الشام في عهد أبي بكر الصديق
لما انتهى أبو بكر الصديق رضي الله عنه من قتال المرتدين، ومانعي الزكاة، وردّ الحق إلى نصابه، وتمهدت جزيرة العرب؛ في سنة 12 هجري جهز جيشاً وأمّر عليهم خالد بن الوليد، وأرسلهم لقتال الفرس في العراق، وهي دولة كبرى في وقتها.
أرسل جيوش المسلمين لقتال أكبر دولتين في المنطقة في ذاك الوقت في وقت واحد.
وانتصروا عليهم.
لا عجب فقد كان مع المسلمين وقتها أقوى سلاح، وهو الإعداد الإيماني، الذي جعله الله تبارك وتعالى شرطا لعزنا ونصرنا؛ لذلك سادوا الأرض وقتها، وهو السلاح الذي نفتقده اليوم.
وأمره أن يَتألَّفَ الناسَ ويدعوهم إلى الله عز وجل، فإن أجابوا وإلا أخذ منهم الجزيةَ، فإن امتنعوا عن ذلك قاتلهم، وأمره ألا يُكْرِه أحدًا على المسير معه، ولا يستعينُ بمنِ ارتدّ عن الإسلام وإن كان قد عاد إليه.
وأمره أن يستصحبَ كلَّ امرئ مرَّ به من المسلمين.
وشرع أبو بكر في تجهيز السَّرايا والبعوث والجيوش إمدادًا لخالد رضي الله عنه.
فدخل خالد العراق، وأخذ في فتحها قرية ومدينة بعد أخرى.
وفي السنة الثالثة عشرة من الهجرة عزم أبو بكر على فتح الشام، وحرب دولة الروم.
قال ابن كثير: استُهلَّتْ هذه السنة والصدِّيقُ عازم على جمع الجنود ليبعثَهم إلى الشام، وذلك بعد مرجعه من الحج وذلك عملًا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 123] وبقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية [التوبة: 29].
واقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه جمعَ المسلمين لغزو الشّام - وذلك عام تبوكَ - حتّى وَصلها في حرٍّ شديد وجهد، فرجع عامَهُ ذلك، ثم بعثَ قبل موته أسامةَ بن زيدٍ مولاه ليغزوَ تخوم الشام كما تقدم.
ولما فرغ الصدِّيقُ من أمر جزيرة العرب بسط يمينَه إلى العراق، فبعث إليها خالد بن الوليد ثم أراد أن يبعث إلى الشام كما بعث إلى العراق، فشرع في جمع الأمراء في أماكنَ متفرقةٍ من جزيرة العرب".
ولما اجتمع عند الصدِّيق من الجيوش ما أراد قام في الناس خطيبًا فأثنى على الله بما هو أهله، ثم حثَّ الناسَ على الجهاد.
ثم شرعَ الصدِّيقُ في توليةِ الأمراءِ وعقدِ الألويةِ والرايات.
أمراء أبي بكر الصديق الأربعة إلى الشام:
يزيد بن أبي سفيان، وأبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة.
كما هو معلوم لا يصلح للقيادة كل أحد، بل رجال يتصفون بصفات خاصة كالتقوى والقوة والذكاء والدهاء والشجاعة والحكمة.
تولية رجل كأبي بكر رجالا في منصب القيادة يدل على أنه يرى في هؤلاء هذه الصفات وغيرها.
عقدَ أبو بكر رضي الله عنه لواءَ يزيد بن أبي سفيان بن حرب، أخو معاوية من أبيه. ويقال له: يزيد الخير. من خيرة بني أمية، أمَّره أبو بكر لغزو الروم، ولما فُتحت دمشق على عهد عمر بن الخطاب أمَّره عمر عليها.
ومعه جمهورُ الناس، وجعل له دمشق. وهي المدينة المعروفة اليوم، وكانت دمشق والقدس وحمص من أهم مدن الشام.
قال صاحب معجم البلدان:
وقال آخرون سميت بدمشق بن إرم بن سام بن نوح، عليه السلام، وهو أخو فلسطين وأيلياء وحمص والأردنّ، وبنى كلّ واحد موضعا فسمي به.
وبعث أبا عبيدة بن الجراح أحد السابقين الأولين، شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وسماه: أمين الأمة، بعثه أبو بكر على جيش آخر، وجعل له نيابةَ حِمص، وهي المدينة المعروفة اليوم.
وبعثَ عمرو بن العاص بن وائل السهمي داهية قريش، ومن يضرب به المثل في الفطنة، والدهاء، والحزم. ومعه جيش آخر، وجعله على فلسطين.
