الاثنين 13 ذو القعدة 1445 هـ
20 مايو 2024 م
جديد الموقع   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-53، كتاب الوضوء، الحديث 192و193و194و195و196و197و198و199و200   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-52، كتاب الوضوء، الحديث 187و188و189و190و191   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-51، كتاب الوضوء، الحديث 183و184و185و186   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-50، كتاب الوضوء، الحديث 176و177و178و179و180و181و182   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-49، كتاب الوضوء، باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين.   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (124-129)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (117-123)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (111-116)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (107-110)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (97-106)      

تفريغ صحيح البخاري-4 الحديث 7 حديث أبي سفيان مع هرقل، للشيخ أبي الحسن علي الرملي

الدرس الرابع: بتاريخ: 21/11/1444ه – 10/06/2023

الحمد لله، الحمد لله حمدًا كثيرًا كما يحب ربنا ويرضى، أما بعد:

فوقفنا عند الحديث السابع من باب "بدء الوحي" من صحيح البخاري.

وهذا الدرس هو الدرس الرابع، ونظرًا لما رأيته من طلبة العلم من تململ وضعف عن متابعة الدرس لمدة ساعتين، وأبدى بعضهم عدم القدرة على الاستمرار لهذه المدة لأسباب معلومة سنجعل إن شاء الله مدة الدرس ساعة ونصف، ثم ننظر بعد ذلك القدرة على تحمل هذه المدة.

وقفنا عند الحديث السابع، قال الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري: "حدثنا ‌أبو اليمان الحكم بن نافع، قال: أخبرنا ‌شعيب، عن ‌الزهري، قال: أخبرني ‌عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أن ‌عبد الله بن عباس أخبره: أن ‌أبا سفيان بن حرب أخبره..." فذكر الحديث.

"الحكم بن نافع البهراني": أبو اليمان الحمصي، مشهور بكنيته، ثقة ثبت ممن يروي عن أتباع التابعين، مات سنة (222ه) روى له الجماعة.

قد روى عنه الإمام البخاري في صحيحه في مواضع كثيرة، وخاصة روايته عن شعيب.

قال: "أخبرنا شعيب": شعيب بن أبي حمزة الأموي مولاهم، واسم أبيه دينار، أبو بشر الحمصي، ثقة، ثبت، عابد، وصفه الخليلي والذهبي بالحافظ، قال ابن معين: "من أثبت الناس في الزهري"، من أتباع التابعين، مات سنة (162ه) أو بعدها، روى له الجماعة.

اختلف العلماء في أخذ الحَكَم حديثَ شعيب كيف كان؟ أي كيف تحمل الحَكَم حديثَ شعيبٍ؟ هل هو بالسماع، أم بالمناولة، أم بالإجازة؟ حصل خلاف بينهم في هذا:

فقال بعضهم: أكثره مناولة، وسمع منه حديثًا واحدًا، وقالوا إجازة، قال الخليلي: نسخة شعيب رواها الأئمة عن الحَكَم.

وتابع أبا اليمان عليُّ بن عياش الحمصي وهو ثقة، وقال الذهبي في ذكر ترجمة الحكم: ثبت في شعيب عالم به؛ فروايته عنه صحيحة، حتى لو كانت مناولة فهي صحيحة، وقد قبلها العلماء واحتجوا بها.

"الزهري": محمد بن مسلم بن شهاب، تقدم، وهو إمام، حافظ، فقيه، من التابعين.

قال: "أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود": ثقة، إمام، فقيه، تابعي، فاضل، تقدم، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة.

"أن عبد الله بن عباس أخبره": ابن عباس: صاحب رسول الله وابن عمه، تقدم.

"أن أبا سفيان بن حرب أخبره": أبو سفيان: صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، القرشي، الأموي، سيأتي أنه يلتقي مع النبي في النسب في عبد مناف، وهو والد معاوية رضي الله عنهما، صحابي شهير كان من أشراف قريش في الجاهلية، كان يقال: من أفضل قريش في الجاهلية رأيًا، أسلم عام الفتح وحسن إسلامه، شهد حنينًا والطائف مع النبي ، مات سنة (32ه) في خلافة عثمان رضي الله عنه، روى له الجماعة سوى ابن ماجه.

"أن أبا سفيان أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش": هرقل: ملك الروم، اسمه هرقل، ولقبه قيصر.

قال أهل العلم: إن كل من ملك المسلمين يقال له أمير المؤمنين، ومن ملك الحبشة: النجاشي، ومن ملك الروم: قيصر، ومن ملك الفرس: كسرى، ومن ملك الترك: خاقان، ومن ملك القبط: فرعون، ومن ملك مصر: العزيز، ومن ملك اليمن: تُبَّع.

هرقل هذا قالوا بأنه أقام في الملك إحدى وثلاثين سنة، وفي ملكه مات النبي ﷺ.

"أرسل إليه في ركب من قريش": ركْب: جمع راكب، وهم أصحاب الإبل العشرة فما فوقها.

والمعنى: أرسل هرقل إلى أبي سفيان حال كونه من جماعة من قريش، وخصه لأنه كان كبيرهم.

"وكانوا تجارًا بالشام": أي وهم كانوا تجارًا، أي ما الذي أتى بهم إلى الشام؟ كانوا تجارًا، فهم في الشام للتجارة، والشام يقال لها: الشام والشأم، بالهمز والتخفيف، وحَدّ الشام: من عريش مصر وبحر الشام، بحر الشام الذي يسمى اليوم: البحر الأبيض المتوسط من جهة الشام، وبحر الشام من تلك الناحية، هذا البحر الأبيض المتوسط كان يسمى بحر الروم، أما الجهة التي من جهة الشام كانت تسمى بحر الشام، فمن جهة من عريش مصر وأنت صاعد إلى الأعلى، من جهة بحر الشام إلى نهر الفرات وأنت ذاهب شرقًا، فمن البحر إلى النهر -نهر الفرات ليس نهر الأردن- هذه كلها شام، ومن طرسوس وأَدَنة -هذه اليوم في تركيا تسمى أَدَنة: أضنة، هي أَدَنة- ومرعش، ومنطيا إلى جنوبًا إلى جبلي طي، هذه كلها الشام.

قال: "وكانوا تجارًا بالشام في المدة التي كان رسول الله ﷺ مادّ فيها أبا سفيان وكفار قريش":

المدة: القطعة من الزمان، ومادّ فيها: هو الاتفاق على مدة، وهذه المدة هي صلح الحديبية، وكانت في سنة (6ه)، وكانت مدة الصلح عشرة سنوات؛ لكن قريش نقضت العهد؛ فغزاهم النبي ﷺ في السنة الثامنة وفتح مكة.

