الاثنين 13 ذو القعدة 1445 هـ
20 مايو 2024 م
جديد الموقع   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-53، كتاب الوضوء، الحديث 192و193و194و195و196و197و198و199و200   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-52، كتاب الوضوء، الحديث 187و188و189و190و191   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-51، كتاب الوضوء، الحديث 183و184و185و186   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-50، كتاب الوضوء، الحديث 176و177و178و179و180و181و182   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-49، كتاب الوضوء، باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين.   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (124-129)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (117-123)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (111-116)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (107-110)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (97-106)      

تفريغ شرح صحيح البخاري 6 كتاب الإيمان، الحديث 9و10و11

الدرس السادس: بتاريخ: 06/12/1444ه – 24/06/2023

الحمد لله رب العالمين، أما بعد:

فمعنا اليوم مجلس جديد من مجالس شرح صحيح البخاري، كنا قد بدأنا بكتاب الإيمان.

اليوم معنا الباب الثاني في الحقيقة، وإن كان في المطبوع ترقيم على أنه الثالث بناء على ما تقدم في الخطأ في الباب الماضي.

قال الحافظ البخاري رحمه الله: "بَابُ أُمُورِ الْإِيمَانِ وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ الْآيَةَ".

﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾: في قراءة الجمهور بالرفع، وجاءت بالنصب أيضًا على قراءة حفص وحمزة. الذي عندي في المطبوع "﴿لَيْسَ الْبِرُّ﴾".

"حَدَّثَنَا ‌عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ‌أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ‌سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ ‌عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ‌أَبِي صَالِحٍ، عَنْ ‌أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ».

هذا الباب عقده المؤلف رحمه الله ليبين خصال الإيمان وشعبه، وهذا المراد بقوله: "أمور لإيمان": أي خصال الإيمان وشعب الإيمان، أي هذا باب لبيان خصال الإيمان، يريد به بيان خصال الإيمان، وأن الإيمان ذو شعب. الإيمان عند أهل السنة والجماعة يتجزأ له أجزاء كما ذكر المؤلف في هذه الأدلة التي ساقها، فعندهم الإيمان يتبعّض، وهذا يخالف ما عليه المرجئة وما عليه الخوارج، فالمرجئة والخوارج يقولون الإيمان شيء واحد لا يتبعّض، إذا ذهب بعضه ذهب الإيمان، لأنه شيء واحد، إلا أن المرجئة لا تُدخل أعمال الجوارح في الإيمان، فيقولون هو التصديق، فإذا ذهب التصديق ما جاء إلا الكفر.

وأما الخوارج فيدخلون أعمال الجوارح في الإيمان، ويقولون هو شيء واحد، لذلك إذا ذهب بعضه ذهب كله، فلذلك يكفرون بارتكاب الكبائر.

أما أهل السنة والجماعة فلا، يقولون الإيمان يتجزأ ويتبعض إلى شعب وخصال كما ذكر المؤلف هنا.

فهو يريد أن يقرر عقيدة أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، ويريد أن يرد على المرجئة الذين قالوا بأن الإيمان شيء واحد، فذكر الأدلة على ذلك، ومنها هذه الآية التي ذكرها "﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ﴾" إلى آخرها.

ما وجه الاستدلال بهذه الآية؟

قال أهل العلم: وجه الاستدلال بهذه الآية ومناسبتها لحديث الباب تظهر لك من الحديث الذي رواه عبد الرزاق وغيره من طريق مجاهد: أن أبا ذرٍّ سأل النبي عن الإيمان، فتلا عليه: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ إلى آخرها، وهو مرسل، الشاهد هنا أن النبي سئل عن الإيمان ففسّره بهذه الآية، هو مرسل، ولكن قال الآجري في "الشريعة": "وبهذا الحديث وغيره يحتجّ أحمد بن حنبل في كتاب الإيمان أنه قول وعمل، وجاء به من طرق" وذكره الآجري من طريق أخرى، قالوا: ووجهه أيضًا أن الآية حصرت التقوى على أصحاب هذه الصفات، والمراد: المتقون من الشرك والأعمال السيئة، فإذا فعلوا وتركوا فهم المؤمنون الكاملون.

فهذا يدل على أن العمل من الإيمان، وأن الإيمان خصال، وما ذُكر في هذه الآية من خصال الإيمان، وأئمة السلف يستدلون بهذه الآية على أن الإيمان قول وعمل، ذُكِرَ هذا في كتابه عقيدة السلف كـ"السنة" للخلال و"الشريعة" للآجري و"الإبانة الكبرى" لابن بطة و"أصول السنة" لابن أبي زمنين.

"وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾"

﴿الْبِرَّ﴾: كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة، يوصل صاحبه إلى الجنة، أي: كل عمل صالح يوصلك إلى الجنة فهو بر.

﴿أَنْ تُوَلُّوا﴾: أي أن تصرفوا وجوهكم.

﴿قِبَلَ﴾: أي مقابل أو نحو وجهة المشرق والمغرب.

معنى الآية باختصار: البر -فعل الخير والقربة- ليس هو أن توجه وجهك ناحية المشرق أو ناحية المغرب إذا لم يكن هذا أمر من الله تبارك وتعالى لك بتوجيهه إلى المشرق أو المغرب، البر هو طاعة الله، فإذا وجّهك الله إلى المشرق وجّهت وجهك إلى المشرق، وإذا وجّهك إلى المغرب وجّهت وجهك إلى المغرب، فليس المقصود الأصلي هو التوجه إلى المشرق والمغرب، وإن كان مقصودًا إلا أنه ما قُصد إلا لأن الله تبارك وتعالى أمر به، هذا المقصود من الآية، طاعة الله تبارك وتعالى هو البر، سواء وجّهك إلى المشرق أو إلى المغرب، فطاعة الله والانقياد لأمره هو المراد، وليس مجرد التوجه المذكور.

قال ابن كثير رحمه الله: " فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَوَّلًا بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ حوَّلهم إِلَى الْكَعْبَةِ" هذا أصل نزول الآية أصلًا، هذا هو سببها، لما وجههم الله سبحانه وتعالى بداية إلى بيت المقدس ثم حولهم إلى الكعبة، قال: "شَقَّ ذَلِكَ عَلَى نُفُوسِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَيَانَ حِكْمَتِهِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ إِنَّمَا هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَامْتِثَالُ أَوَامِرِهِ، وَالتَّوَجُّهُ حَيْثُمَا وَجَّهَ، وَاتِّبَاعُ مَا شَرَعَ، فَهَذَا هُوَ الْبِرُّ وَالتَّقْوَى وَالْإِيمَانُ الْكَامِلُ، وَلَيْسَ فِي لُزُومِ التَّوَجُّهِ إِلَى جِهَةٍ مِنَ الْمَشْرِقِ أو الْمَغْرِبِ بِرٌّ وَلَا طَاعَةٌ، إِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ الْآيَةَ، كَمَا قَالَ فِي الْأَضَاحِيِّ وَالْهَدَايَا: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ [الْحَجِّ: ٣٧]". انتهى كلام ابن كثير رحمه الله.

ولكن البر الذي يجب الاهتمام به برُ من آمن بالله، أي صدّق واستسلم وانقاد لله تبارك وتعالى.

﴿آمَنَ بِاللهِ﴾: يدخل في ذلك الإيمان بوجوده وبربوبيته وأنه وحده الخالق الرازق المدبر لهذا الكون، ويدخل فيه أيضًا الإيمان بألوهيته، وأنه وحده الذي يستحق العبادة، ويدخل في ذلك أيضًا الإيمان بالأسماء والصفات.

﴿وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾: هو يوم القيامة.

﴿وَالْمَلائِكَةِ﴾: هم العالم الغيبي الذي خلقه الله سبحانه وتعالى من نور، وذللّهم لعبادته، وهم لا يستكبرون عن عبادته، ويفعلون ما يؤمرون.

﴿وَالْكِتَابِ﴾: المراد به الجنس، فيشمل كل كتاب أنزله الله عز وجل على كل رسول.

﴿وَالنَّبِيِّينَ﴾: يدخل فيهم الرسل.

﴿وَآتَى﴾: أي أعطى.

﴿الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾: أي مع حبه له، ينفقه مع محبته له، ينفقه في سبيل الله، ويعطيه لـ

﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾: أي أصحاب القرابة.

﴿وَالْيَتَامَى﴾: جمع يتيم: وهو من فقد أباه، ولم يبلغ هذا يسمى يتيمًا، سواء كان ذكرًا أو أنثى. ﴿وَالْمَسَاكِينَ﴾: جمع مسكين، وهو من لا يجد ما يكفيه، ويدخل في ذلك الفقير لافتراقهما.

﴿وَابْنَ السَّبِيلِ﴾: المسافر المنقطع به السفر، أي ليس معه ما يوصله إلى بلده.

﴿وَالسَّائِلِينَ﴾: جمع سائل، وهو المستجدي الذي يطلب أن تعطيه مالًا.

﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾: أي في إعتاق الرقاب.

﴿وَأَقَامَ الصَّلاةَ﴾: هذه معطوفة على ﴿آمن﴾، أي فيكون التقدير: ولكن البر من آمن بالله وفعل وفعل ومن أقام الصلاة، والصلاة معروفة، والمراد بها الفرض والنفل، وإقامتها: المداومة عليها، والإتيان بها كما شرعت.

﴿وَآتَى الزَّكَاةَ﴾: أعطى الزكاة زكاة المال المفروضة لمستحقيها.

﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾: والذين لا ينقضون العهد بعد المعاهدة، ولكن يوفون به، ويتمونه على ما عاهدوا عليه.

﴿وَالصَّابِرِينَ﴾: الصبر في اللغة الحبس، ويشمل هذا الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله، والصبر على أقدار الله المؤلمة.

﴿فِي الْبَأْسَاءِ﴾: في شدة الفقر. ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾: المرض ﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾: شدة القتل.

﴿أُولَئِكَ﴾: أي كل من اتصف بهذه الصفات.

﴿الَّذِينَ صَدَقُوا﴾: أي صدقوا الله، وصدقوا عباده بوفائهم بالعهد، وإيتاء الزكاة وغير ذلك...

