الدرس السادس والأربعون

[الدرس السادس والأربعون]

الحمد لله الذي أكمل لنا هذا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا ونسأله سبحانه أن يتمم علينا نعماً أخرى للفقه في الدين وبأن يختم لنا بالحسنى، ونصلِّي ونسلِّم على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد..
هذا الدرس متمِّم لدروس شرح الدرر البهية
وكُنّا قد انتهينا في الدروس الماضية من كتاب النكاح والطلاق
واليوم سنبدأ بإذن الله تعالى بكتاب البيوع
قال المؤلف رحمه الله: كتاب البيوع
البيوع جمْعُ بَيْع، والبيع في اللغة إعطاء شيء في مقابلة شيء.
تعطيني قلماً مقابل أن تأخذ كتاباً، يسمى هذا بيعاً في اللغة.
ويقال: باع الشيء إذا أخرجه من مِلكه، وهذا السائد بالعرف، المعروف إطلاق كلمة البيع على هذا.
ويطلق أيضاً على إدخال الشيء إلى المِلك، بمعنى ماذا؟ بمعنى الشراء، فيطلق البيع بمعنى الشراء، فتقول: بعت الشيء أي اشتريته، وكذلك الشراء يطلق على البيع، فتقول: اشتريت الشيء بمعنى بعته، ويطلق الشراء على معنى إدخال الشيء إلى المِلك كما هو معروف في العرف السائد.
قال تعالى { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } [ يوسف/20]، أي: باعوه بثمن زهيد. وقال: { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ } [ البقرة/102]، أي ولبس ما باعوا به أنفسهم، فيطلق الشراء بمعنى البيع بلغة العرب.
هذا البيع من الناحية اللغوية.
أما من الناحية الاصطلاحية فهو نقل ملكٍ إلى الغير بثمن، نقل ملكٍ، شيء تملكه أنت تنقله إلى غيرك، تنقل ملكيته إلى غيرك مقابل أن تأخذ شيئاً مكانه، نقل ملكٍ إلى الغير بثمن، بغضّ النظر هذا الثمن كان نقداً أو عيناً.
أو قُلْ بتعريف آخر: مبادلة المال بالمال تمليكاً.
أي تعطي أخاك شيئاً وتأخذ منه شيئاً كي يصبح الذي أعطيته لأخيك ملكاًً له والذي أعطاك إياه ملكاً لك.
هذا هو البيع في الاصطلاح.
المراد بالمال طبعاً في التعريف الثاني، كل عينٍ مباحة النفع.
ماذا نقصد بالعين؟
شيء، هذا الهاتف عين، هذه الطاولة عين، هذا الكتاب عين، كل عينٍ مباحة النفع، يعني نفعها مباح.
الخنزير عين أو ليس بعين؟
عين، لكنه غير مباح النفع.
وأما حكم البيع فهو جائز في الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم { وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } [ البقرة/275]، فقال إيش؟ وأحل الله البيع.
وأما السُّنة فالأحاديث في ذلك كثيرة، منها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :"إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً" متفق عليه، الشاهد قوله:"إذا تبايع الرجلان" .
وأما الإجماع فمعلوم من الدين بالضرورة حِلّ البيع وشرعيته.
حكمته: طبعاً معلوم أن لكل إنسان ضروريات يحتاج إليها وهي ليست عنده، ليست في مِلكه، ولكنها في مِلك غيره، وهذا الغير لا يعطيها إلا بمقابل، فلا بد إذاً من البيع كي يحقق الناس ضرورياتهم، فلا تستقيم الحياة إلا بالبيع والشراء، لذلك كان البيع مشروعاً.
