تفسير سورة يوسف 105-111
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)﴾
{وَكَأَيِّنْ} وكم {مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} وذلك كالشمس والقمر والنجوم، ونحو ذلك من آيات السماوات، وكالجبال والبحار والنبات والأشجار، وغير ذلك من آياتِ الأَرضِ {يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} دالة لهم على توحيد الله {وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} لا يلتفتون إليها، ولا يعتبرون بها.
أي وكثيرة هي الآيات الدالة على توحيده سبحانه مبثوثة في السماوات وفي الأرض، يمرون عليها وهم عن التأمل فيها والاعتبار بها معرضون لا يلتفتون إليها.
﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)﴾
{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ} أكثر الناس {بِاللَّهِ} بأنه الخالق الرزاق المحيي المميت {إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} بعبادتهم غيره.
قال الطبري رحمه الله: يقول تعالى ذكره: وما يُقِرُّ أكثر هؤلاء - الذين وصف عز وجل صفتهم بقوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} بالله أنه خالقه ورازقه وخالقُ كلِّ شيءٍ، إلا وهم به مشركون في عبادتهم الأوثان والأصنام، واتخاذهم مِن دونه أربابًا، وزعمِهم أن له ولدًا، تعالى الله عما يقولون عُلوًّا كبيرًا".
ثم ذكر أقوال أئمة السلف بهذا المعنى، ومنها قول مجاهد: "إيمانهم قولهم: "الله خالقنا، ويرزقنا ويميتُنا" فهذا إيمان، مع شركِ عبادتِهم غيرَه". انتهى
﴿أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)﴾
{أَفَأَمِنُوا} أفأمن هؤلاء المشركون {أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ} عقوبة من عذاب الله {أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} أي: فجأة {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} وهم لا يحسون بإتيانها فيستعدوا لها، فلذلك لم يؤمنوا؟!
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)﴾
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} للناس {هَذِهِ} الدعوة التي أَدْعُو إليها، والطريقة التي أنا عليها من الدعوة إلى توحيدِ اللهِ، وإخلاص العبادة له، وطاعة الله وترك معصيته {سَبِيلِي} طريقي {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} أي: أحث الناس وآمرهم بطاعة الله {عَلَى بَصِيرَةٍ} أي: على علم ويقين بذلك.
قال السمعاني: "أي: على يَقِين، والبصيرة هِيَ الْمعرفَة الَّتِي يُمَيَّز بهَا بَين الْحق وَالْبَاطِل". انتهى
{أَنَا وَ} كذلك يَدْعُو إليه على بصيرة أيضًا {مَنِ اتَّبَعَنِي} من صدقني وآمن بي، وسار على طريقتي {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} وأنزه الله عن كل ما لا يليق بجلاله {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ولست من المشركين، بل أنا من الموحدين المخلصين لله.
قال الطبري: "{وَسُبْحَانَ اللَّهِ} يقول له تعالى ذكره: وقل: تنزيها لله وتعظيما له من أن يكون له شريكٌ في ملكه، أو معبودٌ سواه في سلطانه، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} يقول: وأنا برئ من أهل الشرك به، لستُ منهم ولا هم مني". انتهى
قال الشنقيطي: فدل على أن الداعي إلى الله لا بد أن يكون على بصيرة، وهي الدليل الواضح الذي لا لبس في الحق معه، وينبغي أن تكون دعوته إلى الله بالحكمة، وحسن الأسلوب، واللطافة مع إيضاح الحق؛ لقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} الآية". انتهى
ومن هنا يظهر لنا ضلال بعض الجماعات التي اتخذت من الدعوة بجهل منهجا لها، فخالفت بذلك طريقة النبي صلى الله عليه وسلم، فضلت وأضلت.
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)﴾
ثم قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} يا محمد من الرسل {إِلا رِجَالا} لا نساءً، ولا ملائكةً {نُوحِي إِلَيْهِمْ} آياتنا {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} من أهل المدن لا من أهل البوادي، فكذبتهم أممهم فأهلكناها.