قريش: هم ولد النضر بن كنانة، وقيل: هم ولد فهر بن مالك بن النضر؛ فنسبهم جميعًا يرجع إلى رجل واحد.

يعني المقصود من هذا الكلام الذي تقدم: أن أبا سفيان أخبر ابن عباس أنه بينما هو وكان معه جماعة من قريش في الشام، كانوا في الشام للتجارة، أبو سفيان وجماعة من قريش، فبينما هم في الشام أرسل إليه هرقل ليكلمه، لماذا أرسل إليه هرقل ليكلم أبا سفيان ومن معه؟ سبب ذلك أن رسول الله ﷺ أرسل مع دحية الكلبي -وهو صحابي وسيأتي- أرسل معه كتابًا، رسالة إلى هرقل يدعوه فيه إلى الإسلام، فلما وصل إليه كتاب رسول الله ﷺ قال -يعني هرقل-: هل هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قالوا: نعم، فأرسل إليه يدعوه إليه كي يكلمه في شان النبي ﷺ، يستفسر عن بعض الأمور.

قال: "فأتوه وهم بإيلياء فدعاهم في مجلسه، وحوله عظماء الروم"

"إيلياء": ويقال لها إيليا وأليا على وزن عَليا: اسم مدينة بيت المقدس، أتوه لما دعاهم هرقل أتوه إلى بيت المقدس، فدعاهم إلى مجلسه، دعاهم في حال كونه في مجلسه، وللبخاري في رواية ستأتي إن شاء الله.

قال أبو سفيان: "فوجدنا رسول قيصر ببعض الشأن فانطلق بي وبأصحابي حتى قدمنا إيلياء، فأدخلنا عليه، فإذا هو جالس في مجلس ملكه -يعني هرقل- وعليه التاج، وإذا حوله عظماء الروم، هذه تفسر المعنى الذي ذكر.

وحوله عظماء الروم، عظماء: جمع عظيم، والروم من ولد عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، فعيص أخو يعقوب، يعقوب هو إسرائيل، عيص أخوه، كذا قال أهل العلم بالأنساب والتاريخ، قالوا: الروم جيل من الناس معروف، كالعرب والفرس، وهم الذين يسميهم أهل الشام: الفرنج، من ولد روم بن عيص بن إسحاق، غلب عليهم اسم أبيهم فصار كالاسم للقبيلة.

قال: "ثم دعاهم ودعا بترجمانه" أي قبل الدخول عليه دعاهم للدخول عليه.

فدعاهم الأولى للمجيء إليه ودعاهم في الثانية للدخول عليه، قال: تعالوا عندي إلى بيت المقدس، فلما جاؤوا إلى بيت المقدس داعهم للدخول عليه في قصره.

"ودعا بترجمانه" الترجمان: هو الذي يترجم الكلام، أي: ينقله من لغة إلى لغة أخرى.

"فقال: أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟" قال الترجمان على لسان هرقل: أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل، النسب: القرابة، على خلاف ما ينطقها الناس اليوم، الناس يقولون النسب يعني المصاهرة، النسب هي القرابة، يعني: أيكم أكثر قربًا منه من حيث النسب.

قال العلماء: إنما خص هرقل الأقرب لأنه الأحرى أو أحرى بالاطلاع على أموره الظاهرة والباطنة أكثر من غيره، فيكون أكثر معرفة به من غيره، ولأن الأبعد لا يؤمن أن يقدح في نسبه بخلاف الأقرب.

قال: "الذي يزعم أنه نبي" وفي رواية: يدعي، والزعم: بمعنى القول، يزعم: يقول، قال الأزهري: وأكثر ما يكون الزعم فيما يُشك فيه ولا يتحقق.

"فقال أبو سفيان: فقلت أنا أقربهم نسبًا" كان أبو سفيان أقرب نسبًا لأنه كما تقدم من بني عبد مناف، وعبد مناف هذا هو الأب الرابع للنبي ﷺ، وكذا لأبي سفيان أيضًا، هو الأب الرابع لأبي سفيان، اسم النبي ﷺ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وأبو سفيان كما تقدم أبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، ولم يكن بينهم -هؤلاء الجماعة الذين دعاهم هرقل- من هو أقرب نسبًا منه، ففي رواية عند البخاري قال: "أنا أقرب إليه نسبًا، قال: ما قرابة ما بينك وبينه؟ فقلت: هو ابن عمي، وليس في الركب يومئذ أحد من بني عبد مناف غيري" انتهى.

"فقال: أدنوه مني" قال هرقل: قربوه مني "وقرِّبوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره" أي: عند ظهر أبي سفيان، يعني من خلفه، لماذا قال لهم ذلك؟ حتى لا يستحيوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب.

"ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل" إني سائل هذا: إني سائل أبا سفيان، عن النبي ﷺ

"فإن كذبني فكذبوه": يعني إن نقل لي الكذب عن النبي ﷺ بأن قال خلاف الواقع فلا تستحيوا منه وقولوا كذب.

"قال أبو سفيان: فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبًا لكذبت عنه": لولا الحياء من أن ينقلوا عني الكذب في بلادي أي يقولوا كذب أبو سفيان؛ فأُعاب به عند قومي لكذبت عنه، أي لكذبت في الحديث عنه، ووصفته بخلاف الواقع، انظر جاهلي كان كافر ومع ذلك يسترفع عن الكذب، فلا يكذب حتى لا يقال أبو سفيان كذب، لا تمسك عليه كذب، ويوصف بهذا؛ فلا يُصدّق بعد ذلك عندهم، وهو من أشرافهم، أبو سفيان كان واثقًا منهم أنهم لن يكذبوه لو كذب؛ لأنهم جميعًا أعداء للنبي ﷺ فهم يشتركون في هذه العداوة؛ لكنه ترك الكذب استحياء وأنفة من أن يتحدثوا بذلك بعد أن يرجعوا، فيصير عندهم كذابًا.

قال: "ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟" هرقل كما سيأتي رجل صاحب علم، قرأ الكتب وتعلم، وهو كاهن أيضًا كما سيأتي، فهذه الأسئلة التي سيطرحها ليست عبثًا، كلها جاءت بسبب ما تعلمه، وله هدف، غاية من كل سؤال كما سيأتي، سيفسر هو أسئلته ما سببها.