ولكن من البيوع ما مفسدته عظيمة أو أعظم من مصلحته فجاء الشارع بتحريمها، معلوم من القواعد الأساسية في شرع الله تبارك وتعالى أن شريعة الإسلام جاءت لتحقيق المصالح وتتميمها ودفع المفاسد وتقليلها، فما فيه خير للناس شرعه الله تبارك وتعالى في هذه الشريعة، وما يعود عليهم بالضرر والفساد حرَّمه عليهم، فشريعة الله تبارك وتعالى هذه شريعة كاملة لا يعتريها النقص بوجه من الوجوه البتة، لأن الذي وضعها حكيم خبير عليم، هو الذي خلق البشر وهو الذي يعلم ما يصلحهم وما يفسدهم، ووضع شريعته هذه كي تحقق مصالح البشر وتدرأ عنهم المفاسد، فمن نعم الله تبارك وتعالى على العباد أن تتحقق هذه الشريعة بينهم وأن يقيموا شرع الله بينهم، وعندما لا يكونون أهلاً لهذه النعمة ينزعها الله تبارك وتعالى منهم فيُحرمون الخير.
حكم تعلُّم فقه البيوع
فقه البيوع واجب على كل من تصدَّى للبيع والشراء.
فيه أحد يستغني عن البيع والشراء؟
لا أحد
كل إنسان يحتاج إلى أن يتعامل بالبيع والشراء، فيجب إذاً على كل مسلم أن يتعلم أحكام البيع والشراء التي يحتاجها في حياته اليومية، وخصوصاً التجار، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :"طلب العلم فريضة" والذي لا يتعلم أحكام هذا الباب ويقع في التعامل بالبيع والشراء، يقع في كثير من المخالفات الشرعية وفي العقود الفاسدة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، اجتناب المحرَّم في البيوع واجب ولا يتم ذلك إلا بتعلم أحكام البيع والشراء، وأخرج الترمذي بسند حسن عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لا يَبِع في سوقنا إلا مَن قد تفقَّه في الدين.
انظر، يمنع عمر بن الخطاب شخصاً لم يتفقه في الدين أن يبيع في سوقنا، (كلمة غير واضحة)، فلا يمكنه تجنب ما حرَّم الله إلا بالتعلُّم.
ويذكر الفقهاء هاهنا في هذا الباب أثراً عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أخرجه الخطيب في الفقيه والمتفقه، قال فيه: مَن اتَّجر قبل أن يتفقه ارتطم في الربا. هذا وإن كان معناه صحيح إلا أن الأثر في نفسه ذكره الخطيب في الفقيه والمتفقِّه بسند ضعيف.
نبدأ بشرح كلام المؤلف رحمه الله
قال:((المعتَبَرُ فيه مجرَّدُ التراضي))
المعتبر في ماذا؟ في البيع، مجرد التراضي، إذا حصل التراضي صح البيع.
هذا الشرط الأول من شروط صحة البيع.
أن يقع برضا الطرفين، برضا البائع ورضا المشتري، قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم { لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ } [ النساء/29]، أي لا بد أن يقع الرضا بين الأطراف، وقال - صلى الله عليه وسلم - :" لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه"، إذاً لا بد أن يوجد التراضي من البائع والمشتري حتى يصح البيع، فإذا أُكره شخص على بيع شيء، فالبيع يكون باطلاً، البيع بالإكراه باطل، إلا في صور نادرة، في حكم القاضي العادل عندما يحكم في قضية معيَّنة، إذاً فلا بد من التراضي.