لماذا كان الأنبياء والرسل من أهل المدن لا من أهل البوادي؟
قال قتادة: "لأنهم كانوا أعلمَ وأحلمَ مِن أهل العَمُود". انتهى
يعني بأهل العمود أهل الخيم، أي البدو.
ويستفاد من الآية أن الأنبياء والرسل ليس فيهم امرأة.
قال ابن كثير: "يخبر تعالى أنه إنما أرسلَ رسُلَه من الرجال لا من النساء، وهذا قول جمهور العلماء، كما دل عليه سياق هذه الآية الكريمة: أن الله تعالى لم يُوحِ إلى امرأة من بنات بني آدم وَحي تشريع..".
وقال: "الذي عليه أئمة أهل السنة والجماعة، وهو الذي نقله الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عنهم: أنه ليس في النساء نبية، وإنما فيهن صِدِّيقات". انتهى
هذا القول هو الصحيح: الأنبياء والرسل من الرجال فقط لظاهر هذه الآية، وعدم وجود دليل صحيح صريح يخالف ظاهرها. والله أعلم
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا} أفلم يَسِرْ هؤلاء المكذبون بك {فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا} فيتأملوا {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ} نهايةُ {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} مِن مكذبي الرسل، كيف أهلكهم الله بتكذيبهم، فاحذروا أن تفعلوا فعلهم، فَيُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ {وَلَدَارُ الآخِرَةِ} أي: الجنة وما فيها من النعيم {خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} عذاب الله بطاعته، قال السعدي: "فإن نعيم الدنيا منغص منكد، منقطع، ونعيم الآخرة تام كامل، لا يفنى أبدا، بل هو على الدوام في تزايد وتواصل، {عطاء غير مجذوذ}" {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أفلا تعقلون أن ذلك خيرٌ؛ فتتقوا الله بامتثال أوامره، وأعظمها الإيمان، وباجتناب نواهيه، وأكبرها الشرك بالله.
﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)﴾
{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ} يئس {الرُّسُلُ} أي رسل الله يئسوا من أممهم أن يؤمنوا {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} أَي ظَنَّ الْأُمَمُ الذين أرسل إليهم الرسل؛ أَنَّ الرُّسُلَ قد كَذبُوا عليهم بأن الله وعدهم بالنصر عليهم.
قال الطبري: "{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} الذين أرسلناهم إليهم؛ منهم أن يُؤْمِنُوا بالله، ويُصَدِّقُوهم فيما أتوهم به من عندِ اللهِ، وظنَّ الذين أرسلناهم إليهم من الأمم المكذبةِ، أن الرسل الذين أرسلناهم قد كَذَبُوهم فيما كانوا أخبروهم عن الله مِن وعده إياهم نصرَهم عليهم؛ {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا}".
ثم ذكر من قال بقوله من السلف.
وذكر القول الآخر، وهو قول باطل لا ينظر إليه، حتى لو كان الأنبياء والرسل بشرا، فإنما يحصل ذاك الظن ممن ضعف إيمانه، لا ممن عظم وقوي إيمانه كإيمان الأنبياء والرسل.
{جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} جاء نصر الله لرسله {فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} فينجي الله الرسل والمؤمنين من الهلاك الواقع على المكذبين {وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} ولا يرد عذابنا عن القوم المجرمين الذين كفروا وعصوا أمر الله، عندما ننزله بهم.
﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)﴾
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ} أي: قصص الأنبياء والرسل مع قومهم، وقصص يوسف وإخوته {عِبْرَةٌ} موعظة {لأولِي الألْبَابِ} أي: لأصحاب العقول السليمة يتعظون بها.
