الخميس 2 ذو القعدة 1445 هـ
09 مايو 2024 م
جديد الموقع   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-51، كتاب الوضوء، الحديث 183و184و185و186   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-50، كتاب الوضوء، الحديث 176و177و178و179و180و181و182   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-49، كتاب الوضوء، باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين.   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (124-129)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (117-123)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (111-116)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (107-110)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (97-106)   تفسير القرآن: ‌‌تفسير سورة التوبة 94-96   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-48، كتاب الوضوء، الحديث 170و171و172و173و174و175      

تفريغ شرح صحيح البخاري-22، كتاب العلم، الحديث 66 و67

الدرس الثاني والعشرون/يوم الأربعاء بتاريخ: 26/03/1445-11/10/2023

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، أما بعد.

فبداية، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يفرج عن أهلنا في غزة، فمصابهم عظيم، فعدو الله المتسلط عليهم لا يرقب في مؤمن إلًّا ولا ذمة، وعندهم من الكفر والحقد على الإسلام وأهله ما يكفي لإبادة أمة كاملة لو استطاعوا.

فالواجب على المسلمين أن ينصر بعضهم بعضًا، كلٌّ بما استطاع، ولا حيلة لنا إلا الدعاء، وليس بهيّن، فأكثروا منه وداوموا عليه إلى أن يفرج الله سبحانه وتعالى عنهم.

هذا الذي أصابنا من الوهن والضعف كله بأعمالنا، يجب أن نضع اللوم على أنفسنا قبل كل شيء، فلو لم يوجد هؤلاء لوجد غيرهم، والأمر كما أخبر النبي ﷺ: «تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها»، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: «لا، أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل».

وصف دقيق جدًا، هذا الحال الذي نعيشه، نحن كثر ولكننا غثاء كغثاء السيل.

السيل عند جريانه يحمل معه ما لا فائدة منه من أوساخ وقش وغيرها، هذا هو غثاء السيل.

هذا الوصف هو ينطبق على حال هذه الأمة في هذا الزمن، وذلك لبعدها عن دين الله.

وما تحصل حاصلة فيها تسلط الكفرة على المسلمين إلا ويحضرني قول أبي الدرداء لما دخلوا دمشق منتصرين حاملين معهم العبيد والإماء والأموال التي غنموها من العدو الكافر، فما كان منه رضي الله عنه إلا أن بكى، فقالوا: عجبًا، أوَتبكي في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: "هؤلاء أبناء الملوك، ما أهون الخلق على الله إذا هم أضاعوا أمره" ما أهون الخلق على الله إذا هم أضاعوا أمره.

يعني قيمتهم وقدرهم عند الله سبحانه وتعالى يذهب بسبب إضاعة أمره.

وحالنا اليوم كما ترون، بعد شديد عن الله، وانشغال في الدنيا وانهماك بها وكثرة معاصي.

حالة عجيبة، فليس عجيبًا أن يسلط الله علينا أمثال هؤلاء اليهود من الغرب، والرافضة من الشرق، والنصيرية والرافضة من الشمال، أُحطنا بهم.

وكلٌّ من هؤلاء له غايات، مآرب، أطماع في بلاد المسلمين في دمائهم وفي أعراضهم وفي دينهم قبل كل شيء، فحرب هؤلاء جميعًا الذين سميت حربهم دينية.

الحقد الذي في نفوسهم على المسلمين: لأنهم مسلمون، وعندهم في كتبهم في عقائدهم ما يقررون فيه أن قتل المسلم السني قربة يتقربون بها إلى الله.

فإذا أردنا أن ينصرنا الله سبحانه وتعالى وأن يرفع عنا هذا البلاء وأن يمكننا من رقاب هؤلاء فيجب علينا أن نرجع إلى الله سبحانه وتعالى، توبوا إليه، العواطف والصراخ والزعيق لا يأتي بشيء.

إنما التوبة الصادقة إلى الله سبحانه وتعالى والرجوع إليه، الصدق في هذا عقيدة وعملًا هو الذي يؤتي ثماره، وقتها عندما نرفع أيدينا إلى الله يا رب، يستجيب لنا، أما الآن نفزع إلى الدعاء نعم، ولكن مطعمنا حرام، مشربنا حرام، وغذيت أجسادنا بالحرام ثم نريد أن يستجاب لنا! أنّى يستجاب لنا؟!

والله المستعان، ونسأل الله الفرج من عنده.

وصلنا عند الحديث السادس والستين.

"‌‌بَابُ مَنْ قَعَدَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ وَمَنْ رَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا"

"حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ: أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ: عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ، إِذْ أَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَذَهَبَ وَاحِدٌ، قَالَ: فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا: فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الْآخَرُ: فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا. فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللهِ فَآوَاهُ اللهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ»"

"باب:" حكم "من قعد حيث ينتهي به المجلس" أي: مجلس العلم، "ومن رأى فرجة" مجلس العلم، والفرجة: هي الخلل بين الشيئين، أي: فسحة "في الحلقة" حلْقة العلم بإسكان اللام، وجوز بعض أهل اللغة فتحها، قال العسكري: هي كل مستدير خالي الوسط.

"فجلس فيها" أي: في الفرجة، والمراد: بيان أدب الطالب في الجلوس في مجلس العلم.

هذه آداب الجلوس في مجلس العلم.

"حدثنا إسماعيل" هو بن أبي أويس، ضعيف، البخاري ينتقي له، وهو متابع عند البخاري برقم ٤٧٤ وغيره، تقدم.

"قال: حدثني مالك" هو إمام دار الهجرة، تقدم.

"عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة" الأنصاري النجاري المدني، ابن أخي أنس بن مالك لأمه، من أتباع التابعين، ثقة، حجة، له جمع من الإخوة يروى عنهم العلم، هو أشهرهم وأرفعهم وأكثرهم حديثًا، تجدونهم في الكتب المصنفة في الإخوة والأخوات، وتقدم ذكرها، وذكر بعضهم ابن عبد البر في التمهيد، مات سنة ١٣٢، وقيل غير ذلك، روى له الجماعة.

"أن أبا مرة مولى عقيل بن أبي طالب" اسم أبي مرة: يزيد، حجازي، مشهور بكنيته، تابعي، ثقة، روى له الجماعة.

"أخبره عن أبي واقد الليثي" صاحب رسول الله ﷺ، واختلف في اسمه، يلتقي مع النبي ﷺ في كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، اختلف في شهوده بدرًا، شهد مع النبي ﷺ بعض المشاهد، وقاتل معه، وشهد بعده اليرموك، ثم جاور بمكة سنة، وتوفي بها سنة ٦٨، وهو ابن خمس وستين، وقيل: هو ابن سبعين سنة، ودفن بمقبرة المهاجرين، روى له الجماعة.

"أن رسول الله ﷺ بينما هو جالس في المسجد" المسجد النبوي، "والناس معه، إذ أقبل ثلاثة نفر" أي: ثلاثة رجال، النفر: ما بين الثلاثة إلى العشرة، أي: جاء ثلاثة رجال إلى المسجد.

"فأقبل اثنان إلى رسول الله ﷺ" أي: جاءا إلى مجلس النبي ﷺ "وذهب واحد" ولم يأت إلى مجلس رسول الله ﷺ.

"قال" أبو واقد "فوقفا على رسول الله ﷺ" أي: وقفا على مجلس رسول الله ﷺ، وفي الموطأ وغيره: "فلما وقفا على رسول الله ﷺ سلما" يستفاد منه: أن الداخل يبدأ بالسلام، وأن القائم يسلم على القاعد كما جاء مصرحًا به في أحاديث أخرى.

