الخميس 2 ذو القعدة 1445 هـ
09 مايو 2024 م
جديد الموقع   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-51، كتاب الوضوء، الحديث 183و184و185و186   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-50، كتاب الوضوء، الحديث 176و177و178و179و180و181و182   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-49، كتاب الوضوء، باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين.   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (124-129)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (117-123)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (111-116)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (107-110)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (97-106)   تفسير القرآن: ‌‌تفسير سورة التوبة 94-96   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-48، كتاب الوضوء، الحديث 170و171و172و173و174و175      

تفريغ شرح صحيح البخاري-25، كتاب العلم، الحديث 78و79 و80 و81 و82

الدرس الخامس والعشرون/الأربعاء/ بتاريخ: 10/04/1445-25/10/2023

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، أما بعد:

فدرسنا اليوم هو الدرس الخامس والعشرون من دروس شرح صحيح البخاري، وصلنا عند الحديث الثامن والسبعين من كتاب العلم.

‌‌"بَابُ الْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَرَحَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ

حَدَّثَنَا ‌أَبُو الْقَاسِمِ خَالِدُ بْنُ خَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا ‌مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: قَالَ ‌الْأَوْزَاعِيُّ: أَخْبَرَنَا ‌الزُّهْرِيُّ، عَنْ ‌عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ‌ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى، فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟ فَقَالَ أُبَيٌّ: نَعَمْ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَذْكُرُ شَأْنَهُ يَقُولُ: «بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَتَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ مُوسَى: لَا. فَأَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى: بَلَى، عَبْدُنَا خَضِرٌ. فَسَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، فَجَعَلَ اللهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً، وَقِيلَ لَهُ: إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ، فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ. فَكَانَ مُوسَى ﷺ يَتَّبِعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ فَتَى مُوسَى لِمُوسَى: ﴿أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ قَالَ مُوسَى: ﴿ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا﴾ فَوَجَدَا خَضِرًا، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا مَا قَصَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ»"

بداية في الدرس الماضي ذكرنا محمد بن غُرير وقلت فيه: "لم أجده في الثقات لابن حبان" أوقفني أخونا أحمد أبو القاسم عليه مصحفًا في "الثقات" لابن حبان في (المجلد التاسع الصفحة 106) صُحف إلى محمد بن نمير المدني، نُمير هكذا، في حاشية الكتاب قال: (في "مد" عزيز) هذا ما ورد في الكتاب، والظاهر عزيز هذه أصلها غرير، وهو الصواب، ولم يذكر فيه ابن حبان جرحًا ولا تعديلًا كما ذكر الحفاظ ونقلوه عنه رحمهم الله.

قال المؤلف رحمه الله: "باب الخروج في طلب العلم" أي: السفر لأجل طلب العلم، أراد الحث عليه والترغيب فيه لفضله.

قال ابن حجر: (لم يذكر فيه شيئًا مرفوعًا صريحًا، وقد أخرج مسلم حديث أبي هريرة رفعه: «من سلك طريقا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة» ولم يخرجه المصنف لاختلاف فيه) انتهى.

"ورحل جابر بن عبد الله" رضي الله عنه تقدم "مسيرةَ شهر" قيل من المدينة إلى الشام، وقيل من المدينة إلى مصر "إلى عبد الله بن أُنيس" الجهني ثم الأنصاري، أبو يحيى حليف بن سلِمة، صحابي شهد العقبة وأحدًا وما بعدهما، ومات بشام في خلافة معاوية رضي الله عنه، توفي سنة أربع وخمسين

أخرج له الجماعة سوى البخاري علّق هذا الحديث عنه هنا وفي كتاب التوحيد قبل الحديث رقم سبع ألاف وأربعمائة وإحدى وثمانين، وأخرج له في "الأدب المفرد".

قال: "في حديث واحد" أي: رحل إليه لأجل حديث واحد.

الحديث أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وغيرهما من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله ﷺ فاشتريت بعيرًا، ثم شددت عليه رحلي فسرت إليه شهرًا حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله؟ قلت: نعم، فخرج يطأ ثوبه، فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديثًا بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله في القصاص، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «يحشر الناس يوم القيامة» أو قال: «العباد، عراة غرلًا بُهمًا» قال: قلنا: وما بُهمًا؟ قال: «ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بَعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان» ثم ذكر الحديث تامًا.

هذا الحديث -حديث عبد الله بن أنيس- ذكر طرقه الحافظ في الفتح، ولابن ناصر الدين رسالة في هذا الحديث بطرقه، والاختلاف الذي حصل في الصحابي الذي رحل إليه جابر بن عبد الله، وسيأتي القول فيه مفصلًا في كتاب التوحيد إن شاء الله.

"حدثنا أبو القاسم خالد بن خَلي" الكلاعي أبو القاسم الحمصي القاضي، يروي عن أتباع التابعين، صدوق، روى له البخاري والنسائي.

"قال: حدثنا محمد بن حرب" الخولاني الأبرش ثقة روى له الجماعة تقدم في الحديث السابق. "قال: قال الأوزاعي" عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو واسمه يُحْمِد، الشامي أبو عمرو الأوزاعي، إمام أهل الشام في زمانه، كان يسكن دمشق ثم تحول إلى بيروت فسكنها مرابطًا إلى أن مات بها، من أتباع التابعين، ثقة حافظ إمام جليل كبير القدر عند الأئمة، كان أهل الشام وأهل المغرب على مذهبه في الفقه قبل مالك والشافعي، مات سنة 157 وقيل غير ذلك، روى له الجماعة.

اختلف أهل العلم في الأوزاع والأوزاعي في أصلهم على أقوال كثيرة.

قال محمد بن سعد: (أبو عمرو الأوزاعي، والأوزاع بطن من همْدان، وهو من أنفسهم) يعني هو عربي أصالة (ولد سنة ثمان وثمانين وكان ثقة مأمونًا صدوقًا فاضلا خيّرا كثير الحديث والعلم والفقه) الكلام لابن سعد (وكان مكتبه باليمامة فلذلك سمع من يحيى بن أبي كثير وغيره من مشايخ أهل اليمامة، وكان يسكن بيروت، وبها مات سنة سبع وخمسين ومئة في آخر خلافة أبي جعفر)

قال عبد الرحمن بن مهدي: (الأئمة في الحديث أربعة: الأوزاعي، ومالك، وسفيان الثوري، وحماد بن زيد) وقال: (ما كان بالشام أحدًا أعلم بالسنة من الأوزاعي).