قالوا: "الصدق": هو مطابقة الشيء للواقع، فالمخبر بشيء إذا كان خبره موافقًا للواقع صار صادقا، والعامل الذي يعمل بالطاعة، إذا كانت صادرة عن إخلاص واتباع -وهما شرطا قبول العمل- صار عمله صادقًا، لأنه ينبئ عما في قلبه إنباءً صادقًا.

﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾: القائمون بالتقوى، والتقوى: اتخاذ الوقاية من عذاب الله عز وجل بفعل أوامره واجتناب نواهيه.

وكل ما ذُكر في هذه الآية هو من خصال الإيمان، ليش؟ لأنه كما تقدم في الحديث أنه جاءت تعريفًا للإيمان، لما سئل النبي عن الإيمان ذكر هذه الآية، ويدخل في ذلك أعمال الجوارح كما هو ظاهر، فهذا يدل على أن الإيمان خصال، وأن أعمال الجوارح من الإيمان، وليس شيئًا واحدًا ليست منه أعمال الجوارح كما تدعيه المرجئة.

"قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ الآية"

هكذا جاء في رواية، وفي رواية: لا يوجد "قوله" أصلًا، وفي رواية: "وقوله: ﴿قد أفلح المؤمنون﴾" الحذف جائز، والإثبات جائز، والتقدير: وقول الله ﴿قد أفلح المؤمنون﴾ سواء أثبتناها أم حذفناها، وثبت المحذوف في رواية الأصيلي، وابن عساكر.

ومعنى قوله: "﴿الْآيَةَ﴾": قالوا هنا يجوز فيها النصب على معنى: اقرأ الآية، ويجوز الرفع على معنى: الآية بتمامها، على أنه مبتدأ محذوف الخبر، والمعنى: مع تمام ما بعدها، الآية هذه التي ذكرناها لك مع تمام ما بعدها، فالاستدلال غير مقتصر على ما ذكر، ولكن العلماء يختصرون بهذه الطريقة، والمراد: من قوله تعالى في سورة المؤمنون ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُم فِي صَلَاتِهِم خَٰشِعُونَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِردَوسَ هُم فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾.

﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾: قد فازوا بخيري الدنيا والآخرة، فالفلاح: هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب. ﴿الَّذِينَ هُم فِي صَلَاتِهِم خَٰشِعُونَ﴾: الخشوع في الصلاة: هو حضور القلب بين يدي الله تبارك وتعالى، وتأملُ المصلي بما يقوله ويفعله.

﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾: الذين هم تاركون لكل ما لا خير فيه من الأقوال والأفعال.

﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَوٰةِ فَـٰعِلُونَ﴾: الذين هم مطهِّرون لأنفسهم وأموالهم بأداء زكاة أموالهم على اختلاف أجناسهم. ﴿وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـٰفِظُونَ﴾: مما حرم الله من الزنا واللواط، وكل الفواحش

﴿إِلَّا عَلَىٰٓ أَزْوَٰجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾: إلا على زوجاتهم أو ما ملكت أيمانهم من الإماء، فلا لوم عليهم، ولا حرج في جماعهن، والاستمتاع بهن، لأن الله تعالى أحلهن ﴿على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم﴾ الزوجات شيء ومِلك اليمين شيء آخر، والرق ومِلك اليمين ثابت في السنة بأدلة متواترة، لا ينكره مسلم.

﴿فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذَٰلِكَ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ﴾: فمن طلب التمتع بغير زوجته أو مِلك يمينه فهؤلاء من الذين تجاوزوا الحلال إلى الحرام، واعتدوا على حرمات الله، وقد عرّض نفسه من فعل ذلك لعقوبة الله وسخطه. ﴿وَٱلَّذِينَ هُمْ لِأَمَـٰنَـٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَٰعُونَ﴾: الذين هم حافظون لكل ما أُتمِنوا عليه، وموفّون بكل عهودهم.

﴿وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَٰتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾: الذين هم يداومون على أداء صلواتهم في أوقاتها على هيئاتها المشروعة الواردة عن النبي .

﴿أُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْوَٰرِثُونَ﴾: هؤلاء المذكورون بهذه الصفات وهم المؤمنون هم الوارثون، الذين يرثون الجنة.

﴿الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِردَوسَ هُم فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾: الذين يرثون أعلى منازل الجنة، الفردوس: هذا أعلى منازل الجنة، وهو وسط الجنة، كما جاء وصفه في السنة، وهي أفضلها منزلًا.

﴿هم فيها خالدون﴾: لا يموتون ولا يفنون، ويبقون في النعيم إلى ما لا نهاية، لا ينقطع نعيمهم ولا يزول.

عُلِمَ من هذه الآيات أن الإيمان الذي به الفلاح والنجاة الإيمان الذي فيه هذه الأعمال المذكورة، ففي هذه الآيات بيانٌ لشعب الإيمان.

قال المؤلف رحمه الله "حَدَّثَنَا ‌عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ" الجُعْفي، هو عبد الله بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن اليمان الجُعْفي أبو جعفر البخاري المعروف بالمسندي، قيل سبب تسميته بالمسندي كثرة اعتنائه بالأحاديث المسندة، وقيل غير ذلك.

قال أبو حاتم: "صدوق"، وذكره ابن حبان في كتاب الثقات، وقال: "وكان متقناً"، وقال أحمد بن سيار المروزي: "وهو من المعروفين من أهل العدالة والصدق صاحب سنة وجماعة، عرف بالإتقان والضبط" وقال الحاكم: "هو إمام الحديث في عصره، بما وراء النهر بلا مدافعة، وهو أستاذ البخاري" انتهى.

فالخلاصة أنه في ثقة حافظ، من الذين أخذوا عن أتباع التابعين، قال الإمام البخاري رحمه الله: "مات سنة 229 يوم الخميس، بست ليالي بقين من ذي القَعدة" انتهى.

روى له البخاري والترمذي، والبخاري يروي عن أربعة من شيوخه يقال لكل واحد منهم عبد الله بن محمد، وهذا من النوع الذي يسمى عند علماء المصطلح: "المتفق والمفترق"

1- المسندي هذا واحد عبد الله بن محمد الجعفي المسندي، هذا الأول.

2- والثاني: أبو بكر ابن أبي شيبة صاحب المصنف، اسمه: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي.

3- الثالث: عبد الله ابن محمد بن أبي الأسود أبو بكر البصري.

4- والرابع: عبد الله بن محمد بن أسماء أبو عبد الرحمن البصري.

وكلهم ثقات.

أربعة تحفظونهم، هؤلاء حفظناهم من دروس شيخنا رحمه الله، الشيخ مقبل الوادعي.

وبقول البخاري "الجعفي" بيّن أيهم المراد، وعندما نريد أن نفرق بينهم، نفرق بينهم بالنظر في شيوخهم. القاعدة العامة في التفريق بين أمثال هؤلاء:

أ‌- النظر إلى التلاميذ والشيوخ، هذه أول قاعدة.

ثم هناك قرائن كثيرة، ومن أهمها:

ب‌- جمع طرق الحديث حتى تتبين لك الأمور.

لكن هنا أراحنا الإمام البخاري رحمه الله وقال لنا "الجعفي"، في بعض نسخ الكتاب لا يوجد "الجعفي"، نسخة اليونيني الأصلية ليس فيها "الجعفي"، لكن في رواية ابن عساكر زيادة "الجعفي"، هذه إحدى فوائد فروق النسخ، هذه الفروق في النسخ مفيدة في مواطن كثيرة هذه منها، لذلك نقول احرصوا على الطبعات الجيدة للكتاب.

قال: "حَدَّثَنَا ‌أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ" عبد الملك ابن عمرو القيسي، أبو عامر العقدي البصري، ثقة، يروي عن أتباع التابعين، مات سنة 204 أو 205، روى له الجماعة.

قال: "حَدَّثَنَا ‌سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ" القرشي التيمي مولاهم، أبو محمد وأبو أيوب المدني، ثقة من أتباع التابعين، مات سنة 177، روى له الجماعة.

"عَنْ ‌عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ" القرشي العَدَوي مولاهم، أبو عبد الرحمن المدني، مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب، ثقة تابعي، مات سنة 127، روى له الجماعة.

"عَنْ ‌أَبِي صَالِحٍ" ذكوان السمان الزيات المدني مولى جويرية بنت الأحمد الغطفاني، كان يجلب السمن والزيت إلى الكوفة، وهو والد سهيل بن أبي صالح، تابعي ثقة ثبت. قال أبو داود: "سألت ابن معين: من كان الثبت في أبي هريرة؟ فقال: ابن المسيب، وأبو صالح، وابن سيرين، والمقبُري، والأعرج، وأبو رافع" انتهى. فهو من أثبت الناس في أبي هريرة، مات سنة 101 بالمدينة، روى له الجماعة.

"عَنْ ‌أَبِي هُرَيْرَةَ" هو الصحابي الجليل، أبو هريرة الدوسي اليماني صاحب رسول الله ، وحافظ الصحابة، اختلف في اسمه واسم أبيه على أقوال، ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه عبد الرحمن بن صخر، وليس فيه شيء صحيح، روى عنه جمع من الصحابة والتابعين، أسلم عام خيبر سنة سبع، قال رسول الله : (اللهم حبّب عُبيدك هذا -يعني أبا هريرة- وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين) قال أبو هريرة: "فما خُلِقَ مؤمنٌ يسمع بي ولا يراني إلا أحبني" أنتم بعد ذلك انظروا فيمن يبغض أبا هريرة ما حاله!

وقال النبي : (من يبسط ثوبه، فلن ينسى شيئًا سمعه مني) قال أبو هريرة: "فبسطت ثوبي حتى قضى حديثه، ثم ضممته إلي، فما نسيت شيئًا سمعته منه" وقال ابن عمر: "أبو هريرة خير مني وأعلم". وقال لأبي هريرة: "يا أبا هريرة أنت كنت ألزمنا لرسول الله وأحفظنا لحديثه" مات سنة 57، وقيل 58، وقيل 59، وهو ابن 78 سنة، روى له الجماعة.

هذا الإسناد كله مدنيون إلا المسندي والعَقَدي، وفيه رواية تابعي عن تابعي، وهو عبد الله بن دينار عن أبي صالح.

"الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً" البضع: في العدد من الثلاث إلى التسع، والشعبة: القطعة من الشيء والجزء منه، والمراد الخصلة أو الجزء.

