسف {وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ} وأقبلوا على المنادي ومن معه من أصحابه، وسألوهم {مَاذَا تَفْقِدُونَ} ماذا ضاع منكم حتى تتهمونا بالسرقة؟

﴿قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)﴾

{قَالُوا} قال المنادي ومن معه {نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} إناءُ الملكِ الذي يَشْرَبُ فيه {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ} ولمن وجده وجاء به إلينا {حِمْلُ بَعِيرٍ} من الطعامِ؛ أجرة له على وجدانه، قال المنادي الذي ناداهم: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} وأنا ضامن له ذلك.

أي ضاع منَّا صاع الملك الذي يكيل به، ولِمن جاء بصاع الملك قبل التفتيش جُعلٌ أي مكافأة، وهو حِمل جمل من الطعام، وأنا ضامن له ذلك.

﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)﴾

{قَالُوا} قال أخوة يوسف {تَاللَّهِ} هذا يمين، بمعنى والله، واليمين يكون بثلاثة حروف: تالله وبالله ووالله، هذه حروف القسم {لَقَدْ عَلِمْتُمْ} بما رأيتموه من أحوالنا أننا {مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ} ومعنى الفساد في الأرض: فعل المعاصي فيها، ومنها السرقة {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} وما كنا في الماضي سارقين، حتى نسرق اليوم.

﴿قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74)﴾

{قَالُوا} قال المنادي وأصحابه {فَمَا جَزَاؤُهُ} أي: فما جزاء من سرقه عندكم في حكمكم؟ ماذا تحكمون عليه؟ {إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} في كونكم لم تسرقوه، وتبين أن أحدكم سرقه؟

﴿قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)﴾

{قَالُوا} قال لهم أخوة يوسف {جَزَاؤُهُ} جزاء السارق عندنا {مَنْ وُجِدَ} المسروق {فِي رَحْلِهِ} في وعائه {فَهُوَ} أي: الشخص الموجود في رحله المسروق {جَزَاؤُهُ} بأن يصير السارق ملكاً لصاحب السرقة، وكان هذا في دينهم أن السارق إذا ثبتت عليه السرقة كان ملكًا لصاحب المال المسروق، فيصير عبدًا له، ولهذا قالوا: {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} مثلُ هذا الجزاء بالاسترقاق نجزي السارقين.

﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)﴾

فأخذوهم إلى يوسف لتفتيش أوعيتهم {فَبَدَأَ} يوسف {بِـ} تفتيش {أَوْعِيَتِهِمْ} أوعية أخوته {قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ} الشقيق، حتى لا يشكوا في شيء، فلما لم يجد في أوعيتهم شيئا {اسْتَخْرَجَهَا} أخرج صواع الملك {مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} الشقيق، فصار من حقه أن يأخذ أخاه.

فتم ليوسف ما أراد من بقاء أخيه عنده، على وجه لا يشعر به إخوته.

قال تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} قال السعدي: "أي: يسرنا له هذا الكيد، الذي توصل به إلى أمر غير مذموم"

وقال الطبري: "هكذا صنَعْنا ليوسُفَ، حتى يُخلِّص أخاه لأبيه وأمِّه مِن إخوتِه لأبيه، بإقرارٍ منهم أَنَّ له أَنْ يَأْخُذَه منهم، ويحْتبِسَه في يديه، ويحُول بينه وبينهم، وذلك أنهم قالوا إذ قيل لهم: {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف: 74]: جزاءُ مَن سرَق الصُّواعَ أن من وُجد ذلك في رحلِه فهو مُسْتَرَقٌ به. وذلك كان حكمَهم في دينِهم، فكاد اللهُ ليوسُفَ كما وصَف لنا، حتى أخَذ أخاه منهم، فصار عندَه بحكمهم وصُنْعِ اللَّهِ له". انتهى