وقال أبو حاتم: (إمام متبِع لما سمع) وقال ابن عيينة: (كان إمام أهل زمانه) وقال النسائي: (إمام أهل الشام وفقيههم) وقال أحمد بن حنبل: (دخل الثوري والأوزاعي على مالك، فلما خرجا، قال مالك: أحدهما أكثر علمًا من صاحبه ولا يصلح للإمامة، والآخر يصلح للإمامة) يعني الأوزاعي.

وقال أبو إسحاق الفزَاري: (ما رأيت مثل رجلين: الأوزاعي والثوري، فأما الأوزاعي فكان رجل عامة، والثوري كان رجل خاصة، ولو خيّرت لهذه الأمة لاخترت لها الأوزاعي؛ لأنه كان أكثر توسعًا، وكان والله إمامًا إذ لا نصيبُ اليوم إمامًا، ولو أن الأمة أصابتها شدة والأوزاعي فيهم لرأيت لهم أن يفزعوا إليه) أي: بدعائه

وقال ابن المبارك: (لو قيل لي اختر لهذه الأمة لاخترت الثوري والأوزاعي، ثم لاخترت الأوزاعي؛ لأنه أرفق الرجلين) وقال الخُريبي: (كان الأوزاعي أفضل أهل زمانه)

وقال بقية بن الوليد: (إنا لنمتحن الناس بالأوزاعي فمن ذكره بخير عرفنا أنه صاحب السنة)

هذه صورة من الصور التي قلت لكم ستمر بكم في امتحان السلف بالرجال، هذا واحد منهم.

وثناء الأئمة عليه علمًا وفقهًا وإمامةً وصلاحًا وجلالة كثير.

ليس من الطبقة الأولى في الزهري؛ ولكنه محتج به فيه، وهو متابع في هذا الحديث في الصحيحين وغيره

"قال: أخبرنا الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس"

هذا الإسناد كله تقدم معنا.

الزهري محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، والباقي معرفون جميعًا.

والحديث تقدم قريبًا برقم 74 "باب ما ذُكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر" من طريق صالح بن كيسان عن الزهري به.

قال ابن حجر: "وقد تقدمت مباحثُ هذا الحديث قبلُ ببابين، وليس بين الروايتين اختلاف إلا فيما لا يغير المعنى، وهو قليل، وفيه فضل الازدياد من العلم، ولو مع المشقة والنصب بالسفر، وخضوع الكبير لمن يتعلم منه، ووجه الدلالة منه: قوله تعالى لنبيه ﷺ: ﴿أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده﴾ وموسى عليه السلام منهم، فتدخل أمة النبي ﷺ تحت هذا الأمر إلا فيما ثبت نسخه) انتهى.

‌‌"بَابُ فَضْلِ مَنْ عَلِمَ وَعَلَّمَ

حَدَّثَنَا ‌مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا ‌حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ، عَنْ ‌بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ ‌أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ ‌أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ، لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ.»

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: قَالَ إِسْحَاقُ: وَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَيَّلَتِ الْمَاءَ، قَاعٌ يَعْلُوهُ الْمَاءُ، وَالصَّفْصَفُ الْمُسْتَوِي مِنَ الْأَرْضِ"

هذه الزيادة "قال أبو عبد الله..." ليست عندي في المتن.

الحاشية قالوا: قول إسحاق مؤخر في رواية ابن عساكر ورواية السمعاني عن أبي الوقت إلى آخر الباب.

وبهامش نون يلي: "قال ابن إسحاق: قاع يعلوه الماء" إلى آخره...

وجاء في المتن عندي بدل هذا: "قال إسحاق: وكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ" إلى آخر ما ذكر، هذه الفروق الموجودة هنا على كل حال كله مثبت.

قال المؤلف رحمه الله: "باب فضل من علم" أي: بيان فضل من تعلم العلم الشرعي "وعلم" وعلمه غيره.

"حدثنا محمد بن العلاء" هو ابن كُريب، أبو كريبٍ الهمداني الكوفي مشهور بكنيته، يروي عن أتباع التابعين، ثقة حافظ، مات سنة 247 وقيل غير ذلك، وهو ابن سبع وثمانين سنة، روى له الجماعة.

وهذا أحد الشيوخ التسعة الذين أخرج لهم أو روى عنهم أصحاب الكتب الستة مباشرة، منهم هذا، وهم أربعة محمدون هذا واحد منهم، الآن تلقائيًا كل واحد منكم يستحضر هؤلاء التسعة بذهنه، وإذا نسي منهم أحدًا يرجع ويراجع، بهذه الطريقة تثبت المعلومة.

"قال: حدثنا حماد بن أسامة" هو ابن زيد القرشي مولاهم، أبو أسامة الكوفي، مشهور بكنيته، من أتباع التابعين، ثقة ثبت ربما دلس؛ ولكنّ تدليسه لا يضر، ولا يصح أنه يحدث من كتب غيره، مات سنة 201 وهو ابن ثمانين روى له الجماعة

صرح بالتحديث في رواية عند النسائي في "الكبرى"، ولكن المحفوظ عنه في هذا الحديث العنعنة؛ لا التصريح والله أعلم؛ لكن على كل حال تدليسه لا يضر.

وقد وضعه الحافظ ابن حجر في مراتب المدلسين في الطبقة الثانية، وحق له أن يفعل ذلك.

"عن بُريد بن عبد الله" هو ابن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، صدوق له مناكير، تقدم.

"عن أبي بردة" هو ابن أبي موسى الأشعري ثقة تقدم.

"عن أبي موسى" هو عبد الله بن قيس أبو موسى الأشعري رضي الله عنه تقدم.

"عن النبي ﷺ قال: «مَثَل ما بعثني الله به من الهدى والعلم" المراد العمل الصالح والعلم الشرعي النافع، المراد من الهدى والعلم: العمل الصالح والعلم الشرعي النافع الذي أرسل الله تبارك وتعالى به نبيه؛ لكن العلماء اختلفوا في تفسير الهدى والعلم على وجه التفصيل؛ لكن في الجملة هذا المراد "كمثل الغيث" كالمطر "الكثير أصاب" المطر "أرضًا، فكان منها" أي: من الأرض التي أصابها المطر، أرض "نقية" الآن في تقسيم لهذه الأرض التي أصابها المطر، ثلاثة أجزاء أو أقسام قسم من هذه الأرض، نوع من الأرض هي "نقية" أي طيبة، والطيب من الأرض ما يُنبت "قبلت" الأرض النقيةُ الماء.

قال إسحاق -يعني ابن راهويه- وهو يرويه عن حماد بن سلمة، قال في روايته: «وكان منها طائفة»

"قبلت الماء، فأنبت أو فأنبتت الكلأ" النبات يابسًا ورطبًا يقال له كلأ "والعشب" الرطب من النبات "الكثير" صفة للكلأ والعشب.

