تفريغ شرح صحيح البخاري-19، آخر كتاب الإيمان، الحديث 53و54و55و56و57و58

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، أما بعد:

اليوم هو آخر درس من دروس شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري، وبعد ذلك سنبدأ إن شاء الله بكتاب العلم، الدرس القادم سيكون يوم السبت القادم الساعة الثامنة والنصف ليلا إن شاء الله، ثم بعد ذلك نبدأ بالبرنامج الجديد؛ السبت والأربعاء الثامنة والنصف بإذن الله، مدة الدرس لا تعتمد على عدد من الأحاديث ولا على الوقت، إنما على حسب ما نُعده من مادة قبل ذلك. تفضل اقرأ حفظكم الله، وصلنا عند الحديث الثالث والخمسين؛ بابٌ أداءُ الخُمُس من الإيمان.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله،

بَابٌ: أَدَاءُ الخُمُسِ مِنَ الإِيمَانِ

53 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الجَعْدِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، قَالَ: كُنْتُ أَقْعُدُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ يُجْلِسُنِي عَلَى سَرِيرِهِ فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي حَتَّى أَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي فَأَقَمْتُ مَعَهُ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ القَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ القَوْمُ؟ - أَوْ مَنِ الوَفْدُ؟ -» قَالُوا: رَبِيعَةُ. قَالَ: «مَرْحَبًا بِالقَوْمِ، أَوْ بِالوَفْدِ، غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَدَامَى»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لاَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الحَرَامِ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ، نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، وَنَدْخُلْ بِهِ الجَنَّةَ، وَسَأَلُوهُ عَنِ الأَشْرِبَةِ: فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ، أَمَرَهُمْ: بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ المَغْنَمِ الخُمُسَ» وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنِ الحَنْتَمِ وَالدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالمُزَفَّتِ "، وَرُبَّمَا قَالَ: «المُقَيَّرِ» وَقَالَ: «احْفَظُوهُنَّ وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ»

قال رحمه الله:

(بَابٌ: أَدَاءُ الخُمُسِ مِنَ الإِيمَانِ)

أي: هذا باب في بيان أن أداء الخُمُس شعبة من شعب الإيمان.

والخمس هو المراد بقوله تبارك تعالى: {واعْلَموا أَنَّ ما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ..} الآية.

(حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الجَعْدِ) بن عبيد الجوهري، أبو الحسن البغدادي، مولى بني هاشم.

يروي عن أتباع التابعين، ثقة حافظ زائغ، شيعي يسب بعض الصحابة، وقال: "مَن قال القرآن مخلوق لم أعنفه".

قال يحيى بن معين: "ثقة صدوق"، وقال: "علي بن الجعد أثبت البغداديين فِي شعبة". انتهى

مات سنة ثلاثين ومائتين. روى له البخاري وأبو داود، وهذه الرواية من روايته عن شعبة.

(قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ) بن الحجاج، أبو بِسطام، الإمام. تقدم

(عَنْ أَبِي جَمْرَةَ) نصر بن عمران بن عصام -وقيل ابن عاصم- أبو جمرة الضُّبَعِي البصري. مشهور بكنيته.

هو ضُبَعي من بني ضُبَيعَة، وهم بطن من عبد القيس.

وفي بكر بن وائل- وهم قبيلة ثانية- فيهم بطن يُقال لهم: بنو ضُبَيعَة أيضاً، وليس أبو جمرة منهم.

تابعي، ثقة ثبت، مات سنة ثمان وعشرين ومائة. روى له الجماعة.

قال ابن عبد البر: "أجمعوا على أنه ثقة".

قال النووي: "وليس في الرواة من يُقال له: أبو جمرة بالجيم غيره".

قال بعض الحافظ: "يروي شعبة بن الحجاج عن سبعة عشر رجلاً، كلُّهم عن ابن عباس، يُقال لكل واحد منهم: أبو حمزة، بالحاء والزاي، إلا هذا نصرَ بنَ عمران، فإنه بالجيم والراء، وعلامته أنه يأتي مطلقًا عن ابن عباس" يعني عن أبي جمرة عن ابن عباس، "وأما غيره فقد يُوصف أو يُنسب". انتهى

(قَالَ) أي: أبو جمرة (كُنْتُ أَقْعُدُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ) صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عمه، رضي الله عنه- تقدم- وهذا زمن ولاية ابن عباس على البصرة من قِبَلِ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يعني هو كان أمير البصرة، ولَّاه عليها علي بن أبي طالب رضي الله عنه في وقته.

(قال: كنت أقعد مع ابن عباس يُجْلِسُنِي عَلَى سَرِيرِهِ) "السرير المضطجَعُ" السرير الذي نعرفه اليوم، وقالوا: "السرير الذي يُجلس عليه"؛ وهو معروف. وقد يُراد به الفراش المُعَدُّ للنوم.

(فَقَالَ) ابن عباس (أَقِمْ عِنْدِي حَتَّى أَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا) السهم هنا بمعنى النصيب (مِنْ مَالِي) قال ابن حجر: "بيَّن المصنف في العلم من رواية غُنْدَر عن شعبة السببَ في إكرام ابن عباس له؛ ولفظه: "كنت أترجم بين ابن عباس وبين الناس".

قال ابن حجر: "قال ابن الصلاح: أصل الترجمة التعبير عن لغة بلغة" كما نستعملها نحن اليوم، "وهو عندي هنا أعم من ذلك، وأنه كان يبلِّغ كلامَ ابن عباس إلى من خفي عليه، ويبلغه كلامُهم، إما لزحام أو لقصور فهم".

قلت -ابن حجر-: "الثاني أظهر لأنه كان جالسا معه على سريره فلا فرق في الزحام بينهما إلا أن يُحمل على أن ابن عباس كان في صدر السرير، وكان أبو جمرة في طرفه الذي يلي من يُترجِم عنهم".

خلاصة الموضوع: هو يبلغ الناس كلام ابن عباس لمن لم يفهمه أو لم يبلغه كلامه.

"وقيل: إن أبا جمرة كان يَعرف الفارسية، فكان يترجم لابن عباس بها". والله أعلم

(فَأَقَمْتُ مَعَهُ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ قَالَ) ابن عباس: (إِنَّ وَفْدَ) "الوفد القوم يجتمعون ويرِدون البلاد، واحدهم: وافد".

وكذلك الذين يقصدون الأمراء لزيارةٍ وغير ذلك.

قال النووي: "الوفد: الجماعةُ المختارةُ للتَّقدُّم في لُقِيِّ العظماءِ، واحدُهم وافد".

(عَبْدِ القَيْسِ) أبو قبيلةٍ من قبائل العرب، كانوا ينزلون البحرين القديمة، ليست هذه التي تعرفونها اليوم، هذه جزء صغير من البحرين، البحرين القديمة التي تقع على الساحل الشرقي للجزيرة العربية، وتمتد من جنوب البصرة إلى سلطنة عُمان القديمة، وليست هذه الحدود الموجودة اليوم، دائما عندما تمر بكم أسماء هذه المدن ترجعون في معرفتها إلى كتب البلدان ولا يذهب ذهنكم إلى الحدود التي وُضِعت اليوم، هذه حدود سياسية لا علاقة لنا بها، كلامنا هنا من الناحية الشرعية هي الحدود التي كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، اختلفوا في عدد الوفد، وذكروا منهم الأشج؛ أشجُّ عبد القيس.

سبب تحديث ابن عباس أبا جمرة بهذا الحديث ورد في رواية:

قال ابن حجر: "قوله: ثم قال: إن وفد عبد القيس. بيَّن مسلم من طريق غُنْدَرَ عن شعبة السبب في تحديث ابن عباس لأبي جمرة بهذا الحديث؛ فقال بعد قوله "وبَيْن الناس": فأتته امرأة تسأله عن نبيذ الجَرِّ فنهى عنه" هذا السبب.

فقلتُ: "يا ابن عباس! إني أنتبذ في جرة خضراء نبيذاً حُلواً فأشرب منه فتُقَرقِر بطني، قال: لا تشرب منه، وإن كان أحلى من العسل.

وللمصنف في أواخر المغازي من طريق قُرَّة عن أبي جمرة؛ قال: "قلت لابن عباس: إن لي جرة أنتبذ فيها فأشربه حلواً، إن أكثرت منه فجالست القوم، فأطلت الجلوس؛ خشيت أن أُفتضَح".

فقال: "قدم وفد عبد القيس.."، فلما كان أبو جمرة من عبد القيس، وكان حديثهم يشتمل على النهي عن الانتباذ في الجرار ناسب أن يذكره له".

(لَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:) أي:النبي عليه الصلاة والسلام ("مَنِ القَوْمُ؟) سأل هؤلاء الذين أتَوه (- أَوْ مَنِ الوَفْدُ؟ -") الشك من شعبة أو من أبي جمرة، من أحد الرواة شكَّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال من القوم؟ أو من الوفد؟.

قال الشراح: "في قوله "مَن القوم" دليل على استحباب سؤال القاصد عن نفسه ليُعْرَفَ؛ فَيُنَزَّلَ مَنْزِلَته"؛ يعني إذا جاءك شخص يُستحَب أن تسأله من أنت وتتعرف عليه حتى تُنزِّله منزلته المناسبة.

(قَالُوا: رَبِيعَةُ) هذا ربيعة هو ابْنُ ‌نِزَارِ ‌بْنِ ‌مَعَدِ ‌بْنِ ‌عَدْنَانَ، قبيلة من قبائل العرب الكبيرة، وقالوا ربيعة مع أنهم من عبد القيس؛ لأن عبد القيس جزء من ربيعة، فعبروا عن البعض بالكل؛ لأنهم بعضٌ من ربيعة.

قال الشراح: "قولهم ربيعة خبر لمحذوف، أي نحن ربيعة، وفيه التعبير عن البعض بالكل" وهذا معروف عند العرب، أحيانا يعبرون عن البعض بالكل "لأنهم بعض ربيعة، وهذا من بعض الرواة، ففي رواية من طريق عبَّاد، عن أبي جمرة: "فقالوا: إنّا هذا الحيُّ من ربيعة"، والمعنى: إنّا حَيٌّ من ربيعة، و"الْحَيّ": اسم لمنزل القبيلة، المكان الذي تنزله القبيلة، "ثم سُمِّيت القبيلة به" بعد ذلك "لأن بعضهم يَحْيَا ببعض". انتهى

(قَالَ) النبي صلى الله عليه وسلم: («مَرْحَبًا بِالقَوْمِ أَوْ بِالوَفْدِ)، هذا نفس الشك من الرواة، قال لهم النبي مرحباً.

مرحباً: مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: صَادَفْتُ رُحْبًا، أَيْ سَعَةً، ‌وَالرَّحْبُ: ‌الشَّيْءُ الْوَاسِعِ. قالوا: "وفيه معنى الدعاء".

تقول العرب: مرحبًا وأهلاً وسهلاً، أي لقيتَ أهلاً كأهلك، ولقيت سهلاً، أي سَهُلت عليك أمورك.

