الرشوة

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، وبعد ؛

فالمقصود بالحاكم كل من حكم بين الناس سواء كان أميرا أو قاضيا أو غير ذلك .

وليست الرشوة خاصة به ، ولكنه خص بالذكر لعظمها وشدتها منه .

قال ابن عثيمين رحمه الله :إن الرشوة تكون في الحكم فيقضى من أجلها لمن لا يستحق ، أو يمنع من يستحق أو يقدم من غيره أحق بالتقديم ، وتكون الرشوة في تنفيذ الحكم فيتهاون من عليه تنفيذه بتنفيذه من أجل الرشوة ، سواء كان ذلك بالتراخي في التنفيذ ، أو بعمل ما يحول بين المحكوم عليه وألم العقوبة إن كان الحكم عقوبة .

إن الرشوة تكون في الوظائف والمسابقة فيها ، فيقدم من أجلها من لا ينجح أو تعطى له أسئلة المسابقة قبل الامتحان فيولى الوظيفة من غيره أحق منه ، وفي الحديث عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : « من استعمل رجلا من عصابة - أي من طائفة - وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين » ( رواه الحاكم وصحح إسناده) .

وإن الرشوة تكون في تنفيذ المشاريع ينزل مشروع عمل في المناقصة فيبذل أحد المتقدمين رشوة ، فيرسو المشروع عليه مع أن غيره أنصح قصدا وأتقن عملا ولكن الرشوة عملت عملها .

وإن الرشوة تكون في التحقيقات الجنائية أو الحوادث أو غيرها ، فيتساهل المحققون في التحقيق من أجل الرشوة ، وفي الحديث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول ( رواه أبو داود ومن حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه) والغلول إثمه عظيم ، فقد « جاء رجل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : استشهد مولاك أو قال : غلامك فلان ، قال : بل يجر إلى النار في عباءة غلها » ( رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح).

وأغرب من ذلك أن تدخل الرشوة في التعليم والثقافة ، فينجح من أجلها من لا يستحق النجاح ، أو تقدم له أسئلة الامتحان أو يشار إلى أماكنها من المقررات ، أو يتساهل المراقب في مراقبة الطالب من أجلها فيتقدم هذا الطالب مع ضعف مستواه العلمي ويتأخر من هو أحق منه لقوة مستواه العلمي .انتهى كلامه رحمه الله .

وأما إعطاء المال لدفع الظلم عن النفس فجائز للمعطي محرم على الآخذ على الصحيح من أقوال أهل العلم .

قال الإمام البغوي رحمه الله : عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لعنة الله على الراشي والمرتشي " .

هذا حديث حسن مراجعة سنن الترمذي وابن أبي ذئب : هو محمد بن عبد

الرحمن بن المغيرة بن الحارث والحارث بن عبد الرحمن خاله.

قال الإمام : الرشوة : ما يعطى لإبطال حق ، أو لإحقاق باطل ، فيعطي الراشي لينال باطلاً ، أو ليمنع حقاً يلزمه ، ويأخذ الآخذ على أداء حق يلزمه ، فلا يؤديه إلا برشوة يأخذ ، أو على باطل يجب عليه تركه ، ولا يتركه إلا بها ، فأما إذا أعطى المعطي ليتوصل به إلى حق ، أو يدفع عن نفسه ظلماً ، فلا بأس.

يروى عن ابن مسعود : أنه أخذ ، فأعطى دينارين حتى خلي سبيله.

وروي عن الحسن ، والشعبي ، وجابر بن زيد ، وعطاء ، أنهم قالوا : لا بأس أن يصانع الرجل عن نفسه ، وماله ، إذا خاف الظلم.

قال الإمام : وكذلك الآخذ إذا أخذ ليسعى في إعانة صاحب الحق ، فلا بأس ، وقال ابن سيرين : كان يقال : السحت : الرشوة في الحكم ،وكانوا يعطون على الخرص.

وقال المناوي في فيض القدير : ( الراشي والمرتشي ) أي آخذ الرشوة ومعطيها ( في النار ) قال الخطابي : إنما تلحقهم العقوبة إذا استويا في القصد فرشى المعطي لينال باطلا فلو أعطى ليتوصل به لحق أو دفع باطل فلا حرج .

وقال ابن القيم : الفرق بين الرشوة والهدية أن الراشي يقصد بها التوصل إلى إبطال حق أو تحقيق باطل وهو الملعون في الخبر ؛ فإن رشى لدفع ظلم اختص المرتشي وحده باللعنة والمهدي يقصد استجلاب المودة ومن كلامهم البراطيل تنصر الأباطيل .

وقال ابن حزم في المحلى : مسألة ولا تحل الرشوة وهي ما أعطاه المرء ليحكم له بباطل أو ليولي ولاية أو ليظلم له إنسان فهذا يأثم المعطي والآخذ ، فأما من مُنع من حقه فأعطى ليدفع عن نفسه الظلم فذلك مباح للمعطي ، وأما الآخذ فآثم .

