الشام في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
بعد موت أبي بكر الصديق رضي الله عنه وبدء فتوح الشام، استُخلف عمر بن الخطاب في سنة 13 هجري، وصار خليفة المسلمين، وهو أول من نودي بـ:" أمير المؤمنين".
وأمراء الشام هم أنفسهم، وقائد جيوش المسلمين خالد بن الوليد رضي الله عنه، واحد من أعظم قادة الحرب في العالم على مر العصور إلى يومنا هذا، خططه الحربية وعبقريته تدرس في الجامعات إلى اليوم.
وما بين عام 13 إلى 15 هجري
التقى جيش المسلمين في الشام بجيش الروم في معركة اليرموك، قرب نهر اليرموك في غور الأردن، وكان جيش الروم أكثر من مائة ألف هذا قول، وقول آخر أنهم مائتا ألف، وجيش المسلمين ثلاثين ألفا.
كانت وقعة مشهودة عظيمة فاصلة من أعظم المعارك وأشدها، انتصر فيها المسلمون، وهُزم الروم هزيمة مخزية، هلك فيها خلق كثير من الروم، واستشهد جماعة من المسلمين ومِن أمرائهم نحسبهم والله حسيبهم.
وعزل عمر بن الخطاب خالد بن الوليد عن القيادة، وولى مكانه أبا عبيدة بن الجراح؛ لخلاف وقع بين عمر وخالد في كيفية قسمة أموال الغنائم.
وقد بينت هذا في فتوى خاصة موجودة على معهد الدين القيم.
واختلف العلماء هل عزله كان في أثناء غزوة اليرموك أم في فتح دمشق، وهل فتحت دمشق قبل اليرموك أم بعدها.
وسار المسلمون إلى دمشق وقد اجتمعت الروم فيها على قائد لهم، فاقتتلوا قتالا شديدا وانهزم الروم وتحصنوا، فرابطها المسلمون حتى فتحت صلحا، وأعطوا الجزية، فبعضها فتح بالقوة، وبعضها صلحاً بدفع الجزية.
قال الكثير من أئمة السلف الشاميين إن دمشق فتحت سنة 14، واليرموك كانت سنة 15، والقدس فتحت سنة 16 هجري.
وتتابعت الفتوحات.
قال ابن حزم:
فتح الشام: ولما أتمَّ الله تعالى على يدي خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمْرَ الرِدَّة، بعث أَبا عُبيدة عامرَ بن الجراح، ومُعاذَ بن جبل، وشُرَحْبِيل بن حَسنَة - وهو شرحبيل بن عبد الله بن عمرو بن المطاع الكِندي - ويزيد بن أبي سفيان، وأمراء إلى الشام.
وقد قيل مكان معاذ بن جبل: عمرو بن العاص.
فافتتح شرحبيل بن حَسَنة الأُردنَّ صلحاً، ثم نقضوا، ففتحها عمرو بن العاص ثانية؛ وقيل: بل افتتحها شرحبيل بن حسنة ثانية.
وافتتح دمشق خالد وأبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان.
وبعث أبو عبيدة إلى حمص جموعاً فصالحوهم.
وافتتح فلسطينَ كلها عمرو بن العاص، حاشا بيتَ المَقْدِس، فإن عمر رضي الله عنه شَخَص إليها من المدينة فصالحوه.
وافتتح أبو عبيدة قِنَّسْرين.
وعَمَرَ بعد ذلك معاوية ثغور الشام.
وكان فَتْحُ اليمامة بعد ولاية أبي بكر بسبعة أشهرٍ وستة أيام.
وكان فتح بُصْرَى من أرض الشام بعد ولايته بعام وأربعة أشهر.
وكان فتح دمشق بعد موت أبي بكر الصِّدِّيق، وبعد ولاية عمر، بنحو أحد عشر شهراً، وذلك في سنة أربع عشرة من الهجرة.
وكان فَتْحُ حِمْص بعد دمشق بأربعة أشهر، من سنة أربع عشرة من الهجرة أيضاً.
