تفسير سورة النساء 15-18

تفسير سورة النساء 15-18

{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)}

{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ } يعني: الزنا، أي النساء اللاتي يزنين {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} يعني: من المسلمين، وهذا خطاب للحكام، أي: فاطلبوا على النساء اللاتي يزنين أربعة من الشهود لإثبات الزنا عليهن، فيه بيان أن الزنا لا يثبت إلا بأربعة من الشهود، أو بالإقرار أي الاعتراف كما ثبت في السنة {فَإِنْ شَهِدُوا} عليهن بالزنا {فَأَمْسِكُوهُنَّ} فاحبسوهن {فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} أي إلى أن يمتن {أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} أو يجعل الله لهن طريقاً آخر، أي حكماً آخر، وقد فعل تبارك وتعالى، فهذه الآية منسوخة، هذا كان في أول الإسلام قبل نزول الحدود، كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت، ثم نسخ ذلك في حق البكر بالجلد، وفي حق الثيب بالرجم.

أخرج مسلم في صحيحه عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ».

{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)}

{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} يعني الرجل والمرأة، والهاء راجعة إلى الفاحشة، أي يأتيان الفاحشة أي يزنيان {فَآذُوهُمَا} يعني فعيروهما -الرجل والمرأة- باللسان، يقال له مثلاً: أما خفت الله؟ أما استحييت من الله حيث زنيت؟ وقال بعض أهل العلم: أي سبوهما واشتموهما.

الآية الأولى في النساء وهذه في الرجال والنساء، فالحبس والإيذاء للنساء، والإيذاء فقط للرجال، وقال البعض: الأولى في المحصنات، والثانية في الأبكار {فَإِنْ تَابَا} من الفاحشة {وَأَصْلَحَا} العمل فيما بعد {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} فلا تؤذوهما {إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا} كثير التوبة على عباده، ويقبل توبة عباده إذا تابوا {رَحِيمًا} عظيم الرحمة والإحسان، الذي من إحسانه وفقهم للتوبة وقبلها منهم.

وهذا كله كان قبل نزول الحدود، فنُسخت هذه الأحكام بالجلد والتغريب للبكر، والرجم للثيب، الجلد في القرآن قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] والرجم والتغريب جاء في السنة في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ وغيره، أَنَّهُمَا قَالَا: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْشُدُكَ اللهَ إِلَّا قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اللهِ، فَقَالَ الْخَصْمُ الْآخَرُ: وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ: نَعَمْ، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ وَأْذَنْ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلْ»، قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، وَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ، فَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ، الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا»، قَالَ: فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَتْ .

قال النووي: وأجمع العلماء على وجوب جلد الزاني البكر مائةً، ورجم المحصن وهو الثيب، ولم يخالف في هذا أحد من أهل القبلة إلا ما حَكى القاضي عياض وغيرُه عن الخوارج وبعض المعتزلة كالنظام وأصحابه فإنهم لم يقولوا بالرجم. انتهى، وسيأتي موضوع حد الزاني في محله إن شاء الله.

{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)}

{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ} يعني التوبة التي يقبلها الله إنما تكون {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} قال قتادة: أجمع أصحاب رسول الله جميعهم على أن كل ما عصي به الله فهو جهالة، عمداً كان أو لم يكن، وكل من عصى الله فهو جاهل، وقال السلف رضي الله عنهم: " الجهالة: كل امرئ عمل شيئا من معاصي الله فهو جاهل أبداً حتى ينزع عنها " {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} قبل الموت، ففي الحديث عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» أي ما لم تبلغ روحُه حُلقومَه، فيكون منزلة الشيء الذي يتغرغر به المريض {فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ} يقبل توبتهم {وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} فلا يدخلُ أفعالَه خلل، ولا يخلِطه خطأ ولا زلل.

{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)}

{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} يعني: المعاصي ويصرون عليها {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} وبلغ الغرغرة {قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} إذا حشرج أحدهم بنفسه، وعاين ملائكة ربه قد أقبلوا إليه لقبض روحه قال: إني تبت الآن، يقول فليس لهذا عند الله تبارك وتعالى توبة؛ لأنه قال ما قال في غير وقت توبة وحالها {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا} أي: هيأنا وأعددنا {لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} مؤلما موجعا.