فكان أول سؤال: كيف نسبه فيكم، أنساب العرب منها ما هو شريف، ومنها ما هو وضيع، وهو يسأل الآن من أي النسب هو فيكم؟ ما حال نسبه فيكم؟ أهو من أشرافكم أم لا؟

"قلت: هو فينا ذو نسب" صاحب نسب عظيم شريف "قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا"

سأل هرقل أبا سفيان: هل ادعى النبوة من قومكم -يعني من قريش- أحد قبله؟ قال أبو سفيان: لا، ما ادعاها أحد.

"قال: فهل كان من آبائه مِن مَلِك؟ قلت لا" في رواية: مِن مَلِك، وفي رواية: مَلِك، هل كان من آبائه مَلِكٌ؟ وفي رواية: مَن ملَكَ، مَن: الموصولة، ومَلَكَ: فعل ماض، هذه روايات ثلاث لكن المعنى واحد.

"قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟" أشراف الناس: كبارهم وأهل الأحساب فيهم، والمعظمون فيهم، فالشرف علو الحسب والمجد والمكان العالي.

"فقلت: بل ضعفاؤهم" هذا على الغالب، نظرًا إلى غالب أتباعه، وإلا ففي أتباعه من هم من أشراف قريش كانوا أسلموا قبل هذا السؤال، كأبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وحمزة وغيرهم، لكن بالنظر إلى الغالب هو هذا الجواب.

"قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا" سخطة: يعني كراهة وعدم رضا، يعني ممكن يرتد لغير هذا السبب؟ نعم ممكن، هو أخرج هؤلاء، ما يسأل عنهم، كمن ارتد مكرهًا، أو لغرض دنيوي، طمع في شرف أو في مال، في جاه أو في مال مثلًا أو غير ذلك، المهم أنه ليس سخطة للدين، لا يبغض الدين، قال أبو سفيان: لا، لا يوجد.

"قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب" -الكذب على الناس- "قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا" اتهموه بالكذب في النبوة لما قال هو نبي من عند الله، لكن قبل ذلك ما كانوا يتهمونه بالكذب؛ لذلك قال: قبل أن يقول ما قال.

"قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا" الغدر: هو نقض العهد، وعدم الوفاء به، وهو مذموم عند جميع الناس.

قال أبو سفيان وانظروا ما يقول: "ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها" يعني صالحناهم على ترك القتال مدة، قلنا أن هذه الحادثة حصلت بعد أن انعقد صلح الحديبية، وكان بينهم وبين النبي ﷺ صلح، فهنا يقول له: هل يغدر إذا أعطاكم عهد في أمر؟ قال: لا، لكن هنا في أمر، نحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها.

قال -يعني أبو سفيان -: "ولم تُمْكِنِّي كلمةٌ أُدخِل فيها شيئًا غير هذه الكلمة" يعني ما استطعت أن أنتقصه وأتكلم فيه أو أشكك في أمره إلا بهذه الكلمة.

أبو سفيان كان يعلم من أخلاق النبي ﷺ الوفاء بالعهد والصدق، وأنه يفي بما عاهدهم عليه، لكن أتى بشيء مستقبلي، لأنه في الأمر المستقبل لا ينسب إلى الكذب لأنه ما حصل بعد، فلذلك أورده بالتردد "ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها" هذه الكلمة التي حاول أن ينتقص فيها النبي ﷺ.

ماذا فعل بها هرقل؟ لم يبال بها ولم ينظر إليها، لماذا؟ لأن هرقل يريد حقائق، يريد شيء واقع، لا يريد أيش سيحصل في المستقبل.

"قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم" حصل بينهم قتال في غزوة بدر وغزوة أحد وغيرها.

"قال: فكيف كان قتالكم إياه؟" يعني من كان ينتصر في هذه الحروب.

"قلت: الحرب بيننا وبينه سِجَال، ينال منا وننال منه" فسر السجال، السجال معناه: مرة لهؤلاء ومرة لهؤلاء، وهو قال هنا: "ينال منا وننال منه" ينال: يعني يصيب منا ونصيب منه، أشار أبو سفيان بقوله الحرب بيننا وبينه سجال إلى ما وقع بينهم في غزوة بدر وغزوة أحد، وقد صرّح بذلك أبو سفيان في يوم أحد بقوله: "يوم بيوم بدر" -يعني يوم أحد بيوم بدر- "يوم بيوم بدر والحرب سجال".

"قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم" فَهِمَ كفار الجاهلية كفار قريش ما يدعوهم إليه النبي ﷺ أم لم يفهموا؟ هؤلاء عرب أقحاح، لما يقول لهم النبي ﷺ: (قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا) فهموا المقصود، يعني اعبدوا الله وحده واتركوا عبادة ما سواه، هذا الذي كان يدعوكم إليه آباؤكم، يقولون لكم تمسكوا بالأوثان واعبدوا الأوثان، وجاء النبي ﷺ وقال لهم: اتركوا عبادة الأوثان واعبدوا الله وحده لا شريك له، فهموا هذا واستوعبوه، اليوم كثير ممن يدعي الإسلام لم يفهم ما فهمه كفار الجاهلية، فكفار الجاهلية أعلم بمعنى هذه الكلمة من بعض من يدعي الإسلام اليوم، هذا واقع، لذلك تجد من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله ويعبد غير الله، ينقض ما يقول وهو لا يدري، ويظن نفسه أنه محقق للتوحيد، لا، كفار قريش كانوا يفهمون، إذا قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله يكون فاهمًا أيش المقصود من هذا ويلتزم به، خلاص، لا يشرك، وهذا الفرق في العلم بينهم وبين كثير ممن يدعي الإسلام اليوم.

اعبدوا الله وحده: لا تعبدوا معه غيره، ولا تشركوا به شيئًا: يعني لا تجعلوا أي شيء معه شريكًا في عبادتكم، كما فسر النبي ﷺ الشرك: (أن تجعل لله ندًا وهو خلقك) ند: مثيل، إذا عبدت الصنم أو الولي أو الرجل الصالح أو القبر، صرفت إليه عبادتك فقد جعلته ندًا لله، يعبد كما يعبد الله.

"ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة" الإنسان بفطرته لما يسمع هذا يعرف أنها دعوة حق.