قال الشراح: "وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَأْنِيسِ الْقَادِمِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَفِي حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ "مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ"، وَفِي قِصَّةِ فَاطِمَةَ "مَرْحَبًا بِابْنَتِي"، وفي غير ذلك.

ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن من الأخطاء التي يقع فيها الناس اليوم أن يستعيضوا بها عن السلام، هذا مُشكل، اليوم كثير من الناس لم يعد يستعمل السلام عليكم، يقول بدلها: مرحبا، أهلا، يعطيكم العافية، هذا خطأ ولا يغني خاصة في ردِّ السلام، بدأ السلام أهون لأنه يُستحَب أن تبدأ بالسلام، مع أنه ليس هيِّنًا وخطأ؛ لأن فيه ترك سنة عظيمة وهي إفشاء السلام وقد تقدمت معنا، لكن في ردِّ السلام أعظم لأنك مأمور أمر إيجاب أن ترد بمثل التحية أو أفضل، إذا حُيِّيت بالسلام عليكم فيجب عليك أن ترد بمثل هذه التحية، فإذا قلت: أهلا أو مرحبا أو الله يعطيكم العافية، فليس هذا بشيء أمام السلام عليكم.

فليس هو مثلها ولا أفضل منها، فلا تُجزىء، فتبقى ذمتك معلقة بهذا الواجب.

(قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مرحبا بالقوم أو بالوفد غَيْرَ خَزَايَا ولا ندامى) وفي رواية عند المصنف: "مَرْحَبًا بِالْوَفْدِ الَّذِينَ جَاءُوا غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى" وَخَزَايَا جَمْعُ خَزْيَانَ، وهو الَّذِي أَصَابَهُ خِزْيٌ، ومعنى خزايا: أذِلّاء ومهانين (وَلاَ نَدَامَى") جمع نادم، والندم الأَسَف والحُزن.

قال الشراح: "يعنى: غير مخزيين، بل مُكرَّمِين مُرفَّعين.

ولا ندامى يعنى: غيرَ نادمين، بل فَرحين بما أنعم الله عليهم من عِز الإسلام، وتصديقِ النبي صلى الله عليه وسلم ونصرته ودعاء قومهم إلى دينه".

وقال النووي: "وَأَمَّا مَعْنَاهُ: فَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ تأخُّر عن الإسلام، ولا عنادٌ، ولا أصابكم إِسَارٌ، وَلَا سَبَاءٌ، وَلَا مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ مِمَّا تَسْتَحْيُونَ بِسَبَبِهِ أَوْ تَذِلُّونَ أَوْ تُهَانُونَ أَوْ تَنْدَمُونَ. وَاللَّهُ أَعْلَم". انتهى

(فَقَالُوا) أي الوفد: (يَا رَسُولَ اللَّهِ) وفي قولهم: "يا رسول الله" دليل على أن وفد عبد القيس كانوا وقت مقابلتهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم مسلمين، وكذا في قولهم " من كفارِ مضر"، وهذا دليل على أن إسلامهم كان قبل إتيانهم النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم على إسلام قبائل مضر.

(إِنَّا لاَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الحَرَامِ)

النسخة التي معنا: إلا في شهر الحرام، وفي نسخة أخرى: إلا في الشهر الحرام.

النسخة التي في المتن: إلا في شهر الحرام، هكذا في رواية أبي الوقت في المتن في الأصل، وفي إحدى روايات أبي ذر وفي رواية لأبي الوقت وفي رواية لابن عساكر: "في الشهر الحرام"

قال الشراح: "والمراد بالشهر الحرام الجنس؛ فيشمل" الأشهر "الأربعة الحُرُم"، فلا يستطيعون أن يصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا في هذه الأشهر خاصة "يُؤيد هذا القول: رواية قُرَّة عند المؤلف في "المغازي" بلفظ:" إلا في أشهر الحرم"، ورواية حماد بن زيد عنده في "المناقب" بلفظ: "إلا في كل شهر حرام".

وهذا يجمع ويعمُّ، وهي كذلك هكذا أيضا في رواية أبي سعيد في صحيح مسلم.

وقيل اللام للعهد، والمراد به شهر رجب، وجاءت رواية بهذا، ولكن الذي ذكرنا أقوى.

(وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الحَيُّ) ما المانع أنهم لا يصلون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم لا يفدون إليه إلا في هذه الأشهر الحُرُم؟ لأن بينهم وبين النبي هذا الحي.

والحيُّ اسم لمنْزل القبيلة، وسميت به القبيلة بعد ذلك، كما تقدم. وقال بعض أهل اللغة: الحي: "بطن من بطون العرب".

قَالَ الكلبِيُّ: "وأول العرب" يعني أعمَّهم وأشملهم: "شعوب، ثم قبائل، ثم عمائر، ثم بطون، ثم أفخاذ، ثم فصائل، ثم عشائر"، هكذا يقسمون القبيلة؛ الكبيرة يسمونها شعوبا ثم قبيلة ثم عميرة وهكذا.

وقدَّم الأزهري العشائر على الفصائل، فالفصيل يكون أصغر من العشيرة. قَالَ: "وهم الأحياء".

(مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ) اسم قبيلة عربية عدنانية عظيمة، وكانوا أعداء لعبد القيس الذين كان هذا الوفد منهم، وكان عبد القيس في البحرين والنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وهذه مضر بين البحرين والمدينة.

كانت بينهم حروب، ولكن إذا كانت الأشهر الحُرُم فمعروف أن العرب لا يقاتل بعضهم بعضا فيها فيمرُّون بسلام، فلذلك ما كانوا يستطيعون أن يصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا في هذه الأشهر.

قال الشراح: "كانت مساكن مضر بين عبد القيس وبين المدينة، وكانت مساكن عبد القيس بالبحرين وما والاها من أطراف العراق".

قال ابن حجر: "ولهذا قالوا -كما في رواية شعبة عند المؤلف في العلم – "وإنا نأتيك من شُقَّة بعيدة".

(فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ) الْفَصْلُ بِمَعْنَى الفاصل، أي: يفصل بين الحق والباطل- هذا قول-، أو بمعنى المُفصَّل أي المبين المكشوف الواضح، هذا قول آخر.

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: "الْفَصْلُ الْبَيِّنُ" هذا بنفس المعنى الذي سبق. وَقِيلَ: "الْمُحْكَمُ" كذلك بالمعنى الذي تقدم كما في الفتح ، هما قولان في تفسيرها وكلها صحيحة.

(نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا) أي: من استقروا خلفنا من قومنا الذين خلَّفْناهم في بلادنا.

(وَنَدْخُلْ بِهِ الجَنَّةَ) أي: ندخل بسبب قبول أمرك والعمل به الجنة.

(وَسَأَلُوهُ) أي: هذا الوفد سألوا النبي صلى الله عليه وسلم (عَنِ الأَشْرِبَةِ) هنا قال العلماء: "حُذِفَ أحد أمرين من الكلام من أجل استقامة المعنى"؛ نركب سؤالا يتناسب مع جواب النبي صلى الله عليه وسلم، من الجواب نعرف أن السؤال كان عن ظروف الأشربة، ليس عن الأشربة نفسها بل عن ظروفها، عرفنا هذا من الجواب كما سيأتي، فهنا أصبح عندي محذوف، "إما المحذوف هو المضافُ إلى الأشربة فيكون التقدير: سألوه عن ظروف الأشربة؛ أي الأواني التي تُوضَع فيها الأشربة، وإما المحذوف صفة الأشربة؛ أي: ‌عن ‌الأشربة التي تكون في الأنواع المختلفة من الأواني".

(فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ) أي أربع خصال (وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ) أي أربع خصال.

(أَمَرَهُمْ: بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ) هذا تفسير لقوله "فأمرهم بأربع" (قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟") هذا السؤال للتنبيه حتى يركزوا معه ويضبطوا ما سيقول لهم فَيَكُونُ أَوْقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ.

(قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) وهذا معروف هم جاءوا ليسألوا أصلا وليتعلموا، لكن هذا ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم أن ينبههم كي يركزوا معه في هذه النقطة.

ثم بيّن لهم الإيمان بالله وحده (قَالَ: «شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ) وهذا كله قد تقدم معنا، فجميع هذه الأركان قد تقدمت معنا.

هنا سمَّى النبي صلى الله عليه وسلم هذه إيمانا وقد تقدم الكلام في هذا، هذه الأركان التي ذُكرت في حديث جبريل على أنها إسلام، وهنا سُمِّيت إيمانًا.

قال الشراح: "وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرِ الْحَجَّ؛ لِأَنَّ وِفَادَةَ عَبْدِ الْقَيْسِ كَانَتْ عَامَ الْفَتْحِ، وَنَزَلَتْ فَرِيضَةُ الْحَجِّ سَنَةَ تِسْعٍ بَعْدَهَا عَلَى الْأَشْهَرِ". انتهى

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا لم يَجِئْ ذكر الحج في أكثر الأحاديث التي فيها ذكر الإسلام والإيمان، كحديث وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْس، وحديث الرجل النجدي الذي يقال له: ضِمَامُ بنُ ثَعْلَبة وغيرِهما، وإنما جاء ذكر الحج في حديث ابن عمر وجبريل، وذلك لأن الحجَّ آخرُ ما فرض من الخمس" أي آخر الأركان الخمس "فكان قبل فرضه لا يدخل في الإيمان والإسلام، فلمَّا فرض أدخله النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان إذا أفرد، وأدخله في الإسلام إذا قُرن بالإيمان وإذا أفرد، وسنذكر إن شاء الله متى فرض الحج؟". انتهى كلامه

ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ المَغْنَمِ) أي: من الغنيمة (الخُمُسَ) الغنيمة تنقسم على خمسة أخماس، أربعة أخماس للغزاة وهم الجيش، والخُمُس يقسَّم إلى خمسة أخماس أيضاً مرة ثانية للمصارف الخمسة التي ذكرناها في الفقه.

فإن قيل كيف قال: آمركم بأربع، والمذكور خمس؟

قال الشراح: "ويجاب: بأنه أمرهم بالأربع التي وعدهم، ثم زادهم خامسة وهي أداء الخمس؛ لأنهم كانوا مجاورين كفارَ مضر، فكانوا أهل جهاد"، كان بينهم وبين كفار مضر حرب وقتال لذلك ذكر لهم الخُمُس، "ويكون قوله: ("وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ المَغْنَمِ الخُمُسَ"). معطوفًا على أربع"، يعني آمركم بأربع فذكر لهم الأربع والخامسة معطوفة على الأربع، "أي: أمرهم بأربع وبأن يعطوا من المغنم الخمس، والشهادتان في حكمِ واحد".

وقالوا: "لا يمتنع الزيادةُ إذا حصل الوفاء بوعد الأربع"، لا يُعاب هذا، أقول لك: سأذكر لك أربع فإذا أعطيتك الأربع أُعطيك بعدها الخامسة، فلا عيب في هذا.

(وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ) أَيْ أربع خِصَالٍ، وَهِيَ : الِانْتِبَاذُ فِي الظُّرُوفِ -أي الأوعيةأوعية- الْأَرْبَعَةِ التي سيذكرها، وَالشُّرْبُ مِنْهَا، ومعنى الانتباذ: أن يوضع تمرٌ أو زبيبٌ ونحوهما في الماء ليحلو فيشرب، هذا عندنا عصير، فهم هكذا كانوا يصنعون الشيء السائل الحلو الذي يُشرب؛ ينقعون تمرا أو زبيبا في ماء ثم يتركونه يوما أو يومين فيصبح كالعصير حُلْوا، هذا هو الانتباذ ويسمى بالنبيذ.

والنبيذ إذا تُرِك مدة صار خمرا يُسكر، هنا يحصل الإشكال؛ خاصة إذا وضع في أنواع خاصة من الظروف، فالإسكار يُسرع إليه بشكل أكبر؛ لأن هذه الظروف عندما تكون من الخشب المطليِّ أو تكون من الأنواع التي ستُذكَر فيُسرع الإسكار إليها أكثر.

قال: (عَنِ الحَنْتَمِ)

الحَنْتَم: واحدها حنتمة، وفي صحيح مسلم عن ابن عمر: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحنتمة"، فقلت: ما الحنتمة؟ قال: "الجرة".

قَالَ إبراهيم الحربي: "جِرَارٌ حُمْرٌ مُقَيَّرَةٌ، يُؤْتَى بِهَا مِنَ الشَّامِ".

وقال غيره: "الْجَرَّةُ الْخَضْرَاءُ".

قال ابن الأثير: " ‌الحَنْتَمُ: ‌جِرَارٌ ‌مدْهُونة، خُضْرٌ كَانَتْ تُحْمَل الخمْرُ فِيهَا إِلَى الْمَدِينَةِ ثُمَّ اتُّسِع فِيهَا، فَقِيلَ لِلْخَزَفِ كُلِّهِ حَنْتَم، واحدَتها حَنْتَمَةٌ.

وَإِنَّمَا نُهي عَنِ الانْتِباذ فِيهَا لأنَّها تُسْرع الشّدّةُ فِيهَا لأجْل دَهْنها" لأنها مدهونة يُسرع إليها الإسكار للأشياء التي توضَع فيها.

"وَقِيلَ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُعْمل مِنْ طِينٍ يُعجن بالدَّم والشَّعر فنُهِي عَنْهَا ليُمْتَنع من عَملها. وَالْأَوَّلُ الْوَجْهُ" أي الأصل هو الأول. انتهى.

(وَ) نهاهم عن الانتباذ في (الدُّبَّاءِ) والدبَّاء معروف عندنا وهو القرع- واحدها دُبَّاءة- كانوا ينتبذون فيها فتسرع الشدة في الشراب، فيتحول الشراب فيها إلى مسكر بسرعة.

قال النووي: "والمراد اليابس منه"؛ أي القرع اليابس المجفف، فيقعر من الداخل فيصبح إناءً ثم يجفف ثم يُنبذ فيه.

(وَ) عن الانتباذ في (النَّقِيرِ) ‌أصلُ ‌النَّخْلة ‌يُنْقَر ‌وسَطه ثُمَّ يُنْبَذُ فِيهِ التَّمر، ويُلْقَى عَلَيْهِ الْمَاءُ لِيصيرَ نَبيذاً مُسْكراً.

أصل النخلة أي جذعها الكبير إذا حفرته ثم وضعت فيه الماء والتمر فيتحول إلى مسكر بسرعة.

(وَ) عن الانتباذ في (المُزَفَّتِ) وهو الإناء الذي طُلي بالزِّفت.

قال في تهذيب اللغة: " قَالَ اللَّيْث: الزِّفْتُ: القِير. وَيُقَال لبَعض أوعيةِ الخَمْر: ‌المزَفَّت، وَهُوَ المقيَّر بالزِّفت. ونَهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَن الانتباذ فِي الوِعَاء ‌المزفَّت، والزِّفتُ غيرُ القِيرِ الَّذِي تُقَيَّرُ بِهِ السُّفُن، وَهُوَ شيءٌ لَزِج أسوَدُ يُمَتَّن بِهِ الزِّقاق للخَمْر والخَلّ. وقِيرُ السُّفنِ. يُيَبّس عَلَيْهَا، وزِفْتُ الزِّقاق لَا ييْبَس". انتهى

قال: و(رُبَّمَا قَالَ: "المُقَيَّرِ") وهو المزفّت نفسه.

أخرج مسلم في صحيحه عن زَاذَان قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ، حَدِّثْنِي بِمَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْأَشْرِبَةِ بِلُغَتِكَ، وَفَسِّرْهُ لِي بِلُغَتِنَا، فَإِنَّ لَكُمْ لُغَةً سِوَى لُغَتِنَا.

فَقَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحَنْتَمِ وَهِيَ الْجَرَّةُ، وَعَنِ الدُّبَّاءِ وَهِيَ الْقَرْعَةُ، وَعَنِ الْمُزَفَّتِ وَهُوَ الْمُقَيَّرُ، وَعَنِ النَّقِيرِ وَهِيَ النَّخْلَةُ تُنْسَحُ نَسْحًا وَتُنْقَرُ نَقْرًا، وَأَمَرَ أَنْ يُنْتَبَذَ فِي الْأَسْقِيَةِ".

قال ابن حجر: " وَفِي مُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: ‌أَمَّا ‌الدُّبَّاءُ ‌فَإِنَّ ‌أَهْلَ ‌الطَّائِفِ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْقَرْعَ فَيُخَرِّطُونَ فِيهِ الْعِنَبَ ثُمَّ يَدْفِنُونَهُ حَتَّى يُهْدَرَ ثُمَّ يَمُوتَ. وَأَمَّا النَّقِيرُ فَإِنَّ أَهْلَ الْيَمَامَةِ كَانُوا يَنْقُرُونَ أَصْلَ النَّخْلَةِ ثُمَّ يَنْبِذُونَ الرُّطَبَ وَالْبُسْرَ ثُمَّ يَدْعُونَهُ حَتَّى يُهْدَرَ ثُمَّ يَمُوتَ. وَأَمَّا الْحَنْتَمُ فَجِرَارٌ كَانَتْ تُحْمَلُ إِلَيْنَا فِيهَا الْخَمْرُ.

وَأَمَّا الْمُزَفَّتُ فَهَذِهِ الْأَوْعِيَةُ الَّتِي فِيهَا الزِّفْتُ" انْتَهَى.

"وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَتَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ أَوْلَى أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِالْمُرَادِ". انتهى

قال الشراح: "وَمَعْنَى النَّهْيِ عَنِ الِانْتِبَاذِ فِي هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ بِخُصُوصِهَا" هذا الذي يهمنا، فهذه الأنواع عرفناها، ولكن لماذا نُهي عن الانتباذ فيها بخصوصها؟ قالوا: " لِأَنَّهُ يُسْرِعُ فِيهَا الْإِسْكَارُ، فَرُبَّمَا شَرِبَ مِنْهَا مَنْ لَا يَشْعُرُ بِذَلِكَ"، لا يدري فيشرب منها وهو يظنها نبيذا لم يُسكر بعد ويكون مسكرا.

"ثُمَّ ثَبَتَتِ الرُّخْصَةُ فِي الِانْتِبَاذِ فِي كُلِّ وِعَاءٍ مَعَ النَّهْيِ عَنْ شُرْبِ كُلِّ مُسْكِرٍ "، يعني هذا الحكم في النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية منسوخ، بشرط أن تأمن مِن أن يكون فيها مسكراً.

ففي صحيح مسلم: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:نَهَيْتُكُمْ ‌عَنِ ‌النَّبِيذِ إِلَّا فِي سِقَاءٍ، فَاشْرَبُوا فِي الْأَسْقِيَةِ كُلِّهَا، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا.

قال النووي: "وَأَمَّا مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ هَذِهِ الْأَرْبَعِ، فَهُوَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الِانْتِبَاذِ فِيهَا، وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ فِي الْمَاءِ حَبَّاتٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ زَبِيبٍ أَوْ نَحْوِهِمَا لِيَحْلُوَ وَيُشْرَبَ"؛ هذا معنى الانتباذ.

"وَإِنَّمَا خُصَّتْ هَذِهِ بِالنَّهْيِ؛ لِأَنَّهُ يُسْرِعُ إِلَيْهِ الإسكار فيها، فيصير حراما نجسا" هذا على قولهم بأن الخمر نجس "وتبطل مَالِيَّتُهُ، فَنَهَى عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِتْلَافِ الْمَالِ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا شَرِبَهُ بَعْدَ إِسْكَارِهِ مَنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ.

وَلَمْ يَنْهَ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي أَسْقِيَةِ الْأَدَمِ بَلْ أَذِنَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا لِرِقَّتِهَا لَا يَخْفَى فِيهَا الْمُسْكِرُ" يعني إذا تحوَّل إلى مسكر يصبح واضحا "بَلْ إِذَا صَارَ مُسْكِرًا شَقَّهَا غَالِبًا".

ثُمَّ إِنَّ هَذَا النَّهْيَ كَانَ فِي ‌أَوَّلِ ‌الْأَمْرِ، ‌ثُمَّ ‌نُسِخَ بِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ الِانْتِبَاذِ إِلَّا فِي الْأَسْقِيَةِ" وذكر الحديث. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ كونه منسوخاً هُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: "الْقَوْلُ بِالنَّسْخِ هُوَ أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ. قَالَ: وَقَالَ قَوْمٌ: التَّحْرِيمُ بَاقٍ، وَكَرِهُوا الِانْتِبَاذَ فِي هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ.

ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَهُوَ مروي عن ابن عُمَرَ وَابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهم. وَاللَّهُ أَعْلَمُ". انتهى

(وَقَالَ:) عليه الصلاة والسلام للوفد ("احْفَظُوهُنَّ، وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ") أي: الذين استقروا وراءكم.

قال ابن حجر: " وَوَرَاءَكُمْ يَشْمَلُ مَنْ جَاءُوا مِنْ عِنْدِهِمْ، وَهَذَا بِاعْتِبَارِ الْمَكَانِ، ‌وَيَشْمَلُ ‌مَنْ ‌يَحْدُثُ لَهُمْ مِنَ الْأَوْلَادِ وَغَيْرِهِمْ وَهَذَا بِاعْتِبَارِ الزَّمَانِ.

فَيُحْتَمَلُ إِعْمَالُهَا فِي الْمَعْنَيَيْنِ مَعًا حَقِيقَةً وَمَجَازًا.

وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْمُصَنِّفُ الِاعْتِمَادَ عَلَى أَخْبَارِ الْآحَادِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى"، هؤلاء ما بلغوا حدَّ التواتر، هؤلاء الوفد الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مع ذلك أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، إذاً يلزم من بلَّغوهم أن يأخذوا عنهم، هذا دليل على أن أخبار الآحاد حجة، وسيأتي في موضعه الكلام على هذه المسألة إن شاء الله تعالى.

إذاً: أخبروا به من وراءكم عامٌّ وشامل، كل من مرَّ بهم والتقَوا به يخبرونهم بما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم؛ سواء كان في المكان أو في الزمان.

استدل بهذا الحديث من لا يفرق بين الإيمان والإسلام ويجعلهما بمعنى واحد؛ لأنه فسر الإيمان هنا بما فسَّر به الإسلام فيما مضى.

ولكنَّ الصحيح الجمع بينه وبين غيره من الأحاديث أن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.

هذا أصح ما يُقال وبه تجتمع الأدلة جميعا.

وفيه أن الأعمال من الإيمان:

قال الإمام أحمد رحمه الله: "أما ما ذكرتَ من قول من يقول: إنما الإيمان قول؟ هذا قولُ أهل الإرجاء، قولٌ محدث، لم يكن عليه سلفنا ومَن نقتدي به، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ممّا يقوِّي أن الإيمان قول وعمل، ثم ذكر حديث ابن عباس في وفد عبد القيس". انتهى، هذا استدلال الإمام أحمد رحمه الله.

وقال محمد بن نصر المروزي: "فإن قيل: فهل مع ما ذكرت من سنة ثابتة، تبين أن العمل داخل في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله؟ قيل: نعم، عامَّةُ السنن والآثار تنطق بذلك، منها حديث وفد عبد القيس..". فذكره وذكر غيره من الأحاديث.

وفي الحديث استعانة العالم بغيره في تفهيم الحاضرين والفهم عنهم.

واستحباب قول مرحبًا للزوار، لكن على التفصيل الذي ذكرنا.

واستحباب إكرام العالم الرجل الفاضل.

الحديث متفق عليه من حديث أبي جمرة عن ابن عباس، ولا إشكال في صحته والحمد لله.

وله شواهد ومتابعات عند مسلم وغيره.

قال ابن تيمية رحمه الله: "وحديث ‌وفد ‌عبد ‌القيس من أشهر الأحاديث وأصحها". انتهى الكلام والله أعلم والحمد لله.

تفضل.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، أما بعد:

قال المؤلف رحمه الله وشيخنا والسامعين:

بَابٌ: مَا جَاءَ إِنَّ الأَعْمَالَ بِالنِّيَّةِ وَالحِسْبَةِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَدَخَلَ فِيهِ الإِيمَانُ، وَالوُضُوءُ، وَالصَّلاَةُ، وَالزَّكَاةُ، وَالحَجُّ، وَالصَّوْمُ، وَالأَحْكَامُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84] عَلَى نِيَّتِهِ. «نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا صَدَقَةٌ» وَقَالَ: "وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ".

قال رحمه الله: (بَابُ: مَا جَاءَ) أي: في بيان ما ورد دالاً على (أَنَّ الأَعْمَالَ بِالنِّيَّةِ وَالحِسْبَةِ) الحِسبة؛ قال الجوهري؛ الجوهري صاحب كتاب "الصحاح" في اللغة معجمٌ لُغوي نفيس: يُقال احتسبت بكذا أجراً عند الله، والاسم الحِسبة بالكسر وهي الأجر. انتهى

أي: فعلته أريد به وجه الله تبارك تعالى.

فالحسبة: طلب الأجر. وقال البعض: الإخلاص.

("وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى") من عمل وما احتسب من ثواب (فَدَخَلَ فِيهِ) في الأعمال بالنية والحسبة.. إلخ (الإِيمَانُ) فلا يصح إيمان بلا نية عند أهل السنة، فإذا أسلم الرجل ظاهراً من غير نية لا ينفعه، ففيه رد على الكَرَّامِيَّة الذين يقولون: إن الإيمان قول باللسان فقط، ليست منه النية، وقد تقدم القول في هذا، ومذهب أهل السنة أن الإيمان: اعتقاد وقول وعمل، ونص السلف رضي الله عنهم على النية في الإيمان.

(وَالوُضُوءُ) أيضاً يحتاج إلى نية حتى يُقبل، خلافاً لمن قال: لا تُشترَط له النية، وحديث "إنما الأعمال بالنيات" حجة عليهم، وقد تقدمت هذا المسألة في الفقه.

(وَالصَّلاَةُ، وَالزَّكَاةُ، وَالحَجُّ، وَالصَّوْمُ، وَالأَحْكَامُ) قال الشراح: "المُرَادُ بِالْأَحْكَامِ هُنَا؛ أي: الْمُعَامَلَاتُ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا الِاحْتِيَاجُ إِلَى الْمُحَاكَمَاتِ فَيَشْمَلُ الْبُيُوعَ وَالْأَنْكِحَةَ وَالْأَقَارِيرَ وَغَيْرَهَا، وَكُلُّ صُورَةٍ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا النِّيَّةُ فَذَاكَ لِدَلِيلٍ خَاصٍّ". انتهى

الأصل أن كل شيء يحتاج إلى نية لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات" الحديث، فإذا قلنا شيئا لا يحتاج إلى نية فلا بد له من دليل خاص يُخرجه.

هذه كلها التي ذكرها البخاري تشترط لها النية، ولا تصح بلا نية، لعموم الحديث.

(وَقَالَ) وفي نسخة:" وقال اللَّهُ تَعَالَى": ({قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84] عَلَى نِيَّتِهِ)، هكذا فسَّرها البخاري رحمه الله تعالى، قال ابن كثير: "قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَى نَاحِيَتِهِ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "عَلَى حِدَّتِهِ وَطَبِيعَتِهِ". وَقَالَ قَتَادَةُ: "عَلَى نِيَّته". وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: "دِينِهِ".

قال ابن كثير: "وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى". انتهى

قال الشراح: " ويريد به -أي البخاري- أنَّ الآيةَ أيضًا تدلُّ على أنَّ جميع الأعمالِ على حسب النيَّة، فهي مُقويَّة لما قال: "فدخل فيه كذا وكذا.."".

(نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا) أي يبتغي بها وجه الله (صَدَقَةٌ") فهي صدقة إذا ابتغى بها وجه الله.

وهذه الترجمة مطابقة لحديث أبي مسعود الآتي.

(وَقَالَ) وفي نسخة: وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ("وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ")

علَّق البخاري هذا الحديث ها هنا، هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم علَّقه في هذا الموضع، ووصله في كتابه عن ابن عباس في عدة مواضع، وسيأتي. وأخرجه مسلم أيضا في صحيحه (1353) باب تحريم مكة وصيدها وخلاها.

ولفظه: "لَا هِجْرَةَ ‌وَلَكِنْ ‌جِهَادٌ ‌وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا" قالها يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ.

وفي رواية: "لا هجرة بعد الفتح".

ومعناه: "وَلَكِنْ لَكُمْ طَرِيقٌ إِلَى تَحْصِيلِ الْفَضَائِلِ الَّتِي فِي مَعْنَى الْهِجْرَةِ، وَذَلِكَ بِالْجِهَادِ وَنِيَّةِ الْخَيْرِ فِي كُلَّ شَيْءٍ". كذا قال النووي رحمه الله.

قال ابن بطال: "غرضه" أي البخاري "في هذا الباب أيضًا الرد على من زعم من المرجئة أن الإيمان قول باللسان دون عقدٍ بالقلب، ألا ترى أنه صلَّى اللهُ عليهِ وَسلَّمَ لم يقتصر على قوله: "الأعْمَالُ بِالنِّيَّات، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" وإن كان ذلك كافيًا في البيان عن أنَّ كل ما لم تصحبه نية من الأعمال فهو ساقط غير معتد به، حتى أكد ذلك ببيانٍ آخر، فقال: "مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُولِهِ" إلى آخر الحديث.

ومثلُه حديث ابن مسعود: "إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ على أَهْلِهِ وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ"، وحديثُ سعد: "إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلا أُجِرْتَ عليها" ألا ترى أنه قرن الأجر في هذين الحديثين: المنفِقِ على أهله بشرط احتساب النفقة عليهن، وإرادةِ وجه الله بذلك؟

وبهذا المعنى نطق التنزيل قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ...} الآية. انتهى كلامه رحمه الله.

54 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ، عَنْ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ".

رجال الإسناد كلهم تقدموا.

والحديث نفسه تقدم وهو أول حديث معنا في الكتاب، من طريق الحُمَيْدِيِّ عن سفيان عن يحيى بن سعيد الأنصاري به.

هذه هنا عندنا متابعة، تابعه عبد الله بن مسلمة عن مالك، قلنا هذا الحديث غريب، لكنه من بعد يحيى بن سعيد تواتر.

والحديث متفق عليه، وتقدم شرحه، أخرجه البخاري هنا تاماً.

تفضلوا حفظكم الله.

أحسن الله إليكم شيخنا. قال المؤلف رحمه الله:

55 - حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ"

أكمل، وقال رحمه الله:

56 - حَدَّثَنَا الحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ".

(حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ) الأَنماطِي، أَبُو مُحَمَّد السُّلميّ مولاهم، البَصْرِيّ.

يروي عن أتباع التابعين، ثقة فاضل. مات في سنة سبع عشرة ومائتين. روى له الجماعة.

ليس في الكتب الستة من اسمه حجاج بن منهال سواه.

(قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) بن الحجاج أبو بِسطام، الإمام. تقدم

(قَالَ: أَخْبَرَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ) الأنصاري الكوفي، هو ابن بنت عبد الله بن يزيد الخَطْمِي وهو شيخه هنا الآتي.

تابعي، ثقة، شيعي مفرط، كَانَ إمام مَسْجِد الشيعة وقاصَّهم، مات سنة ست عشرة ومائة. روى له الجماعة.

(قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ) بن زيد بن حُصين الأنصاري، أَبُو مُوسَى الخَطْمي.

اختُلف في صحبته، أثبتها البعض ونفاها آخرون، ولعل الأقرب للصواب أن له صحبةً كما قال ابن معين. والله أعلم. روى له الجماعة.

قال أَبُو عُبَيد الآجري: "قلتُ لأَبِي داود: عَبد اللَّهِ بْن يَزِيدَ الخَطْمي، لهُ صُحبَةٌ؟ قال: يقولون: رؤية، سمعت يَحْيَى بْن مَعِين يَقُول هَذَا".

(عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ) هو عقبة بن عمرو بن ثعلبة، أبو مسعود الأنصاري، من بني الحارث بن الخزرج، هو مشهور بكنيته، ويعرف بأبي مسعود البدري، لأنه رضي الله عنه كان يسكن بدراً. صحابي جليل فاضل. روى له الجماعة.

قال ابن عبد البر: "قال ابن إسحاق: كان أبو مسعود أحدثَ مَن شهد العقبة سِناً" أي: كان أصغرهم سِناً "ولم يشهد بدراً، وشهد أُحداً وما بعدها من المشاهد".

وقالت طائفة: "قد شهد أبو مسعود بدراً، وبذلك قال البخاري، فذكره في البدريين، ولا يصح شهوده بدراً". انتهى المراد من كلام ابن عبد البر.

وقال ابن حجر: "اتفقوا على أنه شهد العقبة، واختلفوا في شهوده بدراً، فقال الأكثر: نزلها فنُسب إليها" أي أنه لم يشهدها.

وجزم البخاري بأنه شهدها، واستدل بأحاديث أخرجها في صحيحه في بعضها التصريح بأنه شهدها". انتهى المراد.

مات بعد سنة أربعين. وقيل غير ذلك.

