الجمعة 20 رمضان 1445 هـ
29 مارس 2024 م
جديد الموقع   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-47، كتاب الوضوء، الحديث 166و167و168و169   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-46، كتاب الوضوء، الحديث 162و163و164و165   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-45، كتاب الوضوء، الحديث 157و158و159و160و161   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-44، كتاب الوضوء، الحديث 155و156   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-43، كتاب الوضوء، الحديث 151و152و153و154   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-42، كتاب الوضوء، الحديث 145و146و147و148و149و150   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-41، كتاب الوضوء، الحديث 142و143و144   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-40، كتاب الوضوء، الحديث 138و139و140و141   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-39، كتاب الوضوء، الحديث 136و137   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-38، أول كتاب الوضوء، الحديث 135      

القائد الدميث شرح الباعث الحثيث الجزء الثالث

القائد الدميث شرح الباعث الحثيث الجزء الثالث
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد ؛
تقدم معنا أن بعض علماء الحديث يقسمون الحديث إلى صحيح وضعيف ، والسلف على هذا ، ويدخلون الحسن لذاته في الصحيح ، والحسن لغيره في الضعيف ، ويحتجون بهما . والبعض الآخر يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف ، والمسألة اصطلاحية والأمر فيها سهل .
والحديث الصحيح : هو ما اتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه ولا يكون شاذا ولا معللاً . وهو الذي اتفق أهل الحديث على صحته .
ويحصل الخلاف بينهم لسببين؛
الأول : وجود هذه الشروط وتحققها في الحديث المعين ، فالبعض من أهل الحديث يصحح الحديث بناء على أن هذه الشروط قد تحققت عنده ، والبعض الآخر ينازعه في توفر هذه الشروط أو أحدها في هذا الحديث المعين ، فينازع مثلا في كون جميع رواة هذا الحديث عدولا حفاظا ، أو ينازع في اتصال سنده ، أو غير ذلك من شروط الحديث الصحيح ، من أجل ذلك يقع الخلاف بين أهل العلم في الحكم على الحديث المعين .
والسبب الثاني : أن بعض أهل العلم يقبل الأحاديث التي توفرت فيها هذه الشروط ويقبل غيرها من الأحاديث ، كأن يكون ممن يقبل المرسل أو يقبل البلاغات أو غير ذلك .
لهذين السببين يقع الخلاف بين أهل العلم في التصحيح والتضعيف .
وذكر المؤلف – رحمه الله – أن الحديث الصحيح ليس على درجة واحدة ، بل من الصحيح ما يبلغ الدرجة العليا ومنه ما ينزل عن ذلك ، لذلك تكلموا في بعض الأسانيد في وصفها بأنها أصح الأسانيد ، واختلفوا في ذلك وذكرنا أن الراجح في ذلك أننا لا نصف إسنادا معينا بأنه أصح الأسانيد مطلقا ، بل يوصف بأنه أصح الأسانيد بتقييده بالصحابي أو ببلد معين .
قال مؤلفنا – رحمه الله - :
(فائدة : أول من اعتنى بجمع الصحيح: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ) البخاري هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري ، نسبة إلى بخارى ، وهي اليوم مدينة من مدن أوزبكستان ، تقع شمال أفغانستان وبينها وبين إيران تركمانستان ، وهو صاحب الصحيح وكتابه اسمه " الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه " واشتهر عند أهل العلم بـ " صحيح البخاري " وسبب تأليف هذا الكتاب ؛ سببان :
الأول : قال البخاري – رحمه الله – كنا عند إسحاق بن راهويه ، وهو شيخه وصاحب الإمام أحمد ، فقال إسحاق : لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال البخاري : فوقع ذلك في قلبي ، فأخذت في جمع الجامع الصحيح . كذا جاءت هذه الرواية في مقدمة " فتح الباري " . وفي " تاريخ بغداد " ؛ قال لنا بعض أصحابنا : لو جمعتم كتابا مختصرا ... إلى آخر الكلام ، هذا السبب الأول .
والسبب الثاني : قال البخاري – رحمه الله - : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وكأنني واقف بين يديه ، وبيدي مروحة أذب بها عنه ، فسألت بعض المعبرين فقال لي : أنت تذب عنه الكذب ، وهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح .
أخرج هذه القصة أيضا الخطيب البغدادي في تاريخه ، ومن طريقه أخرجها الحافظ ابن حجر في مقدمة " الفتح " .