هكذا في نسخة في صحيح البخاري، وفي كثير من كتب السنن والمسانيد وفي نسخة للبخاري زيادة "الزكاة"، وفي رواية "الصدقة" بدل "الصدق"، وجاء في رواية: "بالصلاة والصدق والصدقة".

وأراد بالصلاة: الصلاة المعهودة التي تفتتح بالتكبير وتختتم بالتسليم، الصدق: المقابل للكذب، العفاف: الكف عن المحارم، والعفة: الكف عما لا يحل ولا يجمل، والصلة: هي كل ما أمر به الله تبارك وتعالى أن يوصل، وذلك بالبر والإكرام وحسن المراعاة، ويقال المراد بالصلة هنا: صلة الأرحام، وكل هذا قد أمرنا النبي ﷺ به.

"فقال هرقل للترجمان: قل له:" -أي لأبي سفيان- "سألتك عن نسبه" الآن يريد هرقل أن يفسر لنا ما أسباب هذه الأسئلة التي سألها وما علاقتها بصدق النبي ﷺ في نبوته.

"قال: سألتك عن نسبه فذكرتَ أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تُبعث في نسب قومها" أي تبعث في أشراف بيوت قومها، والحكمة من ذلك أن من شرف نسبه كان أبعد عن انتحال الباطل وعن الدعوى الفاسدة والأكاذيب، وكان انقياد الناس إليه أقرب.

قال أهل العلم: "الظاهر أن إخبار هرقل بذلك بالجزم كان عن العلم المقرر عنده في الكتب السالفة" استقراء للكتب الماضية علم أن الأنبياء تبعث في أشراف قومها.

قال: "وسألتُك هل قال أحد منكم هذا القول، فذكرتَ أن لا، فقلتُ: لو كان أحد قال هذا القول قبله، لقلتُ: رجل يأتسي بقول قيل قبله" يأتسي: أي يقتدي ويتبع، وفي رواية من روايات صحيح البخاري: يتأسى، والمعنى واحد، يعني لما تسمع واحد من قومك كان نبيًا أو يدعي النبوة تقول أريد أن أكون مثل جدي أو قريبي، قال فربما يكون من هذا الباب؛ لكن ما في أحد قال هذا.

"وسألتُك هل كان من آبائه مِن مَلِك، فذكرتَ أن لا، قلتُ: فلو كان من آبائه من ملك، قلت رجل يطلب مُلْك أبيه" أي يحاول أن يستعيد ملك أبيه لنفسه، كما يفعل كثير من أبناء الملوك الذين يزول ملك أبيهم، يحاول جاهدًا أن يسترجع ملكه؛ ولكنه ليس أيضًا من أبناء الملوك حتى يظن بها ذلك.

"وسألتُك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرتَ أن لا، فقد أعرفُ أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله" أي لم يكن ليدع الكذب على الناس، يترك الكذب على الناس ويكذب على الله، فمن المعلوم عند كل أحد أن الكذب على الله أقبح وأشد من الكذب على الناس، فمن تورع عن الكذب على الناس فهو أولى أن يتورع عن الكذب على الله تبارك وتعالى، كيف يكذب على الله يزعم أن الله أرسله ولم يرسله، كذب على الله في هذا ﴿ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا هذا عظيم عند الله.

"وسألتُك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤُهم، فذكرتَ أن ضعفاءَهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل" لماذا أتباع الرسل يكونون من الضعفاء لا من الأشراف عادة -في الغالب طبعًا-؟

1- لأن الأشراف عادة يمنعهم طمعهم في الرئاسة والملك من الخضوع للحق، لأنهم يظنون تلقائيًا أنهم إذا استجابوا لدعوة النبوة أن رئاستهم وملكهم سيزول، لذلك لا يستجيبون.

2- وكذلك أمر آخر: أنهم لا يريدون أن يكونوا هم والضعفاء سواء، فيمتنعون عن الإجابة.

"وسألتُك أيزيدون أم ينقصون، فذكرتَ أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم" يبدأ أهل الإيمان القائمين به والداعين إليه قلة، كما حصل مع النبي ﷺ ومع الأنبياء من قبله، يبدأ النبي وحده ثم الثاني والثالث والرابع يكونون معه، ثم يزدادون، ويعني بتمام الإيمان قوة أهله وتمكنهم من إظهاره والدعوة إليه.

"وسألتُك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرتَ أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب" يسأل عن الردة، هل يرتد أحد منهم سخطة؟ هذا قيد مهم، فمن دخل على بصيرة في أمر محقق لا يرجع عنه بغضًا له إذا كان هذا الشيء صحيح، بخلاف من دخل في الأباطيل سيكتشف أنها أباطيل ويتركها.

بشاشة الإيمان: انشراح الصدر به، والفرح والسرور، وأصلها: اللطف بالإنسان عند قدومه وإظهار السرور برؤيته وتأنيسه.

قال أهل العلم: "فشبه الإيمان إذا ورد على القلب ففرح به القلب وانشرح الصدر له شبهه بذلك".

قال الشراح: "فإن قلت: قد ارتد كثير ممن آمن به فما وجهه؟ -ارتد كثير ممن آمن بالنبي ﷺ فكيف هذا القول- قلت: إما لأنه لم يرتد أحد حينئذ وإما لأن الارتداد لم يكن لبغض الدين، بل لحب الرياسة ونحوه" انتهى.

وهذا الثاني هو الأرجح، وهرقل سأل عن من يرتد سخطة لدينه خاصة، وهذا لم يحصل.

قال أهل العلم: "سألهم عن زيادة أتباعه ودوامهم على اتباعه فأخبروه أنهم يزيدون ويدومون، وهذا من علامات الصدق والحق، فإن الكذب والباطل لا بد أن ينكشف في آخر الأمر فيرجع عنه أصحابه ويمتنع عنه من لم يدخل فيه".

"وسألتُك هل يغدر، فذكرتَ أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر" لأن الرسل لا يريدون حظًا من الدنيا متى وجدوا هذا الشيء غدروا، لأن من يريد هذه الدنيا ووجده لا يبالي بالغدر، بخلاف من طلب الآخرة وأمره الله بالوفاء، ثم إن الغدر خصلة قبيحة ذميمة لا تخرج من الأنبياء.

"وسألتُك بما يأمركم، فذكرتَ أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف" انظر في السابق أيش قال: عما يدعوهم إليه آباؤهم، هنا فسرها هرقل بهذا، عبادة الأوثان، لأن هذا ما كان يدعوهم إليه آباؤهم، أو ما يقول آباؤهم، لأن ما يقوله آباؤهم هو الأمر بعبادة الأوثان، هكذا فهمها هرقل وهي كما فهمها.