{مَا كَانَ} يوسف {لِيَأْخُذَ أَخَاهُ} فيضمه إلى نفسه {فِي دِينِ الْمَلِكِ}

قال البغوي: أَيْ: فِي حُكْمِهِ. قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي سُلْطَانِهِ. {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} يَعْنِي: أنَّ يُوسُفَ لَمْ يَكُنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ أخذ أَخِيهِ في حكم الْمَلِكِ لَوْلَا مَا كِدْنَا لَهُ بِلُطْفِنَا، حَتَّى وَجَدَ السَّبِيلَ إِلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مَا أَجْرَى عَلَى أَلْسِنَةِ الْإِخْوَةِ أَنَّ جَزَاءَ السَّارِقِ الِاسْتِرْقَاقُ، فَحَصَلَ مُرَادُ يُوسُفَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى".

قال تعالى: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} نرفع مراتب من نشاء من عبادنا بالعلم النافع، كما رفعنا مرتبة يوسف {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} فليس عالم إلا فوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى الله عز وجل.

﴿قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)﴾

فلما رأى إخوة يوسف ما رأوا {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ} هذا الأخ، فلا عجب {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} يعنون: يوسف عليه السلام، ومقصودهم تبرئة أنفسهم من التشبه به، ويذكرون أنه فَعَل كما فَعَل أخ شقيق له من قبل.

وكذبوا في هذا لم يسرق يوسف شيئًا وإنما أرادوا أن يبرئوا أنفسهم.

ولا يصح شيء في أن يوسف سرق أوثاناً في صغره.

{فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ} يعني: أسر في نفسه الكلمة التي بعدها، وهي قوله: (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ) قالها في نفسه {وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} لم يظهر الكلمة لهم ولم يقابلهم على ما قالوه بما يكرهون، بل كظم الغيظ. و {قَالَ} لهم في نفسه {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا} يَعْنِي: شَرّ صنيعًا، أي ما أنتم عليه من حسدٍ وصنيع سوءٍ كنتم صنعتموه بيوسف وأبيه، هو الشر حقيقة {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} والله أعلم بحقيقة ما تقولون من وصفنا بالسرقة، وأنه كذب وأنا براء منها.


﴿قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)﴾

{قَالُوا} قال إخوة يوسف ليوسف، وهم لا يعرفونه: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} في السن، يحبه كثيرًا وسيشق عليه فراقه {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} بدلًا منه، واتركه هو من أجل أبيه {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} في أفعالك؛ فأحسن إلينا وإلى أبينا بذلك.

﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)﴾

فـ {قَالَ} يوسف {مَعَاذَ اللَّهِ} أعوذ بالله، أي ألتجئ إلى الله وأعتصم به أن أقع في الظلم، وهو {أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} أي: هذا ظلم منا، لو أخذنا البريء بذنب غيره، وهو الذي وجدنا الصواع عنده {إِنَّا إِذًا} أي: إن أخذنا غير من وُجد الصواع في رحله {لَظَالِمُونَ} لأننا نكون وضعنا العقوبة في غير موضعها؛ حيث عاقبنا بريئًا، وتركنا الفاعل.

﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)﴾

{فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ} أي: فلما يئس إخوة يوسف من أن يسمح لهم يوسف بالرجوع بأخيهم {خَلَصُوا نَجِيًّا} أي: انفردوا عن الناس للتشاور فيما بينهم، فـ {قَالَ كَبِيرُهُمْ} أخوهم الكبير {أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} عهد الله مؤكدًا على أن تردوا إليه ابنه إلا أن يحاط بكم بما لا تقدرون على دفعه {وَمِنْ قَبْلُ} ومن قبل فعلكم هذا {مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ} فاجتمع عليكم الأمران، تفريطكم في يوسف السابق، وعدم إتيانكم بأخيه الآن، فليس لي وجه أواجه به أبي.

{فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ} فلن أترك أرض مصر، يعني لن أرجع معكم وسأبقى في مصر {حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} حتى يسمح لي أبي بالخروج منها {أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} أو يقضي الله لي بالخروج أو بأخذ أخي {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} والله خير القاضين، فهو يقضي بالحق والعدل.