والحديث أخرجه مسلم، قال: "حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْد، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ" بنفس الإسناد بلفظ: )بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً( وليس بضع وستون.

وأخرجه من طريق سُهَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الإِيمَانُ بِضْعٌ وسبعون أو بضع وَسِتُّونَ شُعْبَةً( إذًا هو من طريق قد جزم فيه الراوي أنه بضع وستون، ومن طريق أخرى جزموا بأنه بضع وسبعون، ومن طريق ثالث شك الراوي بضع وسبعون أو بضع وستون وفي رواية سهيل خارج الصحيح الجزم بسبعين، وفي طرق الحديث ألفاظ أخرى وخلاف في العدد.

أصح ما قيل في ذلك ما قاله ابن رجب رحمه الله وقد سُبق ولُحق، قال: "وأما الاختلاف في لفظ الحديث: فالأظهر أنه من الرواة، كما جاء التصريح في بعضه بأنه شك من سهيل بن أبي صالح، وزعم بعض الناس أن النبي كان يذكر هذا العدد بحسب ما ينزل من خصال الإيمان، فكلما نزلت خصلة منها ضمها إلى ما تقدم وزادها عليها، وفي ذلك نظر" انتهى، والله أعلم.

يعني هذا الذي قال هذا الكلام أراد أن يجمع بين الروايات، فجمع بينها بالطريقة التي ذكر كل ما زادت خصلة زاد النبي في العدد لأنه ضمها إليه، لكن هذا الكلام فيه نظر كما قال ابن رجب.

قال البيهقي: "وهذا شكٌ وقع من سهيل بن أبي صالح في (بضع وستّين) أو في (بضع وسبعين)، وسليمان بن بلال قال: (بضع وستّون) ولم يشكّ فيه، -رواية سليمان بن بلال ليس فيها شك، ورواية سُهيل بن أبي صالح جاءت فيها شك، لكن بعضهم قال: أيضًا رواية سليمان بن بلال جاء فيها شك عند أبي عوانة- وروايته أصح عند أهل العلم بالحديث -يعني رواية ابن بلال- غير أن بعض الرواة عن سهيل رواه من غير شك قال: «... بضع وسبعون: أفضلها قول لا إله إلاّ الله، وأدناها إماطة الأذى والعظم عن الطّريق، والحياء شعبة من الإيمان»" انتهى كلامه.

خلاصة الموضوع: اختلف العلماء في طريقة التعامل مع هذه الروايات التي اختلفت، فمنها بضع وستون، ومنها بضع وسبعون، ومنها شك، ومنها غير ذلك أيضًا، أعداد أخرى، لكن هذه الثلاثة هي أقواها، والخلاف بينها شديد، والشك لا محل له كون نفس الذي شك جزم في موقف آخر، فيبقى الإشكال عندنا بضع وسبعون أم بضع وستون.

ذهب جمع من أهل العلم إلى ترجيح بضع وستون، قالوا: هي الأقل، والأقل مجزوم به، والأكثر مشكوك فيه، ورواية الأقل هذه أيضًا هي من رواية سليمان بن بلال وروايته أقوى، فقالوا هذه أرجح، والآخرون قالوا بضع وسبعون أرجح لأسباب عندهم.

قال ابن رجب: "وتبويب البخاري على خصال الإيمان والإسلام والدين من أوله إلى آخره وما خرّج فيه من الأحاديث، وما استشهد به من الآيات والآثار الموقوفة إذا عدت خصاله وأُضيف إليه أضداد ما ذكره في أبواب خصال النفاق والكفر بلغ ذلك فوق السبعين أيضًا والله أعلم -هذا يُقرّب بأن الأرجح بضع وسبعون- وقد تكلم الراغب في كتاب "الذريعة" له على حصرها في هذا العدد ذكره ابن عبد البر وغيره، فإن قيل: -انتبهوا لهذا الإشكال- فأهل الحديث والسنة عندهم أن كل طاعة فهي داخلة في الإيمان، سواء كانت من أعمال الجوارح أو القلوب أو من الأقوال، وسواء في ذلك الفرائض والنوافل، هذا قول الجمهور الأعظم منهم، وحينئذ فهذا لا ينحصر في بضع وسبعين" يعني هذا العدد أكثر بكثير من بضع وسبعين، هذا إذا أخذنا بالعدد الأكبر، قال: "بل يزيد على ذلك زيادة كثيرة، بل هي غير منحصرة، قيل: يمكن أن يجاب عن هذا بأجوبة:"

الآن هذا إشكال كيف الجواب عنه؟ قال نجيب بأجوبة:

"أحدها: أن يقال: إن عَدَّ خصال الإيمان عند قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان منحصرًا في هذا العدد ثم حدثت زيادة فيه بعد ذلك حتى كملت خصال الإيمان في آخر حياة النبي " يعني: أن الشريعة كانت تنزل بالتدريج، كانت تنزل شيئًا فشيئًا فكانت الفرائض والنوافل تزيد سنة عن سنة حتى أتم الله سبحانه وتعالى دينه وأكمله، قالوا فهذه كانت تزيد على حسب هذه الزيادة، وقال: (بضع وسبعون شعبة) لما كانت بهذا العدد قبل أن تزيد هذا قول.

"والثاني: أن تكون خصال الإيمان كلها تنحصر في بضع وسبعين نوعًا، وإن كان أفراد كل نوع تتعدد كثيرًا، وربما كان بعضها لا ينحصر، وهذا أشبه، وإن كان الوقوف على ذلك يعسر أو يتعذر"

ماذا معناه؟ معنى هذا القول الثاني أن هذه البضع وستون أو البضع وسبعون هي الأنواع، هي الأصول، ثم هذه تتفرع، فالكلام عن النوع لا عن فروعه، وبهذه الطريقة يكون قد حصل الحصر في بضع وستين أو بضع وسبعين والباقي تبعٌ لهذا الأصل، قال ابن رجب هنا: "وهذا أشبه" كأنه يميل إلى هذا القول.

"والثالث :أن ذكر السبعين على وجه التكثير للعدد، لا على وجه الحصر كما في قوله تعالى: ﴿إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُم﴾ [التوبة: ٨٠]. والمراد تكثير التعداد من غير حصوله، هذا في العدد، ويكون ذكره للبضع يشعر بذلك كأنه يقول: هو يزيد على السبعين المقتضية لتكثير العدد وتضعيفه. وهذا ذكره أهل الحديث من المتقدمين، وفيه نظر" لم يوافق على هذا ابن رجب، وإن كان قولًا قويًا وجيدًا، لو كان الراجح في الرواية بضع وسبعون، فهذا أسلوب عربي معروف أنه إذا أرادوا التكثير ذكروا السبعين كما ذكر في الآية.

"والرابع: أن هذه البضع وسبعين هي أشرف خصال الإيمان وأعلاها وهو الذي تدعو إليه الحاجة منها" يعني ما ذكر كل خصال الإيمان، إنما ذكر أشرفها وأعلاها، يعني الذي يدخل في هذا العدد، لكن هذا يرده الحديث نفسه (أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) على كل حال هي أقوال قريبة من بعضها، إلا أن أقوى هذه الأقوال الثاني والثالث، والله أعلم.

"قال ابن حامد من أصحابنا -يعني الحنابلة-: والبضع في اللغة: من الثلاث إلى التسع، هذا هو المشهور، ومن قال: ما بين اثنين إلى عشر فالظاهر إنما أراد ذلك ولم يدخل الاثنين والعشر في العدد" يعني بناء على ذلك الأقوال تتفق، قال من اثنين إلى العشر، يعني من ثلاثة إلى تسعة داخل كله، فلا يختلف مع القول الذي سبق

"وقيل: ما بين الثلاث والعشر، والظاهر أنه هو الذي قبله باعتبار إخراج الثلاث والعشر منه، وكذا قال بعضهم: ما بين الثلاث إلى ما دون العشرة، وعلى هذا فلا يستعمل في الثلاث ولا في العشر، والله أعلم" انتهى، يعني نفسها فيها خلاف، لكن الخلاصة أن البضع من ثلاثة إلى تسعة هذا القول هو الأشهر والأكثر والله أعلم.

"وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ"

الحياء قال بعض أهل العلم في تعريفه لا يحتاج إلى تعريف، هذا القول جيد، هل هناك أحد لا يعرف ما هو الحياء؟! المرء من صغره يتربى على معرفة الحياء ومعنى الحياء.

وقال بعضهم: هو خلق يبعث على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق.

الحياء الذي يحمل صاحبه على الخير ويبعده عن الشر هذا حياء محمود وهو المقصود هنا أنه من الإيمان.

أما الحياء الذي يمنع الإنسان من فعل الخير وطلب العلم، والسؤال عما أشكل عليه، فهذا حياء مذموم؛ لأنه خجل، والخجل مذموم، أخرج الشيخان عن ابن عمر قال: إن رسول الله مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله : (دعه؛ فإن الحياء من الإيمان) هذا يؤكد أن الحياء جزء وخصلة من الإيمان، قال ابن رجب: "وقد ورد في بعض روايات "صحيح مسلم "عَدُّ بعض هذه الخصال، ولفظه: (أعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) فأشار إلى أن خصال الإيمان منها قول باللسان" يشير إلى أيش؟ إلى قول إله إلا الله "ومنها ما هو عمل بالجوارح" يشير إلى ماذا؟ إلى إماطة الأذى عن الطريق، وهذا نص صريح في أن أعمال الجوارح داخلة في مسمى الإيمان، قال: "ومنها ما هو قائم بالقلب" يشير إلى الحياء "ولم يزد في شيء من هذه الروايات على هذه الخصال"

قال بعض العلماء: "تكلَّفَ جماعةٌ حصر هذه الشعب بطريق الاجتهاد، وفي الحكم بكون ذلك هو المراد صعوبة، ولا يقدح عدم معرفة حصر ذلك على التفصيل في الإيمان" انتهى.

هذه خلاصة موضوع عد وحصر هذه الخصال التي ذُكرت (بضع وسبعون شعبة).

الآن نريد أن نعرف هذه الشعب على وجه التفصيل.