"وكانت منها" أي من الأرض، هذا القسم الثاني "أجادب" جمع جَدْب، أي لا تشرب ماء ولا تُنبت "أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس" أي بهذه الأرض الأجادب، لا تشرب الماء، أجادب لا تشرب الماء ولا تنبت، ولكنها تمسك كالمستنقعات والبحيرات، أمسكت الماء فانتفع الناس من هذا الماء الممسَك فيها "فشربوا" من الماء "وسقوا" دوابهم "وزرعوا" ما يصلح للزرع، وفي مسلم: «ورعوا» من الرعي "وأصابت" وفي رواية: «وأصاب» أي: الغيث "منها طائفة أخرى" أي: قطعة أخرى من الأرض، هذا القسم الثالث "إنما هي قِيعان" جمع قاع، وهو أرض مستوية ملساء لا تُنبت "لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً، فذلك" أي ما ذُكر من الأقسام الثلاثة من الأرض "مَثَل من فَقُه" أي فهم وأدرك الكلام "في دين الله، ونفعه ما" في رواية: «ونفعه بما» "بعثني الله به، فعلِم" ما جئت به "وعلّم" غيره.

هذا تمثيل، مثّل الله سبحانه وتعالى الناس بالأرض التي أصابها المطر، فكما أن الأرض ثلاثة أقسام؛ كذلك البشر الناس ثلاثة أقسام.

ثم قال بعد ذلك: "ومثَلُ من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" أي تكبر، ولم يلتفت إلى الهدى الذي أرسل به النبي ﷺ من تكبره، وهو مَن دخل في الدين ولم يسمع العلم، أو سمعه فلم يعمل به ولم يعلّمه، فهو كالأرض السبخة التي لا تقبل الماء، وتفسده على غيرها.

وأشار بقوله: «ولم يقبل هدى الله الذي أرسلته به» إلى من لم يدخل في الدين أصلًا؛ بل بلَغه فكفر به، وهو كالأرض الصماء الملساء المستوية التي يمر عليها الماء فلا تنتفع به.

شبّه العلم والهدى الذي أنزل إليه والوحي الذي جاء به بالغيث، بالمطر، وشبه الناس الذين بلغهم العلم والهدى الذي بُعث به بالأرض التي عمها ماء المطر، فكانت الأرض مع الماء على ثلاثة أقسام، وكذلك الناس مع الهدى والعلم ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أفضلهم وأعلاهم، وهو من تعلم وعمل وعلّم كعلماء الأمة العاملين بعلمهم.

القسم الثاني: فاضل؛ ولكنه ليس الأفضل، من تعلم؛ حمل العلم ولم يتفقه فيه، وعمل ببعض العلم دون بعضه، وعلّم، كمعلمي قراءة القرآن ورواة الأحاديث من غير الفقهاء.

هذان القسمان ممدوحان.

والقسم الثالث: من لم يتعلم، أو تعلم ولكنه لم يعمل ولم يُعلّم وهذا القسم مذموم.

قال الشراح: (ضرب النبي ﷺ لِـما جاء به من الدين مثلا بالغيث العام الذي يأتي الناسَ في حال حاجتهم إليه، وكذا كان حال الناس قبل مبعثه، فكما أن الغيث يحيي البلد الميت فكذا علوم الدين تحيي القلب الميت، ثم شبّه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث، فمنهم العالم العامل المعلّم، فهو بمنزلة الأرض الطيبة شربت فانتفعت في نفسها، وأنبتت فنفعت غيرها، ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه غير أنه لم يعمل بنوافله، أو لم يتفقه فيما جمع؛ لكنه أداه لغيره)

لاحظوا هنا! جامع للعلم، عمل ببعضه ولم يعمل بالبعض؛ لكن هذا البعض الذي لم يعمل به لا يؤدي به إلى الفسق، لا، ترك النوافل، مستحبات، أو لم يتفقه في العلم فيما جمع؛ لكنه أداه لغيره، كرواة الحديث مثلًا الذين ليسوا بفقهاء

قالوا: (فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس به، وهو المشار إليه بقوله: «نضّر الله امرأ سمع مقالتي فأداها كما سمعها» ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه، ولا يعمل به، ولا ينقله لغيره، فهو بمنزلة الأرض السبْخة، أو الملساء التي لا تقبل الماء، أو تفسده على غيرها) قالوا: (وإنما جمع في المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما، وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النفع بها والله أعلم) انتهى.

وفي رواية: بدل قول إسحاق المتقدم أُخّر هنا، كما قرأ أخونا الشيخ أبو حذيفة في نسخته التي هي السلطانية، بعد ذلك فيها: "قال أبو عبد الله" أي البخاري "قال إسحاق" وهو ابن إبراهيم بن مخلد الحنظلي المرْوَزي أبو يعقوب، مشهور بابن راهُويَه.

أهل الحديث يقولون: راهُويَه، وأهل اللغة يقولون: راهَوِيه، الأمر سهل.

ثقة حافظ، إمام من أئمة المسلمين، عالم مجتهد، قرين أحمد بن حنبل، تغيّر قبل أن يموت بقليل، يروي أتباع التابعين مات بنيسابور سنة 238 روى له الجماعة سوى ابن ماجه.

قال أحمد: (لم يعبر الجسر إلى خرسان مثلُه) وقال أيضًا: (لا أعرف له بالعراق نظيرًا)

وقال مرة لما سئل عنه: (إسحاق عندنا إمام من أئمة المسلمين) وقال النسائي: (إسحاق أحد الأئمة) وقال أيضًا: (ثقة مأمون) وقال ابن خزيمة: (والله لو كان في التابعين لأقروا له بحفظه وعلمه وفقهه)

قال ابن حبان: (وكان إسحاق من سادات زمانه فقهًا وعلمًا وحفظًا ونظرًا ممن صنف الكتب، وفرّع السنن، وذب عنها وقمع من خالفها).

وقال نعيم بن حماد: (إذا رأيت الخرساني يتكلم في إسحاق فاتهمه في الدين) انتهى.

هذا أيضًا من الصور التي ذكرنا لكم عن السلف رضي الله عنهم أنهم يمتحنون بالأشخاص.

إسحاق بن راهويه له مسند موجود مطبوع.