﴿ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)﴾

وقال لهم أخوهم الكبير: {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} فأخذه عزيز مصر رقيقاً عقوبة له على سرقته {وَ} الحال أنا {مَا شَهِدْنَا} ما أخبرنا {إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} لأننا رأينا الصواع استخرج من رحله {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} أي: لو كنا نعلم الغيب لما حرصنا وبذلنا المجهود في ذهابه معنا، ولما أعطيناك عهودنا ومواثيقنا على أن نرده إليك.

﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)﴾

{وَاسْأَلِ} يا أبانا لتتحقق من صدقنا {الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} وهي مصر، أي اسأل أهل مصر {وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} واسأل أصحاب القافلة التي جئنا معها يخبروك بما أخبرناك به، فقد اطلعوا على ذلك وعلموه {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} لم نكذب ولم نغير ولم نبدل، بل هذا الواقع.

﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)﴾

فلما رجعوا إلى أبيهم وأخبروه بهذا الخبر، اشتد حزنه وتضاعف كمده، واتهمهم أيضا في هذه القضية، كما اتهمهم في الأولى، و{قَالَ} لهم أبوهم {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} بل زيّنت لكم أنفسكم أمرا أردتموه، أي ليس الأمر كما ذكرتم من كونه سرق، بل زيّنت لكم أنفسكم أن تمكروا به كما مكرتم بأخيه يوسف من قبل، {فَـ} صبري على ما أصابني من فقد ولدي {صَبْرٌ جَمِيلٌ} لا جزع فيه ولا شكاية، أي: سأصبر صبرا جميلا على فقدهم، والصبر الجميل هو الذي لا يصحبه تسخط ولا جزع، ولا شكوى للخلق، وقال {عَسَى اللَّهُ} أي أرجو من الله {أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ} أن يعيدهم إلي {جَمِيعًا} أي: يوسف وشقيقه وأخوهم الكبير الذي أقام في مصر.

{إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} الذي يعلم حالي، واحتياجي إلى فرجه ومنَّته {الْحَكِيمُ}

في تدبيره لأمري وأمر خلقه.

﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)﴾

{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ} أي: وابتعد يعقوب عليه الصلاة والسلام عن أولاده معرضاً عنهم بعد ما أخبروه هذا الخبر {وَقَالَ يَا أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ} يا شدة حزني على يوسف، اشتد به الأسف والأسى، و"الأسف هو: أشد الحزن والتندم" {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} وصار سواد عينيه بياضًا من كثرة ما بكى عليه {فَهُوَ كَظِيمٌ} أي: ممتلئ القلب من الحزن الشديد، وَلَا يذكرهُ للنَّاس.

قال الطبري: "فهو مكظومٌ على الحزنِ، يعنى أنه مملوءٌ منه ممسِكٌ عليه لا يُبِينُه".

وقال قتادة: "يُرَدِّدُ حزنَه في جوفِه ولم يَتَكَلَّمْ بسوءٍ".

﴿قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)﴾

فقال له أولاده {تَاللَّهِ} أي والله يا أبانا {تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} أي: لا تزال تذكر يوسف وتتفجع عليه {حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا} قال الطبري: "وأصلُ الحرَضِ: الفسادُ في الجسمِ والعقلِ؛ مِن الحزنِ أو العشقِ". انتهى

قَالَ ثَعْلَب - أَحْمد بن يحيى - الحَرَض: كل شَيْء لَا يُنْتَفع بِهِ.

قَالَ مُجَاهِد: الحرض مَا دون الْمَوْت.

وَقَالَ الْفراء: الحَرَض هُوَ الَّذِي فسد جِسْمه وعقله.

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الحرض هُوَ الَّذِي أذابه الْحزنُ.

وقال آخرون: حتى تَبْلَى أو تَهْرَمَ.

والمعنى قريب.

{أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} أو تموت فعلًا.

﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)﴾

{قَالَ} يعقوب {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي} أي ما أشكو همي {وَحُزْنِي} الذي في قلبي إلا {إِلَى اللَّهِ} وحده، لا إليكم ولا إلى غيركم من الخلق، فقولوا ما شئتم {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ} وأعلم من لطف الله وإحسانه {مَا لا تَعْلَمُونَ} ما لا تعلمونه أنتم.