وعنى كلام المؤلف – رحمه الله – هنا ؛ أن أول من أفرد الصحيح في كتاب مستقل هو الإمام البخاري وبعده مسلم ، وقبل ذلك لم تكن الأحاديث الصحيحة قد أفردت في كتاب مستقل .
قال :
( وتلاه ) أي جاء بعده في إفراد الصحيح في كتاب مستقل ( صاحبه وتلميذه أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري ) هو أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري من بني قشير ، قبيلة من العرب معروفة ، و النيسابوري نسبة إلى نيسابور من مدن إيران اليوم ، وهو تلميذ الإمام البخاري وعلى يديه تخرج .
قال المؤلف – رحمه الله - :
( فهما أصح كتب الحديث ) أي صحيح البخاري وصحيح مسلم هما أصح كتب الحديث ، وهذا صحيح ، بل هما أصح كتابين بعد كتاب الله تبارك وتعالى ؛ البخاري ثم مسلم .
اعترض بعض أهل العلم على قول ابن الصلاح : " أول من اعتنى بجمع الصحيح: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري " اعترضوا عليه بـ " موطأ مالك " و بـ " مسند أحمد " و " سنن الدارمي " فهؤلاء كلهم جمعوا قبل البخاري وبعضهم من شيوخه ؛ فأجاب أهل العلم على هذا الاعتراض ، فقالوا : هذا الاعتراض فيه تفصيل ؛ فإن أراد ابن الصلاح الصحيح الذي تقدم تعريفه وتقدم بيانه - والظاهر أنه المراد لابن الصلاح - ؛ فلا يرد عليه موطأ مالك ، والاعتراض خطأ ؛ لأن موطأ مالك فيه المرسل والمنقطع وفيه البلاغات أيضا التي يقول فيها الإمام مالك بلغني من غير ذكر الواسطة ، وهذه ليست من الصحيح الذي تقدم تعريفه .
وإن أراد الصحيح من حيث هو ، أي الذي يعتقد صاحبه أنه صحيح بغض النظر عن توفر الشروط المتقدمة فيه ؛ فيكون الاعتراض صحيحا ؛ لأن الذي يحتج بالمراسيل وما شابهها ؛ يعتبر موطأ مالك صحيحا ، لكن الظاهر كما ذكرنا أن ابن الصلاح يريد بالصحيح الذي قدم تعريفه ، وبناء عليه فلا يصح الاعتراض على كلامه ؛ لما ذكرناه .
وربما اعترض معترض فقال : وجدت أحاديث معلقة في صحيح البخاري ؛ قال أهل العلم : هذه المعلقات ليست من موضوع كتاب البخاري أصلا ؛ لذلك حذف البخاري – رحمه الله – أسانيدها ليخرجها عن موضوع الكتاب ، بخلاف ما في موطأ مالك من المراسيل وما شابهها ، فهي مسموعة لمالك على حالها ، أي سمعها منقطعة أو مرسلة ، بخلاف البخاري فقد سمعها موصولة ، ولكنه حذف بعض أسانيدها عمدا ؛ ليبين لنا أنه لا يريد أن يدخلها في أصل موضوع الكتاب .
و مالك أدخل المراسيل في كتابه ليحتج بها ، بخلاف البخاري فقد وضعها استئناسا بها فقط ، هذا هو الفرق فيما عند الإمام مالك في الموطأ من مراسيل و مقاطيع ومنقطعات وبلاغات ، وما في صحيح البخاري من معلقات .
فالمعلقات في صحيح البخاري ليست من أصل الكتاب ، فقد سمى الإمام البخاري كتابه " الجامع الصحيح المسند " ، والمسند ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم بسند ظاهره الاتصال أو بسند متصل على ما أراد البخاري رحمه الله في كتابه ، إذن فما حذف منه بعض إسناده فلا يريد أن يجعله من هذا الكتاب بل يذكره استئناسا .
