الدرس التاسع والعشرون

[الدرس التاسع والعشرون]


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
انتهينا في الدرس الماضي من كتاب الزكاة واليوم معنا كتاب الخُمس.

قال المؤلف رحمه الله:
كتاب الخمس.
أي هذا كتاب يُبين فيه أحكام الخُمس، والمراد بالخمس خمس المال.

متى يُؤخذ الخمس؟

قال المؤلف رحمه الله
: يجب فيما يُغنم في القتال.
فالخمس يؤخذ من مال الغنيمة، يجب فيما يُغنم في القتال، والغنيمة هي المال المأخوذ من الكفار عن طريق الحرب والقتال، هذا المال عندما يُؤخذ يقسم خمسة أقسام، (المال الذي يؤخذ من الكفار في الحرب يُقَّسم خمسة أقسام)، فيُؤخذ قسم من هذه الأقسام الخمس ويقسم إلى خمسة أقسام أخرى، إذاً مال الغنيمة أول شيء نفعله به نقسمه خمسة أقسام ثم نأخذ قسماً من هذه الخمسة ونقسمه أيضاً إلى خمسة أقسام يصير عندنا خمس الخمس، هذا القسم الأخير الذي أخذناه وقسمناه إلى خمسة أقسام، قسم منه لله ولرسوله، وهذا القسم يرجع إلى بيت مال المسلمين ويُنفق في مصالحهم لقوله صلى الله عليه وسلم
: "والذي نفسي بيده مالي مما أفاء الله إلا الخمس، والخمس مردود فيكم"، أخرجه أبو داود، فبين بذلك أن الخمس الأول الذي هو لله ولرسوله يرجع إلى بيت المسلمين وينفقه ولي أمر المسلمين في مصالحهم وأما القسم الثاني فيُعطى لذوي القربى وهم قرابه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشم وبنو المطلب هؤلاء الذين أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس، وقسم يعطى لليتامى، واليتيم هو الذي مات أبوه وهو دون سن البلوغ، فإذا بلغ لم يعد يتيماً، وإذا ماتت أمه وأبوه باق فليس بيتيم، اليتيم يُطلق على المولود الذي يكون أدنى من سن البلوغ ومات أبوه، وقسم يُعطى للمساكين، والمسكين هو الذي لا يملك كفايته وكفاية من يعول، وقسم يعطى لابن السبيل، وابن السبيل هو المسافر الذي انقطعت به السبل، وباقي السهام الأربعة تقسم على الجيش ممن شهد الوقعة، يُعطى الراجل سهماً واحداً، ويُعطى الفارس ثلاثة أسهم، واحد له واثنان لفرسه، وأصل ذلك قول الله تبارك وتعالى: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل"، هذه الآية هي أصل هذا الذي ذكرناه، إذن الخمس الأول يؤخذ مما يُغنم في القتال، الخمس الثاني.
قال المؤلف رحمه الله:
وفي الركاز.
يجب أخذ الخمس فيما يُغنم في القتال، ويجب أيضاً في الركاز ، الركاز دفن الجاهلية سواءً كان ذهباً أو فضةً أو نحاساً أو حديداً أو غير ذلك، على ظاهر قول النبي
صلى الله عليه وسلم: "وفي الركاز الخمس" وهو متفق عليه، ودفن الجاهلية كيف يُعرف ؟، يُعرف إما بكتابة أسمائهم عليه، أو لهم نقوش معينة تكون منقوشة عليه، أو صور وعلامات لهم، أما إن كان عليه علامات المسلمين فهذا لا يعتبر ركازاً بل يدخل في حكم اللقطة وهذه سيأتي حكمها منفصلاً إن شاء الله، فدفن الجاهلية هذا إذا أُخرج ففيه الخمس وهذا يسمى الركاز وسواء كان الذي وجده حراً أو عبداً أو امرأة أو صبياً أو ذمياً، الكل يجب أن يُخرج منه الخمس وسواء وجد منه في موات أرض المسلمين أي أرض هي لأهل الإسلام ولكنها ليست ملكاً لأحد، أو وُجد في أرض الحرب كله فيه الخمس، وأربعة أخماسه لمن وجده، قال الإمام مالك رحمه الله: الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا والذي سمعت أهل العلم يقولون، إن الركاز إنما هو دفن يوجد من دفن الجاهلية ما لم يُطلب بمال ولم يُتكلف فيه نفقة ولا كبير عمل ولا مؤنة، فأما ما طُلب بمال وتُكلف فيه كبير عمل فأصيب مرة وأخطأ مرة فليس بركاز، فالذهب الذي يُستخرج اليوم هذا غير داخل في حكمنا الذي نذكره بناءً على ما ذكر الإمام مالك رحمه الله، الذين يستخرجون الذهب الآن يتكلفون له تكاليف كبيرة وتارة تصيب معهم وتارات كثيرة لا تصيب معهم، ثم إن كثيراً من هذا الذهب هو عبارة عن دفن تركي والأتراك مسلمون فحكمه حكم اللقطة وليس حكم الركاز .
قال رحمه الله:
ولا يجب فيما عدا ذلك.
يعني الخمس إنما هو واجب في الأمرين اللذين ذكرناهما فقط ولا يجب فيما عدا ذلك.