"فأما أحدهما فرأى فرجة" هي بضم الراء وبفتحها أيضًا، فيقال: فُرجة وفَرجة، لغتان، وهي: الفسحة "في الحلقة" هذا دليل على التحلق في مجالس العلم، كان يتحلق الصحابة رضي الله عنهم في مجلس العلم مع النبي ﷺ "فجلس فيها" هذا الأول وجد فرجة في الحلقة فجلس في هذه الفرجة.

"وأما الآخر" الرجل الثاني "فجلس خلفهم وأما الثالث فأدبر ذاهبًا" أي ذهب ولم يجلس معهم، والإدبار: هو التولي.

"فلما فرغ رسول الله ﷺ" مما كان مشتغلًا به "قال: «ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟»" كأنهم قالوا: أخبرنا عنهم. فقال ﷺ: "«أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله»" قال قوام السنة الأصبهاني في شرحه على البخاري وقد طبع مؤخرًا، وقوام السنة معروف إمام، أحد المجددين، صاحب كتاب الحجة في بيان المحجة، الأصبهاني، قال: (وقوله: أوى إلى الله: غير ممدود) يعني ليس آوى، أوى، ليس بالمدة، بالهمزة (فآواه الله -بالمد-، (يقال: أويت إليه أي انضممت إليه) هذا أصل الكلمة في اللغة، آواه إليه: ضمه إليه، قال: (قال الله عز وجل: ﴿إذ أوى الفتية إلى الكهف﴾ آويت فلانًا أي ضممته إلّي -بالمد-، قال الله تعالى: ﴿ألم يجدك يتيمًا فآوى﴾) انتهى.

اقتصر قوام السنة في شرح هذا الحديث على هذا الكلام، ما زاد عليه.

هذا المعنى للكلمة، والمقصود من الكلام أن هذا الرجل لجأ إلى الله سبحانه وتعالى فيسر الله له.

"«وأما الآخر فاستحيا»" قال الشراح: ترك المزاحمة حياء من الرسول ﷺ ومن أصحابه، فما زاحم، استحيى وجلس في الخلف كما هي عادة من يستحي، لا يدخل مع القوم، يجلس خلفهم، هذا قول في شرح هذا الحديث، وهو الأقرب.

وعند الحاكم: "فمضى الثاني قليلًا ثم جاء فجلس"

والمعنى الآخر الذي ذكره الشراح: أو استحيا من الذهاب عن المجلس كما فعل رفيقه الثالث، الظاهر الأول أقرب.

"«فاستحيا الله منه»" صفة الاستحياء لله صفة ثابتة لله تبارك وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته، لا كاستحياء المخلوقين، فـ ﴿ليس كمثله شيء﴾

فنثبت صفة الاستحياء لله كما أثبتها الله لنفسه في كتابه، وكما أثبتها له نبيه ﷺ، على مراد الله وعلى مراد رسول الله ﷺ، من غير تكييف ولا تحريف ولا تمثيل ولا تعطيل كما هو أصلنا في الأسماء والصفات.

ولا شك أنه من استحيا الله منه: رحمه وصفح عنه وأحسن اليه، هذه لوازم؛ ولكن ليست هي الاستحياء، الاستحياء شيء ولوازم الاستحياء شيء آخر، نعم، هذه لوازم، من استحيا منه الله سبحانه وتعالى فعل به هذا، لا إشكال في ذلك، لكن الإشكال مع المحرفين هو أنهم يريدون معنى الاستحياء هي هذه اللوازم.

معناها هكذا يفسرونه، الجهمية يحرفون هذه الصفة ويفسرونها بلوازمها.

الكثير من الشراح سلكوا مسلك الجهمية في هذه الصفة، يقولون: استحيا الله منه: رحمه ولم يعاقبه.

"«وأما الآخر»" الذي هو الثالث "«فأعرض»" عن مجلس رسول الله ﷺ ولم يلتفت إليه، بل ولّى مدبرًا "«فأعرض الله عنه»" الجزاء من جنس العمل، هذه قاعدة عليها أدلة كثيرة، هذه منها، يجازيك الله سبحانه وتعالى كما عملت، أو من جنس عملك.

"«فأعرض الله عنه»" فيه إثبات صفة الإعراض لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله وعظمته.

قال الإثيوبي رحمه الله: («فاستحيا الله منه» أي رحمه ولم يعاقبه، قاله في الفتح) يعني من؟ الحافظ ابن حجر، الحافظ ابن حجر أشعري، النووي أشعري سيأتي، سنذكر لكم بشكل صريح أشعريتهما حتى بعد ذلك من يقول لك ليسوا أشاعرة قل له هات البينة، هذه عندي البينة على أنهم أشاعرة، ثم بعد ذلك ما الذي جعلك تنفي عنهم الأشعرية؟ هذه إحدى المواضع التي سلكوا فيها مسلك الأشاعرة

(قاله في الفتح، وقال النووي: «فاستحيا الله منه»: أي رحمه ولم يعذبه بل غفر ذنوبه)

-هنا لو شاء شخص ممكن ينازعك يقول لك هم فسروا باللازم وليس معنى ذلك أنهم ينفون الصفة ولا يثبتونها، وكذلك ليس صريحًا في كونهم أشاعرة، ولكن سيأتي معكم ما هو صريح بإذن الله، (وقيل:) الكلام هنا ما زال ينقله الإثيوبي عن النووي (وقيل جازاه بالثواب، قالوا: ولم يلحقه بدرجة صاحبه الأول في الفضيلة الذي آواه وبسط له اللطف وقربه، انتهى، قال الجامع عفا الله عنه) -هذا الكلام للإثيوبي بعد أن نقل كلام النووي وابن حجر الآن يريد أن يعقب عليهما- قال: (هكذا أوّل الحافظ والنووي استحياء الله عزّ وجل بالرحمة وعدم المعاقبة، وكذا الإعراض الآتي بالسخط) فسروا أعرض الله عنه: يعني سخط الله عليه، قال: (وهذا تفسير باللازم، ويستلزم نفي صفة الاستحياء) يستلزم، لكن هل التزموا ولا لأ؟ هم التزموا، نعم يلتزمون هذا، لا يثبتون لله سبحانه وتعالى هذه الصفات، قال: (والإعراض عن الله) يستلزم نفي صفة الاستحياء، والإعراض عن الله تعالى (وهذا غير مقبول؛ بل الصواب أن صفتي الاستحياء والإعراض ثابتتان لله سبحانه وتعالى على الوجه اللائق به دون تأويل).

قال: (وقد أجاد بعض المحققين حيث كتب في هامش "الفتح" تعقبًا له ما حاصله: قوله: «فاستحيا الله منه» أي رحمه، وقوله: «فأعرض الله عنه» أي سخط عليه، في هذا التفسير للاستحياء والإعراض من الله عدول عن ظاهر اللفظ بغير موجب) يعني أنهم تركوا ظاهر اللفظ ولا يوجد عندهم شيء يوجب عليهم ترك هذا الظاهر؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يترك الظاهر إلا لدليل صحيح يوجب عليه ترك الظاهر، قال: (والحامل على ذلك عند من قال به: هو اعتقاد أن الله لا يوصف بالحياء ولا بالإعراض حقيقة، لتوهم أن إثبات ذلك يستلزم التشبيه) كما هي شبهة المحرفين.

قال: (وليس كذلك، بل القول في الاستحياء والإعراض كالقول في سائر ما أثبته الله عزّ وجل لنفسه أو أثبته له رسوله ﷺ في الأحاديث الصحيحة من الصفات، والواجب في جميع ذلك هو الإثبات مع نفي مماثلة المخلوقات، وقد ورد في الحديث: «إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرًا» حديث صحيح، رواه أبو داود والترمذي» انتهى)

ثم أكمل الإثيوبي رحمه الله كلامه عن الإعراض، وعن تحريف صفة الإعراض في "الفتح" ورد عليه أيضًا بزيادة عن هذا.