{مَا كَانَ} ما كان القرآن المشتمل على ذلك {حَدِيثًا يُفْتَرَى} من الكلام المكذوب على الله {وَلَكِنْ} كان {تصديقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} تصديقا للكتب السابقة التي أنزلها الله على رسله؛ كالتوراة والإنجيل، يُصَدِّقُ ذلك كلَّه ويَشْهَدُ عليه أن جميعَه حقٌّ من عند اللهِ {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} مما يحتاج إليه العباد من أمور الدين.
{وَهُدًى} من الضلال {وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} به، فهم الذين ينتفعون بما فيه.
ذكر بعض فوائد هذه السورة العظيمة ملخصا ومختصرا من كلام السعدي رحمه الله.
منها: أن فيها أصلا لتعبير الرؤيا، وأن علم التعبير من العلوم المهمة التي يعطيها الله من يشاء من عباده.
ومنها: ما فيها من الأدلة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قصَّ على قومه هذه القصة الطويلة، وهو لم يقرأ كتب الأولين ولا دارس أحدا، يراه قومه بين أظهرهم صباحا ومساء، وهو أمِّيٌّ لا يخط ولا يقرأ.
ومنها: أنه ينبغي البعد عن أسباب الشر، وكتمان ما تَخشى مضرته، لقول يعقوب ليوسف {يا بني لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا}.
ومنها: أنه يجوز ذكر الإنسان بما يكره على وجه النصيحة لغيره لقوله: {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا}.
ومنها: أن نعمة الله على العبد، نعمة على من يتعلق به من أهل بيته وأقاربه وأصحابه، وأنه ربما شملتهم، وحصل لهم ما حصل له بسببه، كما قال يعقوب في تفسيره لرؤيا يوسف {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} ولما تمت النعمة على يوسف، حصل لآل يعقوب من العز والتمكين في الأرض والسرور والغبطة ما حصل بسبب يوسف.
ومنها: الحذر من شؤم الذنوب، وأن الذنب الواحد يستتبع ذنوبا متعددة، ولا يتم لفاعله إلا بعدة جرائم، فإخوة يوسف لما أرادوا التفريق بينه وبين أبيه، احتالوا لذلك بأنواع من الحيل، وكذبوا عدة مرات، وزوروا على أبيهم في القميص والدم الذي فيه، وفي إتيانهم عشاء يبكون.
ومنها: ما منَّ الله به على يوسف عليه الصلاة والسلام من العلم والحلم، ومكارم الأخلاق، والدعوة إلى الله وإلى دينه، وعفوه عن إخوته الخاطئين عفوًا بادرهم به، وتمم ذلك بأن لا يثرب عليهم ولا يعيرهم به
ثم برُّه العظيم بأبويه، وإحسانه لإخوته، بل لعموم الخلق.
ومنها: أن بعض الشر أهون من بعض، وارتكاب أخف الضررين أولى من ارتكاب أعظمهما، فإن إخوة يوسف، لما اتفقوا على قتل يوسف أو إلقائه أرضا، وقال قائل منهم: {لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} كان قوله أحسن منهم وأخف، وبسببه خف عن إخوته الإثم الكبير.
ومنها: الحذر من الخلوة بالنساء اللاتي يخشى منهن الفتنة، والحذر أيضا من المحبة التي يخشى ضررها، فإن امرأة العزيز جرى منها ما جرى، بسبب توحّدها بيوسف، وحبها الشديد له، الذي ما تركها حتى راودته تلك المراودة، ثم كذبت عليه، فسجن بسببها مدة طويلة.
ومنها: أنه ينبغي للعبد إذا رأى محلا فيه فتنة وأسباب معصية، أن يفر منه ويهرب غاية ما يمكنه، ليتمكن من التخلص من المعصية، لأن يوسف عليه السلام -لما راودته التي هو في بيتها- فر هاربا، يطلب الباب ليتخلص من شرها.
