الآيات 92 -93 من سورة البقرة

تفسير سورة البقرة 92-93

{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)}

{ولقد جاءكم} يا معشر يهود بني إسرائيل {موسى بالبينات} أي بالآيات الواضحات والدلائل القاطعات على أنه رسول الله، وأنه لا إله إلا الله، والآيات البينات هي: الطوفان والجراد وَالْقُمَّلُ والضفادع والدم والعصا واليد، وَفَلْقُ البحر وتظليلهم بالغمام والمن والسلوى والحجر وغير ذلك من الآيات التي شاهدوها {ثم اتخذتم العجل} أي معبودا من دون الله في زمان موسى وأيامه،{من بعده} أي من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله عز وجل، كما قال تعالى: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ)، فالعجل أصلاً هو ولد البقرة، ولكن هذا العجل الذي عبده بنو إسرائيل ليس عجلاً من حيوان؛ بل من حُلي وهو الذهب الذي يتخذ للزينة: صنعوا من الحلي مجسماً كالعجل، وجعلوا فيه ثقباً تدخله الريح، فيكون له صوت كخوار الثور، فأغواهم السامري، وقال لهم: هذا إلهكم وإله موسى فنسي يعني موسى؛ لأن موسى كان قد ذهب عنهم لميقات ربه على أنه ثلاثون يوماً، فزاد الله تعالى عشراً، فصار أربعين يوماً؛ فقال لهم السامري: إن موسى ضلّ عن إلهه؛ ولهذا تخلف، فلم يرجع؛ فهو قد ضلّ، ولم يهتد إلى إلهه؛ فهذا إلهكم وإله موسى، فاتَّخِذوه إلهاً، ولما جاء موسى حرقه ونسفه في البحر كما سيأتي إن شاء الله.

{وأنتم ظالمون}، أي وأنتم ظالمون معتدون بفعلكم ما لا يجوز لكم فعله من عبادتكم العجل وأنتم تعلمون أنه لا إله إلا الله.

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)}

{وإذ أخذنا ميثاقكم} أي واذكروا إذ أخذنا ميثاقكم؛ و "الميثاق": العهد الشديد.

{ورفعنا فوقكم الطور} وهو الجبل ؛ رفعه الله عزّ وجلّ على رؤوسهم تهديداً لهم؛ فجعلوا يشاهدونه فوقهم كأنه ظلة. وقد تقدم هذا.

يعدد سبحانه وتعالى عليهم خطأهم، ومخالفتهم للميثاق، وعتوهم وإعراضهم عنه، حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه ولهذا قالوا سمعنا وعصينا.

{خذوا} أي: وقلنا: خذوا {ما آتيناكم} أي ما أعطيناكم وهي التوراة {بقوة} أي بجدٍّ ونشاط، لا بكسل وتهاون{واسمعوا} أي سماع قبول، واستجابة؛ فأمروا بأن يأخذوا بالتوراة بقوة، وأن يسمعوا، ويطيعوا، فالمعنى: وإذ أخذنا ميثاقكم أن خذوا ما آتيناكم بقوة، واعملوا بما سمعتم، وأطيعوا الله، ورفعنا فوقكم الطور من أجل ذلك.

فأجابوا: {قالوا سمعنا} قولك بآذاننا {وعصينا} أي أمرك بأفعالنا؛ فما سمعوا السمع الذي طُلب منهم؛ ولكنهم استكبروا عنه، و"العصيان": هو الخروج عن الطاعة بترك المأمور، أو فعل المحظور؛ فمن ترك الزكاة أو الصيام فهو عاصٍ؛ ومن زنى، أو سرق، أو شرب الخمر فهو أيضاً عاصٍ لله ورسوله.

{وأُشربوا في قلوبهم العجل} أي أشربوا في قلوبهم حب العجل، وهذا أسلوب عربي معروف عندهم، كقول الله تعالى {واسأل القرية} أي أهل القرية، فيحذفون بعض الكلمات التي تكون مفهومة عند السامع من غير ذكرها، فيقولون أشرب العجل أي حب العجل؛ وهذا يفهم لأن العجل نفسه لا يمكن أن يُشربه القلبُ، قال ابن جرير: إنما يقال ذلك في حب الشيء، فيقال منه: أشرب قلبُ فلانٍ حبَّ كذا، بمعنى سقي ذلك حتى غلب عليه وخالط قلبه، كما قال زهير:

فَصَحَوْتُ عَنْهَا بَعْدَ حُبٍّ دَاخِلٍ ... وَالْحُبُّ يُشْرَبُهُ فُؤَادُكَ دَاءُ

ولكنه ترك ذكر الحب اكتفاء بفهم السامع لمعنى الكلام، إذ كان معلوما أن العجل لا يُشربُ القلبَ، وأن الذي يشرب القلب منه حبه... انتهى

ومعنى {أشربوا} أنه جُعل هذا الحب كأنه ماءٌ سقي به القلبُ، فامتزج بالقلب كما يمتزج الماء بالمدر إذا أشربه؛ والمدر هو الطين اليابس؛ فهذا القلب أشرب فيه حب العجل، والذي أَشرب هذا في قلوبهم هو الله سبحانه وتعالى؛ ولكن من بلاغة القرآن أن ما يكرهه الله يعبر عنه غالباً بالبناء لما لم يسم.

{بكفرهم} أي بسبب كفرهم بالله السابق على عبادة العجل؛ لأنهم قد نووا الإثم قبل أن يقعوا فيه؛ فصاروا كفاراً به، ثم أشربوا في قلوبهم العجل حتى صاروا لا يمكن أن يتحولوا عنه.

وهذه من أشد أنواع العقوبة التي تقع عليك بسبب الذنب، أن يعاقبك الله بمحبة الشرك والمعاصي ويُبغض لك التوحيد والطاعة. أسأل الله السلامة والعافية، ونعوذ بالله من ذلك.

{قل} يا محمد ليهود بني إسرائيل {بئسما يأمركم به إيمانكم}"بئس" تقال للذم كما تقدم، يعني: ساء وقبح ما يأمركم به إيمانكم من عبادة العجل، وغيرها من القبائح التي فعلتموها {إن كنتم مؤمنين} أي: أنتم تدعون الإيمان وتتمدحون بالدين الحق، وأنتم قتلتم أنبياء الله، واتخذتم العجل إلها من دون الله، لما غاب عنكم موسى، نبي الله، ولم تقبلوا أوامره ونواهيه إلا بعد التهديد ورفع الطور فوقكم، فالتزمتم بالقول، ونقضتم بعد ذلك، فما هذا الإيمان الذي ادعيتم، وما هذا الدين؟

فإن كان هذا إيمانا على زعمكم، فبئس الإيمان الداعي صاحبه إلى الطغيان، والكفر برسل الله، وكثرة العصيان، وقد عهد أن الإيمان الصحيح، يأمر صاحبه بكل خير، وينهاه عن كل شر، فوضح بهذا كذبهم، وتبين تناقضهم.