القائد الدميث إلى شرح الباعث الحثيث الجزء الرابع

القائد الدميث إلى شرح الباعث الحثيث الجزء الرابع

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .

أما بعد ؛

فهذا هو المجلس الرابع من مجالس شرح الباعث الحثيث .

بعد أن ذكر المؤلف أن البخاري ومسلما لم يشترطا إخراج كل ما عندهما من صحيح ، وذكر أن الصحيح في غير الصحيحين كثير ، بدأ رحمه الله يبين لنا مظان الصحيح ، أي الأماكن التي نظن أننا سنجد فيها الأحاديث الصحيحة في غير الصحيحين ، فقال رحمه الله - :

( وقد خرجت كتب كثيرة على الصحيحين، قد يوجد فيها زيادات مفيدة، وأسانيد جيدة، كصحيح أبي عوانة) وهو مستخرج أبي عوانة ، وأبو عوانة هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الإسفرايني ، مشهور بكنيته ، له مستخرج على صحيح مسلم ، وهو مطبوع ( وأبوي بكر الإسماعيلي، والبرقاني) أي أبو بكر الإسماعيلي وهو أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل مشهور بأبي بكر الإسماعيلي ، من تلاميذ ابن خزيمة ، له مستخرج على صحيح البخاري لم يطبع ، وأبو بكر البرقاني هو أحمد بن محمد بن أحمد الخوارزمي أبو بكر البرقاني ، من تلاميذ الدارقطني ومن تلاميذ أبي بكر الإسماعيلي الذي قبله ، له مستخرج على الصحيحين ، لم يطبع أيضا ( وأبي نعيم الأصبهاني ) هو أحمد بن عبد الله بن أحمد مشهور بأبي نعيم الأصبهاني ، صاحب كتاب " حلية الأولياء " له مستخرج على صحيح مسلم طبع بعضه ، وله مستخرج على صحيح البخاري لم يطبع (وغيرهم ) وكما ذكرنا فالمستخرجات كثيرة منها ما طبع ومنها ما لم يطبع .

تكلم المؤلف هنا على المستخرجات ، وهي : أن يأتي المصنف الذي يريد أن يؤلف مستخرجا ، إلى كتاب من كتب أهل الحديث المسندة ، فيخرج أحاديث هذا الكتاب نفسها ، بأسانيد له هو ، من غير طريق مؤلف الكتاب ، فيجتمع مع مؤلف الكتاب في شيخه أو شيخ شيخه فما فوق ، نوضح الصورة بطريقة أسهل :

على تقدير أنني ألفت كتابا جمعت فيه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، من طرق عن شيوخ مختلفين ، من هؤلاء الشيوخ شيخي الشيخ مقبل بن هادي الو ادعي ، فرويت عنه بعض الأحاديث ، وهو يرويها عن شيخه محمد أمين المصري .

فيأتي أحدكم يريد أن يؤلف مستخرجا على كتابي الذي ألفته ، بأسانيد له هو يصل بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فيأتي للحديث الأول مثلا ؛ فيجدني أرويه عن الشيخ مقبل عن شيخه محمد أمين المصري ، إلى آخره ، فيبحث لنفسه عن إسناد يصل فيه لشيخي أنا ، ولا يرويه من طريقي بل من طريق تلميذ آخر للشيخ مقبل يصل به إلى الشيخ مقبل ثم يكمل بنفس الإسناد والمتن الذي ذكرته أنا في كتابي ، ثم يروي جميع الأحاديث التي في كتابي على هذا النحو .

ولا يترك الوصول إلى شيخي إلا إذا لم يجد له إسنادا يوصله إلى شيخي ، وربما يبحث عن إسناد يوصله إلى شيخ شيخي ، وهكذا ، بل ربما ترك الحديث كله لأنه لم يجد له إسنادا عنده يصل فيه إلى شيخي أو شيخ شيخي أو من فوقه ، وربما رواه من طريقي لأنه لم يجد له غير هذه الطريق مثلا ، هذه صورة المستخرج .