من الفوائد المستنبطة من هذا الحديث:

§ أن الداخل يبدأ بالسلام، وأن القائم يسلم على القاعد، وإنما لم يذكر رد السلام عليهما اكتفاء بشهرته، والله أعلم؛ لأنهما سلما، لكن ما جاء في الحديث أن النبي ﷺ والصحابة ردوا عليهما السلام، قالوا: لعل الراوي اختصره لأن هذا أمر مشهور ومعلوم.

§ ومنها: جواز التخطي إلى الفُرَج في حلقة العالم، إن وجدت فرجة في الحلقة يجوز التخطي من أجل الوصول إليها، وترك التخطي إلى غير الفرج.

قال ابن عبد البر رحمه الله: وليس ما جاء من حَمد التزاحم في مجلس العالم والحض على ذلك بمبيح تخطي الرقاب إليه) يعني تريد أن تجمع بين الأمرين: تزاحم في المجلس وتكثف الجلسة؛ لكن لا يعني ذلك أنك تتخطى الرقاب من أجل ذلك.

قال: (لما في ذلك من الأذى، كما لا يجوز التخطي إلى سماع الخطبة في الجمعة والعيدين ونحو ذلك، فكذلك لا يجوز التخطي إلى العالم إلا أن يكون رجلًا يفيد قربه من العالم فائدة ويثير علمًا، فيجب حينئذ أن يتفسح له لئلا يؤذي أحدًا حتى يصل إلى الشيخ، ومن شرط العالم أن يليه من يفهم عنه، لقول رسول الله ﷺ: «ليليني منكم أولو الأحلام والنهى» يعني في الصلاة وغيرها، ليفهموا عنه، ويؤدوا ما سمعوا كما سمعوا من غير تبديل معنى ولا تصحيف، وفي قول رسول الله ﷺ للمتخطي يوم الجمعة: «آذيت وآنيت») يعني تأخرت، آذيت وتأخرت.

(بيان أن التخطي أذى ولا يحل أذى مسلم بحال في الجمعة وغير الجمعة، ومعنى التزاحم في الركب في مجلس العالم: الانضمام والالتصاق، ينضم القوم بعضهم إلى بعض على مراكبهم، ومن تقدم إلى موضع فهو أحق به إلا أن يكون ما ذكرنا من قرب أولي الفهم من الشيخ فيفسح له، ولا ينبغي له أن يتباطأ ثم يتخطى إلى الشيخ ليرى الناس موضعه منه فهذا مذموم، ويجب على كل من علم موضعه أن يتقدم إليه بالتبكير، والبكور إلى مجلس العالم كالبكور إلى الجمعة في الفضل) انتهى.

قال الحافظ في الفتح: (وفيه استحباب الأدب في مجالس العلم، وفضل سد خلل الحلقة كما ورد الترغيب في سد خلل الصفوف في الصلاة، وجواز التخطي لسد الخلل ما لم يؤذ، فإن خشي استحب الجلوس حيث ينتهي كما فعل الثاني، وفيه الثناء على من زاحم في طلب الخير، قال: وفيه جواز الإخبار عن أهل المعاصي وأحوالهم للزجر عنها وأن ذلك لا يعد من الغيبة، وفي الحديث فضل ملازمة حلق العلم والذكر وجلوس العالم والمذكر في المسجد، وفيه الثناء على المستحي والجلوس حيث ينتهي به المجلس، ولم أقف في شيء من طرق هذا الحديث) الكلام للحافظ (ولم أقف في شيء من طرق هذا الحديث على تسمية واحد من الثلاثة المذكورين، والله تعالى أعلم) انتهى.

وقال أهل العلم: وفيه استحباب جلوس العالم لأصحابه وغيرهم في موضع بارز ظاهر للناس، والمسجد أفضل، فيذاكرهم العلم والخير، وفيه الثناء على من فعل جميلًا فإنه ﷺ أثنى على الاثنين في هذا الحديث.

هذا آخر ما أردنا ذكره في هذا الحديث.

الحديث متفق عليه من طريق مالك، عن إسحاق به، وله طرق عن مالك في الموطأ وغيره، وأخرجه مسلم من طريق يحيى بن أبي كثير، عن إسحاق به.

قال المؤلف رحمه الله:

‌‌"بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ»"

"حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ: ذَكَرَ النَّبِيَّ ﷺ قَعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَأَمْسَكَ إِنْسَانٌ بِخِطَامِهِ أَوْ بِزِمَامِهِ قَالَ: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟!)) فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ. قَالَ: «أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟» قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: «فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟» فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. فَقَالَ: «أَلَيْسَ بِذِي الْحِجَّةِ؟» قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ»"

"باب: قول النبي ﷺ: «رب مبلغ أوعى من سامع»"

هذا الحديث وصله البخاري نفسه بهذا اللفظ من حديث أبي بكرة برقم ١٦٥٤ قال: "خطبنا النبي ﷺ يوم النحر، قال: «أتدرون أي يوم هذا»؟ وقال في آخره: «اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض»"

وهذا الباب بمعنى الحديث الذي سيذكره فيه، بمعناه.

"«رب»": حرف جر، يستعمل للتقليل والتكثير، وهو هنا للتقليل.

"«رب»" مبلَّغ إليه عني، أي بلغه الحديث عن النبي ﷺ شخص فهو مبلغ، "«أوعى»" أي: أفهم بمعناه وأعلم بفقهه "«من سامع»" أي ممن سمع الحديث قبله.

يعني: ربما شخص يسمع الحديث ويحدث به غيره ويكون غيره هذا الذي حدثه به أفقه للحديث منه، هذا معنى الكلام.

قال المهلب: "فيه أنه يأتي في آخر الزمان من يكون له من الفهم في العلم ما ليس لمن تقدم إلا أن ذلك يكون في الأقل لأن رب موضوعة للتقليل" انتهى.

وتستعمل للتكثير، ولكن التقليل هنا هو المراد.

"حدثنا مسدد" هو ابن مسرهد، ثقة، تقدم.

"قال: حدثنا بشر" هو ابن المفضل بن لاحق الرقاشي مولاهم، أبو إسماعيل البصري، من أتباع التابعين، ثقة، حافظ، فقيه، عابد، له شأن عند الأئمة، صاحب سنة، وقال محمد بن سعد: كان ثقة كثير الحديث عثمانيًا.

العجلي قال: صاحب سنة، فمعنى عثماني هنا أنه يقدم عثمان على علي في الفضل، وهي السنة، ومن خالفها في الفضل لا يخرج من السنة على الصحيح، لعله لم يبلغه الحديث، وأما من خالفها في الخلافة فقدم عليًا على عثمان في أحقية الخلافة فيخرج من السنة فيصير مبتدعًا، نص على هذا غير واحد من أهل العلم.

وفي هذا رد على المميعة الذين يقولون الرجل لا يخرج من السلفية بمخالفة أصل وأصلين وثلاثة، أخرجوه من السلفية بأصل واحد.

ذُكر عنده رحمه الله أحد الجهمية، فقال: (لا تذكروا ذاك الكافر)

هذا يدل كغيره من الآثار على أن السلف كانوا يكفّرون أعيان الجهمية، وينزلون الأحكام على الأعيان، لا كما يدعيه أحد المميعة، الذي يجعل التنزيل على الأعيان شبه مستحيل، ويجعل الأحكام هذه من الكفر والتبديع والتفسيق كلها عبارة عن أيش؟ عبارة عن أحكام عامة لا تنزل على المعينين، وهذا غلو، نسأل الله العافية، وضلال أيما ضلال.

