تفسير سورة المائدة 94-96

تفسير سورة المائدة 94-96

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)}

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، واتبعوا شرعه {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ} ليختبرنكم الله، وفائدة الاختبار إظهار المطيع من العاصي {بِشَيْءٍ} لأنه ابتلاهم بصيد البر خاصة {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} يعني: الفرخ والبيض، وما لا يقدر أن يفر من صغار الصيد وضعيفه. قال ابن عباس: هو الضعيف من الصيد وصغيره، يبتلي الله تعالى ذكره به عباده في إحرامهم، حتى لو شاؤوا لتناولوه بأيديهم، فنهاهم الله أن يقربوه. انتهى {وَرِمَاحُكُمْ} يعني: الكبار من الصيد تصيدونه بالرماح.

{لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} لاشك أن الله يعلم من يخافه بالغيب من غير أن يبتلي عباده، ولكن المقصود هنا: ظهور علم الله فيهم، أي علماً ظاهراً للخلق يترتب عليه الثواب والعقاب ، قال ابن كثير: يعني أنه تعالى يبتليهم بالصيد، يغشاهم في رحالهم، يتمكنون من أخذه بالأيدي والرماح سراً وجهراً، لتظهر طاعةُ من يطيع منهم في سره وجهره {مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} من يخافه ولم يره، أي: يخاف الله ولم يره، فيتقي ما نهاه عنه ويجتنبه، فلا يصطاد في حال الإحرام {فَمَنِ اعْتَدَى} فمن تجاوز حد الله الذي حده له {بَعْدَ ذَلِكَ} أي: صاد بعد هذا الإعلام والإنذار {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مؤلم موجع.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)}

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، واتبعوا شرعه {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} أي: وأنتم محرمون بالحج والعمرة {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} لقتل الصيد وهو ذاكر إحرامه؛ فعليه الكفارة، واختلفوا فيما لو قتله خطأ، فذهب أكثر الفقهاء إلى أن العمد والخطأ سواء في لزوم الكفارة، وقال الزهري: على المتعمد بالكتاب، وعلى المخطئ بالسنة، يعني ثبتت الكفارة على المتعمد بالقرآن وثبتت على المخطئ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة أصحابه، وقال ابن كثير: وأيضا فإن قتل الصيد إتلاف، والإتلاف مضمون في العمد وفي النسيان، لكن المتعمد مأثوم، والمخطئ غير ملوم. انتهى

أما الكفارة فقال: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} معناه أنه يجب عليه مثل ذلك الصيد من النعم وهي الإبل والبقر والغنم، يذبحها في مكة ويفرق لحمها على فقراء الحرم، وأراد به ما يقرب من الصيد المقتول شبهاً من حيث الخلقة لا من حيث القيمة، يعني من صاد نعامة فيذبح جملاً أو ناقة، ومن صاد بقرة وحشية يذبح بقرة إنسية، ومن صاد غزالاً فعليه عنز...وهكذا {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي: يحكم بالجزاء رجلان عدلان، وينبغي أن يكونا فقيهين ينظران إلى أشبه الأشياء من النعم فيحكمان به {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} أي واصلاً إلى الكعبة، والمراد وصوله إلى الحرم بأن يذبح هناك ويفرق لحمه على مساكين الحرم {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} أي أنه في جزاء الصيد مخير، بين أن يذبح المثل من النعم فيتصدق بلحمه على مساكين الحرم، وبين أن يُقوِّم الصيد المقتول- والبعض قال يقوم المثل- دراهم، والدراهم طعاماً؛ فيتصدق بالطعام على مساكين الحرم يعطي لكل مسكين مداً، أو يصوم عن كل مُد من الطعام يوماً، وله أن يصوم حيث شاء؛ لأنه لا نفع فيه للمساكين {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} أي أوجبنا عليه الكفارة؛ ليذوق عقوبة فعله الذي ارتكب فيه المخالفة {عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ} يعني: لا إثم ولا كفارة قبل التحريم {وَمَنْ عَادَ} أي ومن فعل ذلك فاصطاد وهو محرم بعد تحريمه في الإسلام وبلوغ الحكم الشرعي إليه {فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ} فيعاقبه {وَاللهُ عَزِيزٌ } والله منيع في سلطانه، لا يقهره قاهر ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه، ولا من عقوبة من أراد عقوبته؛ مانع، لأن الخلق خلقه، والأمر أمره، له العزة والمنعة {ذُو انْتِقَامٍ} يعني أنه ذو معاقبة لمن عصاه على معصيته إياه.

{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)}

{أُحِلَّ لَكُمْ} أيها المؤمنون {صَيْدُ الْبَحْرِ} وهو ما يصاد منه حيًّا، والمراد بالبحر جميع المياه {وَطَعَامُهُ} وهو الميت منه {مَتَاعًا لَكُمْ } أي: منفعة وقوتاً لمن كان منكم مقيماً أو حاضراً في بلده يستمتع بأكله وينتفع به {وَلِلسَّيَّارَةِ} يعني: المارة، المسافرين، أي: ومنفعة أيضاً ومتعة للسائرين من أرض إلى أرض، ومسافرين يتزودونه في سفرهم {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ} أيها المؤمنون {صَيْدُ الْبَرِّ} هو الحيوان الوحشي الذي يحل أكله، يعني ليس الحيوان الذي يعيش بين الناس، هذا يسمى إنسياً {مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} أي في حال إحرامكم يحرم عليكم الاصطياد، ففيه دلالة على تحريم ذلك، فإذا اصطاد المحرم الصيد متعمداً؛ أثم وغرم، وإذا كان مخطئاً؛ غرم وحرم عليه أكله {وَاتَّقُوا اللهَ} خافوه، فافعلوا ما أمركم به، واجتنبوا معصيته، الله {الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} يوم القيامة، ويحاسبكم ويجازيكم على أعمالكم.

فصيد البحر حلال للمحرم، كما هو حلال لغير المحرم، أما صيد البر فحرام على المحرم، وفي الحرم حتى لو لم يكن محرماً، والصيد هو الحيوان الوحشي الذي يحل أكله، أما ما لا يحل أكله؛ فلا يحرم بسبب الإحرام، وللمحرم قتله.