قال الشراح: (هذا من المواضع المشكِلة في كتاب البخاري) إسحاق اسم هكذا بدون نسبة، قالوا هذا من المواضع المشكلة في كتاب البخاري، لماذا؟

قالوا: (فإنه ذَكر جماعة في كتابه لم ينسبهم، فوقع من بعض الناس اعتراض عليه بسبب ذلك لِـما يحصل من اللَبْس وعدم البيان، ولاسيما إذا شاركهم ضعيف في تلك الترجمة) هنا ما في مشاركة لضعيف؛ لكن إذا كان دار الأمر بين ثقة وضعيف صار إشكال عندنا في الأمر، قالوا: (وأزال الحاكم ابن البيّع اللبس بأن نسب بعضه، واستدل على نسبته، وذكر الكلاباذي بعضهم، وذكر ابن السكن بعضًا، ومن جملة التراجم المعترضة: إسحاق، فإنه ذكر هذه الترجمة في مواضع من كتابه مهملة) بدون نسبة، إسحاق بس، (وهي كثيرة جدًا) في كتابه (قال أبو علي الجياني: روى البخاري عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي) واحد (وإسحاق بن إبراهيم بن نصر السَّعدي) اثنين (وإسحاق بن منصور الكوسج) ثلاثة (عن أبي أسامة حماد بن أبي أسامة) ثلاثتهم، فكيف تميز بينهم؟ الراوي عنهم واحد، ورووا عن واحد، إسحاق (المذكور هنا لا يخرج عن أحد الثلاثة، ويترجح أن يكون إسحاق بن راهويه لكثرة روايته عنه، وقد حكى الجياني عن سعيد بن السكن الحافظ: أن ما كان في كتاب البخاري عن إسحاق غير منسوب فهو ابن راهويه) انتهى.

الترجيح حصل بماذا؟ بالكثرة، لكثرة روايته عن إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، فرجحوا أن يكون المذكور في كتاب البخاري بهذا اللفظ "إسحاق" بدون نسبة أن يكون إسحاق بن إبراهيم بن راهويه.

اعتنى ابن حجر رحمه الله ببيان الذين لم ينسبهم البخاري في مقدمة الفتح وفي الفتح أيضًا، والراجح هنا أنه ابن راهويه.

وعلى كل الثلاثة محتج بهم، ففي مثل هذا لا إشكال؛ لأن اللبس ما حصل بين محتج به وغير محتج به، الإشكال يحصل عندما يكون بين الخيارات أحد الضعفاء؛ عندئذ يصبح مشكل، هل الإسناد صحيح أم الإسناد ضعيف؟

قال: "وكان منها طائفة قيّلت الماء" قال ابن حجر: (قوله: "قال إسحاق: وكان منها طائفة قيّلت" أي: بتشديد الياء التحتية، أي إن إسحاق -وهو ابن راهويه-) طبعًا الياء التحتية لا يعني هذا الياء المكسورة، الياء التحتية يعني الياء التي تحتها نقطتين، يقول لك "تحتية" حتى تُميّز بين التاء والياء، فإذا أراد التاء قال "التاء الفوقية"، وإذا أرادوا الياء قالوا "الياء التحتية"، للتمييز بينهما.

في النون أيضًا "الفوقية"، الباء "التحتية" يعني النقطة من تحت، النون فوقية النقطة من فوق، وهذا كثير سيمر معنا إن شاء الله صور له.

(أي إن إسحاق -وهو ابن راهويه- حيث روى هذا الحديث عن أبي أسامة خالف في هذا الحرف)

يعني إسحاق ابن راهويه خالف في هذا الحرف الذي ذكره.

قال ابن الملقن: (وقوله: "قال إسحاق: وكان منها طائفة قيلت الماء" قيّده الأصيلي) أحد رواة صحيح البخاري (بالمثناة تحت) المثناة التي هي ماذا؟ الياء، لماذا يقول المثناة؟ للتمييز بينها وبينها الموحدة وهي الباء، تكون المثناة التحتية فيعنون بذلك الياء، بالموحدة التحتية يعنون بها الباء، بالموحدة الفوقية النون، بالمثناة الفوقية التاء، وهكذا..

قال: (بالمثناة تحت قال: وهو تصحيف منه، وإنما هو بالباء الموحدة) لماذا يقول موحدة وغير موحدة وكذا...؟ خشية التصحيف، الضبط بهذه الطريقة -بالكلمات- أبعد عن التصحيف.

(وقال غيره: معناه: شربت القَيْل، وهو شرب نصف النهار، يقال: قَيّلَت الإبل إذا شربت نصف النهار، وقيل معناه: جَمعت وحبست)

(وإذا تقرر هذا فقد روى سائر الرواة غير الأصيلي: "قبلت" في الموضعين: في أول الحديث، وفي قول إسحاق، وكذا رواه النسَفي) فهذه الرواية هي الصحيحة إن شاء الله، انتهى كلامه.

"قاع يعلوه الماء" أي إن «قيعان» المذكورة في الحديث جمع قاع، وأنها الأرض التي يعلوها الماء ولا يستقر فيها، تفسير لهذه اللفظة.

"والصفصف المستوي من الأرض" أين الصفصف تجدونها في الحديث؟ لا يوجد في الحديث "الصفصف" قال أهل العلم: هذا إشارة إلى تفسير قوله تعالى: ﴿قاعًا صفصفًا﴾

قال الشراح: (هذا ليس في الحديث؛ وإنما ذكره جريًا على عادته في الاعتناء بتفسير ما يقع في الحديث من الألفاظ الواقعة في القرآن)

هذا الحديث متفق عليه، أخرجه الشيخان وغيرهما من طرق عن حماد بن أسامة به.

قال البزار -بعد أن روى الحديث من طريقه-: (وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن أبي موسى إلا بهذا الإسناد) انتهى.

‌‌"بَابُ رَفْعِ الْعِلْمِ وَظُهُورِ الْجَهْلِ وَقَالَ رَبِيعَةُ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يُضَيِّعَ نَفْسَهُ

حَدَّثَنَا ‌عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا ‌عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ ‌أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ ‌أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا»"

"بَابُ رَفْعِ الْعِلْمِ وَظُهُورِ الْجَهْلِ" قال الشراح: المقصود -مقصود الباب- الحث على تعلم العلم؛ فإنه لا يرفع إلا بقبض العلماء كما سيأتي صريحًا ومادام من يتعلم العلم موجودًا لا يحصل الرفع، وقد تبيّن في حديث الباب أن رفعه من علامات الساعة.

قالوا: أي هذا "باب" في بيان "رفع العلم وظهور الجهل" وإنما قال: "وظهور الجهل" مع أن رفع العلم هو ظهور الجهل؛ لماذا خصص ظهور الجهل -لأن هذا يستلزم-؟ قالوا: لزيادة الإيضاح، وبضدها تتبين الأشياء.

"وقال ربيعة" هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن فرّوخ التيمي مولاهم، أبو عثمان المدني، شيخ الإمام مالك المعروف بربيعة الرأي، لكثرة اشتغاله بالرأي، تابعي ثقة فقيه مشهور.