وكان فتح بيت المقدس صلحاً بعد فتح حمص بعامين، وذلك في سنة ست عشرة من الهجرة.
وكان فتح الأردن وفلسطين بعد فتح دمشق.
وكان فتح قِنَّسْرين وفلسطين بعد فتح دمشق.
وكان فتح قِنَّسْرين بعد فتح حمص.
وكانت من خلال ذلك وقائع عظيمة، منها في حياة أبي بكر: وقعة العَرَبة ثم وقعة الداثنة، وليست من كبار الوقائع؛ ثم وقعة بُصْرَى، وأَجْنادين، وقُتِلَ فيها أَبَانُ بن سعيد بن العاص وهشام بن العاص أخو عمرو بن العاص؛ وكان يوم أجنادَيْن لليلتين بقيتا من جُمَادَى الأولى، سنة ثلاث عشرة قبل موت أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأربعة وعشرين يوماً؛ ثم وقعة مَرْج الصُّفَّر وفيها قُتل خالد بن سعيد بن العاص. ثم وقعة فِحْل الأردن في خلافة عمر بعد خمسة أشهر منها، وذلك في آخر ذي القعدة سنة ثلاث عشرة، وفيها قُتِل عمرو بن سعيد بن العاص؛ ثم يوم اليرموك في سنة خمس عشرة بعد خلافة عمر بسنة وتسعة أشهر، وكان اندفاع المسلمين من المدينة في خلافة أبي بكر إلى الشام في أربعة وعشرين ألفاً". انتهى
وقِنَّسرين كانت مدينة قرب حلب، وهي الجند الخامس من أجناد الشام الخمسة، بعد ذلك كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
قال صاحب المعجم: "وكان فتح قنسرين على يد أبي عبيدة بن الجراح، رضي الله عنه، في سنة 17، وكانت حمص وقنسرين شيئًا واحدًا، قال أحمد بن يحيى: سار أبو عبيدة بن الجراح بعد فراغه من اليرموك إلى حمص فاستقراها ثم أتى قنسرين وعلى مقدمته خالد بن الوليد فقاتله أهل مدينة قنسرين ثم لجؤوا إلى حصنهم وطلبوا الصلح فصالحهم، وغلب المسلمون على أرضها وقراها". انتهى
فتح بيت المقدس وهو من علامات الساعة: لما فرغَ أبو عبيدة من دمشق كتبَ إلى أهل إيليا -يعني القدس، ويقال لها: بيت المقدس- يدعوهم إلى الله وإلى الإسلام، أو يعطون الجزيةَ أو الحرب، فأبَوْا أن يجيبوا إلى ما دعاهم إليه، فركبَ إليهم في جنوده، ثم حاصرَ بيت المَقْدس وضيَّقَ عليهم حتى أجابوا إلى الصلح بشرطِ أن يقدم إليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
فكتب إليه أبو عبيدة بذلك، فسار عمر ين الخطاب بالجيوش نحوهم، فلما وصل إلى الشام تَلقّاه أبو عبيدة ورؤوسُ الأمراءَ، كخالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان.
قال طارق بن شهاب: لمّا قدم عمرُ الشامَ عرضتْ له مخاضةٌ -مكان فيه ماء كالبركة- فنزل عن بعيره ونزعَ موقيه-يعني خلع حذاءه- فأمسكهما بيدٍ، وخاض الماء ومعه بعيره، فقال له أبو عبيدة: قد صنعتَ اليوم صنيعًا عظيمًا عند أهل الأرض، صنعت كذا وكذا، قال: فصكَّ في صدره -أي ضرب في صدر أبي عبيدة- وقال: "أوَ لَوْ غيرك يقولُها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس، فأعزَّكم الله بالإسلام، فمهما تطلبوا العزَّ بغيره يذلكم الله". انتهى
لو أن الناس تأملوا هذه الجملة من هذا الخليفة الراشد؛ لعلموا سبب ذلهم، وكيف يعود إليهم عزهم.