ثم قال المؤلف – رحمه الله - :
(والبخاري أرجح ) أي كتابه أصح من كتاب مسلم ؛ لأسباب هي :
أولا : شرط الاتصال :
( لأنه اشترط في إخراجه الحديث في كتابه هذا ) أي الصحيح (: أن يكون الراوي قد عاصر شيخه وثبت عنه سماعه منه، ولم يشترط مسلم الثاني، بل اكتفى بمجرد المعاصرة ) هذا واحد من أوجه الترجيح بين صحيح البخاري وصحيح مسلم ، وهو شرط الاتصال ؛ وهو منصب على العنعنة ، فالراوي الذي يحدث عن شيخه بصيغة العنعنة ، كأن يقول مالك عن نافع ؛ متى تحمل العنعنة هنا على الاتصال ؟
اشترط البخاري – رحمه الله – أن يثبت عنده اللقي ، إن ثبت عنده أن هذا الراوي التقى بشيخه ؛ عندئذ يحمل عنعنته عنه على الاتصال .
أما مسلم ؛ فإذا ثبت عنده أن الراوي تعاصر مع شيخه أي عاشا في نفس العصر ، واللقاء بينهما ممكن ، أي يمكن لقاء أحدهما الآخر ، فيكونان مثلا في نفس البلد ، أو الأول في الشام و الآخر في المدينة وثبت أن الذي في الشام رحل إلى المدينة ؛ فمثل هذه الحالة مع حرص المحدثين على الأخذ من بعضهم ؛ تكون احتمالية اللقاء بينهم كبيرة جدا ؛ لذلك يحمل مسلم مثل هذه الصورة على الاتصال ، مالم يكن الراوي مدلسا .
ولا شك أن شرط البخاري أقوى من ناحية الاتصال ، وشرط مسلم أضعف . ووافق البخاري على شرطه هذا علي بن المديني وأبو حاتم الرازي وأبو زرعة الرازي والإمام أحمد والإمام الشافعي وغيرهم ، بل نقلوا عن جمهور المتقدمين أنهم يذهبون إلى هذا المذهب ، وجمهور المتأخرين يذهبون إلى ما ذهب إليه مسلم – رحمه الله .
الثاني من أوجه ترجيح البخاري على مسلم : قوة الرجال :
فالرجال الذين تُكُلم فيهم عند البخاري أقل من الرجال الذين تكلم فيهم عند مسلم ، والرجال الذين تكلم فيهم عند البخاري في الغالب هم من شيوخه ، والمحدث أعلم بشيوخه من غيرهم ؛ فهو يعلم أحاديثهم ، ويعلم المعلول منها من الصحيح ، فينتقي الصحيح من غيره .
بخلاف مسلم فالرجال الذين انتقدوا عند مسلم من طبقات فوق طبقة شيوخه .
الثالث : الخلو من العلة في الحديث ، فالأحاديث التي انتقدت في صحيح البخاري لوجود علة فيها ؛ أقل من الأحاديث التي انتقدت في صحيح مسلم .
الرابع : نفس البخاري ومسلم ، فالبخاري أعلم في علم العلل وعلم الرجال من مسلم ؛ بل مسلم تلميذ البخاري ، وكان يقر له بالعلم والتقدم ، بل قال الدارقطني - رحمه الله – لولا البخاري لما راح مسلم ولا جاء ، فهو شيخه وأعلم منه بعلم الحديث والعلل ، فمن هذا الباب يقدم كتابه على كتاب مسلم .
هذه بعض أوجه الترجيح ، ومن أراد التوسع فليرجع إلى مقدمة فتح الباري للحافظ ابن حجر ، وكذلك "فتح المغيث " للسخاوي " تدريب الراوي " و " توضيح الأفكار " و " النكت " للحافظ ابن حجر ، فقد استوعبوا الكلام في هذا الموضوع .
قال – رحمه الله -
( ومن هاهنا ينفصل لك النزاع ) بين أهل العلم (في ترجيح تصحيح البخاري على مسلم ، كما هو قول الجمهور ) أي جمهور علماء الإسلام على هذا ، ومن مارس علم الحديث وعلم الرجال ، ونظر في صحيح البخاري وصحيح مسلم اطمأن قلبه تماما إلى أن صحيح البخاري أقوى وأشد من صحيح مسلم ، وكلاهما صحيح ، (خلافاً لأبي علي النيسابوري شيخ الحاكم، وطائفة من علماء المغرب ) فقد خالف هؤلاء في هذه المسألة ، أي ترجيح البخاري على مسلم .
فأما أبو علي النيسابوري ، وهو شيخ الحاكم فقال : " ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم بن الحجاج " .