حصول البيع بين البائع والشاري بالرضا، وقوع التراضي بينهما كافٍ لصحة البيع، لكن هذا الرضا أمرٌ قلبي لا يُعلم، فلا بد من دليل عليه، لذلك قال المؤلف رحمه الله:((ولو بإشارة من قادرٍ على النطق))أي ولو كان الدليل على التراضي الإشارة مع كَوْن المشير قادراً على النطق، أي ومع قدرته على النطق إن أشار إشارة فقط كفت، فالإشارة إذاً كافية في التعبير عن الرضا، فالمعتبر فقط التراضي وإن دل على التراضي إشارة أو فعل آخر أو قول كفى في ذلك ولا نشترط قولاً معيَّناً، لا نشترط صيغة معينة كما يفعل بعض الفقهاء، بعض الفقهاء يقول: لا بد أن تقول: بِعْني ويقول لك الآخر:بعتك، وتقول أنت: رضيت، حتى يتم البيع، عندهم مجرد التعاطي لا يكفي، لكن الصحيح ما قرَّره بعض أهل العلم من أن التعاطي فقط يكفي في صحة البيع، كيف يكون التعاطي؟ تدخل على محل، تأخذ شيئاً منه وتدفع المال لصاحب المحل، هذا يسمى تعاطياً أو أن يعطيك صاحب المحل شيء وأنت تدفع له ثمنه، الآن ما في قول ولا فيه شيء ، إنما فيه تعاطي، أعطيت وأعطاك، كافي هذا في التراضي أم ليس بكافي؟كافي، هذا يدل على التراضي بشكل آخر، لأن العرف السائد دل على أن مثل هذا يعتبر بيعاً عند الناس، وكل ما عدَّه الناس بيعاً فهو بيع، لأن الشارع لم يضع حداً للبيع والشراء لا يكون البيع بيعاً إلا به، ولا يوجد في اللغة أيضاً حد معيَّن لذلك، فرجعنا في ذلك إلى ماذا؟
إلى العرف.
والقاعدة عندنا في هذا الباب وفي العقود بالكامل، أن العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حرَّر هذه المسألة وردّ على الذين يشترطون ألفاظاً معيَّنة في كتابه مجموع الفتاوى في المجلد التاسع والعشرين ص5، عندما تريدون التوسع ترجعون إليه.
قال المؤلف رحمه الله:((ولا يجوز: بيع الخمر . والميتة . والخنزير . والأصنام . والكلب . والسِّنَّوْر . والدم . وعَسْبِ الفحل . وكل حرامٍ)) بعد أن ذكر الشرط الأول رحمه الله وذكر أن البيع يصح ولو بإشارة، الشرط الأول الذي هو التراض والإشارة وأي قولٍ أو فعل يدل على هذا التراضي في العرف يكون كافياً في صحة البيع.
بدأ الآن يذكر، البيوع التي حرمها الله تبارك وتعالى، مرَّت معنا الآية التي قال الله تبارك وتعالى فيها { وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ } [ البقرة/275]، كلمة "البيع" لفظ عام، أخذتم في أصول الفقه أن المفرد المحلّى بالألف واللام إذا كانت الألف واللام هذه لام الاستغراق بأنه يفيد العموم، فهذا لفظ عام، فالأصل في كل بيعٍ أنه حلال إلا ما دل الدليل على تحريمه، فهذا لفظ عام يخصَّص بما ورد من أدلة خاصة في أشياء معيَّنة. هذه الأشياء التي جاء تخصيصها في أدلة خاصة ذكرها لنا المؤلف رحمه الله هنا، فقال: ولا يجوز: بيع الخمر .
هذه المسألة الأولى
ما هو الخمر؟
في لغة العرب: ما خامَرَ العقل، إيش يعني خامر العقل؟
غطّاه
وشرعاً: كل ما أَسْكر.
قال - صلى الله عليه وسلم - :"كل مُسْكِرٍ خمر، وكل خمرٍ حرام" كلام واضح، أيَّ شيء يُسكر فهو في شرع الله خمر، والخمر حرام، الشاهد هنا تعريف الخمر في الشرع، كل مسكرٍ خمر، فقط.
ما هو دليل تحريم البيع؟
تحريم الخمر معروف، وهذا الحديث الذي ذكرناه منها، لكن نريد الآن تحريم البيع، ما هو الدليل عليه؟
أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - :"إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام" متفق عليه، فيدخل في تحريم الخمر تحريم كل مسكر، فلا يجوز بيعه، كل مسكر لا يجوز بيعه، سواء كان من الحشيش أو من المخدرات أو من الخمر نفسها، كل هذا لا يجوز بيعه، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا:" حرَّم الله بيع الخمر".
طيب، ما هي العلة؟
ما هي علة تحريم البيع لا علة تحريم الخمر؟
إذا عرفنا علة تحريم بيع الخمر، من الممكن أن نُلحق به غيره.