روى (عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ) أي أنفد ماله وأفناه، نقول نحن اليوم: "إذا صرف الرجل ماله " (عَلَى أَهْلِهِ) على زوجته وولده، حال كون الرجل (يَحْتَسِبُهَا) أي يريد بها وجه الله، أي أنفق عليهم، طاعة لله وطلباً للأجر من الله تبارك وتعالى.

قال النوويّ رحمه الله: "معناه أراد بها وجه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، فلا يدخل فيه من أنفق عليها ذاهلًا" أي ذاهلا عن الأجر وعن النية "ولكن يدخل المحتسب" يعني الذي أنفق وهو يريد الأجر من الله سبحانه وتعالى على هذه النفقة "وطريقه في الاحتساب" كيف يحتسب؟ قال "أن يتذكّر أنه يجب عليه الإنفاق على الزوجة وأطفال أولاده، والمملوك، وغيرهم" كل من ينفق عليه "ممن تجب نفقته على حسب أحوالهم، واختلاف العلماء فيهم، وأن غيرهم ممن يُنفَقُ عليه مندوبٌ إلى الإنفاق عليهم، فينفق بنيّة أداء ما أُمر به، وقد أُمر بالإحسان إليهم". انتهى

يعني عندما تنفق نفقة على من أوجب الله عليك نفقته أو من نُدب لك أن تنفق عليه فاحتسب في كل درهم تضعه احتسب، يسأل الناس كثيرا عن النسيان، ننسى الاحتساب عندما نريد أن نُنفق في لحظة من اللحظات، أقول لك: ضع حسبة عامة، أن تجعل كل ما تُنفقه على أهلك في سبيل الله، ثم بعد ذلك ما استطعت أن تستحضر فاستحضر، وإذا ما استطعت أو نسيت أو ما شابه تكون عندك نية سابقة بهذا، والله أعلم.

(فَهيَ لَهُ صَدَقَةٌ) يؤجر عليها، تصوَّر أنت كيف تجعل حتى المباحات في حياتك كما سيأتي تجعلها كلها فيها أجر لك، سيأتي إن شاء الله.

قال القرطبي: "أفاد منطوقه أن الأجر في الإنفاق إنما يحصل بقصد القُربة، سواءٌ كانت واجبةً أم مباحة، وأفاد مفهومه أن من لم يقصد القربة لم يؤجر، لكن تبرأ ذمته من النفقة الواجبة؛ لأنها معقولة المعنى"

رجل أنفق على زوجته وليس في باله أن يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بهذا الفعل، نفقته على زوجته واجبة فتكون النفقة قد سقطت عنه، لا يُسأل عنها يوم القيامة، لا يُحاسب أنه لم ينفق، لكن هل له أجر فيها؟ لا، لماذا؟ لأنه لم يحتسب، هذا هو الفرق،فالواجب سقط، لكن الأجر غير موجود، الأجر لا يكون إلا بالنية، أما الوجوب فيسقط، هذا الأمر ليس تعبديا، هذا الأمر قال معقول المعنى، المقصود منه معروف.

قال: "وحُذف المعمول ليفيد التعميم أي: أيَّ نفقة كانت كبيرة أو صغيرة". انتهى كلامه رحمه الله.

قال ابن حجر: "وقال الطبريّ رحمه اللَّه تعالى: ما مُلخّصه: الإنفاق على الأهل واجبٌ، والذي يُعطيه يؤجر على ذلك بحسب قصده، ولا منافاة بين كونها واجبةً، وبين تسميتها صدقة، بل هي أفضل من صدقة التطوّع". انتهى

الصدقة أصلا في الشرع تُطلق على هذا وعلى هذا، تطلق على الواجب وتطلق على المستحب.

وقال المهلّب: "النفقة على الأهل واجبة بالإجماع، وإنما سمّاها الشارع صدقة خشية أن يظنّوا أنّ قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه، وقد عرفوا ما في الصدقة من الأجر، فعرّفهم أنها لهم صدقة، حتى لا يُخرجوها إلى غير الأهل إلا بعد أن يَكْفُوهم؛ ترغيبًا لهم في تقديم الصدقة الواجبة قبل صدقة التطوّع".

هذا الحديث من رواية صحابي عن صحابي، وهو متفق عليه.

أخرجه الشيخان وغيرهما عن جمع عن شعبة به.

وله متابعة غريبة عند الدارقطني في الأفراد.

ومما يستفاد من هذا الحديث: أن الأعمال لا يُوجَد ثوابُها إلا بالاحتساب وإخلاص النية للَّه تعالى.

وأن ثواب الصدقة يحصل بالنفقة الواجبة، حتى وإن كانت واجبة فلك أجر عليها إذا احتسبت، فمن أنفق على أهله من غير احتساب، لم يحصل له ثواب الصدقة، وإن سقط عنه الوجوب.

56 - حَدَّثَنَا الحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ".

(حَدَّثَنَا الحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ) أبو اليمان الحمصي. ثقة. تقدم

(قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ) ابن أبي حمزة الحمصي. ثقة. تقدم

(عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمد بن شهاب الزهري. إمام. تقدم

(قَالَ: حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ) ابن أبي وقاص. ثقة. تقدم

(عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) رضي الله عنه. صحابي جليل. تقدم أيضا

(أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً) إلى آخر الحديث.

هذا الحديث طويل، وسيأتي إن شاء الله بطوله، لكن هذه القطعة منه هي التي أراد أن يستدل بها المؤلف على مراده رحمه الله.

" إنك لن تنفق نفقة" الكلام من النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاس، هذه النفقة عامة في كل نفقة صغيرة أو كبيرة؛ مالاً كان أو ثياباً أو طعاماً أو غير ذلك، بشرط أن (تَبْتَغِي) تطلب (بِهَا وَجْهَ اللَّهِ) يعني: تقصد بها أن تصل إلى الجنة؛ لترى وجه الله فيها، هذا معنى أن تبتغي وجه الله، حتى ترى وجه الله الحقيقي، فله وجه حقيقي يليق بجلاله وعظمته، ليس كوجوه المخلوقين، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة.

قال أهل العلم في تفسير مثل هذا: "المراد به الوجه الحقيقي؛ وذلك أن الإنسان إذا كان من أهل الجنة؛ فإنه ينظر إلى الله عز وجل، ينظر إليه نظراً حقيقياً بالعين، كما قال الله عز وجل: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تُضامُّون في رؤيته"، إذاً إلا طلب وجه الله؛ أي: وجهه الحقيقي الذي هو صفته؛ لأن من وصل الجنة نظر إلى وجه الله، فيكون أعلى مطلوب للإنسان في عمله الصالح هو النظر إلى وجه الله تعالى". انتهى

هذه عقيدة أهل السنة والجماعة في إثبات الوجه لله تبارك وتعالى.

وقول أهل العلم هنا فيكون أعلى مطلوب للإنسان في عمله الصالح هو النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى، هذا يبين لنا خطأ الكثير ممن يفهم أن نعيم الجنة مما ذُكر لنا أفضل من رؤية وجه الله سبحانه وتعالى، هذا خطأ ومفهوم باطل موجود عند البعض، إذا ذكر الجنة وذكر نعيمها يذكر من خيرات الجنة ولا يذكر النظر إلى وجه الله، وهذا خطأ، أعظم نعيم يجده الإنسان في الجنة هو النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى.

قال ابن خزيمة في كتاب التوحيد بعد أن ذكر الآيات التي فيها إثبات صفة الوجه لله تبارك تعالى:

"فَأَثْبَتَ اللَّهُ لِنَفْسِهِ وَجْهًا، وَصَفَهُ بِالْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَحَكَمَ لِوَجْهِهِ بِالْبَقَاءِ، وَنَفَى الْهَلَاكَ عَنْهُ.

فَنَحْنُ وَجَمِيعُ عُلَمَائِنَا مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَتِهَامَةَ وَالْيَمَنِ، وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ، مَذْهَبُنَا: أَنَّا نُثْبِتُ لِلَّهِ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ، نُقِرُّ بِذَلِكَ بِأَلْسِنَتِنَا، وَنُصَدِّقُ ذَلِكَ بِقُلُوبِنَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ نُشَبِّهَ وَجْهَ خَالِقِنَا بِوَجْهِ أَحَدٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، عَزَّ رَبُّنَا عَنْ أَنْ يُشْبِهَ الْمَخْلُوقِينَ، وَجَلَّ رَبُّنَا عَنْ مَقَالَةِ الْمُعَطِّلِينَ.

وَعَزَّ عن أَنْ يَكُونَ عَدَمًا كَمَا قَالَهُ الْمُبْطِلُونَ؛ لِأَنَّ مَا لَا صِفَةَ لَهُ عَدَمٌ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَهْمِيُّونَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ صِفَاتِ خَالِقِنَا الَّذِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ فِي مُحْكَمِ تَنْزِيلِهِ، وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ" ثم ذكر الأدلة من الكتاب والسنة.

ورد الدارمي رحمه الله في رده على المريسي على الذين يحرفون هذه الصفة، من الأشاعرة وغيرهم.

في هذا الموضع تجد الكثير من الشراح يحرفون صفة الوجه، ولا يثبتونها، فاحذروا.

حتى قال بعضهم: "لنا في هذا طريقان: التفويض والتأويل"، ويعني بالتفويض الجهل؛ يعني عدم العلم بمعنى كلمة الوجه، هذا جهل وينسبونه إلى السلف، والسلف أعلم منهم، لكن لمَّا أحسنوا الظن بأنفسهم وأساءوا الظن بالسلف صار عندهم السلف جهَّالاً وهم العلماء، لذلك يقولون: "مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم"؛ وهذا لشدة جهلهم، عندما تجهل قدرك وتجهل قدر السلف تنعكس الأمور وتنقلب، أنتم أعلم من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومن أئمة الإسلام السابقين؟!

هكذا المعنى الذي يريدون، هذا معنى التفويض؛ أنهم لا يعرفون، يفوضون معنى الوجه ومعنى اليد، وهكذا.

والمعنى عند أهل السنة والجماعة ثابت معلوم بدلالة اللغة التي نزل بها القرآن ونزلت بها السنة.

الطريقة الثانية عندهم التأويل، التأويل هذا: تفسيرها على غير حقيقتها، وهو الذي كان السلف رضي الله عنهم يقولون: "نثبتها بلا كيف ولا معنى"، وفي رواية عنهم:" ولا تفسير"، ما هو التفسير؟ هذا هو التفسير الذي يسميه المعطلة تأويلاً، هذا الذي كان السلف رضي الله عنهم يحذرون منه.

أهل التعطيل قلبوا الأمور، أخذوا كلمة السلف هذه وقالوا مقصودهم التفويض لأنهم لا يثبتون المعنى ولا التفسير، وأثبتوا هم تفسيرهم وجعلوه حقا، والسلف كانوا يعنونهم هم ويعنون تفسيرهم الذي يسمونه تأويلا، وهذا الموضوع كله سيأتي إن شاء الله في موضعه، لكن هذه أول مرة تمر بنا مثل هذه الصفة لذلك ذكرنا هذا الذي ذكرناه، وهذا كلام ابن خزيمة ينقل اتفاقا من علمائنا الذين هم علماء أهل السنة والجماعة على هذا، فقال نحن وجميع علمائنا على هذا.

(إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فيِّ امْرَأَتِكَ) وفي نسخة: "فَمِ"، والمعنى واحد فيّ أو فم (امْرَأَتِكَ") حتى اللقمة التي تُطعمها امرأتك تُؤجَر عليها إذا قصدت بها وجه الله.

فأشار في هذا الحديث إلى الإخلاص في كون الإنسان يبتغي بعمله وبإنفاق ماله وجه الله؛ حتى ينال على ذلك الأجر وزيادة الدرجات والرفعة عند الله عز وجل.

قَالَ النَّوَوِيّ: "هَذَا بَيَان لقاعدة مهمة، وَهِي: أَن مَا أُرِيد بِهِ وَجه الله تَعَالَى ثَبت فِيهِ الْأجر، وَإِن حصل لفَاعِله فِي ضمنه حَظُّ نفس من لَذَّة أَو غَيرهَا" حتى اللذة يتلذذ بها العبد في الدنيا إذا ابتغى بها وجه الله أُجِر عليها، يتلذذ ويُؤجَر، انظر كم من إنسان محروم في زمننا هذا، حتى من بعض المسلمين، ليس في باله هذا أصلا، لماذا؟ من الجهل ما يتعلم، هو مأمور أن يتعلم، لا يتعلَّم فلا يعرف هذه المسائل، فلا يكون له نية أصلا، فيُحرم الكثير من الأجور في حياته بسبب جهله.

قال:" وَإِن حصل لفَاعِله فِي ضمنه حَظُّ نفس من لَذَّة أَو غَيرهَا فَلهَذَا مثَّلَ صلى الله عليه وسلم بِوَضْع اللُّقْمَة فِي فَم الزَّوْجَة، وَمَعْلُوم أَنه غَالِبا يكون بحظ ‌النَّفس ‌والشهوة ‌واستمالة ‌قَلبهَا، فَإِذا كَانَ الَّذِي هُوَ من حظوظ النَّفس بِالْمحل الْمَذْكُور من ثُبُوت الْأجر فِيهِ، وَكَونه طَاعَة وَعَملا أخروياً إِذا أُرِيد بِهِ وَجه الله تَعَالَى، فَكيف الظَّن بِغَيْرِهِ مِمَّا يُرَاد بِهِ وَجه الله تَعَالَى وَهُوَ مباعد للحظوظ النفسانية ". انتهى كلامه رحمه الله.

حتى المباحات في حياتك تقلبها إلى أجور عند الله سبحانه وتعالى، بماذا؟ بالنية، فتصير حياتك كلها أجراً عند الله سبحانه وتعالى، حتى النوم؟! حتى النوم، تنام تقوم تلبس تأكل تمشي تجلس؛ إذا نويت بذلك كله التقوّي على طاعة الله سبحانه وتعالى والقرب إلى الله تبارك وتعالى في كل أمرك ستؤجر على ذلك، انظر عظيم سعة فضل الله على العباد، ولكنهم لا يعلمون.

هذا الحديث قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري في عدة مواضع من كتابه، وأخرجه مسلم وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص به.

متابع عليه الزهري وعامر.

تفضلوا حفظكم الله. أحسن الله إليكم شيخنا.

قال المؤلف رحمه الله:

بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الدِّينُ النَّصِيحَةُ: لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ "وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91]

57 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ».

58 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلاَقَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ يَوْمَ مَاتَ المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، قَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَالوَقَارِ، وَالسَّكِينَةِ، حَتَّى يَأْتِيَكُمْ أَمِيرٌ، فَإِنَّمَا يَأْتِيكُمُ الآنَ. ثُمَّ قَالَ: اسْتَعْفُوا لِأَمِيرِكُمْ، فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ العَفْوَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: أُبَايِعُكَ عَلَى الإِسْلاَمِ فَشَرَطَ عَلَيَّ: «وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» فَبَايَعْتُهُ عَلَى هَذَا، وَرَبِّ هَذَا المَسْجِدِ إِنِّي لَنَاصِحٌ لَكُمْ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَنَزَلَ.

(بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الدِّينُ النَّصِيحَةُ: لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ").

هذا الحديث أورده البخاري معلقاً كما ترون، ولم يصله في كتابه.

وأخرجه مسلم عن تميم الداري: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: "لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِم".

وقد رُوِي عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة وهو وهم.

ورُوِي عن غير أبي هريرة.

قال البخاري في تاريخه: (لا يصح إلا عن تميم)، ما صحَّ هذا الحديث إلا من رواية تميم الداري.

ومراد البخاري رحمه الله أن يبين أن النصيحة من الإيمان، وأن العمل من الإيمان؛ فالنصيحة منها عمل.

قال ابن بَطَّالٍ رحمه الله: "فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّصِيحَةَ تُسَمَّى دِينًا وَإِسْلَامًا، وَأَنَّ الدِّينَ يَقَعُ عَلَى الْعَمَلِ كَمَا يَقَعُ عَلَى الْقَوْلِ".

وقال الشراح: " ويُستفاد من هذا الحديث أن الدين يطلق على العمل؛ لأنه سمَّى النصيحة دينًا، وعلى هذا المعنى بنى المؤلف أكثر كتاب الإيمان، وإنما أورده هنا ترجمة ولم يذكره في الباب مسندًا لكونه ليس على شرطه، ووصله مسلم عن تميم الداري". انتهى

قال الحافظ أبو نُعيم: "هذا الحديث له شأن، ذكر محمد بن أسلم الطُّوسي أنه أحد أرباع الدين". انتهى. أي هذا الحديث، ونحو هذا القول نُقِل عن أبي داود السجستاني.

قال النووي رحمه الله: "هَذَا حَدِيثٌ عَظِيمُ الشَّأْنِ وَعَلَيْهِ مَدَارُ الْإِسْلَامِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ شَرْحِهِ" عليه مدار الإسلام على هذا الحديث فقط وليس رُبعاً من الأرباع، قال:" وَأَمَّا مَا قَالَهُ جماعات من العلماء أنه أَحَدُ أَرْبَاعِ الْإِسْلَامِ، أَيْ أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي تَجْمَعُ أُمُورَ الْإِسْلَامِ؛ فَلَيْسَ كَمَا قَالُوهُ بَلِ الْمَدَارُ عَلَى هَذَا وَحْدَهُ". والله أعلم

إذا فسَّرنا النصيحة بالمعنى الذي سيأتي فكلام النووي صحيح.

والنَّصِيحَةُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ مَعْنَاهَا: حِيَازَةُ الْحَظِّ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ. قِيلَ: إِنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ نَصَحْتَ الْعَسَلَ إِذَا صَفَّيْتَهُ مِنَ الشَّمْعِ.

شَبَّهُوا تَخْلِيصَ الْقَوْلِ مِنَ الْغِشِّ، بِتَخْلِيصِ الْعَسَلِ مِنَ الْخَلْطِ.

وضد النصيحة: الغِش. إما أن تكون ناصحا له أو تكون غاشاً له.

وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: عماد الدين الذي أمرنا الله به، وقِوامه: النصيحة؛ كَقَوْلِهِ "الْحَجُّ عَرَفَةُ"، أَيْ عِمَادُهُ وَمُعْظَمُهُ: عَرَفَةُ.

قال محمد بن نصر: "قال بعض أهل العلم: ‌جماعُ ‌تفسير ‌النصيحة هو عنايةُ القلب للمنصوح له مَنْ كان".

ماذا يعني عناية القلب للمنصوح له؟ يكون القلب صادقاً في إيصال النصيحة التي فيها خير لمن ينصحه، هذا معنى أن تنصح لشخص، تبين له الخير وتبين له الشر، وتحثه على أن يفعل الخير ويترك الشر، الخير الذي يعود عليه هو بالخير، ليس كما انقلبت الأحوال عند الناس اليوم، فصار إذا أراد شخص أن ينصح لآخر ينصحه بما يعود النفع عليه هو وليس على المنصوح له، هذا الحاصل اليوم إلا من رحم ربي، ليست هذه النصيحة هذا غِش، النصيحة أن تنصحه بما يعود النفع عليه هو وليس عليك.

"وهي على وجهين:

أحدهما: فرض، والآخر نافلة.

فالنصيحةُ المفترضة لله: هي شدة العناية من الناصح باتباع محبة الله في أداء ما افترض، ومجانبة ما حرَّم.

وأما النصيحة التي هي نافلة، فهي إيثار مَحبته على محبة نفسه، وذلك أنْ يَعْرِض أمران، أحدهما لنفسه، والآخرُ لربه، فيبدأ بما كان لربه، ويؤخر ما كان لنفسه".

هذا الكلام محمول على ما هو من المستحبات وليس بالواجبات.

"فهذه جملة تفسير النصيحة لله، الفرض منه والنافلة، ولذلك تفسير، وسنذكر بعضَه لِيَفهم بالتفسير من لا يَفهمُ الجملة...ثم فسر قوله".

وهذا الكلام ذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم، قد أشبع هذا الحديث شرحاً هناك رحمه الله.

أما النصيحة لله: فهي كمال محبته وتعظيمه والخضوعِ والتذلل له، والإخلاصُ له، وصدق القصد في طلب مرضاته، بأن يكون الإنسان عبدا لله حقيقة، موحدا له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، راضيا بقضائه قانعا بعطائه ممتثلا لأوامره، مجتنباً لنواهيه، مخلصاً له في ذلك كله لا يقصد به رياء ولا سمعة.

وأما النصيحة لكتاب الله: فهي شدة حبه وتعظيم قدره، وتلاوته وتدبُّره وتعلمه وامتثال أوامره واجتناب نواهيه وتصديق أخباره، والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه، والدعوة إليه، والذب عنه، وحمايته من تحريف المبطلين وزيغ الملحدين، واعتقاد أنه كلام رب العالمين حقيقة، تكلم به وألقاه على جبريل فنزل به على قلب النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما النصيحة لرسوله: فهي تصديقه ومحبته والعناية بتعلم سنته واتباعها ظاهراً وباطناً، وتعظيم أمره ولزوم القيام به، واجتناب ما نهى عنه، ونصرته حياً وميتاً، وتقديم قوله وهديه على قول كل أحد وهديه، ومحبة من يحبه ونصرة من ينصره من قرابته وأصحابه وغيرهم محبةً ونصرةً.

وأما النصيحة لأئمة المسلمين: فحب صلاحهم وعدلهم، واجتماع الأمة عليهم، وإرشادهم لما فيه خير الأمة في دينها ودنياها، ومساعدتهم في إقامة ذلك، والسمع والطاعة لأوامرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، واعتقاد أنهم أئمة متبوعون فيما أَمروا به؛ لأن ضد ذلك هو الغش، والتفرق والفوضى التي لا نهاية لها.

وأما النصيحة لعامة المسلمين: فهي أن يحب لهم ما يحب لنفسه، وأن يكره لهم ما يكره لنفسه، ويشفق عليهم، ويرحم صغيرهم، ويوقر كبيرهم، ويحزن لحزنهم، ويفرح لفرحهم، وأن تفتح لهم أبواب الخير، وتحثَّهم عليها، وتغلقَ دونهم أبواب الشر، وتحذرَّهم منها.