وهذا الكلام عن أبي علي النيسابوري صحيح عنه ، أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه ، في ترجمة مسلم بن الحجاج عن أبي القاسم السوذرجاني - قال الخطيب فيه : كان دينا ثقة صالحا - عن محمد بن إسحاق بن مندة - وهو الحافظ الثقة المعروف صاحب كتاب " الإيمان " وكتاب " التوحيد " و " معرفة الصحابة " - عن أبي علي النيسابوري – رحمه الله- ، فهذا إسناد صحيح ذكرناه هنا ؛ لأن عند البعض في الكتاب حاشية تقول " فإنه روي عنه أنه قال : ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم بن الحجاج ، لكن أشار الحافظ في مقدمة الفتح ، إلى عدم ثبوت ذلك عن أبي علي ؛ فراجعه .
فراجعناه ، فوجدنا أن الحافظ – رحمه الله – لم يشر إلى عدم صحة ما قاله أبو علي النيسابوري – رحمه الله - ولم يشكك في ذلك ؛ وإنما نازع في كون كلام أبي علي النيسابوري صريحا في تفضيل صحيح مسلم على صحيح البخاري ، فهذا الذي نازع فيه الحافظ ابن حجر – رحمه الله – فقال :
" وأما قول أبي علي النيسابوري ؛ فلم نقف قط على تصريحه بأن كتاب مسلم أصح من كتاب البخاري ، بخلاف ما يقتضيه إطلاق الشيخ محي الدين في مختصره في علوم الحديث وفي مقدمة شرح البخاري أيضا حيث يقول : اتفق الجمهور على أن صحيح البخاري أصحهما صحيحا وأكثرهما فوائد ، قال أبو علي النيسابوري وبعض علماء المغاربة : صحيح مسلم أصح انتهى " أي صحيح مسلم أصح من صحيح البخاري .
قال الحافظ ابن حجر معترضا على هذا النقل : " ومقتضى كلام أبي علي ؛ نفي الأصحية عن غير كتاب مسلم عليه ، وأما إثباتها له فلا ؛ لأن إطلاقه يحتمل أن يريد ذلك ، ويحتمل أن يريد المساواة ..." ثم أخذ الحافظ يوجه كلام أبي علي النيسابوري.
وبعبارة أسهل ؛ نقل النووي – رحمه الله – أن أبا علي النيسابوري يقول إن كتاب مسلم أصح من كتاب البخاري ، وعبارة أبي علي النيسابوري " ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم بن الحجاج " ، قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - : قوله هذا لا يقتضي أن صحيح مسلم أصح من صحيح البخاري صراحة ، بل هو يحتمل ذلك ويحتمل المساواة أيضا ، فهو ينفي أن يكون هناك كتاب أصح من صحيح مسلم ، لكنه لا ينفي أن يوجد كتاب يساويه ، كأن تقول مثلا : لا أعلم أحدا أعلم من فلان على وجه الأرض ، فيقال لك : وفلان ؟ فتقول هو ليس أعلم منه ، ولكنه يساويه .
إذن فاللفظ يحتمل أن يكون صحيح مسلم أصح من جميع الكتب غيره ، ويحتمل أن يكون ليس هناك كتاب أصح من صحيح مسلم ، ولكن هناك كتب تساويه في الأصحية .
هذا الذي نازع فيه الحافظ ابن حجر ، فالمنازعة كانت في كون كلام أبي علي النيسابوري صريحا في المراد ، وليست المنازعة في إثبات هذا الكلام عن أبي علي النيسابوري فينبغي التنبه لذلك .
وقد ذكرنا هذا استطرادا من أجل التنبيه على هذه الحاشية فقط .
وقد أجاب العلماء على كلام أبي علي النيسابوري فقالوا : إن أراد بالأصحية أنه أصح من صحيح البخاري ، أو حتى يساوي صحيح البخاري ؛ فهو كلام مردود عليه وهو خطأ ، سواء منه أو من غيره .
وأما إن أرادوا التنظيم والترتيب بحيث إنه جمع طرق الحديث في مكان واحد ، ولم يفرق الحديث الواحد ، وأنه في نفس الوقت أيضا لم يدخل في كتابه أي شيء آخر غير الأحاديث النبوية؛ فمن هذه الناحية نعم صحيح مسلم أجود من صحيح البخاري ، لكن هذا ليس فيه أنه أصح من صحيح البخاري ، فإنه إن تميز من هذه الناحية على صحيح البخاري ؛ إلا أن صحيح البخاري يتميز عليه بالأصحية ، ويتميز أيضا بالمسائل الفقهية التي أودعها الإمام البخاري – رحمه الله – في كتابه هذا .