ومنها: أن القرائن يعمل بها عند الاشتباه، فلو تخاصم رجل وامرأته في شيء من أواني الدار، فما يصلح للرجل فإنه للرجل، وما يصلح للمرأة فهو لها، إذا لم يكن بينة، وكذا لو تنازع نجار وحداد في آلة حرفتهما من غير بينة، والعمل بالقافة في الأشباه والأثر، من هذا الباب، فإن شاهد يوسف شهد بالقرينة، وحكم بها في قد القميص، واستدل بقدِّه من دبره على صدق يوسف وكذبها.
ومنها: ما عليه يوسف من الجمال الظاهر والباطن.
ومنها: أن يوسف عليه السلام اختار السجن على المعصية، فهكذا ينبغي للعبد إذا ابتلي بين أمرين - إما فعل معصية، وإما عقوبة دنيوية - أن يختار العقوبة الدنيوية على مواقعة الذنب الموجب للعقوبة الشديدة في الدنيا والآخرة، ولهذا من علامات الإيمان، أن يكره العبد أن يعود في الكفر، بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار.
ومنها: أنه ينبغي للعبد أن يلتجئ إلى الله، ويحتمي بحماه عند وجود أسباب المعصية، ويتبرأ من حوله وقوته، لقول يوسف عليه السلام: {وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.
ومنها: أنه يبدأ بالأهم فالأهم، وأنه إذا سئل المفتي، وكان السائل حاجته في غير سؤاله أشد أنه ينبغي له أن يعلمه ما يحتاج إليه قبل أن يجيب سؤاله، فإن هذا علامة على نصح المعلم وفطنته، وحسن إرشاده وتعليمه، فإن يوسف - لما سأله الفتيان عن الرؤيا - قدم لهما قبل تعبيرها دعوتهما إلى الله وحده لا شريك له.
ومنها: أن من وقع في مكروه وشدة، لا بأس أن يستعين بمن له قدرة على تخليصه، أو الإخبار بحاله، وأن هذا لا يكون شكوى للمخلوق، فإن هذا من الأمور العادية التي جرى العرف باستعانة الناس بعضهم ببعض، ولهذا قال يوسف للذي ظن أنه ناج من الفتيين: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}.
ومنها: أنه ينبغي للمسئول أن يدل السائل على أمر ينفعه مما يتعلق بسؤاله، ويرشده إلى الطريق التي ينتفع بها في دينه ودنياه، فإن هذا من كمال نصحه وفطنته، وحسن إرشاده، فإن يوسف عليه السلام لم يقتصر على تعبير رؤيا الملك، بل دلهم - مع ذلك - على ما يصنعون في تلك السنين المخصبات من كثرة الزرع، وكثرة جبايته.
ومنها: أنه لا يلام الإنسان على السعي في دفع التهمة عن نفسه، وطلب البراءة لها، بل يحمد على ذلك، كما امتنع يوسف عن الخروج من السجن حتى تتبين لهم براءته بحال النسوة اللاتي قطعن أيديهن.
ومنها: أن علم التعبير من العلوم الشرعية، وأنه يثاب الإنسانُ على تعلُمِه وتعليمه، وأن تعبير المُرائي داخل في الفتوى، لقوله للفتيين: {قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} وقال الملك: {أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ} وقال الفتى ليوسف: {أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ} الآيات، فلا يجوز الإقدام على تعبير الرؤيا من غير علم.
ومنها: أنه لا بأس أن يخبر الإنسان عما في نفسه من صفات الكمال من علم أو عمل، إذا كان في ذلك مصلحة، ولم يقصد به العبد الرياء، وسلم من الكذب، لقول يوسف: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}.
وكذلك لا تذم الوِلاية، إذا كان المتولي فيها يقوم بما يقدر عليه من حقوق الله وحقوق عباده، وأنه لا بأس بطلبها، إذا كان أعظم كفاءة من غيره، وإنما الذي يذم، إذا لم يكن فيه كفاية، أو كان موجودا غيره مثله، أو أعلى منه، أو لم يُرد بها إقامة أمر الله، فبهذه الأمور ينهى عن طلبها، والتعرض لها.