فإذا أراد أحد ممن أتى بعد البخاري - رحمه الله - أن يؤلف مستخرجا على صحيح البخاري ، يلزمه أن يسوق الأحاديث التي في صحيح البخاري بأسانيد له هو يصل بها إلى شيوخ البخاري أو من فوقهم .

وهذه المستخرجات وإن كان شرطهم أن يرووا نفس الأسانيد ونفس المتون ؛ إلا أنهم أحيانا قد تقع لهم زيادات مفيدة ، أي زيادات في طرق الأسانيد ، وزيادات في المتون ، فتكون بعض الألفاظ زائدة في المتن ، وأحيانا يروي متنا كاملا زيادة على الكتاب الذي استخرج عليه .

وقد نأخذ بهذه الزيادات إذا كانت صحيحة وليست موجودة في الصحيحين ، ولكن لا بد أن نكون على حذر ؛ لأن الحديث إذا كان أصله في الصحيحين ورواه أصحاب المستخرجات أو غيرهم من أصحاب الكتب وزادوا فيها زيادات ، في الغالب تكون هذه الزيادات غير صحيحة ،ولعدم صحتها أعرض عنها أصحاب الكتب الصحيحة ، لكن كما قال المؤلف رحمه الله ربما تجد فيها بعض الصحيح .

والمستخرجات ليست خاصة بالصحيحين ، فهناك مستخرجات على الصحيحين وهناك مستخرجات على غير الصحيحين .

قال المؤلف :

( وكتب أخر التزم أصحابها صحتها ) أي وتجد الصحيح أيضا في كتب أخرى التزم أصحابها صحتها (كابن خزيمة ) أي كصحيح ابن خزيمة وهو مطبوع وأصل الكتاب لم يوجد كاملا ، بل وجد بعضه وطبع ( وابن حبان البستي ) أي صحيح ابن حبان ، وقد طبع كاملا ( وهما خير من المستدرك بكثير) أي مستدرك الحاكم ( وأنظف أسانيد ومتوناً) أي أن أصحاب الكتب الثلاثة هذه - صحيح ابن خزيمة وصحيح ابن حبان و المستدرك اشترطوا الصحة ، أي أن لا يخرجوا في كتبهم هذه إلا ما صح من الأحاديث ، لكن لا يعني هذا أن كل ما أودعوه في كتبهم صار صحيحا ؛ لأن ابن حبان والحاكم وكذلك ابن خزيمة عندهم تساهل في تصحيح الأحاديث ؛ والسبب في تساهلهم إما في أصل شرط الصحة ، أو في الحكم على الحديث بالصحة ، فليس كل ما في هذه الكتب الثلاثة صحيح ، ففيها الصحيح وفيها الضعيف ، لكنك تجد جملة لا بأس بها من الأحاديث الصحيحة .

قال :

( وكذلك يوجد في مسند الإمام أحمد من الأسانيد والمتون شيء كثير مما يوازي كثيراً من أحاديث مسلم، بل والبخاري أيضاً) أي تجد في مسند الإمام أحمد أسانيد ومتون كثيرة هي صحيحة قوية بل بعضها بقوة الأحاديث التي عند مسلم ، وبعضها بقوة الأحاديث التي عند البخاري ( وليست عندهما ) أي هذه الأحاديث التي في مسند أحمد وهي صحيحة قوية ، ليست في صحيح البخاري ولا في صحيح مسلم ( ولا عند أحدهما، بل ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الأربعة، وهم: أبو داود) سليمان بن الأشعث السجستاني توفي سنة 275 هـ ( والترمذي) محمد بن عيسى بن سورة الترمذي توفي سنة 279 هـ ( والنسائي) أحمد بن شعيب بن علي المشهور بالنَّسائي توفي سنة 303 هـ ( وابن ماجة) محمد بن يزيد القزويني توفي سنة 273 هـ ، هؤلاء هم أصحاب الكتب الأربعة التي تسمى السنن الأربعة ، أما أصحاب الكتب الستة ، فهؤلاء مع البخاري ومسلم .