قال رحمه الله:
ومصرفه مَنْ في قوله تعالى: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل".
يعني أين يُصرف الخمس، قال الخُمس يُصرف لهؤلاء، هذا خمس الغنيمة سلمنا به لأن الآية وردت فيه أصلاً، أما خمس الركاز ففيه خلاف، البعض قال هو مصرفه كمصرف خمس الغنيمة، والبعض قال لا، مصرفه مصرف الزكاة، وهذا ما ذهب إليه الإمام الشافعي رحمه الله، وأما مالك وأحمد وغيرهما فقالوا مصرف الركاز كمصرف الغنيمة تماماً، مصرف خمس الركاز كمصرف خمس الغنيمة تماماً، ولعل هذا هو الراجح والله أعلم.

بهذا نكون قد انتهينا من كتاب الخُمس، ندخل على كتاب جديد وهو كتاب الصيام.


قال رحمه الله:
كتاب الصيام.
الصيام في لغة العرب هو الإمساك.

قال النابغة الذبياني: خيل صيام وخيل غير صائمة *** تحت العَجاج وأخرى تعلك اللُّجَما.

الشاهد قوله: خيل صيام، أي ممسكة عن الاعتلاف، وقيل ممسكة عن السير، وقيل ممسكة عن الصهيل، أقوال، المهم أنها ممسكة فأصل الصيام هو الإمساك.

قال الله تبارك وتعالى إخباراً عن مريم: "إني نذرت للرحمن صوماً"، أي إمساكاً عن الكلام، قال أبو عبيد وهو من أئمة اللغة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير صائم، هذا أصل الاشتقاق اللغوي للكلمة.

أما في الشرع فما هو الصيام؟ التعبد لله بالإمساك عن المفَطّرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس هذا هو تعريفه.

التعبد لله:
إذاً لا بد أن يكون بنية القربة إلى الله تبارك وتعالى.
بالإمساك عن المفطرات
: كل المفطّرات يجب أن تمسك عنها ولا تقترفها من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، هذا تعريف الصيام، وأما حكمه.
فقال المؤلف رحمه الله
: يجب صيام رمضان.
وجوبه ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة.

أما الكتاب فقال الله تبارك وتعالى: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون"

كتب عليكم: أي فرض عليكم.

وقال سبحانه: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، وهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب.

وأما السنة فقال
صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس"، منها قال: "وصيام رمضان" متفق عليه.
وأيضاً في حديث الأعرابي عندما ذكر له النبي
صلى الله عليه وسلم قال: "صيام رمضان"، قال هل علي غيره؟ قال: "لا إلا ان تطّوع" وهو متفق عليه أيضاً.
وأما الإجماع فقال ابن قدامة في المغني: وأجمع المسلمون على وجوب صيام شهر رمضان.

وقال النووي في المجموع: إن صوم رمضان ركن وفرض بالإجماع.

وقال: ودلائل الكتاب والسنة والإجماع متظاهرة عليه وأجمعوا على أنه لا يجب غيره، أي لا يجب غير صيام رمضان بغض النظر عن مسألة النذر فالنذر في أصله ليس بواجب، لكن الشخص هو الذي أوجبه على نفسه.

أول ما فُرض من الصيام صيام يوم عاشوراء وكان صيام يوم عاشوراء واجباً على الصحيح وكان في السنة الثانية من الهجرة النبوية.

أخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كانوا يصومون عاشوراء قبل أن يُفرض رمضان وكان يوماً تستر فيه الكعبة فلما فَرض الله رمضان، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "من شاء أن يصومه فليصمه ومن شاء أن يتركه فليتركأي أن عاشوراء كان واجباً إلى أن فُرض صيام شهر رمضان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهو
صلى الله عليه وسلم لم يصم رمضان إلا تسع مرات، فإنه فرض في العام الثاني من الهجرة بعد أن صام يوم عاشوراء وأمر الناس بصيامه مرة واحدة فإنه قدم المدينة في شهر ربيع الأول من السنة الأولى وقد تقدم عاشوراء فلم يأمر ذلك العام بصيامه (يعني عاشوراء كان قد سبق)، فلما أهلّ العام الثاني أمر الناس بصيامه، وهل كان أمر إيجاب أم أمر استحباب؟ على قولين لأصحابنا (أي الحنابلة) وغيرهم، والصحيح أنه كان أمر إيجاب، ابتُدئ في أثناء النهار، لم يأمروا به من الليل (يعني فرض صيامه في أثناء النهار ما أمروا من الليل وبيتوا الصيام ثم بعد ذلك صاموا في النهار ،لا، جاءهم فرضه في أثناء النهار)، قال: فلما كان في أثناء الحول، في أثناء السنة رجب أو غيره فرض شهر رمضان.
هذا ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى.

وأول ما فُرض صيام شهر رمضان كان الناس مخيرين بين الصيام والإطعام لم يُفرض عليهم الصيام نفسه بل كانوا مخيرين بين أن تصوم او أن تُطعم ثم نُسخ الحكم وصار واجباً على القادر على الصيام أن يصوم شهر رمضان.

قال سلمة بن الأكوع: "كنا في رمضان في عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم من شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى بطعام مسكين، حتى نزلت "فمن شهد منكم الشهر فليصمه""، وفي رواية: "لما نزلت "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" كان من أراد منا ان يُفطر ويفتدي حتى نزلت هذه الآية التي بعدها فنسختها"، وهذا حديث متفق عليه.
إذن كانوا في البداية مخيرين من أراد أن يصوم صام، ومن أراد أن يترك له ذلك بشرط أن يفتدي ويُطعم مسكيناً عن كل يوم يفطره ثم بعد ذلك أنزل الله تبارك وتعالى: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، فصار صيام رمضان واجباً على الجميع وليس لأحد أن يفتدي.

قال المؤلف رحمه الله:
لرؤية هلاله من عدل.
يجب صيام رمضان لرؤية هلاله من عدل، فوقت بدء صيام رمضان دخول شهر رمضان، والشهر يدخل برؤية هلاله لقوله
صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، صوموا لرؤية الهلال وأفطروا لرؤية الهلال، والرؤية المقصودة هنا رؤية عينية، خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يخاطب فيه المتعلمين والمثقفين، كان يُخاطب كل أحد حتى البدوي الذي في الصحراء الذي يرعى الغنم كان يخاطبه صلى الله عليه وسلم، والشريعة عندما يضع ربنا تبارك وتعالى علامة من العلامات على الوجوب، على وجوب عبادة من العبادات يضع علامات واضحة يشترك الناس كلهم في معرفتها، البدوي الذي في الصحراء والمدني الذي في المدينة، فالرؤية التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم هنا هي رؤية عينية لم يأمرنا بالحساب ولم يأمرنا بالتدقيقات الفلكية هذه، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرؤية العينية حتى جاء في الحديث قال: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا"، إذن الاعتماد في رؤية الهلال يجب أن يكون على البصر، على العين إن رأيناه صُمنا، ما رأيناه أكملنا عدة الشهر ثلاثين يوماً كما جاء في الحديث الآخر، وقوله هنا: من عدل أي أنه يكفي في ثبوت رمضان إخبار عدل واحد مسلم عدل موثوق بدينه، يأتي ويُخبر ويقول أنا رأيت هلال رمضان، فإذا جاء شخص وأثبت هذا الشيء مباشرة يصوم الناس جميعاً على رؤيته وعلى خبره، ولا يشترط عدلان والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم، هل يشترط اثنان لرؤية الهلال أم واحد يكفي ، الصحيح أن واحداً يكفي، دليله حديث ابن عمر قال: "تراءى الناس الهلالأي اجتمعوا لرؤية الهلال "فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم لأني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه"، رواه أبو داود، إذن عمل النبي صلى الله عليه وسلم برؤية من؟ برؤية ابن عمر وهو واحد وعدل، انتهى وهذا ظاهر ودلالته واضحة إن شاء الله.
قال الترمذي رحمه الله: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم (قالوا تقبل شهادة رجل واحد في الصيام (أي في ثبوت شهر رمضان) وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد وقال النووي وهو الأصح.

قال المؤلف رحمه الله:
أو إكمال عدة شعبان.
إذن يجب صيام رمضان إما برؤية الهلال من عدل أو بإكمال عدة شعبان، الشهر العربي لا يكون إلا تسعة وعشرين أو ثلاثين يوماً فقط (الشهر العربي ما فيه واحد وثلاثون)، فإن لم نتمكن من رؤية هلال رمضان أكملنا عدة شعبان ثلاثين يوماً ثم صمنا، لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غُمَّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين" متفق عليه من حديث أبي هريرة، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غُّمَ عليكم (أي ستر وغطي بالغيم أو بغيره بحيث أنكم لا تستطيعون رؤية الهلال أو لم تروا الهلال) فأكملوا عدة الشهر ثلاثين، فالشهر يدخل إما برؤية الهلال أو بإكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً، والرؤية تثبت برؤية عدل واحد من المسلمين.