قال ابن سعد: (وكان ثقة كثير الحديث وكأنهم يتقونه للرأي) انتهى.

مات سنة 136 وقيل غير ذلك، روى له الجماعة.

ذمه بعض أهل الحديث لإفتائه بالرأي المخالف للسنة.

الإفتاء بالرأي: إفتاء باجتهاد من غير نصوص؛ منه ما هو جائز، ومنه ما هو ممنوع، محرم.

الجائز منه: إذا لم يوجد في المسألة دليل شرعي من كتاب أو سنة أو إجماع، فيجوز عندئذٍ أن يستعمل العالم المتمكن الحاصل على علوم الآلة والمتمكن فيها أن يستعمل الاجتهاد -الرأي- حتى يخرج بحكم شرعي على ما يظن أنه موافق لما يريد الله تبارك وتعالى ورسوله ﷺ.

النوع هذا استعماله عند الحاجة لا بأس به، وقد اجتهد أئمة الإسلام من الصحابة ومن بعدهم اجتهادات كثيرة من هذا النوع.

أما النوع الثاني: وهو النوع المذموم، وهو استعمال الرأي مع وجود الدليل الشرعي ومخالفة الدليل الشرعي بهذا الرأي، هذا النوع مذموم، وهو الذي كان السلف رضي الله عنه يذمون من يستعمله، ومن يتوسع في الرأي يقع في هذا النوع، خاصة إذا لم يكن من المكثرين من السنة والمطلعين عليها، فيحصل الذم؛ هل هو من النوع الذي يتعمد ذلك؟ تبلغه النصوص الشرعية ويتعمد مخالفتها بالرأي؟ أم أنه من النوع الثاني الذي يجتهد بالرأي ويخالف النصوص الشرعية لكنه لا يتعمد ذلك بل يحصل هذا منه لأنه لم يقف على النص الشرعي؟

هنا يحصل الإشكال، فمن ظن بمستعمل الرأي أنه يخالف النصوص الشرعية برأيه مع بلوغها له ذمه واستنقصه، وحُق له ذلك، ومثل هذا يُطعن فيه، ويستحق الطعن لمخالفته كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ الواضحة الموجودة بين يديه.

أما إذا لم يكن من هذا النوع، وخالف النصوص لأن النصوص لم تبلغه -خاصة الأحاديث النبوية، طبعا القرآن قد وقفوا عليه جميعًا؛ لكن النصوص النبوية هي التي تفوته- فهذا يكون معذورًا، فهذا معذور.

وربيعة الرأي عند كثير من أهل الحديث هو من النوع الثاني، ما كان يتعمد مخالفة النصوص؛ لذلك أثنى عليه العلماء وذكروا فضله ومكانته، ومنهم أئمة السنة في وقتهم والذين جالسوه وعرفوه؛ لكن بعض أهل الحديث قد ذموه وتكلموا فيه بسبب هذه المسألة، والظاهر أنه لم يكن ممن يتعمد ذلك.

وهذه المسألة مما ذُم بها أيضُا أبو حنيفة، وكان الإشكال فيه أيضًا كما كان في ربيعة، وسيأتي إن شاء الله موضوعه في موضعه.

قال الإمام مالك بن أنس: (ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة بن أبي عبد الرحمن)

قال أبو بكر الخطيب: (كان ربيعة فقيهًا عالـمًـا حافظًا للفقه والحديث، قدم على السفاحِ الأنبارَ) أبو العباس السفاح من الدولة العباسية، قدم عليه الأنبار التي الآن في العراق، قال: (وكان أقدمه ليوليه القضاء، فيقال: إنه توفي بالأنبار، ويقال: إنه توفي بالمدينة) انتهى.

وقال النووي: (واتفق العلماء من المحدثين وغيرهم على توثيقه وجلالته وعظم مرتبته في العلم والفهم)

ماذا قال ربيعة؟ قال: "لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه"

قال البخاري في "التاريخ الكبير": (قال عبد العزيز بن عبد الله: حدثنا مالك قال: كان ربيعة يقول لابن الشهاب: إن حالي ليس يشبه حالك، أنا أقول برأيٍ، من شاء أخذه، وأنت تحدّث عن النبي ﷺ، فتَحفَّظ، لا ينبغي لأحد يعلم أن عنده شيئًا من العلم يضيع نفسه) انتهى،

وصله الخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"، والبيهقي في "المدخل".

وقال البيهقي: (وهذا القول من ربيعة رحمه الله يُحتمل أن يكون مراده من ذلك توقير العلم كما فعل مالك ابن أنس، ويُحتمل أن يكون مراده نشره في أهله) يعني العلم (وترك الاشتغال بما يمنعه عنه كيلا يموت فيذهب علمه ولم ينتفع به غيره وكلاهما حسَن وبالله التوفيق)

وقال ابن الملقن: (مناسبة قول ربيعة للتبويب في "رفع العلم" أن من كان فيه فهم وقبول للعلم فلا يضيع نفسه بإهماله؛ بل يُقبل عليه ويهتم به، فإنه إذا لم يفعل ذلك أدى إلى رفع العلم؛ لأن البليد لا يقبل العلم فهو عنه مرتفع، فلو لم تُصرف الهمة إليه أدى إلى رفعه مطلقًا.

ويحتمل أن المراد به: أن العالم ينبغي له تعظيم العلم بأن لا يأتي أهل الدنيا إجلالًا له؛ فإنه إذا أكثر منهم أداه ذلك إلى قلة الاشتغال والاهتمام به.

ويحتمل معنى ثالثًا: أن من هذا حاله لا يُضيّع نفسه بأن يجعله للأغراض الدنيوية؛ بل يقصد به الإخلاص؛ لتحصل له الثمرات الأخروية فيكون جامعًا للعلم والعمل به) انتهى.

أحسنها: التفسير الثاني للبيهقي، فمن رزقه الله شيئًا من العلم فلا يضيع نفسه بالاشتغال، بالدنيا، أهل الدنيا كثير، والمشتغلون بها كثر، فليست بحاجة إلى أن يذهب إليها طلبة العلم؛ بل يستكثر الطالب منه، ويعمل على نشره بين الناس، فهذا أعظم جهاد في زمننا هذا؛ لقلة القائمين به، فالعلم يضيع بذهاب العلماء، وذهابهم يكون بقبضهم، فلا يوجد من يعلّم الناس، فمن عنده شيء من العلم فلا يضيع نفسه لحاجة الناس إليه، وكي يبقى علم الشريعة فيهم.