وهذه الكتب الأربعة فيها من الصحيح الشيء الكثير ؛ لكن لا يطلق على كتاب أنه صحيح مطلقا إلا على البخاري ومسلم ، أما غيرهما من الكتب فيوجد فيها الصحيح وغيره .

( وكذلك يوجد في معجم الطبراني الكبير والأوسط ) أي كذلك يوجد أحاديث صحيحة في معجم الطبراني الكبير والأوسط ، والطبراني هو سليمان بن أحمد الشامي الطبراني ، توفي سنة 360هـ ، وكان حافظا كبيرا رحمه الله ، وله ثلاثة معاجم ؛ معجم الطبراني الكبير ، و الأوسط ، والصغير ، وكما قال المؤلف رحمه الله يوجد فيها من الأحاديث الصحيحة شيء لا بأس به

والمعجم : هو الكتاب الذي تجمع فيه الأحاديث على ترتيب الصحابة أو الشيوخ ، والغالب أن يكون الترتيب على حروف الهجاء ( ومسند أبي يعلى ) أي وتجد الصحيح في مسند أبي يعلى الموصلي أحمد بن علي بن المثنى توفي سنة 307 رحمه الله ، وكتابه المسند مطبوع ( والبزار ) هو أحمد بن عمرو بن عبد الخالق أبو بكر البزار توفي سنة 292 هـ وكتابه المسند مطبوع ( وغير ذلك من المسانيد) وتجد الصحيح في غير ذلك من المسانيد ، و المسانيد جمع مسند ، والمسند الكتاب الذي جمع فيه مؤلفه مرويات كل صحابي على حدة ، فمثلا أخذ أحاديث أبي هريرة وجعلها على حدة ، وأخذ أحاديث ابن عمر وجعلها على حدة وهكذا ( والمعاجم والفوائد ) هي الكتب التي جمع فيها مؤلفوها أحاديثهم الغرائب ، مثل فوائد تمام وفوائد أبي الشيخ الأصبهاني ( والأجزاء ) جمع جزء ، والجزء الحديثي هو ما أفرده مؤلفه في مسألة واحدة أو ما رواه عن راو واحد ، كجزء رفع اليدين للبخاري مثلا ، فقد أفردت فيه مسألة رفع اليدين ، وجزء البغوي ، أفردت فيه أحاديث البغوي ؛ وهكذا ، وهذه الكتب المعاجم و المسانيد والفوائد والأجزاء ؛ من النادر أن تجد فيها حديثا صحيحا لا يوجد في الكتب المشهورة . ( ما يتمكن المتبحر في هذا الشأن من الحكم بصحة كثير منه) أي أن من تمكن من علم الحديث يستطيع أن يستخرج من هذه الكتب أحاديث صحيحة لا بأس بها (بعد النظر في حال رجاله، وسلامته من التعليل المفسد . ويجوز له الإقدام على ذلك)يعني أنه يجوز للعالم الذي تمكن من علم الحديث أن يقدم على تصحيح الأحاديث وتضعيفها ( وإن لم ينص على صحته حافظ قبله موافقة للشيخ أبي زكريا يحيى النووي، وخلافاً للشيخ أبي عمرو.) فليس من شرطه ألا يحكم على حديث من الأحاديث بالصحة أو الضعف إلا أن يسبق من قبل عالم قبله ، وقد ذهب لكون هذا شرطا ابن الصلاح رحمه الله ؛ فقال يتعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد ، فكأنه أغلق باب الاجتهاد في هذه المسألة .

ولكن العلماء ردوا عليه قوله هذا ، الإمام النووي رحمه الله لم يقبل هذا القول ورد عليه ، فالحافظ ابن كثير رحمه الله رجح ما ذهب إليه جمهور العلماء ، وقال أهل العلم : لا سلف لابن الصلاح في ذلك ، وعمل العلماء على خلاف ذلك ، ولا دليل له على قوله ، ولا يخلو عصر من العصور من مجتهد في علم الحديث وفي غيره .

