منهج الموازنات

منهج الموازنة في ميزان الجرح والتعديل

إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .

أما بعد ؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .

{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما } .

وبعد ...

فإن كان لأحد على الناس واجب ، وله عليهم فضل ؛ فإن للشرع الدرجة المقدَّمة ، وله علينا بدعوى الاتباع أن لا نقدِّم عليه أحداً ؛ ولو كان أعزَّ الناس وأخصَّهم ، فالحق أحق أن يتبع والله ورسوله أحق أن يطاع ، وكما قال أحد أئمة السنة في انتقاده لشيخه : شيخ الإسلام حبيبنا ولكن الحق أحب إلينا منه . هذا هو منهج أهل السنة ؛ اتباع لا ابتداع، وتقيُّد بالنص لا تقليد بغير دليل ولا نص .

نقول وبالله الاستعانة وعليه القبول : منهج الموازنة منهج باطل في الجرح والتعديل ؛ لم يرد عليه دليل من كتاب ولا سنة ، ولا فهم لعالم معتبر ممن يعتدُّ بفهومهم ، ويحتجُّ بنقلهم وعلومهم ، بل هو بدعة أحدثها مبتدعة متأخّرون ، وأئمة ضلال عصريون ، أرادوا من ورائها إخفاء حقائقهم ، وردَّ جرح علماء الجرح والتعديل فيهم وفي أتباعهم ومشايخهم ، والتترس وراء عمومات يملكها كثير من فساق المسلمين ؛ ليهربوا من السيوف البتّارة الماضية التي امتنّ الله بها على أمتنا ، وحفظ بها ديننا من أن يدخله أو يدخل عليه شيء من البدع والمحدثات – لا في الحديث والسنة فحسب ؛ بل في المنهج الحق والطريق القويم الذي استنّه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ، وتبعه عليه صحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين – هذه السيوف البتارة ألسنة حداد على من يريد أو تحدِّثه نفسه أو يفكر من قريب أو بعيد في دسِّ شيء من بدعه في منهج أهل السنة .

إذاً فاتخاذ الموازنة منهجاً عند التحذير بدعة ، ومخالفة لما كان عليه رسولنا الكريم والرعيل الأول الذين فازوا بقصب السبق ومن نزعم حبهم واتباعهم ؛ فإن المحب لمن يحب مطيع .

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت قيس حين أخبرته أن معاوية وأبا جهم قد خطباها ، وأنها تستشيره في الزواج من أحدهما ؛ قال لها : " أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له ... " (مسلم /1480) .

وقد قال هذا وهما الصحابيان الجليلان ، ولم يقل لها : فيهما من الخير كذا وكذا ولكنهما كذا ؛ بل ذكرما لا يعجبها فيهما ؛ فإنه في معرض النصح والتحذير لا في معرض الترجمة والتعريف بصحابته ، فعلى منهج أولئك كان يجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر محاسنهما ، وإذ لم يفعل فلا يكون هذا لازماً .

ومنهج الموازنة يبطل الحكمة التي شرع من أجلها التحذير ، وهي عدم الوقوع فيما وقع فيه المحذر منهم ، ولذلك لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم .

أخرج البخاري في " صحيحه " (6934) بسنده إلى يسير بن عمرو أنه سأل سهل بن حنيف : هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الخوارج شيئاً ؟ قال : سمعته يقول ، وأهوى بيده قِبَل العراق : " يخرج منه قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ،يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرميّة " .

ولعل قائلاً يقول : قد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم محاسن ؛ فنقول : نعم؛ قال عنهم : " يتلون كتاب الله رطباً " ، وقال فيهم : " تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وعملكم مع عملهم " ؛ ولكنه لم يقله مدحاً بل تحذيراً لئلا يغترّ أحد بهم وبعملهم .

وهذا ما عليه السلف في كتب الجرح والتعديل ، فإنهم يذكرون الجرح في الراوي دون ذكر حسناته ؛ فإليك بعض الأمثلة على ذلك :

قال البخاري : " أسد بن عمرو أبو المنذر البجلي صاحب رأي لين سمع إبراهيم بن حديد " التاريخ الكبير " .

وقال عبد الله بن المبارك : " لا تحدّثوا عن عمرو بن ثابت فإنه كان يسب السلف " "الضعفاء " للعقيلي .