"فإن كان ما تقول حقًا فسيملك موضع قدمي هاتين" عرف هرقل أنه نبي وأن هذا النبي سيمكن الله له.

موضع قدمي هاتين أي: أرض بيت المقدس، أو أرض ملكه كله.

وفي رواية للبخاري قال: "إن يك ما تقول فيه حقًا فإنه نبي" وفي رواية: "هذه صفة نبي".

"وقد كنت أعلم أنه خارج" علم ذلك من أين؟ من التوراة والإنجيل والله أعلم.

"لم أكن أظن أنه منكم" كان يستبعد أن يأتي نبي من العرب، كما كانت اليهود تستبعد ذلك وتظن أنه سيخرج منهم وسيقاتلون العرب معه.

"فلو أني أعلم أني أخلص إليه" -يعني أصل إليه- "لتجشمت لقاءه" -يعني لتكلفت الوصول إليه لألقاه- "ولو كنتُ عنده" -عند النبي ﷺ- "لغسلت عن قدمه" وفي رواية: "عن قدميه"، وهذا مبالغة في الخدمة والإكرام والاحترام له.

قال البعض: وفي كلامه هذا إيماء إلى أنه علم بنبوته، لكنه خشي خلع قومه له، يعني أن يزيله قومه عن الملك على ما جاء مفسرًا في البخاري، فأصر على كفره بعد علمه به فكان أشد في الحجة عليه.

"ثم دعا بكتاب رسول الله الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل، فقرأه، فإذا فيه" يعني قال أبو سفيان: ثم أمر هرقل رجاله أن يحضروا كتاب رسول الله ﷺ الذي أرسله رسول الله ﷺ إليه مع دحية الكلبي عن طريق عظيم بصرى.

دحية: هو ابن خليفة بن فروة الكلبي، صحابي مشهور، كان يُضرب به المثل في حسن الصورة، وكان جبريل عليه السلام ينزل على صورته.

وبصرى مدينة بين المدينة ودمشق، وقيل: هي حوران، وعظيم بصرى يعني أميرها.

في الكتاب: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم" وفيه إشارة إلى أن رسل الله وإن كانوا أكرم الخلق على الله فهم مع ذلك مقرون بأنهم عبيد الله.

"من محمد عبد الله ورسوله" هما وصفان فيهما نفي للإفراط والتفريط، عبد من عباد الله فلا هو الله، ولا ابن الله، ولا شيء من ذلك، كالغلو الذي يقوله النصارى وغيرهم، وهو رسول الله وليس عبدًا كبقية العبيد، فهو يتميز عليهم بالرسالة، فنعطيه حقه بأنه رسول من عند الله، فنؤمن بذلك ونتبعه ولا نغلو فيه، ونعتقد أنه عبد من عباد الله.

وفي مخاطبة هرقل بعظيم الروم قال أهل العلم: "هذا عدول عن ذكره بالملك أو الإمِرة لأنه في حكم الإسلام معزول فليس بملك ولا أمير" لكن لم يخله من إكرام لمصلحة التأليف، ولكن أيضًا بحق لا بباطل، فقال: عظيم الروم، هذا أدعى لأن يتقبل الرسالة ويستجيب لما فيها، لكن هل في قوله عظيم الروم باطل؟ لا، فعظيم الروم هو من تعظمه الروم وتقدمه للرياسة عليها، وهذا حق حاصل.

في هذا الحديث: أن السنة أن يبدأ المرسل الكتاب بالبسملة، ويبدأ بنفسه وهو قول الجمهور وهذا ما فعله النبي ﷺ.

"بسم الله الرحمن الرحيم" البدء بالبسملة "من محمد عبد الله ورسوله" بدأ بنفسه "إلى هرقل" بدأ بمن أرسلت إليه الرسالة.

فإذا تأملت في كتب النبي تجدها تبدأ بالبسملة وما فيها حمد، بينما الخطب تبدأ بالحمد والثناء وليس فيها بسملة.

"سلام على من اتبع الهدى" نهينا عن السلام على الكافر، فهل هذا من السلام على الكافر؟ لا، قال: سلام على من اتبع الهدى؛ فإذا اتبع الهدى فقد أسلم، وإذا أسلم بلغه السلام، وإذا لم يسلم لم يتبع الهدى، وإذا لم يتبع الهدى لم يبلغه السلام، إذًا السلام ليس عليه فلا إشكال، وقد رأى بعض أهل العلم أن السلام على أهل الكفر والبدع هكذا يكون.

أهل البدع على قسمين: بدعة مكفرة وغير مكفرة.

المكفرة: حكمه حكم الكافر، سواء كان كتابيًا أو غير كتابي في السلام، لا يُبدأ بالسلام.

وإذا كانت بدعته غير مكفرة: ففي هذه الحالة إن كان من رؤوس أهل البدع، فالواجب الهجر، فما في سلام أصلًا، وإذا لم يكن من رؤوس أهل البدع كان من عامتهم فيسلم عليه كما يسلم على أي مسلم.

قال: "أما بعد" هذه كلمة يؤتى بها للانتقال من المقدمة إلى الموضوع، هذا أصح من قولهم: الانتقال من أسلوب إلى أسلوب، لأن المتأمل في هذه يجدها تستعمل في هذا، أنهم ينتقلون بها من المقدمة إلى الموضوع.

"فإني أدعوك بدعاية الإسلام" "الباء" هنا بمعنى: "إلى" فإني أدعوك إلى دعاية الإسلام، والدعاية بمعنى الدعوة، يعني أدعوك إلى دعوة الإسلام وهي كلمة الشهادة، أن تنطق بالشهادة، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، هذه دعوة الإسلام، ينطق بها ويلتزم بمعناها.

"أسلم تَسلَم" أي: ادخل في دين الإسلام تسلم في الدنيا من الخزي، وفي الآخرة من العذاب.

"يؤتك الله أجرك مرتين" أي إن أسلمت يؤتك الله أجرك مرتين، باتباعك لدين عيسى عليه السلام، وباتباعك لدين محمد ﷺ تأخذ أجرين، وللبخاري في كتاب الجهاد: "أسلم أسلم"، بتكرار أسلم.

قال أهل العلم: فيحتمل التأكيد، ويحتمل أن يكون الأمر الأول للدخول في الإسلام، والثاني للدوام عليه، أسلم واستمر على إسلامك.