قَال أهل العلم: "فمتى نصح العبد في هذه الأمور فقد استكمل الدين، ومن قصَّر في النصيحة بشيء منها فقد نقص دينه بحسب ما قصر فيه".

(وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ})

أكد الحديث المذكور بهذه الآية، قال تعالى: {‌لَيْسَ ‌عَلَى ‌الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

أي: ليس على أهل الأعذار من المذكورين في الآية؛ إثمٌ في القعود وعدم الخروج للغزو؛ {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} يَعْنِي: أَخْلصُوا الْعَمَل لله وَلِرَسُولِهِ، وإخلاص الْعَمَل لله بالتوحيد والطاعة، وَلِلرَّسُولِ بالمتابعة.

قال ابن رجب رحمه الله: "يَعْنِي: أَنَّ مَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْجِهَادِ لِعُذْرٍ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ نَاصِحًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي تَخَلُّفِهِ، فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْأَعْذَارَ كَاذِبِينَ، وَيَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجِهَادِ مِنْ غَيْرِ نُصْحٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ.

وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّصِيحَةَ تَشْمَلُ خِصَالَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ، وَسَمَّى ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا، فَإِنَّ النُّصْحَ لِلَّهِ يَقْتَضِي الْقِيَامَ بِأَدَاءِ وَاجِبَاتِهِ عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهَا، وَهُوَ مَقَامُ الْإِحْسَانِ، فَلَا يَكْمُلُ النُّصْحُ لِلَّهِ بِدُونِ ذَلِكَ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ بِدُونِ كَمَالِ الْمَحَبَّةِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ، وَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ الِاجْتِهَادَ فِي التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِنَوَافِلِ الطَّاعَاتِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا". انتهى

(حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ) بن مسرهد بن مسربل. ثقة، تقدم

(قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى) بن سعيد القطان. إمام، تقدم

(عَنْ إِسْمَاعِيلَ) بن أبي خالد البَجَلي. ثقة، تقدم

(قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) البَجَلي الأَحْمَسي، أبو عبد الله الكوفي. ثقة، مخضرم، هاجر إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ليبايعه، فقُبِض وهو في الطريق، وقيل: إنه رآه، ولم يثبت ذلك، وأبوه- أَبُو حازم- له صحبة.

قالوا: هذا الرجل هو الذي اجتمع له أن يروي عن العشرة المبشرين بالجنة إلا عبد الرحمن بن عوف، مات بعد التسعين أو قبلها، وقد جاز المائة وتغير. روى له الجماعة.

قال سفيان بْن عُيَيْنَة: "مَا كَانَ بالكوفة أحد أروى عَنْ أصحاب رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من قَيْس بْن أَبي حازم".

وَقَال أَبُو عُبَيد الآجُرِّيّ، عَن أبي دَاوُد: "أجودُ التابعين إسنادا قيس بن أَبي حازم، روى عن تسعة من العشرة، ولم يرو عن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عوف".

قَال يَعْقُوب بْن شَيْبَة: "وقَيْسٌ من قدماء التابعين، وقد روى عَن أَبِي بَكْر الصديق فمَن دونَه وأدركه، وهُوَ رجل كَامِل، ويُقال: إنه ليس أحد من التابعين جمع أن روى عن العشرة مثلَه إِلا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْن عوف، فإنا لا نعلمه روى عنه شيئا.

ثُمَّ قد روى بعد العشرة عَنْ جماعة من أصحاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وكبرائهم، وهُوَ متقن الرواية.

وقد تكلم أصحابنا فيه" الكلام ليعقوب بن شيبة، لما يقول أصحابنا يعني أهل الحديث "فمنهم من رفع قدرَه وعظَّمه، وجعل الحديث عنه من أصح الأسانيد، ومنهم من حمل عَلَيْهِ، وَقَال: له أحاديث مناكير.

والذين أَطْرَوه حملوا هذه الأحاديث عنه" أي الأحاديث التي قالوا عنها مناكير "على أنَّهَا عندهم غَيْرُ مناكير، وَقَالوا هِيَ غرائب" لكن لا تصل إلى حدِّ المناكير.

"ومنهم من لم يحمل عَلَيْهِ في شيء من الحديث، وحمل عَلَيْهِ في مذهبه، وَقَالوا: كَانَ يحمل على عليٍّ رحمة الله عَلَيْهِ وعلى جميع الصحابة.

والمشهور عنه أنه كان يقدِّم عُثْمَان" يعني لا يحمل على علي لكنه كان يقدم عثمان على علي، وهذا مذهب أهل السنة، "ولذلك تجنب كَثِيرٌ من قدماء الكوفيين الرواية عنه" معروف مذهب الكوفيين.

"ومنهم من قال: إنه مع شهرته لم يرو عنه كبير أحد، وليس الأمر عندنا كما قال هؤلاء، وقد روى عنه جماعة منهم: إسماعيل ابن أَبي خَالِد، وهُوَ أرواهم عنه" وهذه الرواية من رواية إسماعيل بن أبي خالد، بعض العلماء جعل هذا من أصح الأسانيد؛ روايةُ إسماعيل عن قيس بن أبي حازم، "وكان ثقة ثبتاً، وبيان بْن بشر وكان ثقة ثبتاً - وذكر آخرين - ثُمَّ قال: كل هؤلاء قد روى عَنْهُ". انتهى

خلاصة الأمر: الرجل لا كلام فيه يصح ويكون في محله وهو ثقة.

(عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) هو ابن جابر البَجَلي الأَحْمَسي، صحابي مشهور. روى له الجماعة.

قال ابن عبد البر: "كان إسلامه في العام الذي تُوفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم".

قَالَ جرير بن عبد الله البجلي: "إِنَّمَا كَانَ إِسْلَامِي بَعْدَ الْمَائِدَةِ".

وقال: "مَا ‌حَجَبَنِي ‌رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي، وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ أَنِّي لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ: اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ، وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا"

مات سنة إحدى وخمسين، وقيل بعدها.

(قَالَ: "بَايَعْتُ) البيعة عقدُ عهدٍ؛ عهد يتعهد الشخص به إلى الإمام بالسمع والطاعة، هذا معنى البيعة، فهي ملزمة لولي الأمر المسلم، سيأتي موضوعها كله بالتفصيل في موضعه إن شاء الله، أي عاهدت (رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ).

قال ابن حجر: "وَالْمُرَادُ بِالْبَيْعَةِ الْمُبَايَعَةُ ‌عَلَى ‌الْإِسْلَامِ"؛ لأن مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم كانت على أشياء عدَّة، هذه بعضها "وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوَّلُ مَا يَشْتَرِطُ بَعْدَ التَّوْحِيدِ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا رَأْسُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، ثُمَّ أَدَاءُ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهَا رَأْسُ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ، ثُمَّ يُعَلِّمُ كُلَّ قَوْمٍ مَا حَاجَتُهُمْ إِلَيْهِ أَمَسُّ، فَبَايَعَ جَرِيرًا عَلَى النَّصِيحَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ سَيِّدَ قَوْمِهِ، فَأَرْشَدَهُ إِلَى تَعْلِيمِهِمْ بِأَمْرِهِ بِالنَّصِيحَةِ لَهُمْ، وَبَايَعَ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى أَدَاءِ الْخُمْسِ لِكَوْنِهِمْ كَانُوا أَهْلَ مُحَارَبَةِ مع مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ".

قال الشراح: "قوله: والنصح لكل مسلم: في هذه الجملة التعميم في النصح، وفي المنصوح له؛ فيشمل كلَّ ما يفيد المنصوح له ويعود عليه بالنفع الدنيوي والأخروي.

وأما المنصوح له فَتَحْتَه صنفان:

الأول: ولاة أمور المسلمين منهم، والثاني: عامة المسلمين، وقد تقدم بيانه".

قال الشراح: "مراد البخاري بهذا الباب: وقوع الدِّين على العمل؛ فإنه سَمى النصيحة ديناً وإسلامًا، وبايعه على النصح لكل مسلم كما بايعه على الصلاة والزكاة، فالنصح معتبر بعد الإسلام". انتهى

الحديث متفق عليه، أخرجاه وغيرهما من طرق عن جرير به.

الحديث الذي بعده قال:

(حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ) هو محمد بن الفضل السَّدُوسي البصري، لقبه عَارِم.

والعَارِم: هو الشرير المفسد.

ثقة ثبت، أو ثقة حافظ، أثبتُ أصحابِ حماد بن زيد بعد ابن مهدي، اختلط في آخر عمره، وسمع منه البخاري قبل اختلاطه.

قال مُحَمَّد بن يحيى الذُّهْلِي: "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الفضل عارم، وكان بعيداً من العَرامة". ما كان شريرا ولا كان مفسدا، ولكن هذه كانت ألقاب.

وَقَال عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أَبي حَاتِم: سمعت أَبِي يقول: "إذا حدثك عارم فاختم عليه".

وقال: سمعت أبي يقول: "اختلط عارم في آخر عُمُره، وزال عقله، فمن سمع منه قبل الاختلاط فسماعه صحيح. وكتبتُ عَنْهُ قبل الاختلاط سنة أربعَ عشرةَ، ولم اسمع منه بعدما اختلط، فمن سمع منه قبل سنة عشرين ومائتين، فسماعه جيد، وأبو زرعة لقيه سنة اثنتين وعشرين". انتهى

قال البخاري: (تغير في آخر عمره، قال: وجاءنا نعيه سنة أربعٍ وعشرين ومائتين). انتهى

قال الدارقطني: "تغير بأَخَرَة، وما ظهر له بعد اختلاطه حديث منكر، وهو ثقة". انتهى

قال ابن حجر: "وإنما سمع منه البخاري سنة ثلاث عشرة، قبل اختلاطه بمدة، وقد اعتمده في عدة أحاديث، وروى أيضا في جامعه عن عبد الله بن محمد المُسْنَدِيّ عنه، وروى الباقون له". انتهى

روى له الجماعة.

يعني: المهم عندنا أن البخاري يروي عنه قبل الاختلاط.

(قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ) الوضاح بن عبد الله الْيَشْكُرِي. ثقة، تقدم

(عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلاَقَةَ) هو بن مالك الثعلبي. أبو مالك الكوفي، ثقة. مات سنة خمس وثلاثين ومائة، وقيل قبل ذلك. روى له الجماعة.

(قَالَ: سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) البجلي، في نسخة: "يقول": (يَوْمَ مَاتَ المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ) الثقفي الصحابي الجليل المغيرة بن شعبة، أسلم عام الخندق، وقدِم مهاجرا.

وقيل: إن أول مشاهده الحديبية.

وكان المغيرة رجلاً طويلاً ذا هيبة، أعورَ، أصيبت عينه يوم اليرموك.

وتوفي سنة خمسين من الهجرة بالكوفة.

قال ابن وضاح: "لما شُهد على المغيرة عند عمر عزله عن البصرة، وولَّاه الكوفة، فلم يزل عليها إلى أن قُتل عمر، فأقرَّه عليها عثمان، ثم عزله عثمان، فلم يزل كذلك".