هذا لست بحاجة إليه شديدة، يكفيك أن تعلم ما أراد الله منك من الفرائض والنوافل وتتقيد بها وانتهى الأمر؛ لكن تكلف بعض العلماء حصر هذه الخصال، والإمام البخاري رحمه الله في تبويباته القادمة سيذكر لنا مجموعة من هذه الخصال مع ما أشار إليه في الآيات، وفي نفس هذا الحديث، وإن كان لم يذكر التتمة إلا أن نفس الحديث أيضًا فيه ذكر بعض الخصال.

ممن ذكرها ابن بطة في "الإبانة" نقلها عن بعض السلف، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة"، وابن حبان والبيهقي في "شُعب الإيمان".

الحديث هذا يبين لنا أن الإيمان شُعب وأجزاء، منها ما ذكرت في الآية، وفي طرق هذا الحديث أيضًا، والسلف يحتجون به على أن أعمال الجوارح من الإيمان، وأن الإيمان شُعب، خلافًا لما قالته المرجئة، وهذا موجود في كتب العقيدة السلفية، قال الإمام أحمد رحمه الله: "هذا الحديث شديد على المرجئة، وحجة عليهم"

هذا الحديث عند أهل السنة محكم:

أ‌- لقوته من حيث الصحة.

ب‌- وقوة دلالته من حيث المعنى.

ت‌- وكثرة ما يسنده ويقويه من الأدلة الأخرى.

فهو محكم يجب الأخذ بما دل عليه، وهذا ما فعله السلف رضي الله عنهم.

قال أبو إسحاق الفزَاري -هو أحد أئمة الشام من أهل السنة، يروي عن الأوزاعي، والأوزاعي إمام أهل الشام في زمنه، من أتباع التابعين وهذا كان عَلَمًا من أعلام السنة؛ الفزاري، كما الأوزاعي أيضًا- قال رحمه الله: -لاحظ هنا! كما قلنا لكم إن أهل الشام كانوا شديدين على المرجئة، كانوا أصحاب علم ومعرفة بهم-

"يَقُولُونَ: إِنَّ فَرَائِضَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ لَيْسَ مِنَ الْإِيمَانِ" الأعمال ليست من الإيمان؛ واحد.

"وَإِنَّ الْإِيمَانَ قَدْ يُطْلَبُ بِلَا عَمَلٍ" اثنان.

المرجئة تقول: يصح الإيمان بلا أعمال الجوارح، وهذا كثير في كلام السلف رضي الله عنهم، السلف عندهم الإيمان لا يصح إلا بعمل، هذا متفق عليه ﴿ادخُلُواْ الجَنَّةَ بِمَا كُنتُم تَعمَلُونَ﴾ ما في عمل بماذا ندخل؟ ما ندخل الجنة، يقول لك كيف؟ ألم يأتِ في الحديث عن أبي سعيد في حديث الشفاعة: (أن الله سبحانه وتعالى يخرج من النار من لم يعمل خيرًا قط) كيف تقولون بأنه لا يدخل الجنة إلا بعمل؟ قل له ألا تقول إنك سلفي؟ تصدق أم تكذب في هذه الكلمة؟ ما معنى أن تكون سلفيًا؟ هل معنى أن تكون سلفيًا أن تفهم الأدلة الشرعية على هواك؟ معنى أن تكون سلفيًا أن تفهم الأدلة الشرعية كما فهمها السلف الصالح رضي الله عنهم، فهل جعل السلف رضي الله عنهم هذا الحديث الذي استدللت به من المحكم في بابه هذا؟ أم جعلوه من المتشابه؟ إن قلت جعلوه من المحكم قلنا لك هات الدليل، هات كلام السلف في هذا، ونحن نأتيك بكلام السلف بما ينقض عليك قولك، إن قلت: لا، ولكن هذا فهم الحديث، قلنا: خرجت من السلفية بقولك هذا في هذه المسألة على الأقل، فلم تتابع سلفك فيها، فالكلام باطل، نحن نذكر لك تفسير إمام من أئمة السلف رضي الله عنهم، وهو أحد المجددين في زمنه، حتى تعرف معنى هذه الكلمة، ونقرأ لك من الكتاب بالجزء والصفحة.

قال رحمه الله ابن خزيمة في "كتاب التوحيد" المجلد الثاني صفحة 732 بعد أن ذكر حديث الشفاعة حديث أبي سعيد الذي فيه هذه اللفظة، ماذا قال؟ قال أبو بكر يعني هو ابن خزيمة: "هَذِهِ اللَّفْظَةُ لَمْ يَعْمَلوا خَيْرًا قَطُّ مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي يَقُولُ الْعَرَبُ" يعني كيف تستعملها العرب في كلامها، مش الفهم على كيفك، قال: "ينفي الِاسْمُ عَنِ الشَّيْءِ لِنَقْصِهِ عَنِ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ، فَمَعْنَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ، عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، لَا عَلَى مَا أُوْجِبَ عَلَيْهِ وَأُمِرَ بِهِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ مِنْ كُتُبِي" هذا كلام ابن خزيمة على التمام والكمال، ويؤيد ما ذهب إليه ابن خزيمة رحمه الله حديث الرجل الذي قتل مائة نفس، ماذا فيه؟ فيه أن هذا الرجل قتل مائة نفس وذهب تائبًا وقال له العالم الذي ذهب واستشاره في أمره يقبل الله توبته، واخرج من البلد الذي أنت فيه، فخرج مهاجرًا في سبيل الله ومات في الطريق، فتنازعته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فماذا قالت ملائكة العذاب؟ قالت: إنه لم يعمل خيرًا قط، فماذا قالت ملائكة الرحمة؟ إنه خرج مهاجرًا في سبيل الله، وخرج ومشى خطوات في سبيل الله، هذا خير أم ليس خيرًا؟ خير، فالمقصود نفي التمام والكمال، لا نفي أصل الشيء، وهذا مستعمل في الحديث، ومستعمل في لغة العرب كما نقله لك هذا الإمام، فإذًا لا يجوز لك أن تتعلق بالمتشابه وتترك المحكم، فعندك أصل وهو تلازم الظاهر والباطن الذي قال فيه النبي : (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد، ألا وهي القلب) إذًا لا تفك هذا التلازم وتقول يصح الإيمان في القلب ولا يكون منه شيء في الظاهر، هذا باطل، فأنت قد رددت دلالة هذا الحديث، وكلام السلف في هذا كثير، فصارت هذه عندك محكمات ترد إليها كل المتشابهات، كما في حديث "البطاقة" ترده إلى هذا، حديث "من قال: لا إله إلا الله، دخل الجنة"، ترده إلى هذه الأصول.

ما معنى أن تكون سلفيًا؟ تنظر إلى ما قاله السلف رضي الله عنهم، وما عدّوه من المحكمات من الأدلة الشرعية وتجعلها أصلًا لك، ثم بعد ذلك أي شيء يأتي على خلافها يرد إليها، كما في آية المحكم والمتشابه، هذا معنى أن تكون سلفيًا، وإلا فلا تكون سلفيًا إذا لم تفعل هذا.

فعلامة أهل الزيغ: ترك المحكمات، والتعلق بالمتشابهات، وقال النبي : (إذا رأيتم هؤلاء فاحذروهم) الحذر منهم واجب، كالمرجئ يترك هذه الأدلة الصريحة الواضحة ويذهب يتعلق بدلالة اللغة التي هو فهمها، يقول لك الإيمان هو التصديق، لا تكلمني في دخول العمل في مسمى الإيمان، لا تدخل لأنها ليست من التصديق.

كل هذه الأدلة التي ساقها الإمام البخاري رحمه الله يردونها، هذا صاحب حق أم صاحب هوى؟ هذا صاحب هوى، فواجبك الاتباع لا الابتداع، ولا تحاول أن تجعل نفسك كما يقال أبو المفهومية، وتذهب تأتي بأفهام لم تُسبق إليها، هذا خروج عن الطريق المستقيم.

نرجع إلى ما قال رحمه الله، قال: "وَإِنَّ الْإِيمَانَ قَدْ يُطْلَبُ بِلَا عَمَلٍ" وهذا قول المرجئة.

"وَإِنَّ النَّاسَ لَا يَتَفَاضَلُونَ فِي إِيمَانِهِمْ" هذا أيضًا من قول المرجئة، يقولون الإيمان لا يتفاضل، إيمانك كإيمان جبريل لأن كله تصديق، والتصديق لا يتفاضل عند كثير منهم، إذًا لا يوجد تفاضل؛ لأن أعمال الجوارح لا تدخل في الإيمان حتى يحصل تفاضل بين أهل الإيمان.

قال: "وَإِنَّ بَرَّهُمْ وَفَاجِرَهُمْ فِي الْإِيمَانِ سَوَاءٌ" قال: "وَمَا هَكَذَا جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" انظر كيف جعل هذا الحديث محكماً فردَّ هذه الأقوال به "فَإِنَّهُ بَلَغَنَا أَنَّهُ قَالَ: (الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ، أَوَّلُهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ) وقال تعالى" انظر إلى الأدلة المحكمة الآن التي سيسوقها لك في دخول الأعمال في مسمى الإيمان "﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ والدين هو التصديق، وهو الإيمان والعمل" انظر كيف جعل التصديق أعم مما تذهب إليه المرجئة؛ حتى العمل تصديق. "فَوَصَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الدِّينَ قَوْلًا وَعَمَلًا، فَقَالَ: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ وَالتَّوْبَةُ مِنَ الشِّرْكِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ، وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ عَمَلٌ، كَمَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يَسْتَقِيمُ الْإِيمَانُ إِلَّا بِالْقَوْلِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ الْإِيمَانُ وَالْقَوْلُ إِلَّا بِالْعَمَلِ وَلَا يَسْتَقِيمُ الْإِيمَانُ وَالْقَوْلُ وَالْعَمَلُ إِلَّا بِنِيَّةٍ مُوَافِقَةٍ لِلسُّنَّةِ، فَكَانَ مَنْ مَضَى مِمَّنْ سَلَفَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ، الْعَمَلُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ مِنَ الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا الْإِيمَانُ اسْمٌ جَامِعٌ كَمَا جَمَعَ هَذِهِ الْأَدْيَانَ اسْمُهَا، وَتَصْدِيقُهُ الْعَمَلُ، فَمَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَعَرَفَ بِقَلْبِهِ وَصَدَّقَ ذَلِكَ بِعَمَلِهِ، فَذَلِكَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا، وَمَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَعْرِفْ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يُصَدِّقْ بِعَمَلِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَكَانَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ" انتهى كلامه رحمه الله.

وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "يَقُولُ أَهْلُ الْبِدَعِ: الْإِيمَانُ الْإِقْرَارُ بِلَا عَمَلٍ، وَالْإِيمَانُ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُ النَّاسُ بِالْأَعْمَالِ وَلَا يَتَفَاضَلُونَ بِالْإِيمَان، قَالَ: فَمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ الْأَثَرَ، وَرَدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ: (الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً؛ أَفْضَلُهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ) وَتَفْسِيرُ مَنْ يَقُولُ الْإِيمَانُ لَا يَتَفَاضَلُ يَقُولُ إِنَّ فَرَائِضَ اللَّهِ لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ" أي: هذا الذي دفعهم إلى القول بأن الإيمان لا يتفاضل؛ لأن الأعمال ليست من الإيمان، قال: "فَمَيَّزَ أَهْلُ الْبِدَعِ الْعَمَلَ مِنَ الْإِيمَانِ" يعني فصلوه عنه "وَقَالُوا :إِنْ فَرَائِضَ اللَّهِ لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ، وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ، أَخَافُ أَنْ يَكُونَ جَاحِدًا لِلْفَرَائِضِ رَادًّا عَلَى اللَّهِ أَمْرَهُ" إلى آخر ما قال.

هذا كلام السلف في هذا الحديث، وجعلوه أصلًا محكمًا مع بقية الآيات والأحاديث التي وردت في هذا الباب وهي كثيرة، لذلك هذه المسألة مسألة منتهية عندهم، وهي من المسائل التي يجب فيها اتباع السلف ولا يجوز لأحد أن يخرج عن أقوالهم.

الحديث متفق عليه، قال ابن منده في "كتاب الإيمان": "هَذَا الحَدِيث مُجْمَعٌ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَامِرٍ، وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ، وَسُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ" فهو حديث مشهور عن عبد الله بن دينار.

قال: "ورواه عبد الرزاق، عن معمر، عن سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة به"

سهيل ابن أبي صالح تابع عبد الله بن دينار، قال: "وتابع معمرًا على روايته هذه وُهَيب" فصار كم واحد يرويه عن سهيل؟ اثنان معمر ووهيب.

والثالث قال: "وبِشر بن منصور يعني السليمي العابد عن سفيان الثوري، عن سُهيل بن أبي صالح به، وغيرِهما"

وُهَيب وبشر يرويانه عن سفيان الثوري، عن سهيل بن أبي صالح، فصارت المتابعة من سفيان لمعمر، ويرويه عن سفيان اثنان، قال: "وهو وهم، والمحفوظ: عن سفيان، عن سهيل، عن عبد الله بن دينار، كرواية سليمان بن بلال" يعني هناك خطأ في هذه الرواية والحديث لا يُروى عن سهيل.

قال الدارقطني: "وَالصَّحِيحُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ"

مدار الحديث يرجع إلى من؟ إلى عبد الله بن دينار، فالحديث محفوظ عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة.

وفي (المنتخب من علل الخلّال): "أخبرنا زُهَيْرٌ: حدثنا مُهَنَّأٌ: قَالَ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ، قُلْتُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ سُهَيْلِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الإِيمَانُ ‌بِضْعٌ ‌وَسِتُّونَ ‌بَابًا، أَفْضَلُهَا: شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إلا الله، وأدناها إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ"؟ فَقَالَ أَحْمَدُ: إِنَّمَا هُوَ عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ"

إذًا الرواية الصحيحة: عن سهيل، عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح.

"قُلْتُ: ممَّن الْخَطَأُ: مِنْ مَعْمَرٍ أَوْ مِنْ سهيل؟ قال: لا أدري" انتهى.

ورواه بكر بن مضر، عن عُمارةَ بن غَزِيَّة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، كما عند أحمد، وعلّقه الترمذي.

وعند الطبراني: بكر بن مضر، عن عمارة بن غزية، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال ابن منده: "ورواه ابن عبد الحكم، عن بكر بن مضر، عن عمارة، عن سهيل، عن أبي هريرة، وسهيل سمعه من عبد الله بن دينار عن أبي صالح" انتهى.

ورواه مُفضَّل بن فضالة، عن محمد بن عجلان، عن سعيد المقبُري، عن أبي هريرة.

ورواه الأوزاعي، عن محمد بن عجلان، عن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة.

ورُوي بأوجهٍ أُخَر راجعوها في (العلل) للدارقطني.

على كلٍّ: كل هذا ضعيف، لا يثبت فيه شيء، الحديث لا يصحّ إلا من طريق عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهي الطريق التي اختارها الحُفّاظ وصححوها، ووافقهم البخاري ومسلم عليها، والله أعلم.

نحن نسوق هذا ونذكره حتى يتبين لنا قدر علم الإمام البخاري رحمه الله ومُكنَتُه في علم العلل وتصفية الأحاديث واختيار الأفضل منها.

أما ما قاله العُقيلي في كتابه "الضعفاء" بناءً على مذهبه في عبد الله بن دينار -والحفّاظ يخالفونه في هذا، يقبلون رواية الثقات عنه- وقد ذكر قوله ابن رجب في (شرح العلل) وفي (فتح الباري) ورَدَّه هناك.

هذا ما يتعلق بهذا الباب وهذا الحديث.

ننتقل إلى الباب الذي بعده:

قال المؤلف رحمه الله: "‌‌بَابٌ: المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ.

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، وَإِسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ»

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَقَالَ عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"

"‌‌بَابٌ: المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ"

المؤلف رحمه الله بوّب بلفظ الحديث الذي ساقه، يبيّن لنا هنا أمرين:

الأول: أن أعمال اللسان واليد داخلة في الإيمان.

الثاني: يبيّن لنا شعبةً من شعب الإيمان، وخَصلة من خصاله، فالإسلام هنا بمعنى الإيمان.

هذا المراد من هذا الباب.

قال رحمه الله: "حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ" وأبو إياس هذا اسمه: عبد الرحمن، فهو آدم بن عبد الرحمن بن محمد بن شعيب الخُرَاسَانِيُّ، أبو الحسن العَسْقَلَانِيُّ، أصله من خراسان، ونشأ ببغداد، وارتحل في الحديث فاستوطن عسقلان -عسقلان في فلسطين من بلاد الشام- إلى أن مات فيها سنة 220هـ، ثقةٌ مأمونٌ عابدٌ، قال أحمد: "كان من الستة أو السبعة الذين يضبطون الحديث عن شعبة"

هذا الحديث عمن؟ عن شعبة، انتقاء البخاري للرجال عجيب في قوته.

وقال أحمد رحمه الله: "كان مَكينًا في شعبة" فله مزيّة في شعبة.

وهو ممن يروي عن أتباع التابعين، أخرج له البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه.

و "شُعْبَةُ" هو ابن الحجّاج بن الورد العتَكي مولاهم، الأزْدي أبو بِسْطام الواسطي ثم البصري، كان يعقوب الحضرمي إذا حدّث عن شعبة عن سفيان يقول: "حدثنا الضخم عن الضِّخام شعبة الخير أبو بسطام".

كان من سادات أهل زمانه حفظًا وإتقانًا وورعًا وفضلًا، وهو أمير المؤمنين في الحديث، هذه الألقاب ليست من عندي؛ من أئمة الحديث، وهو أول من فتّش بالعراق عن الرجال وذبّ عن السنة وصار عالما يُقتدى به، كان الثوري يقول: "هو أمير المؤمنين في الحديث" وقال أحمد: "كان شعبة أمةً وحده في هذا الشأن" يعني في الرجال، وبصره في الحديث، وتثبّته وتنقيته للرجال، وكلام أهل العلم في الثناء عليه دينًا وحفظًا وعلمًا كثيرٌ، وهو من أتباع التابعين، مات سنة 160هـ، وله سبعٌ وسبعون سنة، روى له الجماعة.

قال: "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، وَإِسْمَاعِيلَ" فشعبة يروي الحديث عن رجلين:

"عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ": اسم أبي السفر: سعيد، الهَمْداني الثَّوري الكوفي، من أتباع التابعين، ثقة، مات في خلافة مروان بن محمد، ومروان بويع له بالخلافة سنة 127هـ، روى له الجماعة سوى الترمذي.

هذا يقال عندما لا تُعلَم سنة وفاته بالضبط، فيقرّبون لك الأمر تقريبًا، وهذه التواريخ مهمة جدًّا لأنها تعرّفك من التقى بمن ومن لم يلتق بمن، روى له الجماعة سوى الترمذي.

وأما "إِسْمَاعِيل بْن أَبِي خَالِدٍ": فهو البَجَلِيُّ الأَحْمَسِيُّ مولاهم، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة حافظ تابعي، قال الثوري رحمه الله: "حفّاظ الناس ثلاثة: إسماعيل -يعني هذا-، وعبد الملك بن أبي سُليمة، ويحيى بن سعيد الأنصاري" أعلم الناس بالشعبي وأثبتهم فيه -يعني إسماعيل هذا-، وقال أحمد: "أصح الناس حديثًا عن الشعبي: ابن أبي خالد" روايتنا عمّن؟ عن الشعبي، وقال أبو حاتم: "لا أقدّم عليه أحدًا من أصحاب الشعبي" فإذا خالفه من خالفه لا يقدّم عليه أحدًا "وهو ثقة" انتهى كلام أبي حاتم، مات سنة 146هـ، روى له الجماعة.

كلاهما يروي "عن الشعبي": عَامِرُ بنُ شَرَاحِيْلَ الشعبي، أَبُو عَمْرٍو الكوفي، قال سفيان بن عيينة: "كان الناس بعد أصحاب رسول الله : ابْن عَبَّاسٍ فِي زَمَانِهِ، وَالشَّعْبِيّ فِي زَمَانِهِ، وَالثَّوْرِيّ فِي زَمَانِهِ"، قال الشعبي: "ما كتبت سوداء في بيضاء قطّ" ما يكتب؛ كلُّه حفظ، قال: "ولا حدثني رجل بحديث فأحببت أن يعيده علي" خلاص ما يحتاج "ولا حدثني رجل بحديث إلا حفظته".

كان إمامًا حافظًا فقيهًا متفنّنًا فذًّا متقنًا، قال مكحول: "ما رأيت أفقه منه" انتهى.