قال المؤلف – رحمه الله - :
( ثم إن البخاري ومسلماً لم يلتزما بإخراج جميع ما يحكم بصحته من الأحاديث، فإنهما قد صححا أحاديث ليست في كتابيهما، كما ينقل الترمذي وغيره عن البخاري تصحيح أحاديث ليست عنده، بل في السنن وغيرها ) .
البحث الآن في مسألة : هل البخاري ومسلم أودعا في كتابيهما جميع الأحاديث الصحيحة أم لا ؟
قال ابن الصلاح إنهما لم يلتزما بإخراج جميع الأحاديث الصحيحة عندهما ، والدليل على ذلك دليلان ذكرهما ابن الصلاح ، ذكر ابن كثير واحدا واختصر الثاني ؛ أما الدليلان فهما :
الأول : أن البخاري نفسه قد صحح بعض الأحاديث التي لا توجد في صحيحه ، كما ينقل عنه الترمذي رحمه الله كثيرا من ذلك في " سننه " وفي كتاب " العلل الكبير " ، فإنه ينقل عن الإمام البخاري تصحيحات لأحاديث كثيرة ليست في صحيحه ، منها على سبيل المثال حديث عائشة : " كان رسول الله يذكر الله على كل أحيانه " هذا الحديث أخرجه البخاري تعليقا ، فليس هو على شرطه ، وأخرجه مسلم متصلا.
قال الترمذي في " العلل الكبير " : سألت محمدا عن هذا الحديث فقال هو حديث صحيح .
إذن فهناك أحاديث يعتقد الإمام البخاري أنها صحيحة ولكنه لم يدخلها في أصل موضوع كتابه .
فهذا دليل على أن البخاري – رحمه الله – لم يلتزم بإخراج جميع ما عنده من صحيح .

وأما الدليل الثاني ؛ وهو قول البخاري – رحمه الله – ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحاح لحال الطول " وهذا دليل أنه اشترط الصحة في كتابه واقتصر على بعض الأحاديث ولم يخرج كل ما صح عنده خشية الإطالة في الكتاب ، بل لم يخرج كل ما عنده من أحاديث صحيحة على نفس شروط الصحيح ، كلامه يدل على هذا ، وهو موجود في " تاريخ بغداد " للخطيب البغدادي في ترجمة الإمام البخاري .
وقال مسلم بن الحجاج – رحمه الله - : ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ها هنا ، إنما وضعت ما أجمعوا عليه وهذا الكلام تنصيص منه ، قاله في صحيحه ، تحت الحديث (رقم 404 ) .
واختلفوا في معنى قوله " إنما وضعت ما أجمعوا عليه " ؛
قيل ما وجد فيه شرائط الصحيح المجمع عليها ، وإن لم يظهر اجتماعها في بعضها عند بعضهم .
وقيل ما لم تختلف الثقات فيه في نفس الحديث متنا وإسنادا ، لا ما لم تختلف في توثيق رواته .
وقيل أراد ما أجمع عليه أحمد ويحيى بن معين وعثمان بن أبي شيبة وسعيد بن منصور .
وقيل غير ذلك .
والذي يهمنا ؛ أنه لم يخرج في صحيحه كل ما هو صحيح عنده ، كما نص هو على ذلك .
إذن فنعلم من ذلك أن البخاري ومسلما لم يخرجا كل الأحاديث الصحيحة عندهما ، بل أخرجا بعضا ، وتركا بعضا آخر .
ثم قال المؤلف – رحمه الله - :
( قال ابن الصلاح : فجميع ما في البخاري بالمكرر سبعة ألاف حديث ومائتان وخمسة وسبعون حديثا ، وبغير تكرار أربعة آلاف ) ذكر ابن الصلاح في كتابه قبل أن يذكر هذا الكلام ؛ كلام أبي عبد الله محمد بن يعقوب بن الأخرم الآتي :فقال :
(وقد قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن يعقوب بن الأخرم:
قل ما يفوت البخاري ومسلماً من الأحاديث الصحيحة ) وهو شيخ الحاكم وكلامه هذا أخرجه الخطيب البغدادي في " تاريخه " بسند صحيح ، ذكر ابن الصلاح هذا الكلام وأخذ يرد عليه .