توفي سنة 186 أو 187، روى له الجماعة.

"قال: حدثنا ابن عون" عبد الله بن عون بن أرطبان، أبو عون البصري، من أتباع التابعين، رأى أنس بن مالك، ولم يثبت له منه سماع، ثقة حافظ فقيه إمام، كثير المناقب، مات سنة 150 أو 151، روى له الجماعة.

قال سفيان الثوري: ما رأيت أربعة اجتمعوا في مصرٍ مثل أربعة اجتمعوا بالبصرة أيوب ويونس وسليمان التيمي وعبد الله ابن عون.

وقال وهيب: دار أمر البصرة على أربعة فذكر هؤلاء.

وقال العجلي: أهل البصرة يفخرون بأربعة فذكرهم.

وقال الأصمعي عن شعبة: ما رأيت أحدا بالكوفة إلا وهؤلاء الأربعة أفضل منه، فذكرهم.

وقال أبو عبيد عن عبد الرحمن بن مهدي: ما كان بالعراق أحد أعلم بالسنة من ابن عون.

وقال مسلم بن ابراهيم عن طرة بن خالد: كنا نعجب من ورع ابن سيرين فأنساناه ابن عون.

قال ابن حبان: (وكان عبد الله بن عون من سادات أهل زمانه عبادة وفضلًا وورعًا ونسكًا وصلابة في السنة وشدة على أهل البدع) انتهى.

منقبة عند السلف الشدة على أهل البدع، يذكرونها له، الصلابة في السنة ما كانت إلا بعلم وتقوى وورع.

وقال ابن سعد: كان ثقة وكان عثمانيًا وكان كثير الحديث ورعًا، كان يقدم عثمان على علي كما هي السنة.

قال ابن عون: (لا يمكّن أحد منكم أذنيه من هوى أبدًا)

يعني لا تسمع كلام أهل الأهواء أبدًا، لأنه هذا خطير.

وقال: (ثلاثة أحبهن لنفسي ولإخواني: هذه السنة أن يتعلموها ويسألوا عنها، والقرآن أن يتفهموه ويسألوا الناس عنه، ويدع الناس إلا من خير).

قال معاذ بن مكرم: (رآني ابن عون مع عمرو بن عبيد في السوق فأعرض عني، قال: فاعتذرت إليه، فقال: أما إني قد رأيتك فما زادني) خلاص شوفتك بعيني مع عمرو بن عبيد رأس من رؤوس أهل البدع.

قال ابن عون: (من يجالس أهل البدع أشد علينا من أهل البدع).

هذا القول شديد على المميعة، ويبين لك خطورة منهجهم، فهو أشد علينا من أهل البدع أنفسهم، لأن هذا يغرر بالناس، وينقل الشبهات، ويخلط الحق بالباطل ويريد أن يساوي بين الحق والباطل كما قال الأوزاعي رحمه الله.

"عن ابن سيرين" هو محمد ابن سيرين، إمام، تقدم.

"عن عبد الرحمن بن أبي بكرة" رُفَيْع بن الحارث الثقفي البصري، وهو أول مولود ولد في الإسلام بالبصرة، أطعم أبوه أهل البصرة جزورًا فكفتهم، يعني كانوا قلة، تابعي، ثقة، توفي سنة ٩٦، روى له الجماعة.

"عن أبيه" أبو بكرة رُفَيْع بن الحارث، صاحب رسول الله ﷺ ورضي الله عنه، تقدم.

"ذكر" أبو بكرة، يعني يقول عبد الرحمن كان أبوه أبو بكرة يحدثهم "ذكر النبيَّ ﷺ" أثناء حديثه، وأنه ﷺ "قعد على بعيره" بمنى يوم النحر في حجة الوداع.

قال بعض الشراح: وإنما قعد عليه لحاجته إلى إسماع الناس، فالنهي عن اتخاذ ظهورها منابر محمول على إذا لم تدع الحاجة إليه.

يعني ورد في حديث أنه نهى ﷺ عن اتخاذ ظهور الدواب منابر، فأراد الشارح هذا أن يجمع بينه وبين فعل النبي ﷺ قال: إذا دعت الحاجة إلى ذلك فلا بأس.

طبعًا هذا موقوف على صحة الحديث الذي ورد في النهي.

"وأمسك إنسان بخطامه أو بزمامه" أمسك إنسان بالحبل المربوط به الجمل.

من هذا الإنسان؟ قيل: عمرو بن خارجة، وقيل: أبو بكرة، وقيل: بلال، والله أعلم.

"بخطامه أو بزمامه" الشك من الراوي.

الخطام والزمام معناهما واحد، وهو الحبل الذي تشد به الحلقة التي تكون في أنف البعير.

وقال أهل اللغة: والخطام كل ما وضع في أنف البعير ليُقاد به.

وفائدة إمساك الزمام: حتى لا ينفر البعير ويضطرب ويزعج الراكب.

"قال" "«أي يوم هذا؟» فسكتنا حتى ظننا أنه" النبي ﷺ "سيسميه سوى اسمه" باسم غير الاسم المعروف لنا.

"قال: «أليس يوم النحر؟» قلنا: بلى، قال: «فأي شهر هذا؟» فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: «أليس بذي الحجة؟» قلنا: بلى." سؤاله عن ما سأل عنه، وسكوته بعد كل سؤال منها كان لاستحضار أفهامهم وليقبلوا عليه بكليتهم وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه، يعني للتنبيه؛ لذلك بعد هذا قال: "«فإن دماءكم»" مبالغة في تحريم هذه الأشياء. قال:

"«فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم»" الدماء والأموال معروفة، والأعراض: جمع عرض، وهو موضع المدح والذم من الإنسان، سواء كان من نفسه أو في سلفه.

"«بينكم حرام»" الدماء والأموال والأعراض هذه ذوات، والتحريم لا يعود إلى الذوات، يقول أهل العلم، ولكن يعود إلى أيش؟ إلى الأفعال، فعلكم بها هو المحرم، بناء على هذا فنحتاج إلى تقدير كلمة حتى يصح الكلام، وهذا أيش يسمى عند الأصوليين؟ دلالة الاقتضاء، فبدلالة الاقتضاء يقال: فإن سفك دماءكم وأخذ أموالكم والقدح في أعراضكم وعيبها والطعن فيها بغير حق حرام، فالمحرم من الدماء سفكها بغير حق، والمحرم من الأموال أخذها بغير حق، والمحرم من الأعراض الطعن فيها بغير حق.

"«كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا»" وهي مكة.

شبّه الدماء والأموال والأعراض في الحرمة باليوم والشهر والبلد لماذا؟ لماذا هذا التشبيه؟ لأن حرمة اليوم والشهر والبلد أمر معلوم عندهم مشهور، وتحريم هذه أمر ثابت في نفوسهم غير مزعزع، مأخوذ أصلًا عن أسلافهم، عادة أسلافهم تحريم هذا، والظاهر أنهم أخذوه من دين إبراهيم عليه السلام، بخلاف الأنفس والأموال والأعراض كانوا يستبيحونها في الجاهلية، هذه كانت مستباحة عندهم، فكانت من عادات العرب الغارة، شيء معتادين عليه، إغارة بعضهم على بعض، وأخذ الأموال وسبي النساء وقتل الرجال شيء طبيعي عندهم مألوف؛ فحرمها في الشرع وشبهها لهم بالشيء المستقر الثابت المشهور عندهم حتى يعلموا حرمتها وعظمة انتهاكها عند الله تبارك وتعالى.

التشبيه هنا في أصل التحريم، وإلا فحرمة دم المسلم أعظم من حرمة حشيش الحرم، وقتل صيد الحرم، حرمة دم المسلم أعظم من هذا بكثير فأصل التحريم هو المراد هنا، أن يشبه أصل التحريم هذا بهذا.