"فإن توليت فإن عليك إثم الأَرِيسيِّين" أي إن أعرضت عن الإجابة إلى الدخول في الإسلام فعليك إثم الأريسيين: أي الفلاحين.

قال أبو عبيد: المراد بالفلاحين أهل مملكته جميعًا، لأن كل من كان يزرع فهو عند العرب فلاح، سواء كان يلي ذلك بنفسه أو بغيره، فمعناه: إن عليك إثم رعاياك الذين يتبعونك وينقادون بانقيادك، ونبه بهؤلاء على جميع الرعايا لأنهم الأغلب، ولأنهم أسرع انقيادًا فإذا أسلم أسلموا وإذا امتنع امتنعوا.

قال أهل العلم: فحذّره ﷺ إذ كان رئيسًا متبوعًا مسموعًا منه أن يكون عليه إثم الكفر وإثم من عمل به واتبعه عليه، قد قال النبي ﷺ (من دعا إلى ضلالة كان عليه إثمها وإثم من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا).

"و ﴿يا أهل الكتاب" أهل الكتاب: هم اليهود والنصارى، والكتاب: التوراة والإنجيل.

"﴿تعالوا" أقبلوا وهلموا "﴿إلى كلمة سواء" كلمة عدل "﴿بيننا وبينكم" أي كلمة عدل نستوي نحن وأنتم فيها، ونجتمع عليها، ثم فسر الكلمة فقال: "﴿ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا" فالكلمة العدل هي أن نوحد الله فلا نعبد غيره معه، ونبرأ من كل معبود سواه، فلا نشرك به شيئًا لا وثنًا ولا صليبًا ولا صنمًا ولا طاغوتًا ولا شجرًا ولا حجرًا ولا نارًا ولا شيء.

"﴿ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله" كما كان يفعل اليهود والنصارى، كيف اتخذ النصارى رهبانهم وأحبارهم أربابًا من دون الله؟ كانوا إذا أحلوا لهم الحرام أحلوه، وإذا حرموا عليهم الحلال حرموه، بهذا اتخذوهم أربابًا مع الله يحلون ويحرمون لهم ما يشاؤون؛ فنهاهم الله سبحانه وتعالى عن ذلك.

"﴿فإن تولوا" فإن أعرضوا عما دعوتهم إليه ولم يقبلوا ما قلت "﴿فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون" فقولوا أنتم يا أمة محمد ﷺ اشهدوا بأنا مسلمون مخلصون بالتوحيد.

"قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده الصخَب" الصخب: الذي هو اللغط، وهو: اختلاط الأصوات في المخاصمة.

"وارتفعت الأصوات، وأُخرجنا" أخرجوهم من المكان "فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كَبْشَة، إنه يخافه مَلِك بني الأصفر" أمِر: يعني عظم، أمِر أمْره: شأنه، عظم شأن محمد ﷺ، سماه ابن أبي كبشة، أراد به النبي ﷺ.

اختلف العلماء لماذا سماه بهذا، فقيل: بأن أبا كبشة هذا أحد أجداده، وعادة العرب إذا انتقصت شخصًا نسبته إلى جد غامض غير مشهور، وقيل غير ذلك.

لقد عظم أمر النبي ﷺ حتى إن ملك بني الأصفر: هم الروم، قيل أنهم نسبوا إلى الأصفر بن الروم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، وقيل غير ذلك في تسميتهم، البعض قال بالنسبة إلى لونهم يميل إلى الصفار وغير ذلك، المهم المقصود هم الروم، ملكهم هو هرقل، يعني عظم أمر النبي ﷺ إلى أن يخافه ملك كهذا الملك الذي يملك من القوة في ذاك الوقت ما يملك، من الدول العظمى التي كانت في ذاك الوقت.

قال أبو سفيان بعدما رأى ما رأى، وسمع ما سمع: "فما زلت موقنًا" ما عنده شك في الأمر هذا "أنه سيظهر" يعني سينتصر وتنتشر دعوته "حتى أدخل الله علي الإسلام" أي فمنذ ذلك الحين أيقنت أن محمدًا سينتصر ويظهر وينتشر دينه حتى أدخل الله علي الإسلام وأسلمت.

"وكان ابن الناظور -صاحب إيلياء وهرقل- سُقُفًّا على نصارى الشأم، يَحدِّث أن هرقل حين قدم إيلياء، أصبح يومًا خبيث النفس" ابن الناظور هو رجل كان أميرًا على بيت المقدس، مملكة هرقل ومستقره ما كان في بيت المقدس، كان في حمص، بيت المقدس كان عليه أمير لهرقل، وهذا الأمير هو ابن الناظور، وكان ابن الناظور صاحب إيلياء، صاحب إيلياء هذا وصف لابن الناظور، أي هو أمير إيلياء، وإيلياء التي هي بيت المقدس، وهو صاحب هرقل، فهنا صاحب هرقل إما أنه صاحبه تابع له لأنه أمير له على بيت المقدس، أو صاحبه كان صديقًا له.

"وكان ابن الناظور صاحب إيلياء وهرقل" هذا تعريف به، ابن الناظور من هو؟ هو صاحب إيلياء يعني الأمير عليها، وهو صاحب هرقل إما أنه أمير له أو صديق له، كان ابن الناظور "سُقُفًّا على نصارى الشام" قوله: "وكان ابن الناظور" من القائل هنا؟ هذه الجملة معطوفة على الإسناد المتقدم، والتقدير: عن الزهري أخبرني عبيد الله إلى آخر الإسناد وآخر الخبر، ثم قال الزهري: "وكان ابن الناظور" الكلام لمن؟ للزهري، من هنا الكلام للزهري: "وكان ابن الناظور".

ويقال له الناظور والناظور بالظاء، معناه بالعربية: حارس البستان، وفي رواية: ابن ناطورة، إذًا هنا الخبر هذا يقتصه علينا الزهري.

بعض الشراح ظن أن هذا معلقًا؛ لكن ليس كذلك، هو من كلام الزهري بالإسناد المتقدم.

"كان ابن الناظور سُقُفًّا" وفي رواية: أُسْقُفًا، وفي روايات أخرى بألفاظ ثانية، أي: مقدمًا على نصارى الشام، لكونه كان رئيس دينهم، أو كان عالمهم أو هو قيِّم شريعتهم.