قال العلماء:-طبعاً اختلفوا في تحريم بيع الخمر ما هي علته- البعض قال: النجاسة، ونحن قررنا فيما مضى أن الصحيح أن الخمر لا يوجد دليل على نجاستها، فما هي العلة إذاً؟ علة تحريم بيع الخمر أنه ليس فيه منفعة مباحة مقصودة، لذلك حُرِّم، فيه منفعة محرَّمة غير مباحة ، منفعة أي تنتفع به لأي شيء، ولكن تكون هذه المنفعة مباحة ليست محرَّمة شرعاً، مقصودة أي يَقصد العقلاء شراء الخمر لأجلها، هذا معنى أن المنفعة تكون مقصودة، العقلاء يقصدون شراءها لأجل هذه المنفعة، هذه المنفعة المباحة المقصودة غير موجودة في الخمر، الخمر يُقصد للإسكار وهذه منفعة محرَّمة، إذاً فما بقيت إلا منفعة مباحة مقصودة فلذلك حُرِّم بيعه، لأن شراء شيء مثل هذا، الخمر تُشترى للإسكار، طيب أنت لا تريد أن تشربها لأنها محرمة فلماذا ستشتريها؟ شراؤك لها بعد ذلك يعتبر سفاهة، وبيع بائعها هو من أكل أموال الناس بالباطل، هذه علة تحريم بيع الخمر، فيُلحَق بها كل شيء ليست له منفعة مباحة مقصودة، مثل ماذا؟ الذباب، هل له منفعة مباحة مقصودة؟ أبداً، فبيعه محرَّم، كثير من الحشرات، توجد بعض الحشرات لها منفعة، لكن كثير من الحشرات لا منفعة لها مقصودة، فتكون محرَّمة.
هذا ما يتعلق ببيع الخمر
ثم قال المؤلف: والميتة.
أيضاً لا يجوز بيع الميتة
ما هي الميتة؟
كل ما فارقته الروح من غير ذكاةٍ شرعية فهو ميتة.
هذه الميتة، نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيعها، دليل تحريم ذلك هو حديث جابر نفسه"إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر والميتة".
طيب، علة تحريم بيع الميتة: النجاسة، لأنها نجسة، فإذا كانت الميتة نجسة وحُرِّم بيعها من أجل النجاسة يُلحَق بها كل نجس العين، كل ما كانت عينه نجسة فيَحرم بيعه.
إذاً من شروط المبيع أن يكون له منفعة مقصودة.
ومن شروطه أن يكون طاهراً.
أخذنا هذه الشروط من أين؟
من هذه الدروس التي معنا الآن
فكل نجس لا يمكن تطهيره لا يجوز بيعه قياساً على الميتة، النجس الذي يمكن تطهيره هذا ليس نجس العين، النجاسة تكون طارئة عليه والنجاسة ممكن أن تزال عنه فيباع، كالثوب الذي أصابته نجاسة يجوز بيعه؟ نعم، لأن النجاسة من الممكن أن تُزال عنه، والمقصود هو الثوب الذي من الممكن أو الجائز أن يكون طاهراً.
هل كل ميتة كذلك يحرم بيعها؟
لا، يستثنى من ذلك الحوت والجراد
الحوت والجراد يستثنى من ذلك، لحديث ابن عمر"أُحِلَّت لنا ميتان ودمان"، فالحوت والجراد حلال مَيْتته وميتته ليست نجسة، فتخرج من هذا لحديث.
قال المؤلف : والخنزير.
الخنزير حيوان معروف، دليل تحريم بيعه، حديث جابر"حرَّم الخمر والميتة والخنزير" قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن بيع الخنزير وشراءه حرام.
إجماع علماء الإسلام على ذلك .
علة تحريم بيعه: النجاسة كالميتة، فأي شيء نجس العين يُلحَق بالخنزير والميتة.
قال المؤلف: والأصنام.