"«ليبلغ»" هذا أمر بالتبليغ، والأمر للوجوب، وهو هنا الوجوب الكفائي، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، والتبليغ: إيصال الخبر إلى الغائب.

"«الشاهد»" أي الحاضر في المجلس، يبلغ "«الغائب»" عن المجلس "«فإن الشاهد»" الحاضر "«عسى أن يبلغ مضن»" أي الذي "«هو أوعى له»" أي: للحديث "«منه»".

الصحابة رضي الله عنهم بلغوا كما أمروا، جميع ما سمعوه من النبي ﷺ، ولم يكتموا شيئًا من سنته، فجاءت الشريعة ولله الحمد كاملة من كل وجه، بلغها النبي ﷺ كما أُمر عن ربه، ثم بلغها الصحابة رضي الله عنهم عن نبيه، ثم التابعون عمّن قبلهم، وهكذا إلى يومنا هذا ولله الحمد، مازال علماؤنا بفضل الله يرثون هذا العلم بعضهم عن بعض إلى النبي ﷺ.

قال المهلّب: (فيه من الفقه أن العالم واجب عليه تبليغ العلم لمن لم يبلغه، وتبيينه لمن لا يفهمه، وهو الميثاق الذي أخذه الله عزّ وجل على العلماء ليبيّنونه الناس ولا يكتمونه.

وقال: (وفيه أنه قد يأتي في آخر الزمان من يكون له من الفهم في العلم ما ليس لمن تقدمه إلا أن ذلك يكون في الأقل لأن "رب" موضوعة للتقليل)

قلنا رب تأتي للتكثير أيضًا، بل قال بعضهم: هي في الأكثر عرفًا للتكثير.

لكن على كل حال، الأقوى دلالة.

قال: (وعسى موضوعة للطمع وليست لتحقيق الشي)

استعمال كلمة عسى قوت التقليل هنا في هذا الموضع.

(وفيه أن حامل الحديث والعلم يجوز أن يؤخذ عنه وإن كان جاهلًا معناه) إذا حفظه وأتقن حفظه وأداه فيؤخذ عنه ما في إشكال إذا كان يجهل معناه، ويجوز له أن يؤدي بالمعنى إذا كان عارفًا بمعناه، بس، أما إذا لم يكن عارفًا بمعناه يجب عليه أن يحفظ لفظه وأن يؤديه بلفظه، (وهو مأجور في تبليغه محسوب في زمرة أهل العلم إن شاء الله)

وقال ابن المنيِّر: (وفيه أن تفسير الراوي مقبول، وأنه أولى من اجتهاد المتأخر لأنه عليه الصلاة والسلام قال كون المتأخر مرجح النظر على المتقدم) قليل يعني، وإلا الأكثر أنهم أفقه وأعرف بمعنى الأحاديث ممن بعدهم.

هذه بعض فوائد الحديث، وسيأتي بطوله إن شاء الله تعالى.

الحديث رواته كلهم بصريون، وهو متفق عليه من حديث أبي بكرة، وله شواهد في الصحيحين وغيرهما.

‌‌"بَابٌ: الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ﴾ فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ، وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَرَّثُوا الْعِلْمَ، مَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ.

وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ وَقَالَ: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ وَقَالَ: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَهِّمْهُ في الدين، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ»

وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: لَوْ وَضَعْتُمُ الصَّمْصَامَةَ عَلَى هَذِهِ وَأَشَارَ إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ ظَنَنْتُ أَنِّي أُنْفِذُ كَلِمَةً سَمِعْتُهَا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ قَبْلَ أَنْ تُجِيزُوا عَلَيَّ لَأَنْفَذْتُهَا.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ حُلَمَاءَ فُقَهَاءَ.

وَيُقَالُ: الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ "

"باب: العلم قبل القول والعمل" القول والعمل لا يقبل إلا بالإخلاص والمتابعة، شرطان، الإخلاص والمتابعة حتى يقبل العمل والقول، ولا يمكن تحقيقهما إلا بالعلم بكيفية تحقيقهما، والعلم بما ينقصهما أو يبطلهما؛ لذلك كان العلم مقدمًا على القول والعمل.

فالجاهل لا يمكنه عبادة الله كما أمر، فالعلم مقدم على القول والعمل، فيجب عليه أن يتعلم قبل أن يعمل، والعمل إذا لم يكن على هدي النبي ﷺ فهو مردود «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» وإذا لم يكن خالصًا فهو مردود، فلا بد من تعلم الإخلاص وتعلم الشرك وأنواع الشرك حتى ينجي عمله منه.

العلم منه واجب عيني كالعلم بالتوحيد والعقيدة التي ينجو بها العبد من النار، ولا ينجو من النار إلا بها، والعلم بكيفية أداء الواجبات كالصلوات والصيام، ومنه واجب كفائي إذا قام به البعض سقط عن الباقين كعلم المواريث.

ومن هنا يظهر لكم خطأ ما يفعله كثير من العامة، لا يسأل عن المسألة إلا بعد أن يعملها، فيقع فيها قولًا وعملًا أو عملًا ثم بعد أن ينهي عمله يأتي ويسأل عما فعل، هذا خطأ، الواجب أن تسأل قبل أن تعمل؛ لا العكس، لأنك ربما تعمل العمل ويكون عملك باطلًا فيذهب عليك.

والذي لا يتعلم مطلقًا هذا ذنبه أعظم، هذا معرض، لا عذر له، فيؤاخذ كأنه لم يعمل.

"لقول الله تعالى: "﴿فاعلم أنه لا إله إلا الله﴾ فبدأ بالعلم" أي: حيث قال: ﴿فاعلم أنه لا إله إلا الله﴾ ثم قال: ﴿واستغفر لذنبك﴾ فجاء العمل بعد العلم.

والخطاب هنا وإن كان للنبي ﷺ فهو متناول لأمته، كما هو معلوم.

استدل بهذه الآية سفيان بن عيينة على فضل العلم، أخرج البيهقي في الشعب من طريق أبي سهل المدائني، قال: قال سفيان: وسأله رجل، فقال: يا أبا محمد! العلم أفضل أم العمل؟ قال: العلم، أما تسمع قول الله عز وجل: ﴿فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك﴾ فبدأ بالعلم قبل العمل.

وله طريق أخرى عند أبي نعيم في الحلية، وأخرج ابن نقطة من طريق البخاري، قال: سمعت علي بن المديني يقول: سمعت سفيان بن عيينة يقول: إن الله أمر بالعلم قبل الإيمان لقوله تعالى: ﴿فاعلم أنه لا إله إلا الله﴾

"وأن العلماء هم ورثة الأنبياء، ورّثوا" أي الأنبياء "العلم، من أخذه" أي: أخذ العلم، "أخذ" من ميراث النبوة "بحظ وافر" أي: بنصيب كامل، الحظ: هو النصيب، والوافر: التام الكامل.

قال الشراح: ومناسبته للترجمة من جهة أن الوارث قائم مقام المورث فله حكمه فيما قام مقامه فيه.

"ومن سلك طريقًا" يعني: من مشى في طريق "يطلب به" أي: بالطريق "علمًا" أي: شرعيًا، قاصدًا به وجه الله جازاه الله عليه بأن: "سهل له طريقًا" في الآخرة أو في الدنيا بأن يوفقه إلى الأعمال الصالحة الموصلة "إلى الجنة" أو هو بشارة بتسهيل العلم على طالبه؛ لأن طلبه من الطرق المواصلة إلى الجنة.

