تفسير سورة الأنفال من الآية [1-4]

تفسير سورة الأنفال من الآية [1-4]

سورة الأنفال مدنية
أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما: سورة الأنفال، قال: «نزلت في بدر».
سبب نزول أولها:
نزلت في غنائم بدر لما اختلف الصحابة فيها.

والغنيمة ما حصل عليه المسلمون من أموال أهل الحرب عند قتالهم.
عرفها العلماء بقولهم: ما أصيب من أموال أهل الحرب، وأوجف عليه المسلمون بالخيل والركاب.
أخرج مسلم في صحيحه عن مصعب بن سعد عن أبيه، قَالَ: نَزَلَتْ فِيَّ أَرْبَعُ آيَاتٍ: أَصَبْتُ سَيْفًا، فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، نَفِّلْنِيهِ، فَقَالَ: «ضَعْهُ»، ثُمَّ قَامَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ضَعْهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ»، ثُمَّ قَامَ، فَقَالَ: نَفِّلْنِيهِ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: «ضَعْهُ»، فَقَامَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، نَفِّلْنِيهِ، أَؤُجْعَلُ كَمَنْ لَا غَنَاءَ لَهُ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ضَعْهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ»، قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1]
وأخرجه الترمذي، ولفظه: قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ جِئْتُ بِسَيْفٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ قَدْ شَفَى صَدْرِي مِنَ المُشْرِكِينَ - أَوْ نَحْوَ هَذَا - هَبْ لِي هَذَا السَّيْفَ، فَقَالَ: «هَذَا لَيْسَ لِي وَلَا لَكَ» فَقُلْتُ: عَسَى أَنْ يُعْطَى هَذَا مَنْ لَا يُبْلِي بَلَائِي، فَجَاءَنِي الرَّسُولُ فَقَالَ: «إِنَّكَ سَأَلْتَنِي وَلِيسَ لِي، وَإِنَّهُ قَدْ صَارَ لِي وَهُوَ لَكَ»، قَالَ: فَنَزَلَتْ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] الآيَةَ. انتهى
سبب آخر:
أخرج أبو داود وغيره عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: «مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا، فَلَهُ مِنَ النَّفَلِ كَذَا وَكَذَا». قَالَ: فَتَقَدَّمَ الْفِتْيَانُ وَلَزِمَ الْمَشْيَخَةُ الرَّايَاتِ فَلَمْ يَبْرَحُوهَا، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَالَ الْمَشْيَخَةُ: كُنَّا رِدْءًا لَكُمْ لَوِ انْهَزَمْتُمْ لَفِئْتُمْ إِلَيْنَا، فَلَا تَذْهَبُوا بِالْمَغْنَمِ وَنَبْقَى، فَأَبَى الْفِتْيَانُ وَقَالُوا: جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا، فَأَنْزَلَ اللهُ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] إِلَى قَوْلِهِ: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ، وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5] يَقُولُ: «فَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُمْ، فَكَذَلِكَ أَيْضًا فَأَطِيعُونِي فَإِنِّي أَعْلَمُ بِعَاقِبَةِ هَذَا مِنْكُمْ».
وفي حديث عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الذي أخرجه أحمد والحاكم وابن حبان وغيرهم، قَالَ في الأنفال: فِينَا يَوْمَ بَدْرٍ نَزَلَتْ كَانَ النَّاسُ عَلَى ثَلَاثِ مَنَازِلٍ، ثُلُثٌ يُقَاتِلُ الْعَدُوَّ، وَثُلُثٌ يَجْمَعُ الْمَتَاعَ، وَيَأْخُذُ الْأُسَارَى، وَثُلُثٌ عِنْدَ الْخَيْمَةِ، يَحْرُسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا جَمَعَ الْمَتَاعَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ الَّذِينَ جَمَعُوهُ وَأَخْذُوهُ، قَدْ نَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ امْرِئٍ مِنَّا مَا أَصَابَ فَهُوَ لَنَا دُونَكُمْ. وَقَالَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ وَيَطْلُبُونَهُ: وَاللَّهِ لَوْلَا نَحْنُ مَا أَصَبْتُمُوهُ، فَنَحْنُ شَغَلْنَا الْقَوْمَ، وَقَالَ الْحَرَسُ: وَاللَّهِ مَا أَنْتُمْ بِأَحَقَّ بِهِ مِنَّا لَقَدْ رَأَيْنَا أَنْ نُقَاتِلَ الْعَدُوَّ حِينَ مَنَحَنَا اللَّهُ أَكْتَافَهُمْ أَنْ نَأْخُذَ الْمَتَاعَ حِينَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَمْنَعُ دُونَهُ وَلَكِنَّا خِفْنَا غِرَّةَ الْعَدُوَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُمْنَا دُونَهُ قَالَ: فَانْتَزَعَهَا اللَّهُ مِنْ أَيْدِينَا، فَجَعَلَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَقَسَمَهُ عَلَى السَّوَاءِ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ يَوْمَئِذٍ خُمُسٌ، فَكَانَ فِيهِ تَقْوَى اللَّهِ وَطَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ». انتهى وأصله في السنن.

