تفسير سورة الأعراف (144-147)

تفسير سورة الأعراف (144-147)

{قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) }

{قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ} اخترتك وفضلتك {عَلَى النَّاسِ} أي على جميع أهل زمانه {بِرِسَالَاتِي} إلى خلقي، أرسلتك بها إليهم {وَبِكَلَامِي} كلمتك دون غيرك من خلقي {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ} أعطيتك من أمري ونهيي، وتمسك به، واعمل به {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} لله على نعمه .

قال ابن كثير: يذكر تعالى أنه خاطب موسى بأنه اصطفاه على أهل زمانه برسالاته تعالى وبكلامه، ولا شك أن محمداً صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم من الأولين والآخرين، ولهذا اختصه الله تعالى بأن جعله خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي تستمر شريعته إلى قيام الساعة، وأتباعُه أكثر من أتباع سائر الأنبياء والمرسلين كلهم، وبعده في الشرف والفضل إبراهيم الخليل عليه السلام، ثم موسى بن عمران كليم الرحمن عليه السلام، ولهذا قال الله تعالى له: {فخذ ما آتيتك} أي من الكلام والمناجاة {وكن من الشاكرين} أي على ذلك ولا تطلب ما لا طاقة لك به. انتهى

{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) }

{وَكَتَبْنَا لَهُ} يعني لموسى {فِي الْأَلْوَاحِ} يريد ألواح التوراة {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} مما أمروا به، ونهوا عنه {مَوْعِظَةً} حقيقة الموعظة: التذكير والتحذير مما يخاف عاقبته {وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} أي: تبييناً لكل شيء من الأمر والنهي والحلال والحرام والحدود والأحكام {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} أي: بجد واجتهاد {وَأْمُرْ قَوْمَكَ} بني إسرائيل {يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} وكلها حسن، فأْمُرهم بأن يأخذوا بها كلها. أي يحلوا حلالها، ويحرموا حرامها، ويتدبروا أمثالها، وانههم عن تضييعها وتضييع العمل بما فيها {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} قال ابن كثير: أي سترون عاقبة من خالف أمري وخرج عن طاعتي كيف يصير إلى الهلاك والدمار والتَّباب. انتهى. ومعنى التباب: الخسران.

{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) }

{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ} الأدلة والحجج التي تدل على صدق الرسل {الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} يريد الذين يتجبرون على عبادي، ويحاربون أوليائي، سأصرفهم حتى لا يؤمنوا بي، يعني سأصرفهم عن قبول آياتي والتصديق بها، عوقبوا بحرمان الهداية لعنادهم للحق، كقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] قال ابن كثير: أي سأمنع فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي؛ قلوب المتكبرين عن طاعتي، ويتكبرون على الناس بغير حق، أي كما استكبروا بغير حق أذلهم الله بالجهل، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}[الأنعام: 110] وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ} كل حجة لله على وحدانيته وربوبيته، وكل دلالة على أنه لا تنبغي العبادة إلا له خالصة دون غيره {لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا} يعني هؤلاء المتكبرين {سَبِيلَ الرُّشْدِ} طريق الهدى والسداد {لَا يَتَّخِذُوهُ} لأنفسهم {سَبِيلًا} طريقاً، أي وإن ظهر لهم سبيل الرشد أي طريق النجاة لا يسلكوها {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ} أي: طريق الضلال {يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} يسلكوه ويجعلوه لأنفسهم طريقاً، ثم علل مصيرهم إلى هذه الحال، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} عن التفكر فيها والاتعاظ بها غافلين ساهين.

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) }

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ} أي: ولقاء الدار الآخرة التي هي موعد الثواب والعقاب {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} بطلت، وصارت كأن لم تكن {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا} أي: إلا جزاء ما كانوا {يَعْمَلُونَ} أي إنما نجازيهم بحسب أعمالهم التي فعلوها، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.