ثم سار حتى صالحَ نصارى بيت المقدس وضرب عليهم الجزية، واشترطَ عليهم شروطاً.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَفَلَسْتَ تَرَى أَنَّ عُمَرَ حَازَ الْمَسْجِدَ -يعني بيت المقدس- لِلْمُسْلِمِينَ، وَحَالَ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَبَيْنَهُ، فَهُمْ عَلَى هَذَا إِلَى الْيَوْمِ لَا يُدْخِلُونَهُ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْبِلَادُ صُلْحًا، فَلَمْ يَجْعَلْ عُمَرُ الْمَسْجِدَ دَاخِلًا فِي الصُّلْحِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ حُقُوقِهِمْ". انتهى
قال ابن كثير: "وقد ذكرنا الشروطَ العمرية على نصارى الشام مَطوّلًا في كتابنا "الأحكام" وأفردنا له مصنفًا على حِدَةٍ وللّه الحمد والمنة". انتهى
وفتح بيت المقدس أول علامة من علامات الساعة وقعت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وهي من العلامات الغيبية التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم فوقعت كما أخبر.
روى عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَقَالَ: "اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ مُوتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ.." الحديث.
قال ابن كثير في البداية والنهاية: "وقد حرَّم الله على الروم أن يملكوا بلادَ الشام برُمَّتها إلى آخر الدهر، كما ثبت به الحديث في الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا هلكَ كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصرُ فلا قيصرَ بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل".
وقد وقع ما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه كما رأيت، وسيكون ما أخبر به جزمًا لا يعود ملكُ القياصرة إلى الشام أبدًا؛ لأنّ قيصرَ علَمُ جنسٍ عند العرب يُطلق على كل منْ ملكَ الشَام مع بلاد الروم، فهذا لا يعود لهم أبدًا". انتهى
قال الذهبي: "وفي هذه السنة -يعني سنة ستة عشر- بعث أبو عبيدة عمرو بن العاص بعد فراغه من اليرموك إلى قِنّسرين فصالح أهل حلب، ومَنبج، وأنطاكية، على الجزية.
وفتح سائر بلاد قِنّسرين عَنوة" (أي بالقوة لا صلحاً). انتهى
قال: وفيها افتتحت سَروج والرُّها على يدي عياض بن غَنم.
والرُّها هي أورفا اليوم.
وقالوا الرقة والجزيرة كلها ما بين دجلة والفرات، فتحها الصحابي عِياض بن غَنم الفهري رضي الله عنه، في عهد عمر بن الخطاب، قالوا: لما صالح أهل الرُّها دخل سائر أهل الجزيرة فيما دخل فيه أهل الرها من الصلح.
تقسيم الشام إلى أجناد، وأمراء الأجناد:
الأجناد جمع جُند، وهي مثل المحافظة في زمننا.
قال صاحب معجم البلدان:
فيجيء في قولهم: جُند قِنّسرين، وجند فلسطين، وجند حمص، وجند دمشق، وجند الأُردنّ، فهي خمسة أجناد، وكلّها بالشام.
ولم يبلغني أنهم استعملوا ذلك في غير أرض الشام".
وقال: قال أحمد بن يحيى بن جابر: اختلفوا في الأجناد، فقيل سمّى المسلمون كل واحد من أجناد الشام جندا، لأنه جمع كُورا، والتجنّد على هذا التجمّع، وجنّدت جندا أي جمعت جمعا.
وقيل: سمّى المسلمون لكل صقع جندا بجند عُيّنوا له يقبضون أعطياتهم فيه منه، فكانوا يقولون: هؤلاء جند كذا حتى غلب عليهم وعلى الناحية". انتهى
وقال غيره: "كل واحد منها كان يسمى جُنْدًا: أي المقيمين بها من المسلمين المقاتلين". انتهى
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
فلما فتح المسلمون بلاد الشام في خلافة أبي بكر وعمر وتُوفي أبو بكر واستُخلِفَ عمر، كان أبو عبيدة بن الجراح ويزيدُ بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وشرحبيلُ بن حَسَنَة نُوّابًا لعمر بن الخطاب على الشام.