وسئل حماد بن سلمة: يا أبا سلمة : رويت عن الناس وتركت عمرو بن عبيد ؟ فقال : " إني رأيت كأن الناس يصلّون يوم الجمعة إلى القبلة وهو مدبر عنها فعلمت أنه على بدعة فتركت الرواية عنه " " الضعفاء " للعقيلي .

وقال الإمام أحمد في ابن أبي دؤاد : "كافر بالله العظيم " ، وفي إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي : " كان قدريّاً معتزليّاً جهميّاً كل بلاء فيه " ، وقال في الحارث المحاسبي : " حارث أصل البليّة – يعني حوادث كلام جهم – ما الآفة إلا حارث " "بحر الدم " .

وقال أبو داود السجستاني في وهب بن محمد البناني : " كتبت عنه وكان قدريّاً " ، وقال في عبد الرحمن بن صالح الكوفي : " لم أر أن أكتب عنه ، وضع كتاب مثالب في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، وذكره مرة أخرى فقال : " كان رجل سوء"، وقال عن تليد بن سليمان : " رافضي خبيث " ، وقال أيضاً : " تليد رجل سوء يشتم أبا بكر وعمر " " سؤالات الآجري " .

فهذا غيض من فيض وقليل من كثير ، وهذه كتب الجرح والتعديل مليئة بأمثلة تنبّه الغافل وتعلّم الجاهل وتذكّر الناسي ، فكم من عابد اشتهر بعبادته وزهده وورعه ؛ قيل عنه : كان ضعيفاً ، وكم قيل في أناس منهم : وكان صاحب بدعة .

والذين ابتدعوا هذه الطريقة إنما أرادوا الدفاع عن أهل البدع لأنهم ساداتهم الذين أخذوا عنهم منهجهم الباطل .

وقد يقال : هذا الذهبي يذكر مناقب الرجل ومثالبه ، وغيره كذلك قد يفعل ذلك ؟! فنقول باختصار بمعونة الغفار : هناك فرق بين الترجمة والتحذير .

وقد يخطر ببال البعض أن كلام أهل الجرح والتعديل غيبة ؟! فنقول : قال أهل العلم : التحذير ليس من الغيبة واستدلوا بحديث فاطمة بنت قيس المتقدم ، ونقل النووي الإجماع على جواز التحذير في كتابه " الأذكار " .

وأخيراً ؛ ففائدة الجرح والتعديل : حفظ الشريعة صافية نقيّة كما أنزلها الله على نبيّه ، كي لا يلتبس الحق بالباطل، وتشتهر البدع وتختفي السنن ، وهي من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أمرنا به ربنا في قوله – عز وجل – { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } [ آل عمران : 110 ] ، ومن النصيحة للإسلام والمسلمين .

وهنا فائدة لابد أن لا نخلي منها المقام وهي قول الذهبي : " ونحن لا ندّعي العصمة في أئمة الجرح والتعديل ، لكن هم أكثر الناس صواباً ، وأندرهم خطأ ، وأشدّهم إنصافاً ، وأبعدهم عن التحامل ، وإذا اتفقوا على تعديل أو جرح ؛ فتمسّك به واعضض عليه بناجذيك ، ولا تتجاوزه فتندم . ومن شذّ منهم فلا عبرة به فخل عنك العناء ، وأعط القوس باريها ، فوالله لولا الحفاظ الأكابر ؛ لخطبت الزنادقة على المنابر ، ولئن خطب خاطب من أهل البدع ، فإنما هو بسيف الإسلام وبلسان الشريعة ، وبجاه السنة وبإظهار متابعة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فنعوذ بالله من الخذلان " "سير أعلام النبلاء / ترجمة يحيى بن معين " .

أقول: فهذه فائدة جليلة تكتب بماء الذهب ، فحذار حذار من اتباع الهوى ، أو أن يلبس على باغي الحق من لنفسه الحظ الأوفر من عمله .

هذا ما أردنا أن نقول ، وعلى الله الرضا والقبول ، وبه اعتصامنا وعليه اتكالنا ، ومنه نؤمل منالنا ، فنسأله التوفيق في الدارين ، والعصمة من الكفر والفسق والزيغ والمين ، والموفق من وفقه ، والمخذول من خذله ، والرشيد من اتبع بفضله تعالى السنة والطريقة ، والجاهل من زاغ عنها واتخذ من عدوِّها هادياً ورفيقاً .