تابعي مات بعد المائة، روى له الجماعة.

الشعبي يروي عن "عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو"، رواه بالعنعنة، الشعبي قال: "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو" لم يصرح فيه بالسماع في هذا الإسناد.

و "عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرٍو" هو ابن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بنِ سَهْمِ بنِ عَمْرِو بنِ هُصَيْصِ بنِ كَعْبِ بنِ لُؤَيِّ بنِ غَالِبٍ القرشي السَّهميّ، يلتقي مع النبي في كعب بن لؤي، صحابي جليل ابن صحابي جليل، أحد المكثرين من الصحابة، وأحد العبادلة الأربعة الفقهاء، كان بينه وبين أبيه ثلاث عشرة سنة، وكان قد أسلم قبل أبيه، وشهد مع أبيه صفّين، وكان يسكن مكة ثم خرج إلى الشام وأقام بها، وقيل: مات بمصر، وقيل: بالشام، وقيل: بالطائف، لَيَالِيَ الحَرَّةِ في ولاية يزيد بن معاوية وكانت الحرة سنة 63هـ، وكان له يوم مات ثنتان وسبعون سنة، وكانت تحته عَمرةُ بنت عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب.

قال أبو هريرة: "ما من أصحاب النبي أحدٌ أكثر حديثًا عنه منّي، إلا ما كان من عبدالله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب"

وكان مجتهدًا في العبادة غزير العلم، روى له الجماعة رحمه الله.

إذًا خلاصة الأمر: هذا الحديث يرويه شعبة عن اثنين: أحدهما: عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي السَّفَرِ والآخر: إِسْمَاعِيل بْن أَبِي خَالِدٍ، وكلاهما يرويانه عن الشعبي عن عبدالله بن عمرو، احفظوه لأنه سيأتي ما يتعلق بهذه المسألة.

"عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»" فمَن لم يسلم المسلمون من لسانه ويده فهو كافر! صحيح هكذا الفهم؟ لا، خطأ.

الأحاديث لا تُفهَم مُقتطعة دون أن تجمعها مع بقية الأدلة من الكتاب والسنة، إذًا لا بد من معنى لهذا الحديث، فلذلك قال العلماء: "(المسلم)": أي الكامل "(من سلم المسلمون)" وتدخل فيه المسلمات كما هو مقرر في أصول الفقه، لما يطلق المسلمون تدخل فيه المسلمات أم لا؟ المبحث تقدم في أصول الفقه، نعم يدخلن.

"(من لسانه)": أي: من أذيّته لهم بالقول، كالشتم، واللعن، والغيبة، والبهتان، والنميمة، وغير ذلك...

"(ويده)": ومن سلم المسلمون من أذيّته لهم بالفعل، بالضرب، والقتل، والهدم، والدفع، والكتابة على الفيسبوك، وعلى التويتر، وعلى الواتساب ،كله هذا أيضًا شامل، فهذا الذي نخربشه على مواقع التواصل الاجتماعي ليست خربشة عابرة، كله مكتوب، وكله يؤثر على إسلامك نقصًا وزيادةً، ونحو ذلك، كل ما تفعله اليد داخل في ذلك.

وليس خاصًّا باللسان واليد: المقصود من ذلك أذيّة المسلم، لكن قالوا: خَصّ اللسان واليد لأن أكثر الأذية بهما.

قال أهل العلم: "وَلَيْسَ الْمُرَادُ ‌نَفْيَ ‌أَصْلِ ‌الْإِسْلَامِ عَنْ مَنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فلا يكون كافرًا من لم يسلم المسلمون من لسانه ويده إذا جاء بأصل الإسلام الذي يكون به مسلمًا، فهو كما تقول العرب: العلم ما نفع أو العالم زَيْدٌ أَيِ الْكَامِلُ أَوِ الْمَحْبُوبُ كَمَا يُقَالُ الْمَالُ الْإِبِلُ فَكُلُّهُ عَلَى التَّفْضِيلِ" أي الإبل أفضل من غيرها من الأموال وليس المراد أن الإبل هي المال وغيرها ليس مالًا، هذا أسلوب عربي معروف، قال: "ونفي اسم الشيء على معنى نفي الكمال عنه مستفيض في كلامهم" هذا الكلام ليس كلامًا غير عربي، هذا كلام عربي أن تقول المقصود بنفي الإسلام عمن آذى المسلمين نفي الإسلام الكامل لا أصل الإسلام، وهذا معروف عند العرب ومستعمل، قالوا: "ونفي اسم الشيء على معنى نفي الكمال عنه مستفيض في كلامهم" يعني كثيرٌ في كلام العرب "ألا تراهم يقولون للصانع إذا لم يكون متقنًا لعمله مُحكِمًا له: ما صنعت شيئًا ولَم تعملْ عملًا" مع أنهم ينفون عنه أيش؟ الإتقان، يعني هو ربما يكون صنع أصل الشيء، قالوا: "وإنما يريدون بذلك نفي الإتقان له، لا نفي الصنعة عينها، فهو عندهم عاملٌ بالاسم، غير عامل في الإتقان" انتهى كلامهم رحمهم الله.

هنا تنبيه مهم احفظوه: قال ابن تيمية رحمه الله: "‌إن ‌نُفيَ "‌الْإِيمَانِ" ‌عِنْدَ ‌عَدَمِهَا" أي عند عدم أعمال البر "دَلَّ عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَإِنْ ذُكِرَ فَضْلُ إيمَانِ صَاحِبِهَا وَلَمْ يُنْفَ إيمَانُهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَنْفِي اسْمَ مُسَمَّى أَمْرٍ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ إلَّا إذَا تَرَكَ بَعْضَ وَاجِبَاتِهِ كَقَوْلِهِ: (لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ) وَقَوْلِهِ: (لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ) وَنَحْوِ ذَلِكَ..." لما يقول لك (لا إيمان لمن لا أمانة له) يريد بذلك أن الأمانة واجبة، ولولا أنها واجبة ما نُفِيَت، هذا معنى كلام ابن تيمية باختصار، يعني لا يمكن أن تجد في النصوص الشرعية نفيًا لعمل من الأعمال ويريد من ذلك نفي الكمال المستحب، بما أنه نفاه إذًا: النفي عائدٌ إلى أحد أمرين ولا بد:

- إما نفي لصحة الشيء؛ نفي لأصله

- أو نفيٌ لكماله الواجب

يعني تقول مثلًا: لا إيمان لمن لم ينطق بالشهادتين وهو قادر، ماذا تريد هنا؟ نفي أصل الإيمان، أي إنه كافر إذا ما نطق بالشهادتين، لو قلت: لا إيمان لمن لم يصم رمضان، هنا نفيٌ للكمال الواجب في إيمانه، يعني أنه فاسقٌ، يعني أنه قد ارتكب إثمًا؛ ارتكب حرامًا.

طيب هل يَرد: لا إيمان لمن لا يستاك؟ هل يرد مثل هذا في النص الشرعي؟ لا يرد، لا يرد "لا إيمان" مع نفي شيء مستحب، بما أنه نفاه فهو واجبٌ، أو أنه أصلٌ في الإيمان، هذا خلاصة ما ذكره هنا، وهذه قاعدة صحيحة عليها أهل العلم، ليست من عند ابن تيمية وحده، قال: "فَأَمَّا إذَا كَانَ الْفِعْلُ مُسْتَحَبًّا فِي الْعِبَادَةِ لَمْ يَنْفِهَا لِانْتِفَاءِ الْمُسْتَحَبِّ" إلى أن قال: "فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ الْكَمَالُ" يوجد في كلامهم؟ نعم يوجد في كلامهم، ينفي النبي شيء ويقولون: المقصود نفي الكمال، نقول: أصابوا أم أخطؤوا؟ قال: "فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ الْكَمَالُ فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ نَفْيُ "الْكَمَالِ الْوَاجِبِ" الَّذِي يُذَمُّ تَارِكُهُ وَيَتَعَرَّضُ لِلْعُقُوبَةِ؛ فَقَدْ صَدَقَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ نَفْيُ "الْكَمَالِ الْمُسْتَحَبِّ" فَهَذَا لَمْ يَقَعْ قَطُّ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ، فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ الْوَاجِبَ كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْتَقِصْ مِنْ وَاجِبِهِ شَيْئًا؛ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: مَا فَعَلَهُ، لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا" يعني لا يجوز أن يقال لا حقيقة ولا مجازًا، يعني إذا أتى بأصل الإيمان وأتى بالواجبات لا يصح بعد ذلك أن تقول لا إيمان لك إذا لم تفعل كذا وكذا؛ لأنه أتى بكل ما هو مطلوب منه في أصل إيمانه وفي واجباته، قال هذا لا يصح لا حقيقة ولا مجازًا أن يُنفى الإيمان لأنه قد ترك شيئًا مستحبًّا، الإيمان يُنفى إذا ترك شيئًا لا يصح إيمانه إلا به، أو إذا ترك شيئًا هو واجبٌ عليه فقط.

معنى ذلك بعد ذلك: إذا مرّ بنا حديث فيه "لا إيمان" مباشرة نفهم من ذلك أن الذي ينفيه إما أنه يؤثر في أصل إيمان العبد، أو يؤثر في كماله الواجب، يعني أنه إذا لم يفعله يكون آثمًا ويستحقّ العقوبة، إلى آخر ما قال رحمه الله.

انتهى المراد والكلام له تتمة مفيدة راجعوه تامًّا في "مجموع الفتاوى" في المجلد السابع صفحة 15 فما بعدها.

وهذا الحديث الذي معنا لا يعني أيضًا بناء على ما فسرناه به -طبعًا فسّره علماء السنة وغيرهم- أن المراد المسلم الكامل، لفظة الكامل، ألا يلزم من ذلك بعد هذا أن يكون هذا المسلم كاملًا إذا سلم المسلمون من أذاه من غير بقية خصال الإسلام؟ لا، ما يلزم، وليس هذا المراد، بل المراد: أفضل المسلمين وأكمل المسلمين مَن جَمَعَ إلى أداء حقوق الله تعالى أداء حقوق المسلمين، هذا المقصود، هذا ما دلت عليه النصوص الشرعية، فهو هنا يؤكد لك أن هذه الخَصلة من خصال المسلم، وأن نقصها يعرّض صاحبها للعقوبة، وأنه ترك واجبًا شرعيًّا.