المحافظة على دين الله ونشر دين الله بين الناس هذا أعظم جهاد في سبيل الله، وهو عمل الأنبياء وورثة الأنبياء، إذا لم يوجد علماء لا يوجد جهاد، ولا توجد صلاة، ولا صيام، ولا شيء من العبادات؛ لماذا؟ لأن بقبض العلماء الذين يعلمون الناس هذه العبادات تذهب هذه العبادات بين الناس، تزول، فيذهب الدين، إذًا العلماء حماة الدين، وهم المجاهدون في سبيل الله، وهذا أعظم جهاد، هو المقدمة؛ فلذلك من فتح الله عليه بالعلم فلا يستخف بالأمر ولا يستهن بنفسه، فهذا رزق رزقه الله إياه فعليه أن يستغله أحسن استغلال ويصبر.

هذا الجهاد لا بد فيه من الصبر، إذا لم تصبر على الفقر، على الحاجة، على مشاغل الدنيا وأتعاب الدنيا لا يمكن أن تصير طالب علم بحق، من سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه أن المصاعب والعقبات التي ستواجهك في أثناء طلبك للعلم كثيرة، ومنها الفقر، أكثر من رأينا من طلبة العلم يطلبون للعلم فقراء، ويجدون صعوبة في طلبه، ومن أكبر العقبات أمام طالب العلم مشاغل الدنيا، إذا بقيتَ في أثناء طلبك للعلم تُقدم مشاغل الدنيا وتقول أنتهي من هذه بعد تلك والتي بعدها لن تطلب العلم، هذا أمر معلوم، ما في عالم من علماء الإسلام إلا وواجهته هذه المشاغل، واجهته المصاعب، لما قدّم العلم والاهتمام بالعلم على كل شيء إلا ما فيه ضرورات، هذه الضرورات شيء آخر، أما غير ذلك فقدِّم العلم، هو الشغل الأساسي ينبغي أن يكون في حياتك؛ عندئذ يفتح الله سبحانه وتعالى عليك إن شاء ويمن عليك بفضله.

فالمسألة تحتاج إلى جهاد، أما أن تجعل العلم ثانويًا بعد مشاغل الدنيا فهنا لن تحصل إلا ما شاء الله سبحانه وتعالى منه.

قال: "حدثنا عمران بن ميسرة" المِنقري أبو الحسن البصري الآدمي، ثقة يروي عن أتباع التابعين، مات سنة 223 روى له البخاري وأبو داود.

"قال: حدثنا عبد الوارث" هو ابن سعيد بن ذكوان تميمي بصري ثقة تقدم.

"عن أبي التياح" يزيد بن حميد بن الضبعي ثقة ثبت.

قال ابن الملقن: (وليس في الستة من يشترك معه في هذه الكنية، وربما كُنّي بأبي حماد) تقدم.

"عن أنس" هو ابن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله ﷺ "قال: قال رسول الله ﷺ: «إن من أشراط الساعة" أي: من علاماتها "أن يُرفع العلم" بموت حملته وقبض نقلته، لا بمحوه من الصدور كما جاء في قوله ﷺ: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد» أو «من صدور العباد؛ ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يُبقِ عالما اتخذ الناس رؤوسًا جهالا فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلوا» الرؤوس الجهال هؤلاء أنواع، منهم من ليس عنده علم أصلًا، ومنهم من عنده علم ولكنه من رؤوس الضلال فيسألونهم فيَضلون ويُضلون؛ لكن العلماء بحق يُقبضون، لا يبقى منهم أحد.

علم البدعة جهالة، ليس بعلم، العلم المعتبر هو علم الكتاب والسنة، هؤلاء يقبضون؛ لكن الأدلة الأخرى تبيّن لنا بقاء الطائفة «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين» وهذه الطائفة رأسها وأساسها هم العلماء؛ إذًا ما المقصود بقبض العلماء هنا؟

قبض العلماء يكون بقبض هذه الطائفة المنصورة، زوالهم بالريح الطيبة التي ستأتي، فإذا كان المقصود من هذا عدم بقاء أي عالم، فهذا المعنى المقصود أنّ هذا سيكون في آخر الزمان عندما تأتي هذه الريح الطيبة.

أما إذا كان المقصود قبض أكثر العلماء وبقاء القلة في الطائفة المنصورة فهذا يحصل حتى قبل هذه الريح، ففي زمننا هذا مثلًا علماء السنة قلة، نوادر من الناس حتى مع وجود علماء؛ لكن الكثير منهم علماء ضلالة، وعلماء السنة قليلة.

قال: "ويثبت الجهل" من الثبوت وهو ضد النفي.

قال النووي: وكذا هو في أكثر نسخ مسلم، وفي بعضها: «يبث» أي: ينتشر

"ويُشرب الخمر" أي: يشرب بكثرة، وينتشر ذلك، كما جاء في رواية عند البخاري: «ويكثر شرب الخمر» يكثر، المطلق محمول على المقيد؛ لماذا؟ لأن شرب الخمر هذا لا يصح أن يكون علامة من علامات الساعة التي ستحصل بعد عهد النبي ﷺ بمدة إلا وأن تكون غير موجودة في زمنه ﷺ، وشرب الخمر كان موجود في زمنه، في زمن الصحابة شُرب الخمر؛ لكنه لم يكن ذلك منتشرا وكثيرا كما هو في زماننا هذا، موجود وبكثرة.

قال الشراح: (فالمطلق محمول على المقيد خلافًا لمن ذهب إلى أنه لا يجب حمله عليه، والاحتياط بالحمل هاهنا أولى؛ لأن حمل كلام النبوة على أقوى محامله أقرب؛ فإن السياق يُفهِم أن المراد بأشراط الساعة: وقوع أشياء لم تكن معهودة حين المقالة، فإذا ذَكر شيئًا كان موجودًا عند المقالة فحمْله على أن المراد بجعله علامة أن يتصف بصفة زائدة على ما كان موجودًا كالكثرة والشهرة أقرب) انتهى

"ويظهر الزنا" أي يفشو، كما جاءت في رواية عند مسلم، وفي رواية: «ويكثر الزنا».

وكل هذه العلامات حاصلة اليوم في أمة محمد ﷺ ومنتشرة بكثرة فيهم.

العلم المقصود به العلم الشرعي، العلم الشرعي وهو الآن قليل، والجهل غالب على كثير من الناس، وشرب الخمر والزنا كثرته لا تحتاج إلى حديث اليوم، فكل هذه العلامات حاصلة ومنتشرة، وهذه علامة من علامات صدق النبي ﷺ قد وقعت كما قال، وعلامة على قرب الساعة، وينبغي الحرص على العلم تعلمًا وتعليمًا، ففي رفع العلم وظهور الجهل هلاكٌ لهذه الأمة؛ ولكن كما ذكرنا الطائفة المنصورة باقية لا تنتهي في آخر الزمان إلى أن تأتي تلك الريح الطيبة فالخير باق الحمد لله، بفضل الله سبحانه وتعالى علينا.