فإذن قول ابن الصلاح قول مردود عليه ، ويجوز الاجتهاد في تصحيح الأحاديث وتضعيفها ؛ وإن لم يسبق المجتهد بقول حافظ من الذين سبقوه ، هذا هو الصحيح في المسألة ؛ لكن شرطه أن يكون متمكنا في هذا العلم .

( وقد جمع الشيخ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي في ذلك كتاباً سماه " المختارة " ولم يتم) جمع الشيخ ضياء الدين المقدسي في الأحاديث الصحيحة كتابا سماه المختارة لكنه لم يكمله تأليفا ( كان بعض الحفاظ من مشايخنا يرجحه على مستدرك الحاكم. والله أعلم ) والمقصود بقول ابن كثير " من مشايخنا " ؛ هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، وكلام ابن تيمية موجود في " مجموع الفتاوى " ( 1 / 256 ) ، وقد رجح شيخ الإسلام كتاب المختارة لضياء الدين المقدسي على مستدرك الحاكم ، ولا شك أن الأحاديث الصحيحة في كتاب المختارة أنظف وأصح من الأحاديث التي في " مستدرك " الحاكم ، ولا يعني هذا أن كل ما في المختارة صحيح ، بل فيه أحاديث ضعيفة .

(وقد تكلم الشيخ أبو عمرو بن الصلاح على الحاكم في مستدركه فقال: وهو واسع الخطو في شرط الصحيح، متساهل بالقضاء به ) أي متساهل في الحكم على الأحاديث بالصحة ، وشروط الصحة عنده واسعة.

( فالأولى أن يتوسط في أمره ، فما لم نجد فيه تصحيحاً لغيره من الأئمة، فإن لم يكن صحيحاً، فهو حسن يحتج به إلا أن تظهر فيه علة توجب ضعفه) مقتضى كلام ابن الصلاح هنا ؛ بما أننا قلنا بعدم جواز الاجتهاد في العصور المتأخرة ، فماذا نفعل مع الحاكم وهو متساهل في التصحيح ، قال ننظر إلى عالم من علماء الحديث غير الحاكم هل صحح هذا الحديث الذي نبحث عن صحته أم لا ، فإن لم نجد شيئا ؛ ننزل بمرتبة الحديث من الصحيح إلى الحسن ، إلا أن تظهر فيه علة توجب ضعفه .

أقول : وكيف ستظهر العلة إلا أن يكون العالم عالما بعلم الحديث ، ويستطيع أن يرجح المعلول من غير المعلول ، ومعنى ذلك أنه إذا رجح فقد ضعف ، فالنتيجة أنه سيجتهد ؛ لذلك فالصحيح في ذلك كله أن الحاكم لا يعتمد على تصحيحه لتساهله ، والأحاديث التي أخرجها في كتابه ينظر في أسانيدها ، وهل هي معللة أم لا ، ويحكم عليها بما تستحقه من الصحة أو الضعف ، هذا هو الراجح .

( قلت ) أي ابن كثير رحمه الله ( في هذا الكتاب ) أي في المستدرك ( أنواع من الحديث كثيرة ) منه الصحيح ومنه الحسن ومنه الضعيف ومنه الموضوع ( فيه الصحيح المستدرك ) أي الصحيح الذي توفرت فيه شروط الصحيحين أو أحدهما ، وكان استدراكه صحيحا وفي محله ( وهو قليل ، وفيه صحيح قد خرجه البخاري ومسلم أو أحدهما لم يعلم به الحاكم ) وقد وضعه وهما ، أخرجه عنده وظن أنه لم يخرج في البخاري ولا في مسلم (وفيه الحسن والضعيف والموضوع أيضا ) هذا التحقيق في موضوع المستدرك .

إذن لابد من البحث في أحاديثه والحكم عليها .

( وقد اختصره شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي ) الإمام المعروف صاحب " سير أعلام النبلاء" ( وبين هذا كله ) بين الضعيف والحسن والموضوع ( وجمع منه جزء كبيرا مما وقع فيه من الموضوعات ، وذلك يقارب مائة حديث ، والله أعلم )

قال المؤلف رحمه الله - :

( تنبيه : قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله - : " لا أعلم كتابا في العلم أكثر صوابا من كتاب مالك " ؛ إنما قاله قبل البخاري ومسلم ) هنا أورد البعض على ترجيح البخاري ومسلم على بقية الكتب ؛ كلام الشافعي في ترجيح موطأ مالك ، فقال العلماء ردا على هذا القول :

إنما قاله قبل البخاري ومسلم ، فالإمام الشافعي رحمه الله متقدم عن البخاري ومسلم ، بل هو شيخ البخاري ، فقال هذا الكلام قبل أن يؤلف البخاري ومسلم كتابيهما .

قال :

( وقد كانت كتب كثيرة مصنفة في ذلك الوقت في السنن ) أي أن هذا الكلام قاله مقارنة بتلك الكتب التي كانت مؤلفة في ذلك الوقت ، وليس مقارنة بالبخاري ومسلم ، فقد كانت هناك كتب مصنفة في ذلك الوقت غير البخاري ومسلم ، كالسن (لابن جريج وأبن إسحاق ، وهو غير السيرة )، فلابن إسحاق كتاب السنن وكتاب السيرة ، (و ) كذلك ( لأبي قرة موسى بن طارق الزبيدي ، ومصنف عبد الرزاق بن همام ، وغير ذلك ) فهناك مصنفات كثيرة موجودة عندما قال الإمام الشافعي ذلك الكلام ؛ فموطأ مالك أصح وأكثر صوابا من مثل هذه الكتب المذكورة هنا.

( وكان كتاب مالك، وهو " الموطأ " ، أجلها وأعظمها نفعاً، وإن كان بعضها أكبر حجماً منه وأكثر أحاديث) فمن حيث الحجم كان بعضها أكبر من موطأ الإمام مالك ، لكن من حيث الصحة والعظمة ؛ فكتاب مالك أصح وأجود (وقد طلب المنصور ) وهو الخليفة العباسي ( من الإمام مالك ) صاحب الموطأ إمام دار الهجرة ( أن

يجمع الناس على كتابه ) أي أن يجعل كتابه هذا هو الكتاب المعتمد ، ويلغي غيره ( فلم يجبه إلى ذلك) لم يقبل مالك رحمه الله ( وذلك من تمام علمه واتصافه بالإنصاف ) وهو كذلك لا شك ، وهذا دليل على إيثاره للسنة وتعظيمه لها وحرصه عليها رحمه الله - ( وقال: " إن الناس قد جمعوا واطلعوا على أشياء لم نطلع عليها " ) هكذا يكون الذي يحب السنة ويعظمها ويخاف ضياعها ( وقد اعتنى الناس بكتابه " الموطأ " ، وعلقوا عليه كتباً جمة. ومن أجود ذلك كتابا " التمهيد " ، و " الاستذكار " ، للشيخ أبي عمر بن عبد البر النمري القرطبي، رحمه الله ) شرح ابن عبد البر كتاب الموطأ في كتابيه " التمهيد " شرح فيه الأحاديث المرفوعة ، و " والاستذكار " وقد شرح فيه الأحاديث الموقوفة ، وأجاد رحمه الله فشرحه كان شرحا نفيسا نافعا ، وهناك كتب أخرى كتبت على الموطأ ؛ منها ما ألف في رجال الموطأ ، ومنها ما ألف في شرح الموطأ .