قال: "(والمهاجر)": أي الكامل "(من هجر)" أي ترك "(ما نهى الله عنه)" أي في الكتاب والسنة.

الهجرة ترد في الشرع على معنى: ترك بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام.

لكن المعنى الأعمّ هو ما ورد في هذا الحديث: ترك ما نهى الله عز وجل عنه، ويدخل في ذلك الأول، والمقصود بهذا المهاجر الكامل كما تقدّم في المسلم.

قال ابن رجب رحمه الله: "وأما رواية (المسلم) ‌فيقتضي ‌حصر ‌المسلم فيمن سلم المسلمون من لسانه ويده، والمراد بذلك المسلم الكامل الإسلام، فمن لم يَسلم المسلمون من لسانه ويده فإنه ينتفي عنه كمال الإسلام الواجب، فإن سلامة المسلمين من لسان العبد ويده واجبة، فإنَّ أذى المسلم حرام باللسان وباليد، فأذى اليد: الفعل، وأذى اللسان: القول، والظاهر: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما وصف بهذا في هذا الحديث لأن السائل كان مسلمًا قد أتى بأركان الإسلام الواجبة لله عز وجل، وإنما يجهل دخول هذا القدر الواجب من حقوق العباد في الإسلام، فبيّن له النبي ما جهله".

هذا الجواب ما لو قال له قائل: هل معنى ذلك أنه إذا ترك أركان الإسلام يكون مسلمًا كامل الإسلام؟! فأجاب بهذا الجواب الذي ذكره.

قال: "وقوله: (والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه) فأصل الهجرة: هُجران الشر ومباعدته، لطلب الخير ومحبته والرغبة فيه، والهجرة عند الإطلاق في الكتاب والسنة إنما تنصرف إلى هُجران بلد الشرك إلى دار الإسلام رغبة في تعلم الإسلام والعمل به، وإذا كان كذلك فأصل الهجرة: أن يهجر ما نهاه الله عنه من المعاصي، فيدخل في ذلك هُجران بلد الشرك رغبة في دار الإسلام، وإلا فمجرد هجرة بلد الشرك مع الإصرار على المعاصي ليس بهجرة تامة كاملة، بل الهجرة التامة الكاملة: هُجران ما نهى الله عنه، ومن جملة ذلك: هُجران بلد الشرك مع القدرة عليه" انتهى كلامه، وهو جيد وسيأتي التفصيل في مسألة حكم الهجرة من بلد الكفر إلى بلاد الإسلام.

فالمراد بهذا الحديث: الحض على ترك أذى المسلمين باللسان واليد والأذى كله، وترك ما نهى الله عنه عمومًا.

هذا الحديث والذي بعده يدلان على أن الأعمال من الإيمان، ويبينان خصلة من خصال الإيمان؛ لأن الإسلام والإيمان مترادفان عند البخاري؛ لذلك بوّب عليه وذكره رحمه الله.

"قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ" وهو البخاري، علّق هذا الحديث من طريقين "قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ" هذا معلق، البخاري علق الحديث من طريقين، الأول عن معاوية، والثاني عن عبد الأعلى، وكلاهما عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، به.

"وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ" هذا الضرير، محمد بن خازم التميمي السعدي مولاهم الكوفي، عَمَيَ وهو صغير، ثقة من أثبت الناس في حديث الأعمش، وقد يهم في حديث غيره؛ خاصة في حديث عبيد الله بن عمر، كان يرى الإرجاء ويدعو إليه، فهو داعية أيضًا، قاله أبو زرعة، وقال أبو داود السجستاني: "كان رئيس المرجئة في الكوفة".

هذا يدل على أن البخاري يخرج للدعاة من أهل البدع؛ إذًا أخطأ عليه من قال: لا يخرج لهم في صحيحه، وهذه صورة، سيأتي معنا أكثر من واحد، فالأمثلة كثيرة؛ لكن ربما تقول لي "أبو معاوية" هنا علق له تعليقًا ليس من شرط الكتاب؛ فهو أخرج له في غير هذا الموطن موصولًا، إذًا فالبخاري يجوّز رواية الحديث عن المبتدعة الذين يدعون إلى بدعتهم أيضًا، وهذا الذي رجحناه في كتب المصطلح، وقلنا هو هذا الراجح وهو الصحيح، وهناك قد رد العلماء على من زعم على البخاري أنه لا يخرّج للدعاة.

الراجح في الرواية عن أهل البدع -رواية الحديث-: أنهم إذا كانوا ثقاة في غير بدعتهم طبعًا -وأجبنا عن موضوع أن المبتدع يكون فاسقًا وكيف يكون ثقةً هناك في كتب المصطلح- إذا كان ثقةً في غير بدعته يقبل حديثه بشرط ألا يروي ما يشد بدعته.

"حَدَّثَنَا دَاوُدُ" وفي بعض روايات البخاري "هو ابن أبي هند" القشيري مولاهم البصري ثقة متقن، كان يهم إذا حدّث من حفظه، رأى أنسًا، وسمع الشعبي وغيره من التابعين، فهو من أتباع التابعين، مات سنة 140 عن 75 سنة، روى له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وأما البخاري فعلّق له هنا، وليس له في صحيحه ذكر إلا هنا.

"عَنْ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ" يعني: ابن عمرو، في رواية الأصيلي "يعني ابن عمرو"، وفي رواية ابن عساكر "هو ابن عمرو".

"عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" فيه هنا تصريح الشعبي بالسماع من عبد الله بن عمرو، فزعم بعضهم أن البخاري ساقه لهذا الغرض، من أجل أن يثبت سماع الشعبي من ابن عمرو، هكذا زعموا؛ لكن الظاهر من خلال النظر فيما فعله البخاري رحمه الله لو أراد البخاري فقط أن يثبت سماع الشعبي من عبد الله ابن عمرو لساقه من الطريق التي ساقها في كتاب الرقاق موصولًا قويًا هناك، وفيه التصريح بسماع الشعبي من عبد الله بن عمرو، فلو كان هذا هو الغرض فقط لفعل هذا، لماذا ركّز البخاري في الطريقين على رواية داود؟ هذا هو غرضه في الموضوع، هل خالف داود بن أبي هند في هذه الرواية؟ خالف ابن أبي السفَر وإسماعيل أم لم يخالفهما في رواية هذا الحديث عن الشعبي؟ هذا هو، لذلك ساق كلا الطريقين المعلّقين عن داود بن أبي هند خاصّة مع أن الحديث روي عن غيره، ماذا يريد؟ يريد أن يبين سماع الشعبي له من ابن عمرو في رواية داود خاصّة، لماذا؟ لكي يقول لنا داود بن أبي هند لم يخالف إسماعيل وعبد الله بن أبي السفر، طيب لماذا؟ من قال أنه خالف؟ وُهَيب بن خالد رواه عَنْ دَاوُدَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. هذا الذي قال أنه خالف، رواية داود بن أبي هند فيها واسطة رجل بين الشعبي وعبد الله بن عمرو، هل معنى هذا أن داود قد خالف إسماعيل وابن أبي السفر؟ أشار البخاري في تعليقه إلى أن الصحيح عن داود بن أبي هند عدم ذكر الرجل، ففي بعض طرقه قد صرح بالسماع في رواية داود بن أبي هند، وقد خالف وهيب بن خالد من الطريقين خالفه أبو معاوية، وخالفه عبد الأعلى، ساقه من طريقين كي يدعم هذه الطريق بهذه فتكون أقوى من طريق وهيب التي فيها إضافة رجل بين الشعبي وعبد الله بن عمرو؛ فأثبت بهذا أن رواية داود لم تخالف رواية إسماعيل وابن أبي السفَر فلا إشكال.

قال ابن منده في كتاب الإيمان: "‌رَوَاهُ ‌وهَيْبُ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مُغِيرَةُ، وَعَاصِمٌ، وَفِرَاسٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَمْرٍو. وَرُويَ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو" انتهى كلامه.

أبو عمرو هو الشعبي، رأيت كم واحد رواه عن الشعبي؟ لماذا لم يأتِ إلا بطريق داود؟ لهذا السبب؛ لأنها التي رويت بواسطة بين الشعبي وعبد الله بن عمرو، فبيّن أن الرواية الصحيحة عنه ليس فيها ذكر الرجل، وسئل أبو حاتم الرازي ‌عَنْ ‌حديثٍ ‌رَوَاهُ ‌سَيَّارٌ، ‌وإسماعيلُ ‌بنُ أَبِي خَالِدٍ، وبَيَانٌ، ومُجالِدٌ، عن عامر، عن عبد الله بن عمرو، عن النبيِّ ﷺ قَالَ: (المُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ) -هذا الشطر الثاني من الحديث، الحديث نفسه لكن أتى بالشطر الثاني فقط- وَرَوَاهُ وُهَيب، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعبي، عن رَجُلٍ، عن عبد الله بن عمرو، عن النبيِّ ﷺ، أيُّهُمْ أصحُّ؟ قَالَ: هؤلاءِ أحفظُ، أحكُمُ لهم به عَلَى داود.

رأيت كيف؟ جعلوا داود مخالفًا لرواية هذه الجماعة، وقال البخاري: لا، داود لم يخالف أصلًا؛ فالصحيح عن داود عدم ذكر الرجل فيه، وفيه التصريح بالسماع بين الشعبي وعبد الله بن عمرو.

طريق أبو معاوية وَصَلَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه فِي مُسْنده عَنهُ وَابن حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.

"وَقَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى" ابن عبد الأعلى السامي القرشي البصري أبو محمد من أتباع التابعين، صدوق، ثقة في روايته عن يونس، سمع من ابن أبي عروبة قبل اختلاطه، قدري، مات سنة 189 روى له الجماعة.

"عَنْ دَاوُدَ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" هذه متابعة تامة لأبي معاوية عن نفس الشيخ وهو داود، وليس فيها واسطة بين الشعبي وعبد الله بن عمرو كرواية أبي معاوية أيضًا.

قال الحافظ: "وصلها عثمان بن أبي شيبة في مسنده" انتهى.

وقد تابعهما على روايتهما له عن داود بدون واسطة: سفيان بن عيينة، وعبد الوهاب بن عطاء، فصاروا أربعة، يخالفون واحدًا.