هذا حديث أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم عن قيس بن كثير، قال: قدم رجل من المدينة على أبي الدرداء وهو بدمشق، فقال: ما أقدمك يا أخي؟ فقال: حديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله ﷺ، قال: أما جئت لحاجة؟ قال: لا، قال: أما قدمت لتجارة؟ قال: لا، قال: ما جئت إلا في طلب هذا الحديث؟ قال: فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من سلك طريقا يبتغي فيه علمًا سلك الله به طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضى لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر» وهو حديث فيه اضطراب.

وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة: «ومن سلك طريقا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقا إلى الجنة» وهي قطعة من حديث آخر.

قال ابن حجر: (ولم يفصح المصنف بكونه حديثًا، فلهذا لا يعد في تعاليقه) لا يقال هذا حديث علقه البخاري لا هو قاله من عنده، لأن المعنى الذي ذكره البخاري صحيح.

"وقال جل ذكره: ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾" أي: يخاف من الله من علم قدرته وسلطانه، وهؤلاء هم العلماء، فمن علم قدرته وسلطانه وأنه قادر على عقابه، وقادر على فعل ما يريد: خافه، ومن خافه أطاعه فرارًا من عقابه، وأعلم الناس بهذا هم العلماء العاملون، فكلما زادت معرفتك بأسماء الله وصفاته وقدرته زادته خشيتك له.

هذا هو العلم النافع، وليس مجرد جمع المعلومات، الفضائل كلها التي تمر معك كلها في العلم النافع، الذي يؤدي إلى طاعة الله سبحانه وتعالى، وليس جمع المعلومات، جمع المعلومات يحسنه كل أحد حتى الكافر يجمع المعلومات، يوجد قوم اسمهم اليوم المستشرقون وهم كفار وكثير منهم يهود، مستشرق تجده بروفيسور في مرتبته في علم الشريعة الإسلامية موجود وهو كافر على كفره، لكن يدرس الشريعة الإسلامية ويتقنها دراسة جمع معلومات.

وهذا موجود في أهل البدع، ورؤوس أهل البدع كثر، بدع كفرية أو بدع فسقية، هذا علم غير نافع فليست له الفضائل المذكورة، أما الفضائل المذكورة كلها للعلم النافع، فمن كان أعلم كان أخشى لله سبحانه وتعالى فلذا قال عليه الصلاة والسلام: «أنا أخشاكم لله وأتقاكم له» فهو أعلم من الجميع بالله سبحانه وتعالى.

قال الطبري رحمه الله: (إنما يخاف الله فيتقي عقابه بطاعته العلماء بقدرته على ما يشاء من شيء، وأنه يفعل ما يريد؛ لأن من علم ذلك أيقن بعقابه على معصيته فخافه ورهبه خشية منه أن يعاقبه) هذا هو العلم الذي يؤدي إلى خشية الله سبحانه وتعالى.

وقال السمعاني: (ومن المعروف في الآثار: "رأس العلم خشية الله" ومن المعروف أيضًا: "كفى بخشية الله علمًا، وبالاغترار به جهلا"، ويقال أول كلمة في الزبور: رأس الحكمة خشية الله، وعن ابن عباس قال: ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾ أي من يعلم ملكي وعزي وسلطاني، وعن بعضهم: الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير، وعن بعض التابعين قال: من لم يخش الله فليس بعالم، ويقال: خف الله بقدر قدرته عليك، واستحِ من الله بقدر قربه منك) انتهى كلامه رحمه الله.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما العلم فيراد به في الأصل نوعان: أحدهما: العلم به نفسه وبما هو متصف به من نعوت الجلال والاكرام وما دلت عليه أسماؤه الحسنى تبارك وتعالى، وهذا العلم إذا رسخ في القلب أوجب خشية الله لا محالة، فإنه لا بد أن يعلم أن الله يثيب على طاعته ويعاقب على معصيته كما شهد به القرآن والبيان، وهذا معنى قول أبي حيان التيمي -أحد أتباع التابعين-: العلماء ثلاثة: عالم بالله ليس عالمـًا بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس عالمـًا بالله، وعالم بالله وبأمر الله، فالعالم بالله الذي يخشى الله، والعالم بأمر الله الذي يعرف الحلال والحرام، وقال رجل للشعبي: أيها العالم، فقال: إنما العالم من يخشى الله، وقال عبد الله ابن مسعود: كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار بالله جهلا، والنوع الثاني: يراد بالعلم بالله العلم بالأحكام الشرعية كما في الصحيح عن النبي ﷺ: أنه ترخص في شيء فبلغه أن أقوامًا تنزهوا عنه فقال: «ما بال أقوام يتنزهون عن أشياء أترخص فيها؟ والله إني لأعلمكم بالله وأخشاكم» وفي رواية: «والله إني لأخشاكم لله وأعلمكم بحدوده» فجعل العلم به هو العلم بحدوده) انتهى المراد.

الخلاصة: العلم نوعان:

النوع الأول: وهو العلم بالله الذي يؤدي إلى الخشية والعمل.

والنوع الثاني: علم بالأحكام الشرعية.

والعلماء الذين يعلمون الأحكام الشرعية ثلاثة أنواع:

1- عالم ملة: وهم أصحاب النوع الأول، العلماء العاملون الذين يتبعون شرع الله وما يحبه ويرضاه ويفتون به وإن خالف أهواءهم وأهواء الناس وأهواء ولاة الأمور، ولا يهمهم إلا رضا الله سبحانه وتعالى.

لهذا يحاول الكثير من الناس شراء هؤلاء العلماء، وهذا أمر قد أخبرنا به مشايخنا، ومنهم أئمة فضلاء عرضت عليهم الأموال والبيوت والأراضي أشياء كثيرة في مقابل أن تكون فتاويهم لمصلحة الجهلة الممولة، أنا أذكر لكم هذا للتحذير.

طالب العلم إذا صارت له دعوة وكلمة مسموعة عند الناس يتعرض لهذا البلاء، يُشترى أو يحاول أطراف شراءه، سواء دولة، جمعية، حزب، أي جهة تحاول أن تشتري كلمته المسموعة، فيعرضون عليه الأموال وعروض مغرية ليشتروا كلمته، وحصل عند المشايخ هذا الشيء.

لذلك كان شيخنا رحمه الله الشيخ مقبل ما يقبل مالًا من أحد يشترط عليه شرطًا، حتى لا يجعل كلمته مأسورة لأحد، وهذا مهم جدًا.

ومن خبث بعض الجهات ماذا تفعل؟ تكون أنت عندك مثلًا مركز معهد عندك طلبة، توسع ويكثر الطلبة وتكثر الالتزامات ماذا يفعلون؟ يمدونك في البداية بلا شرط، ويعطونك، وأنت توسع وتنفق تزيد الالتزامات عليك، فيأتون في وسط الطريق ويمسكون، توافق على الشرط أو نقطع، هذا الخبث قد حصل، فينبغي على طالب العلم أن يكون فطنًا لمثل هذه الأفعال.

لا تأخذ مالًا من أي جهة تريد أسر كلمتك، أبدًا، حتى تكون كلمتك لله فقط، لا لأي جهة أخرى، حاول أن يكون دخلك غير مرتبط بأي جهة من الجهات، لا بد للإنسان من معيشة، لكن خذ من جهة تثق بها لا تشترط عليك وكن مستعدًا للقطع في أي لحظة، هذا أمر مهم جدًا لطلبة العلم، أنبه عليه لأنه حاصل، وقد أسر الكثير من طلبة العلم بهذه الطريقة وضاعوا.

هذا عالم الملة وعالم الدين، الذي يفتي بما يحب الله ويرضاه، ويبحث عن رضا الله في الأمر، لا يتبع هواه، ولا يتبع شهواته، يهمه ما هو القول الذي يريده الله، ما هي الفتوى التي توافق كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ.

