تفسير سورة النساء 88-90

تفسير سورة النساء 88-90

{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)}

{فَمَا لَكُمْ} يا معشر المؤمنين {فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} أي: صرتم في المنافقين فئتين أي: فرقتين، وذلك لأن المؤمنين اختلفوا في المنافقين على قولين، أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى أُحُدٍ، فَرَجَعَ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ، فَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: نَقْتُلُهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا، فَنَزَلَتْ {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء: 88] ". انتهى

{وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ} أي: أوقعهم في الخطأ، وردهم إلى الكفر {بِمَا كَسَبُوا} بأعمالهم السيئة، أي بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول واتباعهم الباطل {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ} من أضله الله {وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ} ومن يضلله الله {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} أي لا طريق له إلى الهدى.

{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)}

{وَدُّوا} تمنوا، يعني أولئك الذين رجعوا عن الدين من المنافقين الذين اختلفتم فيهم، تمنوا {لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} في الكفر، أي هم يودون لكم الضلالة لتستووا أنتم وإياهم فيها، وما ذاك إلا لشدة عداوتهم وبغضهم لكم {فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} حرم موالاتهم {حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} معكم، فيصيروا عند ذلك مثلكم، ويكون لهم حينئذ حكمكم، وفي هذه الآية منع المؤمنين من موالاة المنافقين حتى يهاجروا في سبيل الله {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أعرضوا عن التوحيد والهجرة {فَخُذُوهُمْ} أي خذوهم أسرى {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} في الحل والحرم {وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} أي لا توالوهم ولا تستنصروا بهم على أعداء الله ما داموا كذلك، ثم استثنى جماعة منهم فقال:

{إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)}

{إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ} وهذا الاستثناء يرجع إلى القتل لا إلى الموالاة، لأن موالاة الكفار والمنافقين لا تجوز بحال، ومعنى (يصلون) أي: يلجؤون إلى قوم {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} أي: عهد، أي إلا الذين لجأوا وتحيزوا إلى قوم بينكم وبينهم مهادنة، أو عقد ذمة؛ فلا تقتلوهم واجعلوا حكمهم كحكمهم.

{أَوْ جَاءُوكُمْ} هؤلاء قوم آخرون من الذين استثناهم الله من الأمر بقتالهم، وهم الذين يجيئونكم وقد {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} أي: ضاقت صدورهم {أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ} أي لا يريدون قتالكم، ضاقت صدورهم عن قتالكم {أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} ولا يريدون قتال قومهم في نفس الوقت، معناه أنهم لا يقاتلونكم مع قومهم، ولا يقاتلون قومهم معكم، فهم لا لكم ولا عليكم {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} يذكر منته على المسلمين بكف بأس هؤلاء عنهم، يقول: إن ضيق صدورهم عن قتالكم لما ألقى الله في قلوبهم من الرعب وكفهم عن قتالكم، ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم مع قومهم {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ} أي: اعتزلوا قتالكم {فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} أي: المسالمة، فانقادوا واستسلموا {فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} أي: طريقاً بالقتل والقتال، أي فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك.