تفسير سورة الأنفال (55-60)

تفسير سورة الأنفال (55-60)

{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55)}

{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ} إن شر ما دب على الأرض عند الله {الَّذِينَ كَفَرُوا} بربهم فجحدوا وحدانيته، وعبدوا غيره {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} برسل الله ولا يقرون بوحيه وتنزيله.

{الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)}

{الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ} يعني عاهدتهم، أي أخذت عهودهم ومواثيقهم أن لا يحاربوك ولا ينصروا عليك أحداً حاربك؛ كبني قريظة ومن كان مثلهم ممن كان بينك وبينهم عهد وعقد {ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ} ثم ينقضون عهودهم ومواثيقهم، كلما عاهدوا نقضوا العهد وحاربوك ونصروا أعداءك عليك، {وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} أي وهم لا يخافون من الله في شيء ارتكبوه من الآثام.

قال السعدي: هؤلاء الذين جمعوا هذه الخصال الثلاث: الكفر، وعدم الإيمان، والخيانة، بحيث لا يثبتون على عهد عاهدوه ولا قول قالوه، هم شر الدواب عند الله فهم شر من الحمير والكلاب وغيرها؛ لأن الخير معدوم منهم، والشر متوقع فيهم، فإذهاب هؤلاء ومحقهم هو المتعين، لئلا يسري داؤهم لغيرهم، ولهذا قال:

{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)}

{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} فإن تجدنهم {فِي الْحَرْبِ} أي إن أدركت هؤلاء الكفرة الخونة في الحرب وتمكنت منهم {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} أصل التشريد: التفريق والتبديد، معناه فرق بهم جمعَ كلِّ ناقض لعهده، أي: افعل بهؤلاء الذين نقضوا عهدك، وجاؤوا لحربك فعلاً؛ يخافك به مَن خلفهم أي يخافك غيرهم ممن يريد حربك من الكفار، فاقتلهم ونكل بهم كي يكونوا عبرة لغيرهم {لَعَلَّهُمْ} أي: لعل الذين خلفهم {يَذَّكَّرُونَ} يتعظون بما يقع لهؤلاء الناقضين من التعذيب فلا يفعلون فعلهم.
قال السعدي رحمه الله: وهذه من فوائد العقوبات والحدود المرتبة على المعاصي، أنها سبب لازدجار من لم يعمل المعاصي، بل وزجراً لمن عملها أن لا يعاودها
.

ودل تقييد هذه العقوبة في الحرب أن الكافر - ولو كان كثير الخيانة سريع الغدر - أنه إذا أُعْطِيَ عهداً لا يجوز خيانته وعقوبته. انتهى

{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)}

{وَإِمَّا تَخَافَنَّ} أي: وإذا كان بينك يا محمد وبين قوم عهد وميثاق على ترك القتال فخفت {مِنْ قَوْمٍ} من القوم الذين بينك وبينهم عهد {خِيَانَةً} نقضاً للعهد، بأن ظهر من قرائن أحوالهم ما يدل على خيانتهم من غير تصريح منهم بالخيانة {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} فاطرح وارم إليهم عهدهم {عَلَى سَوَاءٍ} يقول: أعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم، حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواء، فلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب معهم {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} الغادرين الذين يغدرون بمن عاهدوا.

قال السعدي رحمه الله: ودلت الآية على أنه إذا وجدت الخيانة المحققة منهم لم يحتج أن ينبذ إليهم عهدهم؛ لأنه لم يخف منهم، بل علم ذلك، ولعدم الفائدة، ولقوله: {عَلَى سَوَاءٍ} وهنا قد كان معلوماً عند الجميع غدرهم.

ودل مفهومها أيضاً أنه إذا لم يُخَفْ منهم خيانة، بأن لم يوجد منهم ما يدل على ذلك، أنه لا يجوز نبذ العهد إليهم، بل يجب الوفاء إلى أن تتم مدته. انتهى

{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)}

{وَلَا يَحْسَبَنَّ} ولا يظنن {الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا} أي: فاتوا من عذاب الله، وأفلتوا منه ونجَوا {إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ} إنهم لا يُفلتون من عذاب الله.

قال ابن كثير: ولا تحسبن يا محمد الذين كفروا سبقوا، أي فاتونا، فلا نقدر عليهم، بل هم تحت قهر قدرتنا، وفي قبضة مشيئتنا، فلا يعجزوننا. انتهى

{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)}

ثم أمر تعالى، بإعداد آلات الحرب لمقاتلتهم حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة، فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ} أي مهما أمكنكم، والإعداد: اتخاذ الشيء لوقت الحاجة {مِنْ قُوَّةٍ} أي: من الآلات التي تكون لكم قوة عليهم من الخيل والسلاح.

أخرج مسلم في صحيحه عن عُقْبَةَ بْن عَامِرٍ، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، يَقُولُ: " {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ ".

قال أهل العلم: والقوة: التقوِّي بإعداد ما يُحتاج إليه من الدروع والسيوف وسائر آلات الحرب، إلا أنه لما كان الرمي أنكاها في العدو، وأنفعها على ما هو مشاهد، فسرها به وخصها بالذكر وأكدها ثلاثًا. انتهى

{وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} يعني: ربطهَا واقتناءها للغزو.

قال السعدي رحمه الله: {وَأَعِدُّوا} لأعدائكم الكفار الساعين في هلاككم وإبطال دينكم {مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} أي: كل ما تقدرون عليه من القوة العقلية والبدنية وأنواع الأسلحة، ونحوِ ذلك مما يُعين على قتالهم، فدخل في ذلك أنواعُ الصناعات التي تُعمَلُ فيها أصنافُ الأسلحة والآلاتِ من المدافع والرشاشات، والبنادق، والطياراتِ الجوية، والمراكبِ البرية والبحرية، والحصونِ والقلاعِ والخنادقِ، وآلاتِ الدفاع، والرأْي: والسياسة التي بها يتقدم المسلمون ويندفع عنهم به شرُّ أعدائهم، وتَعَلُّم الرَّمْيِ، والشجاعة والتدبير.

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ألا إن القوة الرَّمْيُ} ومن ذلك: الاستعداد بالمراكب المحتاج إليها عند القتال، ولهذا قال تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وهذه العلة موجودة فيها في ذلك الزمان، وهي إرهاب الأعداء، والحكم يدور مع علته.

فإذا كان شيء موجود أكثر إرهابا منها، كالسيارات البرية والهوائية المعدة للقتال التي تكون النكاية فيها أشد، كانت مأمورا بالاستعداد بها، والسعي لتحصيلها، حتى إنها إذا لم توجد إلا بتعلُّم الصناعة، وجب ذلك؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب. انتهى

{تُرْهِبُونَ بِهِ} أي تخوفون به {عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} أي من الكفار{وَآخَرِينَ} أي: وترهبون آخرين {مِنْ دُونِهِمْ} من غيرهم، وهم المنافقون {لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} لا تعلمونهم؛ لأنهم معكم يقولون: لا إله إلا الله، ويغزون معكم {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} يوف لكم أجره {وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} لا تنقص أجوركم.