وأنت -بالمناسبة في هذا- لا بد أن تجاهد نفسك عندما تأتي تحقق المسألة العلمية ستجد في نفسك ميلًا لقول من الأقوال لمجرد الهوى، لأن نفسك تحب هذا القول، في تلك اللحظة قف مع نفسك وجردها من هواها واجعل اختيارك ما يوافق الأدلة من الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح رضي الله عنهم، اطرد ما في نفسك من الهوى.

بعض الناس ماذا يفعل حتى يتخلص من هذا؟ يتجه إلى اتجاه الشدة، غلط، فررت من باطل إلى باطل، دين الله ليس بالشدة، ليس المطلوب التساهل بطريقة غير مشروعة، ولا الشدة بطريقة غير مشروعة، مطلوب منك أن تعتدل، ما استطعت أن ترجح بالدليل خذ قول عالم ترتضيه في علمه ودينه، خلص وبس.

هذه من الأشياء التي تواجهكم في الدعوة إذا يسر الله عزّ وجل لكم.

2- النوع الثاني: عالم دولة، فهذا عالم دولة أو عالم السلطان، يقال له عالم الدولة أو علماء السلاطين، البعض ينفر من قول علماء السلاطين، يقول لك: هذا قول الخوارج.

أخي الاصطلاح قديم هذا عند السلف موجود، بل وقد جاء ذكره في بعض الأحاديث الضعيفة، فالسلف يستعملون هذا، معروف علماء الدولة أو علماء السلاطين لا خلاف في وجوده.

هؤلاء الذين يفتون السلطان بما يشاء، ذكرهم أكثر من واحد من أهل العلم منهم ابن تيمية وابن عثيمين وغيرهم.

مثل ابن عثيمين رحمه الله على الدولة الشيوعية لما قامت كان لها علماؤها، ويفتونهم بطرق كيف الشريعة الإسلامية تحلل ما تريده الشيوعية، على الأصول الشيوعية ليس على الأصول الإسلامية، أفتوا لهم، وأحلوا لهم الحرام؛ لذلك عند الدول العلمانية الآن علماء يفتون لهم كما تشاء، يحللون الحرام، موجود هذا، كل وقت، ذكر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله أن هؤلاء موجودون من قديم، موجودون اليوم.

هذا يسمى عالم دولة أو عالم سلطان أو علماء سلطان أو مشايخ سلاطين، كله نفسه تسمية واحدة، المشكلة ليست في التسمية مع الخوارج، المشكلة في الخوارج أنهم كانوا ينزلون هذا الوصف على مشايخ السنة وعلماء السنة لأنهم خالفوهم في تكفيرهم واستباحتهم دماء المسلمين بس.

هنا الإشكال، أما عالم الدولة وعلماء السلاطين هؤلاء لا يختلف أحد في وجودهم.

هؤلاء الذين يرون ما الذي تريده الدولة ويفتون لها بالتفصيل كما تشاء بالضبط، ويتبعون المتشابه كما هي العادة معروفة.

3- وعالم أمة: هذا يفتي الأمة ما تحب، من الأمة؟ الناس، يريد شعبية عند الناس وكلمة مسموعة عند الناس بطريقة غير شرعية، فيفتي الناس بما يحبون، وهذا اليوم كثير جدًا، من هؤلاء الذين يتبعون منهج التيسير، سيأتي الكلام عليه في موضعه إن شاء الله.

منهج التيسير في الفقه، خذ بالأيسر خذ بالأسهل، يعني إذا عندك ثلاث أقوال للعلماء انظر أسهلها وخذ به، حتى وإن خالف الدليل؟ نعم، العبرة ليس بالدليل عندهم، العبرة عندهم بالأسهل من أقوال العلماء، وهذا هو نفسه الذي قال فيه السلف رضي الله عنهم: من تتبع زلات العلماء تزندق، وهؤلاء يأخذون بزلات العلماء، ويتتبعونها لأنها أسهل.

هذا عالم الأمة ينظر ما الذي يحبه الناس -عامة الناس- ويفتيهم به، ويتعلق بالمتشابه أيضًا، مثل تحليل الربا في البنوك الربوية، يبررون لهم تدعم الاقتصاد وتنفع الفقراء وتقوي الدولة، مصالح مقدمة إلى آخره...

هؤلاء هم أنواع العلماء الموجودين.

"وقال: ﴿وما يعقلها إلا العالمون﴾" ﴿وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون﴾ قال ابن كثير: (أي: وما يفهمها) يفهم الأمثال التي يضربها الله للناس (ويتدبرها إلا الراسخون في العلم المتضلعون منه) "﴿وقالوا﴾" أهل النار قالوا لخزنة النار في محاورتهم لهم "﴿لو كنا نسمع﴾" من الرسل ما جاؤنا به سماعًا ننتفع به "﴿أو نعقل﴾" عقل من يميز بين الحق والباطل.

عندما تسمع في القرآن في مثل هذا؛ ليس المقصود من ذلك السماع الذي هو إدراك الصوت، هذا موجود عندهم، وبه أصلًا أُقيمت عليهم الحجة، فيسمعون ويعقلون، يفهمون، انظر إلى أبي سفيان لما ذكر له هرقل سأله ما الذي يدعوكم إليه؟ ذكر له بالتفصيل ما الذي يدعوهم إليه، هم فاهمين وعارفين أيش القضية؛ لكن أيش المقصود من نفي السماع والعقل هنا؟ السماع الذي ينفع، السماع الذي يؤدي إلى القبول والعمل، العقل الذي يفهمون التفريق بين الحق والباطل، واتباع الحق وترك الباطل.

هذا المقصود بنفي السماع والعقل في القرآن عندما تجده واردًا في نفيه عن الكفار، أما أصل العقل وأصل السماع وأصل الإبصار كلها موجودة، وأُقيمت عليها الحجة بهذا؛ لكن المقصود بالنفي: ما ينفع؛ لأن حقيقة الذي لا ينتفع بعقله كأنه لا عقل له، الذي لا ينتفع بما سمع؛ كأنه لا سمع له، وهذا المقصود.

"﴿ما كنا في أصحاب السعير﴾" ما كنا من أهل النار لو كنا نسمع أو نعقل، قال ابن كثير: (أي: لو كانت لنا عقول ننتفع بها) رأيت كيف يفسرون لك؟ (أَيْ: لَوْ كَانَتْ لَنَا عُقُولٌ نَنْتَفِعُ بِهَا أَوْ نَسْمَعُ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنَ الْحَقِّ، ‌لَمَا ‌كُنَّا ‌عَلَى ‌مَا ‌كُنَّا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالِاغْتِرَارِ بِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَنَا فَهْمٌ نَعِي بِهِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَلَا كَانَ لَنَا عَقْلٌ يُرْشِدُنَا إِلَى اتِّبَاعِهِمْ) هكذا المقصود.

قال ابن حجر: (وهذه أوصاف أهل العلم) هذا المراد من كلام البخاري رحمه الله وذكره لهذه الأدلة، لأن هذه أوصاف أهل العلم، فالمعنى: لو كنا من أهل العلم لعلمنا ما يجب علينا فعملنا به فنجونا.

"﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾"

قال الطبري: (يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لقومك: ‌هل ‌يستوي ‌الذين ‌يعلمون ‌ما ‌لهم في طاعتهم لربهم من الثواب، وما عليهم في معصيتهم إياه من التبعات، والذين لا يعلمون ذلك، فهم يخبطون في عشواء، لا يرجون بحسن أعمالهم خيرا، ولا يخافون بسيئها شرا؟ يقول: ما هذان بمتساويين).