قال المؤلف رحمه الله:
ويصوم ثلاثين يوماً مالم يظهر هلال شوال قبل إكمالها.
أي انتهاء شهر رمضان يكون برؤية هلال شوال أو بإكمال رمضان ثلاثين يوماً، نفس المسألة إذا لم نر هلال شوال قبل ذلك، ودليله حديث ابن عمر: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غُمَّ عليكم فاقدروا لهوفي رواية: "فاقدروا ثلاثين"، وجميع العلماء على أن هلال شوال يُشترط له عدلان ولا يكفي واحد كما الحال في دخول شهر رمضان، إلا أبا ثور وبعض من وافقه على ما ذهب إليه لكن الجمهور والأغلب على أنه لا بد فيه من اثنين، أما أبو ثور وابن المنذر والشوكاني ذهبوا إلى انه أيضاً يضاأأي]يبواحد هاهنا يكفي قياساً على هلال رمضان، واحتج الجمهور بحديث أمير مكة الحارث بن حاطب قال: "عهد إلينا رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن نَنسُك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما" أخرجه أبو داود وغيره، فهذا الحديث يدل على أن الأصل في أمر الهلال شهادة عدلين وأن المدار فيه على شاهدي عدل ولكن نستثني منه هلال رمضان لحديث ابن عمر المتقدم فمنطوقه أقوى دلالة من مفهوم هذا الحديث فنقدمه عليه، حديث ابن عمر منطوقه يدل على أن الواحد العدل يُكتفى به في إثبات هلال رمضان وهذا وإن كان خالفه إلا أنه يُفهم منه مفهوماً (مفهوم المخالفة) أن الواحد لا يُكتفى به فالمنطوق يُقدم على المفهوم عند التعارض.
قال المصنف رحمه الله:
وإذا رآه أهل بلد لزم سائر البلاد الموافقة.
إذا رآه أهل بلد لزم سائر البلاد الموافقة، إذا رُئي في الأردن هنا لزم جميع دول الإسلام أن تصوم معنا وإذا رُئي في مصر لزم جميع البلاد أن تصوم معهم، هذا مقتضى كلام المؤلف رحمه الله، الأحاديث المتقدمة التي فيها الأمر بالصيام والفطر لرؤية الهلال تدل على ما ذكره المصنف، فقال: صوموا لرؤيته، الخطاب لأمة محمد
صلى الله عليه وسلم، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإذا رُئِيَ في أي بلاد فقد رُئِي إذاً يلزمنا أن نصوم وأن نفطر، والبعض خالف وقالوا لكل أهل بلد رؤيتها واستدل هؤلاء بحديث كُرَيب عند مسلم وغيره أنه استهل عليه هلال رمضان (أي رأى ودخل هلال رمضان وهو بالشام، كُرَيب كان هنا في بلاد الشام)، فدخل رمضان فرأى الهلال ليلة الجمعة (أي الخميس ليلاً هذه اسمها ليلة الجمعة فالليل يسبق النهار)، فقدم المدينة فأخبر بذلك ابن عباس، فقال ابن عباس: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، ثم قال هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففهم البعض من هذا الحديث أن ابن عباس قال: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أن كل بلاد تعمل برؤيتها ولا يلزمها أن تعمل برؤية البلاد الأخرى، لكن هذا الظاهر أنه استدلال من ابن عباس وليس هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم، والظاهر أنه يعني بقوله هكذا أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى قوله: فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، هذا الذي وردت فيه الأحاديث، أما الشطر الأول فلم يرد فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فحمل كلام ابن عباس في معرفة المرفوع من كلامه على المعنى الأول خطأ، لأن المعنى الثاني هو الذي وردت الأحاديث في تصديقه أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما المعنى الأول فلم يرد فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يبين ذلك، فحمل الكلام على ما هو موجود ومروي أولى من حمله على شيء محتمل، وإذا ثبت عندنا أن هذا اجتهاد من ابن عباس إذن فلا يكون محل دلالة، والصحيح هو الأخذ بظاهر الأحاديث المتقدمة صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، إذن يلزم كما قال المؤلف إذا رآه أهل بلد لزم سائر البلاد الموافقة.
نكتفي بهذا القدر إن شاء الله.