الآن المسألة الأولى التي كنا نتحدث عنها ؛ هل يوجد أحاديث صحيحة خارج الصحيحين أم لا ؟ وقررنا أن البخاري ومسلما لم يلتزما بإخراج جميع الأحاديث الصحيحة .
المسألة الثانية التي نناقشها الآن ؛ هل الذي لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما كثير أم قليل ؟
أبو عبد الله محمد بن يعقوب الأخرم يقول : قل ما يفوت البخاري ومسلما من الأحاديث الصحيحة .
أراد ابن الصلاح – رحمه الله – أن يرد عليه ؛ فأتى بمقدمتين ؛
الأولى ؛ أنه نقل كلام البخاري – رحمه الله – وقد اختصره ابن كثير – رحمه الله - ، وهو قوله : " أحفظ مائة ألف حديث صحيح " ، وكلام البخاري هذا رواه عنه الخطيب البغدادي في " تاريخ بغداد " في ترجمته .
المقدمة الثانية : معرفة كم حديث في صحيحه ، فقال ابن الصلاح " فجميع ما في البخاري، بالمكرر: سبعة آلاف حديث ومائتان وخمسة وسبعون حديثاً. وبغير تكرار : أربعة آلاف" .
وقد حصل النزاع في التعداد أصلا ، فالحافظ ابن حجر -رحمه الله – ذكر أن المتون الموصولة بلا تكرار ألفان وستمائة واثنان ، وعدة أحاديث بالمكرر بما فيها من التعليقات والمتابعات واختلاف الروايات تسعة آلاف واثنان وثمانون ، وعلى كل حال فالتعداد قريب بعضه من بعض .
إذن كل الأحاديث التي في البخاري بجميع صورها لا تتجاوز عشرة آلاف حديث ، بينما قال البخاري أحفظ مائة ألف حديث صحيح ، فالفرق كبير جدا ، فالذي لم يخرجه البخاري في صحيحه من الأحاديث الصحيحة كثير ، فهذا ما أراد أن يصل إليه الحافظ ابن الصلاح رحمه الله ، وهذا جواب أول .
لكن قال بعض أهل العلم : قال ابن الصلاح نفسه في موضع آخر ؛ إن الحافظ ابن حجر يريد بهذا الكلام الطرق والموقوفات والمقطوعات والأحاديث المرفوعة ، فيشمل كلامه كل هذا ، قالوا فإن أراد البخاري – رحمه الله – هذا المعنى ؛ فيكون كلام ابن الأخرم صحيحا ، أي أنه قل ما يفوت البخاري ومسلما من الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة .
والكلام صحيح إن أراد ابن الأخرم – رحمه الله – الأحاديث الصحيحة التي على شرطهما ، وإن كان يوجد أحاديث صحيحة على شرطيهما خارج كتابيهما ، لكنها ليست كثيرة ، أما مطلق الأحاديث الصحيحة ، فهي كثيرة ؛ هذا بالنسبة للجواب الأول .
الجواب الثاني ؛ سيأتي وهو استدراك الحاكم على الصحيحين .
قال ابن كثير – رحمه الله - :
(وجميع ما في صحيح مسلم بلا تكرار: نحو أربعة آلاف) ، وقد قال الحافظ محمد بن يعقوب الأخرم : قل ما يفوت البخاري ومسلما من الأحاديث الصحيحة (وقد ناقشه ابن الصلاح في ذلك، فإن الحاكم ) النيسابوري ( قد استدرك عليهما أحاديث كثيرة) اعتبر ابن كثير أن الرد على ابن الأخرم من وجه واحد ، وهو هذا الذي ذكره ، والظاهر أنه اعتبر ذكر تعداد ما في البخاري ومسلم من الأحاديث فائدة زائدة ، لكن الصحيح كما ذكر ابن حجر – رحمه الله – أن هذا من ابن الصلاح رد على كلام ابن الأخرم ، وهو الرد الأول ، أما الرد الثاني فهو الذي ذكره ابن كثير هنا . (وإن كان في بعضها مقال إلا أنه يصفو له شيء كثير) أي وإن كان في بعضها ضعف ، وبعضها الآخر لم تتحق فيه بعض الشروط التي اشترطها البخاري ومسلم في صحيحيهما ، إلا أنه هناك أحاديث كثيرة تم الاستدراك فيها ، أي إنها على شرط الشيخين .