جمع صَنْم، والصنم ما له صورة، الفرق بين الصنم والوثن أن الوثن لا صورة له، أما الصنم فله صورة، الوثن ما ليس له صورة مما يُعبد.
ودليل النهي عن بيعه، ما ورد في حديث جابر.
ونُهي عن بيعه لأنه ذريعة إلى اقتنائه واتخاذه، البيع والشراء يؤدي إلى ماذا؟ إلى اقتنائه عندك، قد تتخذه عندك في البيت وهذا محرَّم.
قال المؤلف: والكلب.
الكلب أيضاً لا يجوز بيعه لقول أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه :أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحُلوان الكاهن".
فالكلب لا يجوز بيعه.
مَهْر البغي، البغايا معروفات، البغي هي الزانية، مهرها هي الأجرة التي تأخذها على زناها.
حلوان الكاهن : الكاهن الذي يدَّعي معرفة الغيب، وحلوانه هي الأجرة التي يأخذها على ادعائه الغيب.
هذا كله محرَّم
الكلب نهي عن ثمنه كما في هذا الحديث المتفق عليه، هل يشمل هذا كل الكلاب؟ ظاهر اللفظ نعم ، نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب، فكل كلبٍ منهي عن ثمنه، اللفظ عام، لكن بعض أهل العلم استثنى من ذلك كلب الصيد وقال: يجوز بيعه، وبعضهم استثنى ما يجوز الانتفاع به سواء كان كلب صيد أو كلب حراسة.
ما وجه الاستثناء؟
أما كلب الصيد فاستدلوا على ذلك بحديث جابر قال:"نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عن ثمن السِّنَّور والكلب إلا كلب صيد" فهنا صار فيه استثناء، لكن هذا الحديث أخرجه النسائي وقال: هو منكر ليس بصحيح .
يبقى معنا القول الثاني وهو استثناء الكلب الذي له منفعة مباحة، هذا من أين جاءوا به ؟ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :" من اقتنى كلباً إلا كلب صيدٍ أو ماشية نقص من أجره كل يومٍ قيراطان"هذا الحديث في مسلم، فحرَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - اقتناء الكلاب إلا كلبين: كلبَ صيدٍ أو كلبَ حراسة، وجعلوا العلة في تحريم البيع هي الاقتناء، فجعلوا العلة هي اتخاذ الكلب، قالوا: لذلك حُرِّم بيعه، لأن اتخاذه محرَّم، فإذا كانت هذه العلة وقد أُذِن في اتخاذ كلب الحراسة وكلب الصيد إذاً فيُستثنى هذا من النهي عن بيعه.
هذه حجتهم في ذلك وهو قولٌ قوي قاله الإمام مالك في رواية عنه رحمه الله، وهذا الذي يظهر لي.
قال المؤلف: والسِّنَّور.
ومما نهي عن بيعه:السنور الذي هو الهِرّ، وله عدة أسماء عند العرب، منها هذا السنور، الهر، القط، البَسّ ، عندنا الناس إيش يقولون؟
البِسّ، خطأ هو البَسّ بفتح الباء لا بكسرها وهو قديماً سبحان الله، فيروز آبادي في القاموس المحيط ذكر هذا، قال: من أسماء القط: البَسّ قال: والعامة عندنا يقولون: البِسّ، وما زالت ماشية.
ما هو دليل تحريم بيعه؟
جاء من حديث جابر عند مسلم قال: زجر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب والسِّنَّور، لكن هذا الحديث وإن كان عند مسلم إلا أنه منتقد، من الأحاديث المنتقدة، هذا الحديث ورد من حديث أبي هريرة أخرجه الترمذي وقال: هو حديث مضطرب، فحديث أبي هريرة لا يصح لاضطرابه أما حديث جابر ففيه نزاع شديد وقوي حقيقة بين المصحِّحين والمضعِّفين، وأنا قلبي لا يطمئن إليه وأنا أمل إلى عدم حفظ زيادة "السنور" في حديث جابر، وخلاف العلماء كبير جداً أيضاً في مسألة السنور هل يجوز بيعه أو لا يجوز؟ جماعة من الصحابة والتابعين، وأيضاً من الأئمة الأربعة أظنه الشافعي قالوا بجواز بيع الهِرّ، وجماعة قالوا بالتحريم والأصل أن يكون في ذلك الحديث هو الفاصل في هذه المسألة من حيث الصحة والضعف، فمن صحح الحديث يحرِّم بيع السنور، ومن ضعفه يجيز ذلك، وهناك بعض من صححه يتأول.