فالأسقف عند النصارى هي رتبة عالية في الديانة النصرانية، والنصارى هم الذين ينتسبون إلى دين عيسى عليه السلام، وكتابهم الإنجيل، سموا بالنصارى في هذا للعلماء فيه خلاف وأقوال، بعضهم قال: لقول الحواريين نحن أنصار الله، والبعض قال: هم نزلوا قرية يقال لها الناصرة في الشام في شمال فلسطين لا زالت موجودة ومعروفة إلى الآن، وقيل لنصرة بعضهم بعضًا، المهم يسمون نصارى.

ولا يصح تسميتهم المسيحيين هذا خطأ، لأن هذه النسبة إلى عيسى عليه السلام المسيح، والمسيح منهم براء.

"يُحدِّث أن هرقل حين قدم إيلياء" عند غلبة جنوده على جنود فارس وإخراجهم، وكان ذلك في السنة التي اعتمر فيها النبي ﷺ عمرة الحديبية وبلغ المسلمين نصرة الروم على فارس ففرحوا، في ذاك اليوم قدم إيلياء هرقل.

"أصبح يومًا خبيث النفس" يعني رديء النفس غير طيب، نفسه غير طيبة، مهموم.

"فقال بعض بطارقته" البطارقة، جمع بطريق أي قائد وأحد خواص دولته، وأهل الرأي والشورى منهم.

"قد استنكرنا هيئتك" قال له هذا الرجل من قومه: قد استنكرنا هيئتك يا هرقل، أي أنكرنا حالتك لكونها ليست على عادتها وطبيعتها، الهيئة: السمت والحالة والشكل، يعني رأوا عليه علامات الهم والانزعاج والقلق.

"قال ابن الناظور: وكان هرقل حزّاءً" الحزاء الكاهن، كان هرقل كاهنًا.

"ينظر في النجوم" هذه إما أن تكون خبرًا ثانيًا، فيكون كأنه يقول: وكان هرقل حَزّاءً وكان هرقل ينظر في النجوم، أو أن تكون تفسيرًا للحزّاء، أي الكاهن الذي ينظر في النجوم؛ لأن الكهانة تكون بالنظر في النجوم وغير ذلك، يوجد لها طرق أخرى، على كل حال هو كان كاهنًا ينظر في النجوم، هذا الذي نريد الآن.

"فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم مَلِك الختان قد ظهر"

ملك الختان، وضُبط أيضًا مُلْك الختان، والمعنى رأيت في الليلة أنه قد غلبت وملكت طائفة جماعة، هم أهل الختان وصار الملك لهم.

الختان معروف: قطع الجلدة التي تواري الحشفة، من الذي كان يختتن وقتها؟ كان اليهود والعرب؛ لكن حاشيته لم يكونوا يعرفون أن العرب يختتنون.

"ملك الختان قد ظهر" قد ظهر هذه قد فسرها العلماء بمعنيين، معنيان لغويان، الظهور: بمعنى الغلبة، ظهر الرجل على عدوه يعني غلبهم وتمكن منهم، والظهور بمعنى: الوجود والخروج، يعني خرج ووجد، فسروها بهذا وفسروها بهذا، والظاهر والله أعلم أن المعنى الثاني أقرب، أنه خرج ووجد.

"فمن يختتن من هذه الأمة؟" أي من يختتن من أهل هذا العصر وهذا الزمن.

"قالوا: ليس يختتن إلا اليهود" هذا ما يعرفونه، حاشية هرقل هذا ما تعرفه أن الذين يختتون هم اليهود، لا يعرفون أن العرب يختتنون، واليهود كانوا بإيلياء تحت الذلة مع النصارى، بخلاف العرب ما كانوا في ذاك الوقت عندهم.

"فلا يهمنك شأنهم" لا تهتم بهم، كانوا ذليلين عندهم يفعلون بهم ما يشاؤون من قتل وأسر وغير ذلك، فأمرهم لا يقلق، هم أحقر من أن تهتم لهم أو تبالي بهم.

"واكتب إلى مداين ملكك" مدائن جمع مدينة، هي المدن التي هي تحت حكمك.

"فيقتلوا من فيهم من اليهود، فبينما هم على أمرهم" أي بينما هم في مشورتهم، أي بينما هم يتشاورون في هذا الأمر "أُتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان" ملك غسان، ملك الغساسنة، غسان قبيلة من قبائل العرب، كانت في الشام، هذا صاحب بصرى التي هي المدينة التي ذكرناها، كان ملكًا عليها، كان تحت حكم هرقل.

"أتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله "

أخبر بخبر النبي ﷺ، جاء بالرسالة التي بعثها النبي ﷺ "فلما استخبره هرقل" أي سأل هرقل الرجلَ الذي بعثه ملك غسان عن أخبار رسول الله ﷺ فأخبره عنها، هذا الرجل أخبر هرقل عن خبر النبي ﷺ وكان قد أُرسل من ملك غسان.

"قال: اذهبوا فانظروا أمختَتِن هو أم لا؟" هل هو الذي رآه خبر النبوة خبر الملك؟ يريد أن يتأكد الآن، انظروا هذا الرجل الذي جاء وهو رجل عربي، أهو مختتن أم لا.

"فنظروا إليه، فحدثوه أنه مختتن، وسأله" يعني سأل هرقل الرجل "عن العرب" يعني سأله هل يختتن العرب أم لا، أم هو حالة خاصة فيك أنت؟

"فقال: هم يختتنون، فقال هرقل: هذا مَلِك هذه الأمة قد ظهر" إشارة إلى النبي ﷺ، ويعني بالأمة العرب، "قد ظهر" يعني خرج بدأ، أو سيغلب وهما متلازمان.

"ثم كتب هرقل إلى صاحب له بِرُوميَّة" يريد أن يتأكد هرقل الآن من معلوماته، فله صاحب برومية أرسل إليه يسأله عن الخبر الذي وصل إليه، وعن صحة ما وصل إليه من خلال ما رأى وسمع من ظهور النبي ﷺ ومن نبوته.

وروميَة بتخفيف الياء مثل أنطاكية، وبتشديدها أيضًا فيقال روميَّة، والظاهر أنها روما نفسها التي هي عاصمة إيطاليا اليوم، وهي عاصمة النصارى الدينية.

"وكان نظيره في العلم" أي كان هرقل مثل هذا الرجل في العلم "وسار هرقل إلى حمص" حمص في الشام، وكانت حمص دار ملك هرقل، وكانت في زمنهم أعظم من دمشق، فتحها أبو عبيدة ابن الجراح بعد هذه القصة بعشر سنين "فلم يَرِم حمص" أي فلم يفارق هرقل حمص "فلم يَرِم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي ، وأنه نبي" هذا يدل على أن هرقل وصاحبه أقرّا بنبوة نبينا ﷺ، لكن هرقل لم يستمر على ذلك.