ولا وجه للاستدراك أصلا ؛ لأنهما لم يشترطا إخراج كل ما عندهما من الأحاديث الصحيحة على شرطهما ، لكن على كل حال ؛ ما استدركه الحاكم استفدنا منه ، لكن حقيقة من نظر في عمل الحاكم وجده توسع كثيرا في ذكر الأحاديث ونسبتها لشرط البخاري أو لشرط مسلم أو لشرطهما ، و أوهامه كثيرة في الكتاب ، وسنذكر ما قاله الحافظ الذهبي في ذلك .
( قلت : في هذا نظر )هذا كلام ابن كثير ( فإنه يلزمهما بإخراج أحاديث لا تلزمهما) لأنها ليست على شرطهما ( لضعف رواتها عندهما، أو لتعليلهما ذلك ) فقد يخرج أحاديث يكون فيها بعض الرواة ضعفاء ، فيقول هو على شرط البخاري أو على شرط مسلم ، وأحيانا يخرج الحديث ويكون معلولا ، فيقول على شرط البخاري أو على شرط مسلم .
فلا بد من التنبه للحكم على الحديث أنه على شرط البخاري أو على شرط مسلم ؛ فإنها مسألة دقيقة وينبغي التدقيق فيها قبل أن تقول هذا الحديث على شرط البخاري أو على شرط مسلم .
ومعنى " على شرط البخاري " أي أنهم نفس الرجال الذين أخرج لهم البخاري في " صحيحه " ، وليس هذا فحسب ؛ بل يجب أن تنظر في الرجال ما حالهم ؛ لأن بعض الرجال الذين أخرج لهم البخاري في صحيحه فيهم ضعف ؛ لكن البخاري انتقى من أحاديثهم ؛ فلا تقل هو على شرط البخاري مطلقا .
ثم إنك تحتاج إلى أن تنظر في روايته عن شيخه ؛ هل أخرج البخاري للراوي الفلاني عن شيخه فلان بالتحديد ، أم لا .
فمن الأخطاء التي وقع فيها بعض أهل العلم أن يقول " رواية سماك عن عكرمة عن ابن عباس " هذا إسناد على شرط الشيخين ، فيقال له هذا خطأ ؛
أولا : سماك أخرج له مسلم ولم يخرج له البخاري .
ثانيا : عكرمة أخرج له البخاري ولم يخرج له مسلم .
ثالثا : رواية سماك عن عكرمة رواية مضطربة ، فلم يخرجاها ، فتحتاج أن تنتبه هل أخرجا للشيخ ، وهل أخرجا للتلميذ ، ثم هل أخرجا رواية هذا التلميذ عن هذا الشيخ بالتحديد ، أم لا ؛ فيجب أن تنظر إلى أفراد الرواة ، و تنظر إلى روايتهم عن شيوخهم ؛ حتى تعزو هذا الإسناد إلى شرط البخاري أو مسلم . (والله أعلم ) .
أما بالنسبة لمستدرك الحاكم ، فنختم بكلام الذهبي فيه – رحمه الله – في كتابه " سير أعلام النبلاء ؛ قال :
" سمعت أبا سعد الماليني يقول: طالعت كتاب " المستدرك على الشيخين "، الذي صنفه الحاكم من أوله إلى آخره، فلم أر فيه حديثا على شرطهما "
قلت – الذهبي - : هذه مكابرة وغلو، وليست رتبة أبي سعد أن يحكم بهذا، بل في " المستدرك " شيء كثير على شرطهما، وشيء كثير على شرط أحدهما، ولعل مجموع ذلك ثلث الكتاب بل أقل، فإن في كثير من ذلك أحاديث في الظاهر على شرط أحدهما أو كليهما، وفي الباطن لها علل خفية مؤثرة، وقطعة من الكتاب إسنادها صحيح وحسن وجيد، وذلك نحو ربعه، وباقي الكتاب مناكير وعجائب، وفي غضون ذلك أحاديث نحو المائة يشهد القلب ببطلانها، كنت قد أفردت منها جزءا، وحديث الطير بالنسبة إليها سماء، وبكل حال فهو كتاب مفيد قد اختصرته، ويعوز عملا وتحريرا " . والله أعلم


قائمة الخيارات
0 [0 %]
بقلم: أبي الحسن علي الرملي
الجمعة 28 ذو الحجة 1431
عدد المشاهدات 3954
عدد التحميلات 88
جميع الحقوق محفوظة لشبكة الدين القيم © 2008-2014 برمجة وتصميم طريق الآفاق