قال بعض المفسرين: "أي أعلم من حَيَاة يُوسُف مَا لَا تعلمُونَ، وَقيل: أعلم من تَحْقِيق رُؤْيا يُوسُف مَا لَا تعلمُونَ".

﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)﴾
وقال يعقوب عليه السلام لبنيه: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا} إلى مصر {فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} أي: احرصوا واجتهدوا على التفتيش عنهما وطلب خبرهما {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} ولا تقنطوا من فرج الله.

قال ابن زيدٍ: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ}: مِن فرَجِ اللَّهِ، يُفَرِّجُ عنكم الغمَّ الذي أنتم فيه".

وقال السعدي: "فإن الرجاء يوجب للعبد السعي والاجتهاد فيما رجاه، والإياس: يوجب له التثاقل والتباطؤ، وأولى ما رجا العباد، فضل الله وإحسانه ورحمته ورَوحه".

{إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} إنه لا يقنط من فرَجِه ورحمتِه، ويَقْطَعُ رجاءَه منه إلا القوم الكافرون.

قال الطبري: يعنى: القومُ الذين يَجْحَدون قدرتَه على ما شاء تكْوينَه.

وقال السعدي: "فإنهم لكفرهم يستبعدون رحمته، ورحمته بعيدة منهم، فلا تتشبهوا بالكافرين.

ودل هذا على أنه بحسب إيمان العبد يكون رجاؤه لرحمة الله وروحه". انتهى


﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)﴾

فامتثَلُوا أمر أبيهم وذهبوا للبحث عن يوسف وأخيه {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ} أي: على يوسف {قَالُوا} له {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} أي: أصابتنا الشدة من الجدب والقحط والفقر {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} رديئة قليلة، ليس لها كبير قيمة حتى ندفعها لك ثمناً للطعام الذي نريده {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} فكِلْ لنا كيلًا وافيًا كما كنت تكيل لنا من قبل، مع كون البضاعة التي معنا لا تكفي لهذا {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} فتفضل علينا بالزيادة عن الواجب، أو بالتغاضي عن بضاعتنا الحقيرة {إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} إن الله يجازي المتصدقين بثواب الدنيا والآخرة.

﴿قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)﴾

فلما انتهى الأمر، وبلغ أشده، رقَّ لهم يوسف رقَّة شديدة، وعرَّفهم بنفسه، وعاتبهم {قال} يوسف لإخوته مذكرا لهم ما فعلوه به وبأخيه ومعاتباً: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} قال ابن كثير: "يعني: كيف فرقوا بينه وبينه"، وقال السعدي: "أما يوسف فظاهر فعلُهم فيه، وأما أخوه، فلعله والله أعلم قولهم: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} أو أن الحادث الذي فرَّق بينه وبين أبيه، هم السبب فيه، والأصل الموجب له". انتهى {إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} أي فعلتم ما فعلتموه وأنتم جاهلون؛ لأن كل عاص فهو جاهل.

وليس الجهل الذي هو عدم العلم بحرمة ما فعل.

قال قَتادةَ قوله: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرَأَوا أن كلَّ شيءٍ عُصِى به فهو جهالةٌ، عمدًا كان أو غيره. انتهى

قال ابن كثير: " أي: إنما حملكم على هذا الجهل بمقدار هذا الذي ارتكبتموه، كما قال بعض السلف: كل من عصى الله فهو جاهل، وقرأ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} إلى قوله: {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 119]". انتهى

﴿قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)﴾

فعرفوا أن الذي خاطبهم هو يوسف، فقالوا: {أَئِنَّكَ لأنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي} الشقيق {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} قد تفضل الله علينا بالخلاص مما كنا فيه والتمكين في الدنيا، وذلك بسبب الصبر والتقوى {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ} الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه {وَيَصْبِرْ} على البلاء، وعلى طاعة الله {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} فإن هذا من الإحسان، والله لا يضيع أجر المحسنين، بل يحفظه لهم ويثيبهم عليه.

﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)﴾

{قَالُوا} قال أخوة يوسف ليوسف معتذرين عما صنعوا به {تَاللَّهِ} هذا يمين كقول: والله {لَقَدْ آثَرَكَ} فضلك {اللَّهُ عَلَيْنَا} وأسأنا إليك غاية الإساءة، وحرصنا على إيصال الأذى إليك، وإبعادك عن أبيك {وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} ولقد كنا فيما صنعنا بك مسيئين ظالمين.

قال السعدي: "وهذا غاية الاعتراف منهم بالجرم الحاصل منهم على يوسف". انتهى

﴿قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)﴾

فقبل يوسف اعتذارهم كرما منه وتفضلاً، فـ {قَالَ} لهم {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} لا لوم عليكم اليوم، أي: لن يلومهم على ما فعلوه به ولن يعيرهم.

{يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} أسأل الله أن يغفر لكم {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} قال السعدي: "فسمح لهم سماحا تاما، من غير تعيير لهم على ذكر الذنب السابق، ودعا لهم بالمغفرة والرحمة، وهذا نهاية الإحسان، الذي لا يتأتى إلا من خواص الخلق وخيار المصطفين".

﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)﴾

فأعطى يوسف عليه السلام لإخوته قميصه، وقال لهم: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي} يعقوب الذي أصيب بالعمى {يَأْتِ بَصِيرًا} يرجع مبصراً، أي يعود إليه بصره.

{وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} وأحضروا إليّ أهليكم كلهم.

﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)﴾

فرجع إخوته إلى أبيهم {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} ولما خرجت القافلة منطلقة من مصر، وفارقت العامر منها مقبلة إلى أرض فلسطين، شمَّ يعقوب رائحة قميص يوسف، فقال لمن حوله: {إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} رائحته {لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} أي لولا أن تقولوا ذهب عقله، أو لولا أن تسفهون.

ذكر الطبري أقوال أهل العلم في معنى التفنيد، ثم قال: "وقد بيَّنَّا أن أصل التفنيد: الإفساد، وإذ كان ذلك كذلك فالسفاهة، والهرم، والكَذِبُ، وذَهابُ العقل، وكلُّ معاني الإفساد، تدخل في التفنيد؛ لأن أَصْلَ ذلكَ كلِّه الفساد. والفساد في الجسم: الهَرَمُ وذَهابُ العقل والضعفُ. وفي الفعل: الكذبُ واللوم بالباطل". انتهى

﴿قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)﴾

فوقع ما ظنه بهم فـ {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} والله إنك لفي خطئك القديم، من شدة حبك ليوسف، ورجاءِ رؤيته ثانية.

قال البغوي: "أَيْ: خَطَئِكَ الْقَدِيمِ مِنْ ذِكْرِ يُوسُفَ لَا تَنْسَاهُ، وَالضَّلَالُ هُوَ الذَّهَابُ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ، فَإِنَّ عِنْدَهُمْ أَنْ يُوسُفَ قَدْ مَاتَ وَيَرَوْنَ يَعْقُوبَ قَدْ لَهِجَ بِذِكْرِهِ". انتهى

﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)﴾

{فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} أي المخبر بالبشرى التي تسر يعقوب {أَلْقَاهُ} أي: ألقى قميصَ يوسف {عَلَى وَجْهِهِ} على وجه يعقوب {فَارْتَدَّ بَصِيرًا} أي: رجع وعاد مبصراً بعينيه، بعد أن ابيضت عيناه من الحزن، فـ {قَالَ} يعقوب {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} ألم أقل لكم إني أعلم من الله أنه سيرد علي يوسف، ويجمع بيني وبينه؟ وكنتم لا تعلمون أنتم من ذلك ما أعلمه؛ لصدق رؤيا يوسف التي كان رآها وقصها على أبيه.