يعني بقي أميرا على الكوفة إلى أن عزله عثمان، وبقي معزولا عنها.

"واعتزل صِفين، فلما كان حين الحكمين لَحِق بمعاوية، فلما قُتل عليٌّ، وصالحَ معاويةُ الحسن، ودخل الكوفة، ولَّاه عليها" رجع والياً على الكوفة لمعاوية "وتوفي سنة خمسين. وقيل: سنة إحدى وخمسين بالكوفة أميرا عليها لمعاوية، واستَخلف عليها عند موته ابنَه عروة". انتهى

يعني لما مات المغيرة وكان أميراً على الكوفة،

(قَامَ) جرير في أهل الكوفة فخطب فيهم، هذا الذي نريده نحن الآن، (فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ) أي: قام جرير فحمد الله وأثنى على الله سبحانه وتعالى، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الخطب يحمد الله ويثني عليه، هذا ما صح عنه في الخطب، وصح عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم أنهم يفعلون هذا، لم أجد في كلامهم أنهم يبدءون الخطب بالبسملة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، هذه طريقتهم في الخطب.

قال ابن حجر: " كَانَ الْمُغِيرَةُ وَالِيًا عَلَى الْكُوفَةِ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ خَمْسِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَاسْتَنَابَ عِنْدَ مَوْتِهِ ابْنَهُ عُرْوَةَ، وَقِيلَ: اسْتَنَابَ جَرِير الْمَذْكُورَ، وَلِهَذَا خَطَبَ الْخُطْبَةَ الْمَذْكُورَةَ، حَكَى ذَلِكَ الْعَلَائِيُّ فِي أَخْبَارِ زِيَادٍ ". انتهى

المهم أن المغيرة كان أميرا على الكوفة ومات رحمه الله، فقام جرير بن عبد الله البَجَلي وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان هو المستخلف أو ليس هو.

(‌وَقَالَ:) لأهل الكوفة (‌عَلَيْكُمْ ‌بِاتِّقَاءِ ‌اللهِ) أي عليكم باجتناب عذابه، والحذر منه بفعل أوامره واجتنابه نواهيه (وَحْدَهُ) أي حال كونه منفردًا (لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْوَقَارِ) وعليكم بالوقار أي الرزانة، ضدها: الخِفَّة والطَّيْش، أي وعليكم بالوقار (وَالسَّكِينَةِ) أي السّكُون والطمأنينة والاستقرار وَترك الإفراط فِي الْحَرَكَة، وضدها: الاضطراب وكثرة الحركة.

الوضع عند موت الأمير مقلق، فأهل الفتن يستغلون هذه المواقف؛ لأنها موقف ضعف، لا يُوجَد أمير؛ فيستغلون هذه المواقف لإثارة الفتن، ومن يتق الله سبحانه وتعالى يجتنب هذا، لذلك أمرهم بهذا بالوقار والسكينة وعد إثارة الفوضى.

قال الشراح: "وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ مُقَدِّمًا لِتَقْوَى اللَّهِ" ذكَّرهم بتقوى الله قبل أن يبدأ بالكلام؛ "لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ وَفَاةَ الْأُمَرَاءِ تُؤَدِّي إِلَى الِاضْطِرَابِ وَالْفِتْنَةِ، وَلَا سِيَّمَا مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْكُوفَةِ إِذْ ذَاكَ مِنْ مُخَالَفَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ". يعني أهل الكوفة كانوا معروفين بهذه الطريقة. انتهى

(حَتَّى يَأْتِيَكُمْ أَمِيرٌ) أي الزموا هذا الحال إلى أن يأتيكم أمير بدلَ أميرِكم الذي مات وهو المغيرةِ رحمه الله (فَإِنَّمَا يَأْتِيكُمُ الْآنَ) أي في المدة القريبة من الآن، أَرَادَ بِهِ تَقْرِيبَ الْمُدَّةِ تَسْهِيلًا عَلَيْهِمْ.

قال الشراح: "ومفهوم الغاية من "حتى" هنا" يعني الزموا الوقار حتى يأتيكم الأمير يعني بعد أن يأتيكم الأمير ما في وقار ونعمل الفوضى والفتنة؟!! طبعا لا، قالوا هنا: " ومفهوم الغاية من "حتى" هنا وهو: أن المأمور به -وهو الاتقاء- ينتهي بمجيء الأمير؛ ليس مرادًا" يعني تبقى معكم تقوى الله ويبقى معكم الوقار والسكينة، كل هذا موجود حتى بعد أن يأتي الأمير، إذاً مفهوم المخالفة في مفهوم الغاية هنا ليس مراداً، "بل يلزم عند مجيء الأمير بطريق الأولى، وشرط اعتبار مفهوم المخالفة" متى نعتبر مفهوم المخالفة "أن لا يعارضه مفهوم الموافقة". انتهى

عندنا أدلة أخرى تدل على أن لزوم تقوى الله والوقار والسمع والطاعة في طاعة الله...الخ، كل هذه الأدلة أقوى من دليل المخالفة في كلام جرير هذا، وليس هناك أحد يفهم من قوله هذا بالسياق والسباق ومنهج جرير أن مفهوم الغاية مطلوب ومقصود.

(ثُمَّ قَالَ) جرير (اسْتَعْفُوا) أي اطلبوا العفو (لِأَمِيرِكُمْ) المتوفى من الله تعالى (فَإِنَّهُ) أي الأمير، لأن الأمير (كَانَ يُحِبُّ الْعَفْوَ) عن ذنوب الناس، فالجزاء من جنس العمل، بما أنه كان يحب العفو عنكم ويتجاوز إذاً أنتم اطلبوا له العفو من الله سبحانه وتعالى وادعوا له بالمغفرة، ففي رواية أبي الوقت وابن عساكر: "استغفروا لأميركم"، أي ادعوا له بالمغفرة.

(ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ) هذه كلمة يُؤتَى بها للانتقال من المقدمة إلى الموضوع، وقيل من أسلوب إلى أسلوب آخر في الكلام.

أي مهما يكن من شيء بعد كلامي هذا (فَإِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ:) وفي رواية أبي الوقت:" فقلت له: يا رسول الله" ("أُبَايِعُكَ عَلَى الْإِسْلَامِ) جرير لماذا ذكر لهم في الخطبة هذا الحديث، سيأتي إن شاء الله أنه بايع النبي صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم، ومعنى ذلك أني لن أتكلم معكم إلا بما فيه نصح لكم؛ لأني بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وهذا يقتضي بأنه صادق فيما يأمر به رضي الله عنه.

قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله: أُبايعك على الإسلام (فَشَرَطَ) صلى الله عليه وسلم (عَلَيَّ) الإسلام (وَالنُّصْحِ) بالجر عطفًا على قوله "الإسلام"، أي تبايعني على الإسلام والنصح (لِكُلِّ مُسْلِمٍ) عام يشمل المسلمين جميعاً الولاةَ والرعيةَ (فَبَايَعْتُهُ عَلَى هَذَا) على الإسلام والنصح (وَرَبِّ هَذَا الْمَسْجِدِ)، إن كانت خطبته في مسجد الكوفة فربما يريد مسجد الكوفة، وربما يكون أشار إلى المسجد الحرام فيكون مقصوده المسجد الحرام.

قال ابن حجر: " وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ إِلَى جِهَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الطَّبَرَانِيِّ بِلَفْظِ:" وَرَبِّ الْكَعْبَةِ" وَذَكَرَ ذَلِكَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى شَرَفِ الْمُقْسَمِ بِهِ لِيَكُونَ أَدْعَى لِلْقَبُولِ". انتهى كلامه.

(إِنِّي لَنَاصِحٌ لَكُمْ) هذا فيه إشارة إلى أنه وفَّى بما بايع به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن كلامه عارٍ عن الأغراض الفاسدة، ليس له أي نية فاسدة، إنما يريد أن ينصح لكم كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ اسْتَغْفَرَ) الله (وَنَزَلَ") عن المنبر هذا الظاهر. والله أعلم.

الحديث متفق عليه وأخرجه غيرهم من طرق عن جرير، وأخرجه مسلم من طريق ابن عِلاقة أيضا.

أخرجه ابن منده من طريق إسماعيل عن قيس المتقدم، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ «رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ عَنْهُ» وَرَوَاهُ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، وَأَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، وَزِيَادُ بْنُ عِلَاقَةَ وَعَنْهُمْ مَشَاهَيرُ، عَنْ جَرِيرٍ بَايَعْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. "ذَكَرْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ". انتهى

قال ابن حجر: "(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الْإِيمَانِ وَمُقَدِّمَتُهُ مِنْ بَدْءِ الْوَحْيِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى "أحِدٍ وَثَمَانِينَ" حَدِيثًا بِالْمُكَرَّرِ، مِنْهَا فِي بَدْءِ الْوَحْيِ: "خَمْسَةَ عَشَرَ"، وَفِي الْإِيمَانِ: "سِتَّةٌ وَسِتُّونَ"، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا: "ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ".

مِنْهَا فِي الْمُتَابَعَاتِ بِصِيغَةِ الْمُتَابَعَةِ أَوِ التَّعْلِيقِ: "اثْنَانِ وَعِشْرُونَ"، فِي بَدْءِ الْوَحْيِ: "ثَمَانِيَةٌ"، وَفِي الْإِيمَانِ: "أَرْبَعَةَ عَشَرَ".

وَمِنَ الْمَوْصُولِ الْمُكَرَّرِ: "ثَمَانِيَةٌ"، وَمِنَ التَّعْلِيقِ الَّذِي لَمْ يُوصَلْ فِي مَكَانٍ آخَرَ: "ثَلَاثَةٌ".

وَبَقِيَّةُ ذَلِكَ وَهِيَ: "ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ" حَدِيثًا مَوْصُولَةٌ بِغَيْرِ تَكْرِيرٍ.

وَقَدْ وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا إِلَّا سَبْعَةً، وَهِيَ:

الشَّعْبِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي الْمُسْلِمِ وَالْمُهَاجِرِ.

وَالْأَعْرَجُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي: حُبِّ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم.

وَابْنُ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي: الْفِرَارِ مِنَ الْفِتَنِ.

وَأَنَسٌ عَنْ عُبَادَةَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.

وَسَعِيدٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الدِّينِ يُسْرٌ.

وَالْأَحْنَفُ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ فِي الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ.

وَهِشَامٌ، عن أبيه عَنْ عَائِشَةَ فِي: أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ.

وَجَمِيعُ مَا فِيهِ مِنَ الْمَوْقُوفَاتِ عَلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَثَرًا مُعَلَّقَةٌ، غَيْرَ أَثَرِ ابْنِ النَّاظُورِ فَهُوَ مَوْصُولٌ.

وَكَذَا خُطْبَةُ جَرِيرٍ الَّتِي خَتَمَ بِهَا كِتَابَ الْإِيمَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ"

والحمد لله، نسأل الله سبحانه وتعالى القَبول لنا ولكم وأن يوفقنا للعمل بما سمعنا، والحمد لله.