اختلف العلماء في إسلامه، البعض قال: أسلم وبقي مسلمًا سرًا، والبعض قال: لم يسلم وأن جنوده هم الذين قاتلوا النبي ﷺ، وهذا الظاهر أن الثاني هو الأصوب.

"فأَذِن هرقل لعظماء الروم في دَسْكَرَة له بحمص" الدسكرة: بناء كالقصر حواليه بيوت ومنازل للخدم والحشم، أي أمر بدخولها.

"ثم أمر بأبوابها فغُلِّقَت، ثم اطَّلع" المعنى أذن هرقل لعظماء الروم في دخول الدسكرة، كأنه دخل القصر ثم أغلقه وفتح أبواب البيوت التي حوله، وأذن للروم في دخولها، ثم أغلقها بعد دخولهم، ثم اطلع عليهم، أي خرج من حرمه وظهر للناس، أي اطلع عليهم من مكان فيه عالٍ خوفًا على نفسه، فصار مغلقًا عليهم، قد جمعهم وهو في منطقة أعلى منهم ومحجوب عنهم، بعيد عنهم يعني، هم يرونه، لكنه بعيد عنهم أعلى منهم، كأنه كان يخشاهم على نفسه.

"فقال: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يَثبُت مُلككم، فتبايعوا هذا النبي؟"

المعشر: الجماعة، والفلاح: الفوز والنجاة، والرشد: ضد الغي، أي إصابة الخير، أي هل تريدون الفلاح والفوز وإصابة الخير وأن يبقى ملككم؟ إن أردتم هذا فبايعوا النبي ﷺ، لأنهم إن تمادوا على الكفر وعدم الإيمان كان سببًا لذهاب ملكهم كما عرف هرقل ذلك من الأخبار السابقة.

"فحَاصُوا حَيْصَة حُمُر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها قد غُلِّقت" نفروا كنفور الحمير لما تنفر، شبههم بالوحوش لأن نفرتها أشد من نفرة البهائم الإنسية، الحمار الوحشي والحمار الإنسي، نفرة الحمار الوحشي أشد، وحمر جمع حمار، وشبههم بالحمر دون غيرها من الوحوش لمناسبة الجهل وعدم الفطنة؛ بل هم أضل.

"فلما رأى هرقل نَفرَتَهم، وأيس من الإيمان، قال: ردوهم علي" رجعوهم جيبوهم، خلاص هو قنط من إيمانهم، النفرة: الذهاب والفرار، والأيس: من القنوط، فلما رأى نفرة قومه من الإسلام ويئس من إيمانهم

"قال" -لجنده- "ردوهم علي، وقال: إني قلت مقالتي آنفًا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيتُ، فسجدوا له ورضوا عنه" يعني أظهر الموضوع على أنه امتحان واختبار لهم، وآنفًا: يعني قريبًا.

أي: قلت مقالتي التي قلتها لأمتحن بها شدتكم ورسوخكم في دينكم، فقد رأيت شدتكم "فسجدوا له ورضوا عنه"

"فكان ذلك آخر شأن هرقل" قال ابن رجب: قوله: "فكان ذلك آخر شأن هرقل" الظاهر أنه من كلام الزهري، ومراده أن هذا آخر ما بلغه من خبره والله أعلم.

هذا الحديث "رواه" -يعني حديث هرقل- "صالح بن كيسان، ويونس، ومعمر، عن الزهري".

أي روى حديث هرقل هذا: صالح بن كيسان، ويونس بن يزيد الأيلي، ومعمر بن راشد عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن أبي سفيان.

"صالح بن كيسان": المدني، مؤدب ولد عمر بن عبد العزيز، ثقة حافظ فقيه تابعي روى له الجماعة، روايته لحديث هرقل عن الزهري أخرجها البخاري ومسلم وغيرهما.

"ويونس": هو ابن يزيد الأيلي: ثقة له مناكير، تقدم، من أثبت الناس في الزهري، روايته عن الزهري أخرجها البخاري وغيره.

"ومعمر بن راشد": ثقة تقدم، روايته عن الزهري أخرجها البخاري ومسلم وغيرهما، رواية بعضهم تامة، ورواية البعض الآخر مختصرة، وأخرج بعضه البخاري أيضًا من رواية عقيل عن الزهري.

والحديث مروي من طرق عن الزهري، وهؤلاء جهابذة أصحاب الزهري والحفاظ منهم يروون هذا الحديث.

وله شاهد مرسل من رواية عبد الله بن شداد وهو تابعي عند سعيد بن منصور وغيره.

والحديث صحيح لا غبار عليه ولا علة فيه والله أعلم، والاتفاق حاصل على صحته.

فهذه أحاديث سبعة في هذا الباب كلها صحيحة ليس فيها حديث منتقد، مجمع على صحتها، وقد رأيتم من خلال النظر في الطرق والأسانيد التي ساقها البخاري، والخلافات التي حصلت في بعضها كيف إن الصواب كان فيما يفعله البخاري رحمه الله، وهذا يظهر قوته العلمية ودقته رحمه الله، قد شهد له بذلك علماء الأمة وحفاظها؛ لكن هذا عندما تقف عليه تطمئن نفسك أكثر لما قالوه رحمهم الله وتعلم حقيقة قدر الرجل وما منّ الله عليه به من العلم والفضل، والله أعلم.

مناسبة هذا الحديث للباب: قال أهل العلم: "ووجه مناسبة ذكر هذا الحديث في هذا الباب أنه مشتمل على ذكر جُمل من أوصاف من يوحى إليه" يعني فيها أوصاف النبي ﷺ التي هي أوصاف نبوة، من ينزل عليه الوحي، وموضوعنا في الوحي، وما يتعلق به " قالوا: والباب في كيفية بدء الوحي، وأيضًا فإن قصة هرقل متضمنة كيفية حاله ﷺ في ابتداء الأمر" والله أعلم، والحمد لله.

نكتفي بهذا القدر اليوم، نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.

قائمة الخيارات
0 [0 %]
الاحد 1 ذو الحجة 1444
عدد المشاهدات 1309
جميع الحقوق محفوظة لشبكة الدين القيم © 2008-2014 برمجة وتصميم طريق الآفاق