قال المؤلف: والدم.
لحديث أبي جُحَيفة في الصحيحين قال:إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرَّم ثمن الدم. قال الحافظ: وهو حرام إجماعاً، أعني بيع الدم وأخذ ثمنه، بالاتفاق يعني محرَّم .
قال المؤلف: وعسْبِ الفحل.
أي ماء الفحل، الفحل: الذكر من كل حيوان، الذكر من كل حيوان يسمى فحلاً، والمقصود بالعَسْب هو ماؤه، ماء الفحل.
والدليل على تحريم بيع ماء الفحل قول ابن عمر: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن عسب الفحل" أخرجه البخاري وأخرجه مسلم من حديث جابر.
وعلة تحريمه عدم القدرة على التسليم، فأنت لا تملك إخراج المني من الفحل وإذا خرج لا تدري كم كميته، ثم إذا حصل وخرج المني وتجاوزنا عن الكمية فإننا لا نعلم هل ستحمل الفرس أو الناقة منه أو لا، فالأمر كله داخل في ضمن الغرر الذي سيأتي الحديث عنه إن شاء الله وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر، مجهول العاقبة، عاقبته مجهولة، ستأخذ هذا الفرس أو هذا الجمل إلى الأنثى التي عندك ولكنك لا تدري عاقبة هذا الأمر، ستدفع مالاً لماء هذا الجمل أو الحصان ولكن المآل مجهول.
قال المؤلف:وكلِّ حرامٍ.
أي ويَحرُم بيع كل حرام، كل ما حرمه الله سبحانه وتعالى يحرم بيعه. يستدلون على ذلك بما في الصحيحين من حديث جابر المتقدم أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح وهو بمكة:"إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام" فقيل: يا رسول الله: أرأيت شحوم الميتة فإنه يُطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويَستَصبِح بها الناس-أي يجعلونها وقوداً للمصابيح بدل الغاز اليوم- فقال:" لا، هو حرام"-أي البيع- ثم قال:" قاتل الله اليهود إن الله لما حرَّم عليهم شحومها أجملوه-أي أذابوه- ثم باعوه فأكلوا ثمنه" لما حرم عليهم الشحوم أكلوا ثمنها، أذابوها ثم باعوها وأكلوا ثمنها.
وفي رواية لنفس الحديث من حديث ابن عباس"إن الله إذا حرَّم أكل شيء حرَّم ثمنه" وهذه قاعدة عامة: كل ما حرَّم الله حرَّم بيعه، لكن البيع يكون محرماً لأجل هذه المنفعة، إذا كانت له منفعة أخرى غير الأكل يجوز بيعه، من أجل هذه المنفعة مثل الحمار الأهلي، البغل، يجوز بيعه أو لا؟ يجوز بالإجماع، باتفاق علماء الإسلام، طيب ألم يحرم الله أكله؟ نعم حرَّم الله أكله.
طيب لماذ يجوز بيعه؟
لأنه يُنتفع به بِجَريره، فمن اشتراه لأجل الركوب حَلَّ له أن يشتريه وحل للبائع أن يبيعه، ومن اشتراه من أجل الذبح والأكل حرُم عليه أن يشتريه وحرُم على البائع أن يبيعه .
هذا الضابط في المسألة
بهذا تجتمع الأدلة
هنا سندخل في مسألة بيع الغرر وهذه المسألة أصل عظيم من أصول كتاب البيوع يدخل تحتها الكثير من المسائل والكلام فيها يطول شيئاً ما، نؤجلها للدرس القادم إن شاء الله