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)}

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} هي الغنائم، معنى الكلام: يسألك أصحابك يا محمد عن الغنائم التي غنمتها أنت وأصحابك يوم بدر لمن هي، وكيف تقسم؟ فـ {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلهِ وَالرَّسُولِ} أي أمرها إلى الله ورسوله، يقسمها الرسول بأمر الله كيف شاء سبحانه.
فلا اعتراض لكم على حكم الله ورسوله، بل عليكم إذا حكم الله ورسوله أن ترضوا بحكمهما، وتسلموا الأمر لهما.

{فَاتَّقُوا اللهَ} بامتثال أوامره واجتناب نواهيه {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} أي: أصلحوا ما بينكم من التشاحن والتقاطع والتدابر، ولا تظالموا ولا تشاجروا، ولا تخاصموا، أصلحوا ما بينكم بالتوادد والتحاب والتواصل؛ فبذلك تجتمع كلمتكم، ويزول ما يحصل - بسبب التقاطع -من التخاصم، والتشاجر والتنازع.

قال أهل العلم: ويدخل في إصلاح ذات البين: تحسين الخلق لهم، والعفو عن المسيئين منهم؛ فإنه بذلك يزول كثير مما يكون في القلوب من البغضاء والتدابر.

{وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ} في قسمة الغنائم بينكم على ما أراده الله وشرعه، وفي كل ما أمر الله به ورسوله {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} قال السعدي: فإن الإيمان يدعو إلى طاعة الله ورسوله، كما أن من لم يطع الله ورسوله فليس بمؤمن، ومن نقصت طاعته لله ورسوله، فذلك لنقص إيمانه، ولما كان الإيمان قسمين: إيماناً كاملاً يترتب عليه المدح والثناء، والفوز التام، وإيماناً دون ذلك؛ ذكر الإيمان الكامل فقال:


{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)}

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} حقاً {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: خافت قلبوهم، فأدى ذلك إلى أداء الواجبات وترك المحرمات.
قال الطبري: ليس المؤمن بالذي يخالف الله ورسوله، ويترك اتباع ما أنزله إليه في كتابه من حدوده وفرائضه، والانقياد لحكمه، ولكن المؤمن هو الذي إذا ذكر الله وجل قلبه، وانقاد لأمره، وخضع لذكره؛ خوفاً منه وفرقاً من عقابه.

{وَإِذَا تُلِيَتْ} قرئت {عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ} آيات القرآن {زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}

هذه الآية تدل على أن الإيمان يزيد، وقال بعض أهل العلم: وفي هذه الآية دلالة على زيادة الإيمان ونقصه؛ لأن قوله: {زَادَتْهُمْ إيمانا}، يَدُلُّ على نقصٍ كان قبل الزيادة. انتهى
وقال الشنقيطي في أضواء البيان: وتدل هذه الآيات بدلالة الالتزام على أنه ينقص أيضا؛ لأن كل ما يزيد ينقص، وجاء مصرحاً به في أحاديث الشفاعة الصحيحة كقوله: «يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال حبة من إيمان» ، ونحو ذلك.انتهى
وعقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص، خلافاً لأهل البدع، حكى الإجماع عليه غير واحد من الأئمة
{وَعَلَى رَبِّهِمْ} وحده لا شريك له {يَتَوَكَّلُونَ} أي: يعتمدون في قلوبهم على ربهم في جلب مصالحهم ودفع مضارهم الدينية والدنيوية. قال ابن كثير: {وعلى ربهم يتوكلون} أي لا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك، وحده لا شريك له ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، ولهذا قال سعيد بن جبير: التوكل على الله جماع الإيمان. انتهى

{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}

{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} الفرائض والنوافل، كما شرعها الله {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} النفقات الواجبة، كالزكوات، والكفارات، والنفقة على الزوجات والأقارب، وما ملكت أيمانهم، والمستحبة كالصدقة في جميع طرق الخير.

{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)}

{أُولَئِكَ} الذين اتصفوا بتلك الصفات {هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} قال السعدي: لأنهم جمعوا بين الإسلام والإيمان، بين الأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة، بين العلم والعمل، بين أداء حقوق الله وحقوق عباده. وقدم تعالى أعمال القلوب، لأنها أصل لأعمال الجوارح وأفضل منها، وفيها دليل على أن الإيمان، يزيد وينقص، فيزيد بفعل الطاعة وينقص بضدها.

وأنه ينبغي للعبد أن يتعاهد إيمانه وينميه، وأن أولى ما يحصل به ذلك تدبر كتاب الله تعالى والتأمل لمعانيه. ثم ذكر ثواب المؤمنين حقاً فقال: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي: عالية بحسب علو أعمالهم {وَمَغْفِرَةٌ} لذنوبهم {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وهو ما أعد الله لهم في دار كرامته، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

ودل هذا على أن من يصل إلى درجتهم في الإيمان - وإن دخل الجنة - فلن ينال ما نالوا من كرامة الله التامة. انتهى كلامه رحمه الله.