أخرجه الحميدي في مسنده "قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، قَالَ: ثنا ‌دَاوُدُ ‌بْنُ ‌أَبِي ‌هِنْدَ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَأَنَا عِنْدَهُ" -تصريح- "فَجَعَلَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: حَدِّثْنِي بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تُحَدِّثْنِي عَنِ الْعَدْلَيْنِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ." فذكر الحديث.

قوله "وَأَنَا عِنْدَهُ" واضحة أن الشعبي سمع من عبد الله بن عمرو.

ورواية عبد الوهاب بن عطاء عن داود أخرجها تمّام في فوائده مختصرة بذكر المهاجر، وتابعهما جمعٌ على روايته عن الشعبي عن عبد الله بن عمرو من غير واسطة، يعني مروي من طرق عن الشعبي عن عبد الله بن عمرو؛ فالأمر ما فيه شبهة أصلًا؛ لكن الظاهر لما حمّلوا داود المخالفة أراد البخاري أن يبيّن أن المخالفة ليست من داود.

من هذه الطرق التي رويت عن الشعبي في هذا الحديث ما أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، قال: حَدَّثَنَا ‌أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا ‌زَكَرِيَّاءُ، عَنْ ‌عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ ‌عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو -لو أراد أن يثبت لك السماع لأتى لك بهذه- يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وذكر الحديث.

ولو قلنا بصحة المعارضة كما ذهب إليه من قال بأن داود قد خالف، وقلنا بأن إسماعيل لم يُتابَع، فداود لا يقارن بإسماعيل، إسماعيل أحفظ، وله خصوصية في الشعبي، فإسماعيل مقدم، كيف وقد توبع؟! كيف وداود لم يخالف أصلًا في الرواية الراجحة عنه؟! إذًا ما عاد في إشكال الحمد لله.

قال عبد الله: قَالَ أبي: ‌دَاوُد ‌بن ‌أبي ‌هِنْد البَصرِي -لاحظ كيف موضوع دواد وإسماعيل وكيف يوجد مقارنة بينهم عند السلف من الأئمة الحفاظ، هذا مما يؤكد لك أن البخاري أراد هذا الأمر خاصة في رواية داود- قال عبد الله: "قَالَ أبي: ‌دَاوُد ‌بن ‌أبي ‌هِنْد البَصرِي كَانُوا يَقُولُونَ إِن أَصله ‌خراساني، فَقلت أَيهمَا أعجب إِلَيْك إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد، أَو دَاوُد -يَعْنِي بن أبي هِنْد- فَقَالَ: إِسْمَاعِيل أحفظ عِنْدِي مِنْهُ، قَالَ: قلَّ مَا اخْتُلف عَن إِسْمَاعِيل وَدَاوُد يخْتَلف عَنهُ" انتهى.

هذا لو قدّرنا أن الخلاف حاصل بين داود وإسماعيل، وإسماعيل لم يتابع؛ فهذا الحكم في الاختلاف بينهما؛ فالحديث صحيح لا إشكال فيه بحمد الله؛ لكن هذا الظاهر لي، والله أعلم مراد البخاري.

طبعًا بعض العلماء قال أراد فقط إثبات السماع، بعضهم قال أراد أن يبين المهمل في الحديث لما قال: "حدثني عبد الله" الصحابي من هو عبد الله هذا؟ لم يُذكر من هو، يعني أقوال ما رأيتها قوية.

الحديث أخرجه مسلم رحمه الله من رواية أبي الخير؛ لكن أخرج شطره، رواية أبي الخير أَنَّهُ سَمِعَ ‌عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: «إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ؟ قَالَ: مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ».

وتوبع عليه الشعبي أيضًا؛ فلم يتفرد به، تابعه جماعة عليه بلفظه ومعناه، وله شواهد عن غير عبد الله بن عمرو، المتابعات والشواهد عند مسلم وأحمد وفي السنن وغيرها، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: "‌‌بَابٌ: أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ"

11 - حَدَّثَنَا ‌سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ‌أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا ‌أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ ‌أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ ‌أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»"

"‌‌بَابٌ: أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ" هكذا بوّب المؤلف -رحمه الله- يريد أن يبين من هذا أن الإيمان يتفاضل، "أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ" أي الإيمان أفضل، إذًا هناك تفاضل، والتفاضل في خصاله، فأي خصال الإسلام أفضل؟ إذًا هو خصال، ومتفاضلة أيضًا.

"حَدَّثَنَا ‌سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقُرَشِيُّ": سعيد بن يحيى بن سعيد بن أبَان بن سعيد بن العاص الأموي أبو عثمان البغدادي، يروي عن أتباع التابعين، ثقة، ربما أخطأ، مات 249، روى له الجماعة إلا ابن ماجه.

"قَالَ: حَدَّثَنَا ‌أَبِي": يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص، القرشي، الأموي، أبو أيوب الكوفي، نزيل بغداد، لقبه الجمل، من أتباع التابعين، صدوق، يغرب عن الأعمش -هذا ليس من روايته عن الأعمش- مات 194 وبلغ ثمانين سنة، روى له الجماعة.

البخاري يروي لأربعة يقال لهم يحيى بن سعيد، اثنان من طبقة، واثنان من طبقة أعلى مباشرة، قال ابن حجر: "وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْمَذْكُورُ اسْمُ جَدِّهِ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ الْأُمَوِيُّ وَنَسَبَهُ الْمُصَنِّفُ قُرَشِيًّا بِالنِّسْبَةِ الْأَعَمِّيَّةِ يُكَنَّى أَبَا أَيُّوبَ" بالنسبة الأعميّة يعني الأعم، الأمويون من القرشيين، قال: "وَفِي طَبَقَتِهِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَحَدِيثُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَكْثَرُ مِنْ حَدِيثِ الْأُمَوِيِّ، وَلَيْسَ لَهُ ابنٌ يَرْوِي عَنْهُ يُسَمَّى سَعِيدًا فَافْتَرَقَا" -يمكن أن تفرق بينهما بابنه، هذا ليس له ابن يروي عنه- "وَفِي الْكِتَابِ مِمَّنْ يُقَالُ لَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ اثْنَانِ أَيْضًا لَكِنْ مِنْ طَبَقَةٍ فَوْقَ طَبَقَةِ هَذَيْنِ، وَهُمَا: يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ السَّابِقُ فِي حَدِيثِ الْأَعْمَالِ أَوَّلَ الْكِتَابِ" حديث الأعمال بالنيات، تقدم معنا هذا يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: "وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ التَّيْمِيُّ أَبُو حَيَّانَ وَيَمْتَازُ عَنِ الْأَنْصَارِيِّ بِالْكُنْيَةِ وَالله الْمُوفق" انتهى.

"قَالَ: حَدَّثَنَا ‌أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ": بُريد بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، أبو بردة الكوفي، من أتباع التابعين، صدوق له مناكير، روى له الجماعة.

"عَنْ ‌أَبِي بُرْدَةَ": بن أبي موسى الأشعري، مشهور بكنيته، ومختلف في اسمه لعله عامر، تابعي ثقة من أهل الكوفة، مات سنة 104، وقيل غير ذلك، جاوز الثمانين، روى له الجماعة.

"عَنْ ‌أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ": الصحابي الجليل صاحبي النبي ﷺ، عبد الله بن قيس بن سليم بن حضّار، أبو موسى الأشعري، نسبة إلى قبيلة الأشعريين، وهي قبيلة يمنية، صحابي فقيه مشهور واستعمله النبي على زَبِيد وعدن -مدينتان في اليمن-، واستعمله عمر على الكوفة، قال له النبي ﷺ: (يا أبا موسى! لقد أُعطيت مزمارًا من مزمار آل داود) مزمار: صوت حسن، ليس مزمار موسيقى، يستدل به أهل الأهواء والبدع! يقول لك: مزمار: موسيقى، أَحَشَفًا ‌وَسُوءَ ‌كَيْلَةٍ!

ودعا النبي ﷺ له، قال: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ذَنْبَهُ، ‌وَأَدْخِلْهُ ‌يَوْمَ ‌الْقِيَامَةِ ‌مُدْخَلاً ‌كَرِيمًا) هنيئًا له على هذا الدعاء، مات سنة 50 وقيل بعدها، روى له الجماعة.

هذا الإسناد كله كوفيون.

"قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ" في رواية في صحيح مسلم بنفس الإسناد: "قال: قلت:" فالسائل نفسه أبو موسى راوي الحديث، وفي رواية بنفس الإسناد خارج الصحيحين: "سألنا رسول الله ﷺ"

"أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟" وفي رواية في صحيح مسلم: "أي المسلمين أفضل؟" فيكون فيه حذف، أي: أيُّ ذوي الإسلام أفضل، أي: أيُّ أصحاب الإسلام أو أهل الإسلام أفضل، هذا ما تؤيده رواية مسلم، وقالوا آخرون: المعنى: أيُّ خصال الإسلام أفضل؟ مؤدى المعنى في النهاية واحد، وعلى هذا الأخير يكون معنى السؤال: أيُّ أمور الإسلام وخصاله أفضل؟

"«قَالَ: مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»" فيكون الإيمان خصالًا، بعض هذه الخصال أفضل من بعض، وهذه خَصلة منها، ويدل هذا أيضًا على أن الإيمان يزيد وينقص، وهذا الحديث متفق عليه، أخرجه مسلم عن شيخ البخاري مباشرة بإسناده؛ فتابع مسلم البخاري عليه متابعة تامة، ورواه أيضًا مسلم من طريق أخرى: عن ‌‌إِبْرَاهِيمُ ‌بْنُ ‌سَعِيدٍ ‌الْجَوْهَرِيُّ، عن أبي أُسَامَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي ‌بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، بِه.

وأخرج الحديث من طريقين عن بريد جمع من أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد، وروي الحديث عن أبي موسى من غير طريق بريد عن أبي بردة، أخرجها البزار وذكر ما يدل على أنها معلّة، والله أعلم.

نكتفي بهذا القدر، والحمد لله، نسأل الله القبول لنا ولكم وأن ينفعنا بما سمعنا.

قائمة الخيارات
0 [0 %]
الاثنين 8 محرم 1445
عدد المشاهدات 256
جميع الحقوق محفوظة لشبكة الدين القيم © 2008-2014 برمجة وتصميم طريق الآفاق