وقال ابن تيمية رحمه الله : العقود التي فيها نوع معاوضة - وهي غالب معاملات بني آدم التي لا يقومون إلا بها - سواء كانت مالا بمال ؛ كالبيع أو كانت منفعة بمال كالإجارة والجعالة وقد يدخل في المسألة : الإمارة والتجنيد ونحو ذلك من الولايات . أو كانت منفعة بمنفعة كالتعاون والتناصر ونحو ذلك . تنقسم أربعة أقسام : فإنها إما أن تكون مباحة من الجانبين . كالبيع والإجارة والتعاون على البر والتقوى . وإما أن تكون حراما من الجهتين كبيع الخمر بالخنزير والاستئجار على الزنا بالخمر وعلى شهادة الزور بشهادة الزور كما كان بعض الحكام يقول عن طائفة من الرؤساء : يتقارضون شهادة الزور وشبهه بمبادلة القروض . وإما أن يكون مباحا من إحدى الجهتين حراما من الأخرى . وهذا القسم ينبغي لأهل الإسلام أن يعلموه ؛ فإن الدين والدنيا لا تقوم إلا به .

وأما القسم الأول وحده فلا يقوم به إلا دين ضعيف . وأما الثالث فتقوم به الدنيا الفاجرة والدين المبتدع . وأما الدين المشروع والدنيا السالمة فلا تقوم إلا بالثالث : مثل إعطاء المؤلفة قلوبهم لجلب منفعتهم أو دفع مضرتهم ورشوة الولاة لدفع الظلم أو تخليص الحق ؛ لا لمنع الحق وإعطاء من يتقى شر لسانه أو يده من شاعر أو ظالم أو قاطع طريق أو غير ذلك . وإعطاء من يستعان به على البر والتقوى من أعوان وأنصار وولاة وغير ذلك . وأصله في الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين : أن الله جعل للمؤلفة قلوبهم حقا في الصدقات التي حصر مصارفها في كتابه وتولى قسمها بنفسه وكان هذا تنبيها على أنهم يعطون من المصالح - ومن الفيء على القول الصحيح - التي هي أوسع مصرفا من الزكاة ؛ فإن كل من جاز أن يعطى من الصدقة أعطي من المصالح ولا ينعكس ؛ لأن آخذ الصدقة إما أن يأخذ لحاجته أو لمنفعته وكلا الأمرين يؤخذ منهما للمصالح ؛ بل ليست المصالح إلا ذلك ، والمؤلفة قلوبهم هم من أهل المنفعة الذين هم أحق بمال المصالح والفيء . ولهذا أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم من الفيء والمغانم كمافعله بالذهيبة التي بعث بها علي من اليمن . وكما فعل في مغانم حنين حيث قسمها بين رؤساء قريش وأهل نجد وقال : { إني لأعطي رجالا وأدع من هو أحب إلي منهم . أعطي رجالا لما في قلوبهم من الهلع والجزع وأكل رجالا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير } وقال : { إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارا . قالوا : يا رسول الله فلم تعطيهم قال : يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل } . وقال : { والذي نفسي بيده ما من رجل يسألني المسألة فتخرج له المسألة ما لم نكن نريد أن نعطيه إياه فيبارك له فيه } " أو كلاما هذا معناه . وهذا القسم يشتمل على الأقسام الثلاثة : أما المال بالأعيان فمنه افتكاك الأسرى والأحرار من أيدي الكفار والغاصبين ؛ فإن المسلم الحر قد يستولي عليه الكفار وقد يستولي عليه الفجار ؛ إما باستعباده ظلما أو بعتقه وجحود عتقه . وإما باستعماله بغير اختياره ولا إذن الشارع : مثل من يسخر الصناع كالخياطين والفلاحين بغير حق . وإما بحبسه ظلما وعدوانا فكل آدمي قهر آدميا بغير حق ومنعه عن التصرف . فالقاهر يشبه الآسر والمقهور يشبه الأسير وكذلك القهر بحق أسير . قال { النبي صلى الله عليه وسلم للغريم الذي لزم غريمه : ما فعل أسيرك ؟ } .

وإذا كان الاستيلاء على الأموال إذا لم يكن بحق فهو غصب وإن دخل في ذلك الخيانة والسرقة فكذلك الاستيلاء على النفوس بغير حق أسر . وإن دخل فيه استيلاء الظلمة من أهل القبلة . وكذلك افتكاك الأنفس الرقيقة من يد من يتعدى عليها ويظلمها فإن الرق المشروع له حد فالزيادة عليه عدوان . ويدخل في ذلك افتكاك الزوجة من يد الزوج الظالم ؛ فإن النكاح رق كما دل عليه الكتاب والسنة قال الله تعالى : { وألفيا سيدها لدى الباب } وقال النبي صلى الله عليه وسلم في النساء : { إنهن عندكم عوان } . وقال عمر : النكاح رق فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته . وكذلك افتكاك الغلام والجارية من يد الظالم كالذي يمنعه الواجب ويفعل معه المحرم . ومنه افتكاك الأموال من أيدي الغاصبين لها ظلما أو تأويلا كالمال المغصوب والمسروق وغيرهما إذا دفع للظالم شيء حتى يرده على صاحبه . وسواء كان الدفع في كلا القسمين دفعا للقاهر حتى لا يقهر ولا يستولي كما يهادن أهل الحرب عند الضرورة بمال يدفع إليهم أو استنقاذا من القاهر بعد القهر والاستيلاء . مجموع الفتاوى ( 29 / 181 ) . والله أعلم