( هذا مع ما فيه من الأحاديث المتصلة الصحيحة ) هذه أنواع الأحاديث الموجودة في موطأ مالك ؛ منها أحاديث متصلة صحيحة ،( والمرسلة ) ومنها أحاديث مرسلة ، ( والمنقطعة) ومنها أحاديث منقطعة ، ( والبلاغات ) ومنها بلاغات ؛ أي قال فيها الإمام مالك بلغني عن فلان ، ولم يذكر إسنادا ( التي لا تكاد توجد مسندة إلا على ندور ) أي لا تكاد توجد في موضع آخر مسندة إلا ما ندر ، هذا ما يتعلق بموطأ مالك ، لكن لا شك أن فيه بعض الأحاديث الصحيحة وإن كان الغالب أن الأحاديث الصحيحة التي فيه وجاءت مسندة قد أخرجها البخاري ومسلم في صحيحيهما .

قال :

( وكان الحاكم أبو عبد الله ) النيسابوري صاحب المستدرك ( والخطيب البغدادي ) صاحب تاريخ بغداد ( يسميان كتاب الترمذي: " الجامع الصحيح " وهذا تساهل منهما) ولا شك ( فإن فيه أحاديث كثيرة منكرة) بل فيه أحاديث ضعيفة هو نفسه يضعفها ، ويحكم على بعضها بالنكارة وعلى بعضها بالضعف ، فلا يصح أن يوصف هذا الوصف ، فصاحبه نفسه ما أراد للكتاب أن يكون على هذه الصفة وقد أدخل فيه الأحاديث الضعيفة والأحاديث المنكرة ( وقول الحافظ أبي علي بن السكن، وكذا الخطيب البغدادي في كتاب السنن للنسائي: إنه صحيح، فيه نظر ) أي أنه كلام غير صحيح إذ يوجد فيه أحاديث صحيحة ويوجد فيه أحاديث ضعيفة ، ففيه أحاديث يرويها بأسانيد فيها مجاهيل .

وإن كان من حيث الترتيب ؛ أعتبره أصح من بقية السنن؛ من سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه ، فتأتي سنن النسائي ثم سنن أبي داود ثم جامع الترمذي ثم سنن ابن ماجه ، هذا ترتيبها من حيث الصحة عندي ، طبعا هذا كله بعد الصحيحين ؛ لكن أن توصف بالصحة مطلقا هي أو بقية السنن ؛ فلا ، الصحة حقيقة لا يصح إطلاقها بمعناها إلا على صحيح البخاري وصحيح مسلم .

قال :

( وأن له شرطاً في الرجال أشد من شرط مسلم غير مسلَّم ) هذا كلام قاله بعض أهل العلم ، وهنا المؤلف يقول إنه كلام غير مسلم ؛ بل شرط مسلم أقوى من شرط النسائي وخصوصا في توثيق الرجال ، فالنسائي يتساهل في التخريج للمجهولين ( فإن فيه رجالاً مجهولين: إما عيناً أو حالاً ) وهذا أمر معروف في كتاب النسائي ومن اشتغل به عرف هذا في كتابه ، فهو يدخل أحاديث في أسانيدها رجال مجهولون .

ومجهول العين ؛ هو الراوي الذي لم يرو عنه إلا راو واحد ، ولم يوثقه عالم معتبر .

ومجهول الحال ؛ هو الراوي الذي روى عنه راويان ولم يوثقه عالم معتبر في التوثيق .

( وفيهم المجروح ) أي ويخرج أيضا لبعض الرواة المجروحين (وفيه ) أي سنن النسائي ( أحاديث ضعيفة ومعللة ومنكرة، كما نبهنا عليه في " الأحكام الكبير " ) وهو كتاب لابن كثير لا يعلم عنه شيء .

قال رحمه الله - :

وأما قول الحافظ أبي موسى محمد بن أبي بكر المديني عن مسند الإمام أحمد: إنه صحيح: فقول ضعيف، فإن فيه أحاديث ضعيفة، بل وموضوعة، كأحاديث فضائل مرو، و شهداء عسقلان، والبرث الأحمر عند حمص، وغير ذلك، كما نبه عليه طائفة من الحفاظ ) المراد بالمسند هنا ؛ هو جمع أحاديث كل صحابي حدة والتي أضيفت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بسند ظاهره الاتصال ، ومسند الإمام أحمد من هذا القبيل ، جمع الإمام أحمد أسانيد كل صحابي على حدة بأسانيده التي ظاهرها الاتصال .