﴿قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97)﴾

فأقروا بذنبهم، و {قَالُوا} لأبيهم يعقوب عليه السلام معتذرين عما فعلوه {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} اطلب من الله أن يغفر لنا ذنوبنا {إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} إنا كنا مذنبين مسيئين فيما فعلناه.

﴿قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)﴾

فـ {قَالَ} لهم يعقوب عليه السلام مجيبا لطلبهم: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} سوف أطلب لكم المغفرة من ربي {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ} لذنوب التائبين من عباده {الرَّحِيمُ} بهم.

﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)﴾

أي: {فَلَمَّا} تجهز يعقوب وأولاده وأهلهم أجمعون، وارتحلوا من بلادهم قاصدين الوصول إلى يوسف في مصر وسكناها، فلما وصلوا إليه، و {دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} أي: ضم إليه أباه وأمه {وَقَالَ} لجميع أهله: {ادْخُلُوا مِصْرَ} أي اسكنوها واستقروا فيها {إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} مما كنتم فيه من الجهد والقحط.

اشكل على أهل التفسير قول يوسف لهم {ادخلوا مصر} بعد أن دخلوها فعلاً.

قال ابن كثير بعد أن ذكر قولا لأهل التفسير: " وقد رد ابن جرير هذا وأجاد في ذلك، ثم اختار ما حكاه عن السدي: أن يوسف آوى إليه أبويه لما تلقاهما، ثم لما وصلوا باب البلد قال: {‌ادْخُلُوا ‌مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}

وفي هذا نظر أيضًا؛ لأن الإيواء إنما يكون في المنزل، كقوله: {آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} وفي الحديث: "من آوى محدثا".

وما المانع أن يكون قال لهم بعدما دخلوا عليه وآواهم إليه: {ادْخُلُوا مِصْرَ} وضمَّنه: "اسكنوا مصر" {إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} أي: مما كنتم فيه من الجهد والقحط". انتهى

﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)﴾

{وَرَفَعَ} يوسف {أَبَوَيْهِ} أباه وأمه {عَلَى الْعَرْشِ} أي: على سرير الملك الذي يجلس عليه {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} أي: سجد له أبوه وأمه وإخوته سجودا على وجه التعظيم والتبجيل والإكرام لا سجود عبادة {وَقَالَ} يوسف لما رأى هذه الحال، ورأى سجودهم له: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} حين رأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين، فهذا وقوعها {قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} قد صَيَّرها ربي حقًّا بوقوعها.

قال قتادة: "وكانت تحيةَ مَن كان قبلكم، كان بها يُحَيِّى بعضُهم بعضًا، فأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة، كرامة من الله تبارك وتعالى عَجَّلَها لهم، ونعمةً منه".

وقال ابن زيد: "ذلك السجود تشرِفةٌ، كما سجدتِ الملائكة لآدم تشرفةً، ليْسَ بسجود عبادة".

قال الطبري: "وإنما عَنَى مَنْ ذُكر بقوله: "إن السجود كان تحيةً بينهم"؛ أن ذلك كان منهم على وجه الخُلُقِ، لا على وجه العبادة من بعضهم لبعضٍ. ومما يدلُّ على أن ذلك لم يزَلْ من أخلاق الناس قديمًا قبل الإسلام على غير وجه العبادة من بعضهم لبعضٍ، قولُ أعشى بني ثعلبة

فَلَمَّا أَتانا بُعَيْدَ الكَرَى … سَجَدْنا لَهُ وَرَفَعْنا عَمارَا". انتهى

وقال السمعاني: مَعْنَاهُ: وَقَعُوا لَهُ ساجدين، وَاخْتلفُوا فِي هَذِه السَّجْدَة فالأكثرون أَنهم سجدوا لَهُ، وكَانَت السَّجْدَة سَجْدَة الْمحبَّة لَا سَجْدَة الْعِبَادَة، وَهُوَ مثل سُجُود الْمَلَائِكَة لآدَم عليه السلام، قَالَ أهل الْعلم: وَكَانَ ذَلِك جَائِز فِي الْأُمَم السالفة، ثمَّ إِن الله تَعَالَى نسخ ذَلِك فِي هَذِه الشَّرِيعَة وأبدل بِالسَّلَامِ.." ثم ذكر أقوالا أخرى.