والحديث متفق عليه وله متابعات وشواهد.

"حَدَّثَنَا ‌مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا ‌يَحْيَى، عَنْ ‌شُعْبَةَ، عَنْ ‌قَتَادَةَ، عَنْ ‌أَنَسٍ قَالَ: لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَا يُحَدِّثُكُمْ أَحَدٌ بَعْدِي، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَقِلَّ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا، وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ»"

"حدثنا مسدد" هو ابن مسرهد أبو الحسن البصري، ثقة حافظ تقدم.

"قال: حدثنا يحيى" هو ابن سعيد القطان، الإمام.

"عن شعبة" ابن الحجاج أبو بسطام إمام تقدم.

"عن قتادة" هو ابن دعامة السدوسي ثقة حافظ مدلس والراوي عنه هنا شعبة فأمنّا من تدليسه.

"عن أنس" ابن مالك رضي الله عنه "قال: لأحدثنكم" أي: والله لأحدثنكم "حديثًا لا يحدثكم أحد بعدي" ولمسلم: "لا يحدث أحد بعدي" بحذف المفعول وللمؤلف من طريق هشام "لا يحدثكم غيري"

قال ابن حجر: (وعرف أنس أنه لم يبقَ أحد ممن سمعه من رسول الله ﷺ غيرُه؛ لأنه كان آخر من مات بالبصرة من الصحابة؛ فلعل الخطاب بذلك كان لأهل البصرة، أو كان عامًا وكان تحديثه بذلك في آخر عمره؛ لأنه لم يبقَ بعده من الصحابة من ثبت سماعه من النبي ﷺ إلا النادر ممن لم يكن هذا المتن في مرويه) انتهى المراد.

قال: "سمعت رسول الله يقول: «من أشراط الساعة: أن يقل العلم»" لاحظوا هنا هذا اللفظ، واللفظ السابق في الحديث يدل هذا على شيء «أن يقل» وهناك قال: «أن يرفع».

قال الشراح: وللبخاري في الحدود والنكاح «أن يرفع العلم» أيضًا وكذا لمسلم قالوا: ولا تنافي بينهما؛ إما لأن القلة فيه معبَّر بها عن العدم فأطلقت القلة وأريد بها العدم، كما يطلق العدم ويراد به القلة فإما المقصود هو أن يعدم العلم، أو المقصود أنه يقل العلم، وحديث الطائفة المنصورة يدل على أن المقصود من ذلك القلة إذا قلنا بأن هذه العلامة المقصود منها أن تظهر قبل الريح الطيبة قالوا بعد ذلك: أو ذلك باعتبار زمانين مبدأ الاشتراط وانتهائه.

يعني في بداية الأمر من أشراط الساعة قلة العلم، ثم بعد ذلك في نهاية الأمر يرفع العلم، وهذا أيضًا صحيح، فيحتمل أن يكون المراد بقلته أول العلامة وبرفعه آخرها. انتهى.

"ويظهر الجهل، ويظهر الزنا، وتكثر النساء، ويقل الرجال حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد»" القيّم: هو من يقوم بأمر النساء، يعني من إنفاق وولاية وغير ذلك...

المحقَّق هنا أن الرجال يقلون والنساء يكثرن، السبب؟ اختلف العلماء كثيرًا في هذا:

فقيل: سببه أن الفتن تكثر فيكثر القتل في الرجال لأنهم أهل حرب دون نساء ولعل هذا القول أقرب ما قيل في ذلك.

وقيل: بل يقدّر الله في آخر الزمان أن يقل من يولد من الذكور ويكثر من يولد من الإناث.

وقيل غير ذلك.

وقوله: «لخمسين امرأة» هل المراد بذلك تحديد العدد -خمسين بالضبط- أو المراد من ذلك التقريب؟

هذا في اللغة يطلق بهذا المعنى وبهذا المعنى، والذي يؤيد التقريب في حديث أبي موسى: «ويُرى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يلُذْن به من قلة الرجال وكثرة النساء» هنا قال: «أربعون»، وعندنا قال: "خمسون" إذن الموضوع تقريبي وليس تحديديًا.

قال ابن حجر: (وكأن هذه الأمور الخمسة) يعني العلامات (خُصت بالذكر لكونها مشعرة باختلال الأمور التي يحصل بحفظها صلاح المعاش والمعاد، وهي: الدين لأن رفع العلم يخل به، والعقل لأن شرب الخمر يخل به، والنسب لأن الزنا يخل به، والنفس والمال لأن كثرة الفتن تخل بهما، قال الكِرماني: "وإنما كان اختلال هذه الأمور مؤذنًا بخراب العالم؛ لأن الخلق لا يُتركون هملًا ولا نبي بعد نبينا صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين فيتعين ذلك" وقال القرطبي في "المفهم": "في هذا الحديث علَم من أعلام النبوة إذ أخبر عن أمور ستقع ووقعت خصوصًا في هذه الأزمان") هذا في زمنه يتكلم فما بالك في زمننا هذا.

(وقال القرطبي في "التذكرة": "يحتمل أن يراد بالقيم من يقوم عليهن، سواء كن موطوءات أم لا، ويحتمل أن يكون ذلك يقع في الزمان الذي لا يبقى فيه من يقول الله الله، فيتزوج الواحد بغير عدد جهلا بالحكم الشريف" قلتُ) الكلام لابن الحجر طبعًا (وقد وجد ذلك من بعض أمراء التركمان وغيرهم من أهل هذا الزمان مع دعواه الإسلام والله المستعان) انتهى.

الحديث متفق عليه، وموضوع علامات الساعة والكلام فيها سيأتي إن شاء الله في موضعه.

المقصود من هذا كله هو الاهتمام بالعلم قبل أن يُرفع.

‌‌"بَابُ فَضْلِ الْعِلْمِ

حَدَّثَنَا ‌سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي ‌اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ‌عُقَيْلٌ، عَنِ ‌ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ ‌حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ ‌ابْنَ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ، فَشَرِبْتُ حَتَّى أَنِّي لَأَرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ فِي أَظْفَارِي، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ» قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الْعِلْمَ»"

"باب فضل العلم" فضل العلم يراد به معنيان:

الأول: فضل بمعنى فضيلة العلم وهذا تقدم في أول كتاب العلم.

والمعنى الثاني: بمعنى الزيادة؛ كالنهي عن بيع فضل الماء، المقصود من "فضل الماء" أي: ما زاد عن الحاجة.

بعض الشراح قال المراد هنا المعنى الأول فيكون عندنا الباب مكرر؛ لأنه ذكر في البداية فضل العلم.