ومنها: مشروعية الضيافة، وأنها من سنن المرسلين، وإكرام الضيف لقول يوسف لإخوته {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزلِينَ}.
ومنها: أن سوء الظن مع وجود القرائن الدالة عليه غير ممنوع ولا محرم، فإن يعقوب قال لأولاده بعد ما امتنع من إرسال يوسف معهم حتى عالجوه أشد المعالجة، ثم قال لهم بعد ما أتوه، وزعموا أن الذئب أكله {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} وقال لهم في الأخ الآخر: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} ثم لما احتبسه يوسف عنده، وجاء إخوته لأبيهم قال لهم: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} فهم في الأخيرة - وإن لم يكونوا مفرطين - فقد جرى منهم ما أوجب لأبيهم أن قال ما قال، من غير إثم عليه ولا حرج.
ومنها: أن استعمال الأسباب الدافعة للعين أو غيرها من المكاره، أو الرافعة لها بعد نزولها، غير ممنوع، بل جائز، وإن كان لا يقع شيء إلا بقضاء وقدر، فإن الأسباب أيضا من القضاء والقدر، لأمر يعقوب حيث قال لبنيه: {يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ}.
ومنها: جواز استعمال المكايد التي يتوصل بها إلى الحقوق، وأن العلم بالطرق الخفية الموصلة إلى مقاصدها مما يحمد عليه العبد، وإنما الممنوع، التحيل على إسقاط واجب، أو فعل محرم.
ومنها: أنه ينبغي لمن أراد أن يوهم غيره بأمر لا يحب أن يطلع عليه، أن يستعمل المعاريض القولية والفعلية المانعة له من الكذب، كما فعل يوسف حيث ألقى الصُّواع في رحل أخيه، ثم استخرجها منه، موهما أنه سارق، وليس فيه إلا القرينة الموهمة لإخوته، وقال بعد ذلك: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} ولم يقل "من سرق متاعنا" وكذلك لم يقل "إنا وجدنا متاعنا عنده" بل أتى بكلام عام يصلح له ولغيره، وليس في ذلك محذور، وإنما فيه إيهام أنه سارق ليحصل المقصود الحاضر، وأنه يبقى عند أخيه وقد زال عن الأخ هذا الإيهام بعد ما تبينت الحال.
ومنها: أنه لا يجوز للإنسان أن يشهد إلا بما علمه، وتحققه إما بمشاهدة أو خبر من يثق به، وتطمئن إليه النفس لقولهم: {وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا}.
ومنها: أن الفرج مع الكرب؛ وأن مع العسر يسرا، فإنه لما طال الحزن على يعقوب واشتد به إلى أنهى ما يكون، ثم حصل الاضطرار لآل يعقوب ومسهم الضر، أذن الله حينئذ بالفرج، فحصل التلاقي في أشد الأوقات إليه حاجة واضطرارا، فتم بذلك الأجر وحصل السرور، وعلم من ذلك أن الله يبتلي أولياءه بالشدة والرخاء، والعسر واليسر ليمتحن صبرهم وشكرهم، ويزداد - بذلك - إيمانُهم ويقينُهم وعِرفانُهم.
ومنها: جواز إخبار الإنسان بما يجد، وما هو فيه من مرض أو فقر ونحوهما، على غير وجه التسخط، لأن إخوة يوسف قالوا: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} ولم ينكر عليهم يوسف.
ومنها: فضيلة التقوى والصبر، وأن كل خير في الدنيا والآخرة فمن آثار التقوى والصبر، وأن عاقبة أهلهما أحسن العواقب، لقوله: {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
ومنها: أنه ينبغي للعبد أن يتملق إلى الله دائما في تثبيت إيمانه، ويعمل الأسباب الموجبة لذلك، ويسأل الله حسن الخاتمة، وتمام النعمة لقول يوسف عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}
تم تفسير سورة يوسف. والحمد لله رب العالمين