{وَقَدْ أَحْسَنَ بِي} وقد أحسن إليّ ربي {إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} حين أخرجني من السجن {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} وحين جاء بكم من البادية، كانوا أهل بادية وماشيةٍ.

قال قتادة: "وكان يعقوب وبنوه بأرض كنعان، أهلَ مواشٍ وبرّيةٍ".

{مِنْ بَعْدِ أَنْ نزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} من بعد أن أفسد الشيطان بيني وبين إخوتي {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} قال السعدي: "يوصل برَّه وإحسانه إلى العبد من حيث لا يشعر، ويوصله إلى المنازل الرفيعة من أمور يكرهها".

وقال قتادة: "لَطَف ليوسف وصنع له حتى أخرجه من السجن، وجاء بأهله من البدو، ونزع من قلبه نَزْغَ الشيطان وتحريشَه على إخوته".

{إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} بأحوال خلقه ومصالحهم وغير ذلك {الْحَكِيمُ} في تدبيره.

﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)﴾

قال السعدي: "لما أتم الله ليوسف ما أتم من التمكين في الأرض والمُلك، وأقر عينه بأبويه وإخوته، وبعد العلم العظيم الذي أعطاه الله إياه، قال مقرًّا بنعمة الله شاكرا لها داعيا بالثبات على الإسلام:"

{رَبِّ} يا رب {قَدْ آتَيْتَنِي} أعطيتني {مِنَ الْمُلْكِ} ملك مصر، وذلك أنه كان على خزائن الأرض وتدبيرها ووزيرا كبيرا للملك {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ} وعلّمتني تعبير الرؤى، ذكر نعم الله عليه، شكرًا له عليها {فَاطِرَ} أي يا خالقَ {السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} ومبدعهما على غير مثال سابق {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أنت معيني ومتولي جميع أموري في الحياة الدنيا وفي الآخرة {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} أي: ثبتني على الْإِسلام عند موتي، ولم يكن هذا دعاء باستعجال الموت {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} وألحقني بصالح آبائي إبراهيم وإسحاق ومَن قبلهم من أنبيائك ورسلك.

﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)﴾

لما قص الله سبحانه وتعالى هذه القصة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم قال الله له: {ذَلِكَ} المذكور من قصة يوسف وإخوته {مِنْ أَنْبَاءِ} أخبار {الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} أيها الرسول، ولولا أن أوحينا إليك به؛ لما كان لك به علم {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ} فإنك لم تكن حاضرا عند إخوة يوسف {إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ} حين عزم إخوة يوسف على إلقائه في قعر البئر {وَهُمْ يَمْكُرُونَ} به حين تعاقدوا على التفريق بينه وبين أبيه، في حالة لا يطلع عليها إلا الله تعالى، ولا يمكن أحدا أن يصل إلى علمها، إلا بتعليم الله له إياها، فهذا دليل على أن ما جاء به رسول الله حق.

﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)

يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ} على إيمانهم {بِمُؤْمِنِينَ} ولو بذلت -أيها الرسول- كل جهد ليؤمنوا فلن يؤمنوا.

﴿وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)﴾

{وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ} أي لم تطلب منهم على تبليغ دين الله {مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} عظة وتذكير للعالمين.

قال ابن كثير: "وقوله: (وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي: وما تسألهم يا محمد على هذا النصح والدعاء إلى الخير والرشد من أجر، أي: من جُعَالة ولا أجرة على ذلك، بل تفعله ابتغاء وجه الله، ونصحا لخلقه.

(إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) أي: يتذكرون به ويهتدون، وينجون به في الدنيا والآخرة". انتهى

قائمة الخيارات
0 [0 %]
الاثنين 10 صفر 1447
عدد المشاهدات 3
جميع الحقوق محفوظة لشبكة الدين القيم © 2008-2014 برمجة وتصميم طريق الآفاق