وكان الشامُ أربعةَ أرباع:الربعُ الواحد: ربعُ فلسطين، وهو بيتُ المقدس إلى نهر الأردُنّ الذي يقال له الشريعة.
والربعُ الثاني: ربع الأردُنّ وهو من الشريعة إلى نواحي عجْلون إلى أعمال دمشق.
والربع الثالث: دمشق.
والربع الرابع: حمص.
وكانت سِيْسُ وأرضُ الشمال من أعمال حمص، ثم إنه في زمن معاوية أو يزيد جُعل الشام خمسة أجناد، وجُعلت قِنِّسْرين والعواصمُ أحدَ الأخماس.
وكان المسلمون قد فتحوا الشام جميعها إلى سيْس وغيرها، وفتحوا قبرص. كان معاويةُ قد فتحها في خلافة عثمان بن عفّان.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بغزوات البحر، وأخبر أمّ حَرَام بنت ملحان أنها تكون فيهم، فكان كما أخبر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
فلما كان في أثناء خلافة عمر بن الخطاب مات في خلافته أبو عُبيدة بن الجرّاح، ومات أيضًا يزيد بن أبي سفيان.
ولما كان المسلمون يُقاتلون الكفّار، ويزيد بن أبي سفيان أحدُ الأمراء، كان أبوه أبو سفيان وأخوه معاوية يُقاتلان معه تحت رايته، وأُصيب يومئذ أبو سفيان، أُصيبتْ عينُه في القتال.
فلما مات يزيد بن أبي سفيان في خلافة عمر، ولى عمر مكانه على أحد أرباع الشام أخاه معاوية بن أبي سفيان.
وقال: " ويزيد هذا الذي أمَّرهُ الصدّيقُ وكان من الصحابة هو عند المسلمين من خيار المسلمين، وهو رجلٌ صالح، وهو عند المسلمين خَيْر من أبيه أبي سفيان ومن أخيه معاوية".
ثم قال: "وبقي معاوية أميرًا على ذلك، وكان حليمًا كريمًا، إلى أن قُتِلَ عمر.
ثم أقرّه عثمانُ على إمارته، وضم إليه سائرَ الشامِ، فصار نائبًا على الشام كُلّه". انتهى
وقال غيره: "كان الشام على خمسة أجناد: الأردن، وحمص، ودمشق، وفلسطين، وقِنّسرين، على كل ناحية أمير، ولم يمت عمر حتى جمع الشام كله لمعاوية". انتهى
وقال خليفة بن خياط: عزل -أي عمر- خَالِدًا حِين ولي، وَولى أَبَا عُبَيْدَة بْن الْجراح فولى أَبُو عُبَيْدَة حِين فتح الشامات: يَزِيد بْن أَبِي سُفْيَان عَلَى فلسطين وناحيتها، وشرحبيل بْن حَسَنَة عَلَى الْأُرْدُن، وخَالِد بْن الْوَلِيد عَلَى دمشق، وحبِيب بن مسلمة عَلَى حمص، ثمَّ عَزله وَولى عَبْد اللَّهِ بْن قرط الثمالِي، ثمَّ عَزله وَولى عبَادَة بْن الصَّامِت الْأنْصَارِيّ ثمَّ عَزله، ورد عَبْد اللَّهِ بْن قُرط ثمَّ وَقع طاعون عمواس، فَمَاتَ أَبُو عُبَيْدَة واستخلف معَاذًا، فَمَاتَ معَاذ واستخلف يَزِيد بْن أَبِي سُفْيَان، فَمَاتَ واستخلف أَخَاهُ مُعَاوِيَة، فأقره عُمَر. وَولى عُمَر عَمْرو بْن الْعَاصِ فلسطين والأردن، وَمُعَاوِيَة دمشق وبعلبك والبلقاء، وَسَعِيد بْن عَامر بْن حذيم حمصًا، ثمَّ جمع الشَّام كلهَا لمعاوية بْن أَبِي سُفْيَان". انتهى