وهل كل ما أودعه الإمام أحمد في مسنده صحيح ؟

هنا محل الخلاف ؛ والصحيح أنه ليس كل ما في مسند الإمام أحمد صحيحا ؛ بل فيه الأحاديث الصحيحة والضعيفة والموضوعة ، كما قال ابن كثير رحمه الله .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - : " إن كان المراد بالموضوع من في سنده كذاب ؛ فليس في المسند من ذلك شيء ؛ وإن كان المراد ما لم يقله النبي لغلط راويه أو سوء حفظه ؛ ففي المسند والسنن من ذلك الشيء الكثير " . انتهى

ومسند الإمام أحمد حقيقة مؤلف نفيس ؛ فال فيه الحافظ ابن حجر رحمه الله - " هذا المصنف العظيم الذي تلقته الأمة بالقبول والتكريم ، وجعله إمامهم حجة يرجع إليه ويعول عند الاختلاف عليه " .

قال رحمه الله - :

( ثم إن الإمام أحمد قد فاته في كتابه هذا - مع أنه لا يوازيه كتاب مسند في كثرته وحسن سياقته - أحاديث كثيرة جدا ) لا شك أن مسند الإمام أحمد ليس جامعا لجميع الأحاديث ، لكن فيه عدد كثير من الأحاديث (بل قد قيل إنه لم يقع له جماعة من الصحابة الذين في الصحيحين قريباً من مائتين) قال الشيخ أحمد شاكر :هذا غلو كثير . انتهى. أي ليس لهذه الدرجة ؛ نعم فاتته بعض الأحاديث لكن ليس بالشكل الذي ذكر .

ثم قال المؤلف رحمه الله - :

( وهكذا قول الحافظ أبي طاهر السلفي في الأصول الخمسة، يعني البخاري ومسلماً وسنن أبي داود والترمذي والنسائي: إنه اتفق على صحتها علماء المشرق والمغرب: تساهل منه. وقد أنكره ابن الصلاح وغيره) أي الكلام هذا غير مسلم ، وهو أن يكون كل ما في هذه الكتب الخمسة صحيحا ، قالوا نعم إن أراد أن أصول ما في هذه الكتب صحيح ؛ فيسلم له هذا ، أما كل ما فيها صحيح ؛ فهذا الذي لا يسلم (قال ابن الصلاح: وهي مع ذلك أعلى رتبة من كتب المسانيد. كمسند عبد بن حُميد، والدارمي، وأحمد بن حنبل، وأبي يعلى، والبزار، وأبي داود الطيالسي، والحسن بن سفيان، وإسحاق بن راهويه، وعبيد الله بن موسى، وغيرهم ) أي هذه الأصول الخمسة أصح من غيرها من كتب الحديث ، وخصوصا المسانيد . والفرق بين السنن و المسانيد ؛

أن السنن تؤلف على الأبواب الفقهية ، ويخرج صاحبها أصح ما يجد من حديث في الباب الذي يريد أن يذكره ، فمثلا يذكر باب دخول الخلاء ، ينتقي أصح ما عنده في باب دخول الخلاء ويذكره بغض النظر عن كون الحديث صحيحا أو ضعيفا ، فقد يكون ضعيفا ولكنه أحسن ما في هذا الباب .

أما في المسانيد ، فلا يعتبرون هذا الشرط بل يخرجون كل حديث وجد عندهم من مسند صحابي معين ، بغض النظر عن حال هذا الحديث .

لذلك كانت السنن أقوى من المسانيد .

قال هنا :

( فإنهم يذكرون عن كل صحابي ما يقع لهم من حديثه ) أي أصحاب المسانيد بخلاف أصحاب السنن ؛ فهم يعتبرون شيئا من معنى الصحة ، أما أصحاب المسانيد فلا يعتبرون ذلك . والله أعلم