هذا لا يساوي هذا، فمن الباطل تسوية أهل الصلاح بأهل الفساد، هذه الآية تدل على بطلان هذه المنهجية التي تقول أن الناس سواء، لا، الناس ليسوا سواء، فلا يجوز أن يوضع أهل الحق وأهل الصلاح في نسبة مرتبة ومنزلة أهل الكفر وأهل الفساد، الأرض أرض الله سبحانه وتعالى، وأولى الناس بها أهل الصلاح، وهذا الموضوع سيأتي في موطنه إن شاء الله.

"وقال النبي ﷺ: «من يرد الله بها خيرًا يفهمه في الدين»" وصل البخاري رحمه الله هذا الحديث في كتابه في أكثر من موضع من حديث معاوية رضي الله عنه، وكذا مسلم، وسيأتي في الباب الذي يلي هذا إن شاء الله ونتحدث عنه هناك.

"«وإنما»" تحصيل "«العلم بالتعلم»" بطلبه من الأنبياء وورثتهم، وأخذه عنهم.

جاء هذا اللفظ في أحاديث بعضها مرفوع، وبعضها موقوف، جاء عن معاوية، وابن مسعود، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وأنس بن مالك، وعن شداد بن أوس أن رجلًا قال: يا رسول الله، ماذا يزيد في العلم؟ قال: «التعلم» والمرفوع كله ضعيف، والموقوف على أبي الدرداء منقطع لا يصح.

والصحيح عن ابن مسعود من قوله: (إن أحدًا لا يولد عالمـًا، وإنما العلم بالتعلم) أخرجه زُهير بن حرب في "العلم" وابن أبي شيبة في "المصنف"، وأحمد في "الزهد" وغيرهم... عن أبي الأحوص به، وإسناده صحيح.

"وقال أبو ذر" الغفاري رضي الله عنه "لو وضعتم الصمْصَامَةَ" السيف الصارم الذي لا ينثني، وقيل: الذي له حد واحد، "على هذه -وأشار إلى قفاه- ثم ظننتُ أني أُنْفِذُ" أي: أُمضي "كلمة سمعتها من النبي ﷺ قبل أن تُجيزوا" السيف "علي" قبل أن تكملوا قتلي، أو تقطعوا رأسي "لأنفذتها" لأمضيتها وقلتها.

لو عندي كلمة عن النبي ﷺ وأريد أن أقولها وتريدون أن تقطعوا رأسي -وضعتم السيف على عنقي كي تقطعوا رأسي- واستطعت أن أخرج هذه الكلمة لأخرجنها.

المراد به: أنه يُبلّغ ما تحمّله في كل حال، ولا ينتهي عن ذلك ولو أشرف على القتل، فيه الحث على تعليم العلم، واحتمال المشقة فيه، والصبر على الأذى طلبًا لثوابه.

هذا التعليق أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" وإسحاق بن راهُويه في "مسنده" وابن زنْجَويه في "الأموال" والدارمي في "مسنده" وغيرهم... من طُرق عن الأوزاعي قال: حدثني أبو كثير، حدثني أبي، قال: "أتيت أبا ذر رضي الله عنه وهو جالس عند الجمرة الوسطى وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه، فأتاه رجل فوقف عليه، ثم قال: ألم تُنه عن الفتيا؟" من الذي نهاه؟ نهاه الأمير "فرفع رأسه إليه فقال: أرقيب أنت علي؟" فذكرَه...

صححه الحافظ في "المطالب العالية" والراجح ضعفه، ففي سنده ضعف، أبو كثير مالك بن مرثد، وأبوه لو يوثقهما معتبَر، والحافظ قال في "التقريب" في مرثد هذا: (مقبول) أي: إذا توبع، وإلا فلا.

وقال الحافظ: (‌وَرُوِّينَاهُ ‌فِي ‌الْحِلْيَةِ ‌مِنْ ‌هَذَا ‌الْوَجْهِ وَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِيَ خَاطَبَهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَنَّ الَّذِي نَهَاهُ عَنِ الْفُتْيَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) ثم ذكر السبب في ذلك وأنه قد حصل خلاف بين أبي ذر ومعاوية رضي الله عنه في كنز الذهب والفضة، وسيأتي هذا موضوع مستقل وحده إن شاء الله.

ثم قال: (‌وَفِيهِ ‌دَلِيلٌ ‌عَلَى ‌أَنَّ ‌أَبَا ‌ذَرٍّ كَانَ لَا يَرَى بِطَاعَةِ الْإِمَامِ إِذَا نَهَاهُ عَنِ الْفُتْيَا لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِأَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ بِالتَّبْلِيغِ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَعَلَّهُ أَيْضًا سَمِعَ الْوَعِيدَ فِي حَقِّ مَنْ كَتَمَ عِلْمًا يَعْلَمُهُ وَسَيَأْتِي لِعَلِيٍّ مَعَ عُثْمَانَ نَحْوُهُ) هذا الصح، العلم الشرعي إذا نهى ولي الأمر العالم عن بث العلم الواجب عليه بثّه: لا يجوز له أن يطيعه؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

"وقال ابن عباس: ﴿كونوا ربانين﴾ حكماء فقهاء" أخرجه الطبري في "تفسيره"، والبيهقي في "شعب الإيمان" وغيرهما من طُرق عنه به، وهو صحيح عنه، وروي عن ابن مسعود مثله، انظروه في تغليق التعليق.

الحكمة: هي وضع الشيء في موضعه، والفقيه: العالم بالشريعة.

قال البخاري: "وَيُقَالُ: الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ"

قال الشراح: (‌وَالْمُرَادُ ‌بِصِغَارِ ‌الْعلم مَا وضح من مسَائِله وبكباره مادق مِنْهَا) وقيل غير ذلك (‌وَالْحَاصِلُ ‌أَنَّهُ ‌اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ النِّسْبَةِ هَلْ هِيَ نِسْبَةٌ إِلَى الرَّبِّ أَوْ إِلَى التَّرْبِيَةِ) الرباني، هل النسبة إلى الرب؟ فيكون التفسير الأول -حكماء فقهاء- أم النسبة إلى التربية؟ فيكون التفسير الثاني -الرباني الذي يربي الناس...- (وَالتَّرْبِيَةُ عَلَى هَذَا لِلْعِلْمِ وَعَلَى مَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ لِتَعَلُّمِهِ وَالْمُرَادُ بِصِغَارِ الْعلم...) إلى آخره.

(وَقَالَ ابن الْأَعْرَابِيِّ: ‌لَا ‌يُقَالُ ‌لِلْعَالِمِ ‌رَبَّانِيٌّ حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا مُعَلِّمًا عَامِلًا) انتهى.

قال ابن عثيمين رحمه الله: (‌نسبة ‌إلى ‌الربِّ، ‌ونسبة إلى التربية، فالرباني هو من كان عبدًا للرب عزّ وجل، الرباني هو الذي يربي الناس على شريعة الله بالعلم والدعوة والعبادة والمعاملة، فالرباني منسوب إلى التربية وإلى الربوبية، فباعتباره مضافًا إلى الله ربوبية، وباعتباره مضافًا إلى الإصلاح تربية، ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ أي مخلصين للرب متعبدين له، ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ أي مربين للخلق على ما تقتضيه الشريعة) انتهى كلامه رحمه الله.

لم يذكر البخاري رحمه الله حديثًا في هذا الباب، لعله اكتفى بما ذَكر، والله أعلم، والحمد لله، نكتفي بهذا القدر.

قائمة الخيارات
0 [0 %]
الخميس 27 ربيع ثان 1445
عدد المشاهدات 106
جميع الحقوق محفوظة لشبكة الدين القيم © 2008-2014 برمجة وتصميم طريق الآفاق