قال صاحب المعجم: "وهي آخر كُور الشام من ناحية مصر، قصبتها البيت المقدس، ومن مشهور مدنها عسقلان والرملة وغزّة وأُرْسُوف وقَيْسَارِيَّة ونابلس وأريحا وعمّان ويافا وبيت جبرين". وذكر قولا آخر في حدودها.
وأَمَر أبو بكر كلَّ أميرٍ أن يسلكَ طريقًا غير طريق الآخر، لِما لمح في ذلك من المصالح.
ثم ألحق بهم رضي الله عنه شرحبيل بن حسنة الأمير الرابع من الأمراء الذين أرسلهم أبو بكر رضي الله عنهم في جيوش لقتال الروم وفَتحِ الشام، وهو الذي افتتح الأردن كلها عنوة إلا طبرية فإنهم صالحوه. والأردن ليست هي المعروفة اليوم بهذا الاسم.
قال صاحب معجم البلدان: "وأهل السير يقولون: إن الأردن وفلسطين ابنا سام بن ارم بن سام بن نوح، عليه السلام، وهي -أي الأردن- أحد أجناد الشام الخمسة، وهي كُوْرة واسعة – كالمحافظة اليوم- منها: الغور وطبرية وصور وعكّا وما بين ذلك". انتهى
وقيل: "كان خالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنه أول قائد عقد له أبو بكر الصديق لواء لفتح الشام، ولكنه هزم في مرج الصُّفَّر، وعزله أبوبكر.
وقيل عزله قبل أن يسير إلى الشام" والله أعلم بهذا فلم أجد شيئا يعتمد عليه في خبر خالد بن سعيد هذا.
ثم اجتمع عند الصديق طائفةٌ من الناس فأمَّر عليهم معاويةَ بن أبي سفيان وأرسله وراء أخيه يزيد بن أبي سفيان.
قالوا: خرج عمرو بن العاص حتى نزل فلسطين من الشام.
ويقالُ إن يزيدَ بن أبي سفيان نزلَ البلقاء أولًا. ونزل شرحبيلُ بالأردنّ، ويقال ببُصْرى. ونزلَ أبو عبيدة بالجابية.
وجعلَ الصدِّيقُ يمدُّهم بالجيوش، وأمر كل واحد منهم أن ينضاف إلى من أحبَّ من الأمصار. ويُقال إن أبا عبيدة لما مرَّ بأرض البلقاءِ قاتلهم حتى صالحوه، وكان أولَ صلحٍ وقعَ بالشامِ.
ولما توجهت هذه الجيوش نحو الشام؛ جمعت لهم الروم جموعا عظيمة، فأمر أبو بكر جيوشه بالاجتماع فاجتمعوا.
وأمدهم بجيش من العراق عليه خالد بن الوليد، قال الذهبي: "سيف الله -تعالى- وفارس الإسلام، وليث المشاهد، السيد الإمام، الأمير الكبير، قائد المجاهدين، أبو سليمان القرشي، المخزومي، المكي، وابن أخت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث". انتهى
وأمَّره أبو بكر عليهم.
سار خالد حتى أغار على غسان بمرج راهط، ثم سار حتى نزل على قناة بُصرى وعليها أبو عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان، فاجتمعوا فرابطوها حتى صالحت بصرى على الجزية، وفتحها الله على المسلمين، فكانت أول مدينة من مدائن الشام فتحت في خلافة أبي بكر.
وحصلت وقائع ومعارك، ومنها وقعة أجنادين في فلسطين، وكانت وقعة عظيمة قتل فيها بشر كثير من الصحابة، وهزم الروم وقتل أميرهم.
قالوا: شهدها منَ الروم زهاء مائة ألف، وهرقل يومئذ مقيم بحمص، والمسلمون عشرون ألفا، فقاتلهم المسلمون قتالا شديدا، ثُمَّ إن الله هزم أعداءه ومزقهم ممزق وقتل منهم خلق كثير.
قال ابن إسحاق: "ثم ساروا جميعا قبل فلسطين، فالتقوا بأجنادين بين الرملة، وبيت جبرين، والأمراء كلٌّ على جنده، وقيل: إن عمرا كان عليهم جميعا، وعلى الروم القيقلان فقتل، وانهزم المشركون يوم السبت لثلاث من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة. فاستشهد نعيم بن عبد الله بن النحام، وهشام بن العاص، والفضل بن العباس، وأبان بن سعيد.
قال البعض: أجنادين كانت في جمادى الأولى، وبُشِّر بها أبو بكر وهو بآخر رمق.
وتوفي أبو بكر الصديق رضي الله عنه في منتصف سنة 13 هجري، واستَخلف عمر بن الخطاب.