والبعض الآخر قالوا لا، لا يوجد تكرار والمعنى الثاني هو المراد هو الزيادة.

"حدثنا سعيد بن عُفير" هو سعيد بن كثير بن عفير الأنصاري مولاهم المصري صدوق تقدم.

"قال: حدثنا الليث" هو ابن سعد الفهْمي إمام تقدم.

"قال: حدثني عُقيل" ابن خالد الأيلي ثقة، تقدم.

"عن ابن شهاب" محمد بن مسلم بن شهاب الزهري إمام تقدم.

"عن حمزة بن عبد الله بن عمر" هو ابن الخطاب أبو عمارة المدني، شقيق سالم تابعي ثقة فقيه، روى له الجماعة.

"أن ابن عمر" هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.

"قال: سمعت رسول الله ﷺ قال: «بينا أنا نائم" "بينا" بغير ميم، ويجوز "بينما" بالميم، معناهما واحد، هو ظرف بالزمان معناه: بين أوقات نومي، أي: في الوقت الذي كنت فيه نائمًا "أُتيت بقدح" القدح واحد الأقداح التي للشرب.

قال العسكري في الفرق بين الكأس والقدح: (وذلك أن الكأس لا تكون إلا مملوءة، والقدح تكون مملوءة وغير مملوءة) انتهى.

وهنا مملوءة طبعًا "أتيت بقدح لبن" مملوءة لبن، يعني أتي النبي ﷺ كأسًا فيه لبن وهو نائم هذا، هذه رؤية منامية، واللبن هذا يسمى عندنا في الشام وعند كثير من العرب اليوم حليب.

والحليب في اللغة: هو اللبن المحلوب، وليس كل لبن؛ ولايزال عند أهل مصر يسمى لبنًا.

يعني المقصود هنا باللبن أنه الحليب.

"فشربت حتى أني لأرى" من الرؤية "الري" من الارتواء، وهو أخذ حاجته من الماء ونحوه تامًا "يخرج في أظفاري" وفي رواية عند البخاري: «من أطرافي» يجوز أن يكون «في» هنا بمعنى: على، أي: على أظفاري، يعني ارتوى حتى خرج اللبن من أظفاره.

"ثم أعطيت فضلي" أي: ما فَضُل من اللبن الذي في القدح الذي شربت منه، أعطيته لمن؟ لـ "عمر بن الخطاب، قالوا:" أي الصحابة "فما أولته يا رسول الله؟" أيش تعبير الرؤية هذه التي رأيتها؟ "قال:" أولته "العلم" عبّره بالعلم.

موضوع تعبير الرؤى هذا موضوع طويل وسيأتي له باب خاص إن شاء الله.

قال الشراح: (ووجه التعبير بذلك من جهة اشتراك اللبن والعلم في كثرة النفع) الاشتراك هذا في تعبير الرؤية لا بد منه، لا بد من اشتراك بين الرمز الذي تراه في الرؤية وبين الواقع والحقيقة المرادة، يكون بينهما اشتراك، ارتباط في شيء، أيش هذا الارتباط الموجود بين اللبن والعلم حتى فسّر النبي ﷺ اللبن بالعلم؟ هذا الارتباط هو كثرة النفع، هكذا قالوا (وكونهما سببًا للصلاح، فاللبن للغذاء البدني، والعلم للغذاء المعنوي) هذا الارتباط بينهم.

اللبن هو لبن؛ لكن في تعبير الرؤية لا يُعبَّر على معنى واحد، تعبير الرؤية عِلم، شيء واحد ممكن يُعبَّر على أكثر من معنى، على حسب القصة التي تحصل في الرؤية، على حسب حال الرآي، يوجد أسباب كثيرة، قرائن كثيرة تجعلك تعبّر الرؤية على نحو معين.

قال المهلّب: (‌رؤية ‌اللبن ‌في ‌النوم تدل على السنة والفطرة والعلم والقرآن؛ لأنه أول شيء ناله المولود من طعام الدنيا، وهو الذى يفتق مِعاه، وبه تقوم حياته كما تقوم بالعلم حياة القلوب، وهو يشاكل العلم من هذه الناحية، وقد يدل على الحياة؛ لأنها كانت به في الصغر، وقد يدل على الثواب؛ لأنه من نعيم الجنة إذا رئي نهر من لبن، وقد يدل على المال الحلال، وإنما أوّله عليه السلام في عمر بالعلم والله أعلم؛ لعلمه بصحة فطرته ودينه، والعلم زيادة في الفطرة على أصل معلوم) انتهى.

قال ابن حجر: (وفي الحديث فضيلة عمر)

طبعًا هذه تبين لك فضيلة عمر، والقدر الذي كان عليه عمر من العلم رضي الله عنه؛ بل هو أعلم هذه الأمة بعد نبيها وبعد أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، وقد نقلوا الإجماع على أن أبا بكر أعلم هذه الأمة بعد نبيها ﷺ، ثم يأتي عمر من بعده، وهذه شهادة من النبي ﷺ فرؤيا الأنبياء وحي.

قال: (وأن الرؤيا من شأنها أن لا تحمل على ظاهرها) هذا تأخذه قاعدة، الرؤيا ليست دائمًا مثل ما تراها هي بالتطبيق واقعي، لا، تكون -بل ربما لو قيل في الأغلب لما أبعد القائل- ربما يُقال: في الغالب أنها عبارة عن رموز كهذا الذي مر معنا.

قال: (وإن كانت رؤيا الأنبياء من الوحي؛ لكن منها ما يحتاج إلى تعبير) منها ما يكون على ظاهره

لا يحتاج إلى تعبير، أمره واضح ظاهر، ومنها ما يحتاج إلى تعبير، (ومنها ما يحمل على ظاهره، وسيأتي تقرير ذلك في كتاب التعبير إن شاء الله تعالى)

موضوع تعبير الرؤيا كله سيأتي هناك إن شاء الله.

قال بعض الشراح: (وجه مناسبة التبويب أنه عبّر عن العلم بأنه فضلة النبي ﷺ، وناهيك به فضلًا فإنه جزء من أجزاء النبوة) انتهى.

هذه فضيلة عظيمة للعلم؛ هذا بناء على تفسير فضل العلم بالفضيلة.

متفق عليه أخرجا الحديث البخاري مسلم من طرق عن الزهري به.

إلى هنا نكتفي بهذا القدر، والحمد لله.

قائمة الخيارات
0 [0 %]
الثلاثاء 3 جمادة الاولى 1445
عدد المشاهدات 267
جميع الحقوق محفوظة لشبكة الدين القيم © 2008-2014 برمجة وتصميم طريق الآفاق