الدرس الخامس والثلاثون

[الدرس الخامس والثلاثون]

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
قال المؤلف رحمه الله تعالى: ولا يَقتل صيداً.
انتهينا في الدرس الماضي من الحديث عن بعض المُحرَّمات التي تَحرُم على المُحرِم بعد إحرامه، واليوم نُكمل ما تبقى من ذلك، فبدأ المؤلف رحمه الله بالحديث عن قتل الصيد في حق المُحرِم، فقال: ولا يقتل صيداً، فيَحرُم على المُحرِم صيد البرّ مادام مُحرماً، لقول الله تبارك وتعالى: "يا أيها الذين آمنــــــــــــــــوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرم"، وقوله تعالى: "أُحِلَّ لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة وحُرِّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً"، فصيد البرّ مُحرَّم على المُحرِم بهاتين الآيتين اللتين ذكرناهما، وأمّا صيد البحر فنقل ابن حزم رحمه الله الإجماع على أن للمُحرِم أن يتصيد في البحر ما شاء من سمكه، فصيد البحر جائز للمُحرِم، والذي يَحرُم عليه هو صيد البرّ، والمراد من صيد البرّ: كلّ صيدٍ مأكول بري، فعلى ذلك فذبح الأنعام ليس منه لأنه ليس صيداً، أن تذبح الشاة أو تذبح البدنة أو تذبح البقرة، هذه الأنعام ذَبحها ليس بصيد، وكذلك ذَبح غير الأنعام من الحيوانات الإنسية كالدجاج مثلاً، مثل هذا ليس بصيد، الصيد كل مأكول بري هذا الذي يَحرُم على المُحرِم.
قال المؤلف رحمه الله: ومن قتله فعليه جزاءٌ مِثلُ ما قتل من النَّعم يحكم به ذوا عدل.
ومن قتله: أي من قتل الصيد وهو مُحرِم ما الذي يجب عليه؟ قال: فعليه جزاءٌ، أي فيجب عليه جزاءٌ، وهذا الجزاء الذي تَوَّجَب على هذا الشخص لِقتله الصيد هو مثل ما قتل من النَّعم، ذكرنا النَّعم وهي الإبل البقر والغنم، هذه هي النعم، فيجب عليه ما يُشبه ما قَتل من النَّعم، فإذا قتل مثلاً نعامة، فما الذي يشبهها من النعم؟ البدنة الذي هو الجمل هذا أشبه شيء من النعم بالنعامة، وإذا قتل بقرة وحشية من بقر الوحش يجب عليه بقر إنسي، وإذا قتل ضباً تجب عليه شاة، وهكذا يكون، كل هذه التي مثلنا بها حكم بها الصحابة رضي الله عنهم بالأمثلة التي ذكرنا، فكل حيوان بري يُأكل يصطاده المحرم يجب عليه فيه أن يخرج ما يشبهه من الأنعام.
قال: يحكم به ذوا عدل منكم، من الذي يُقَدِّر في النعامة مثلاً إذا قتلها المُحرِم؟ من الذي يُقدر أنَّ ما يماثلها من النَّعم هي الإبل؟ ذوا عدل، هم الذين يُقَدِّرون ذلك، يعني شخصان عدلان لهما علم بهذه المسألة، عندهم علم بهذه المسألة ويُحسنان التقدير، وهما اللذان يُقدران ذلك، وهذا كلّه الذي ذكره المؤلف رحمه الله جاء في كتاب الله، قال الله تبارك وتعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاءٌ مثلُ ما قَتَل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفارةٌ طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام"
قال ابن عبد البر: فدخل فيه قتل الخطأ قياساً عند الجمهور، الآن المنصوص عليه في الآية من فعل ذلك وهو متعمد لكن أَلحَق به الجمهور المُخطئ، إلّا القليل من الفقهاء الذين خالفوا في هذا الإلحاق وخصُّوا الحكم بالمتعمد، وقالوا المُخطئ لا، لأن الذي جاء في الآية هو تنصيص على المتعمد فيَخرج به المخطئ غير المتعمد، يَخرج وهو يؤخذ بمفهوم المخالفة، بما أنه ذكر المتعمد فمفهوم المخالفة يُؤخذ أن المخطئ ليس مثله، لكن الجمهور أخذوا بالقياس وتركوا المفهوم في مثل هذا الموطن، وقوله تبارك وتعالى: "هدياً بالغ الكعبة"، أي المثل هذا يَذبحه ويتصدق به على فقراء الحرم، يصل به إلى فقراء الحرم، وهو أي المُحرِم إذا قتل صيداً مخير فلا يجب عليه أن يُخرج المثل فقط لا، هو مخير بين ثلاثة أشياء هي التي ذكرت في الآية بين المثل والإطعام والصيام، الإطعام هذا إمّا أن يُخرج المثل أو أن يُقيِّم المثل هذا، وينظر كم قيمته ثم بعد ذلك يُطعم به كل مسكين مُداً لفقراء الحرم، فإمّا أن يُخرج المثل أو أن يُخرج قيمته لفقراء الحرم، فإما هذا أو هذا، أو الثالثة وهي الصيام، فيَصوم عن كل مُدٍ يوماً، يُقيِّم أولاً المِثل، ثم ينظر هذه القيمة كم تأتي له من طعام، ثم يُقَّسِم على كل مسكين مُداً من طعام وينظر كم تخرج القيمة هذه من الأمداد (كم تعمل من الأمداد) فالقدر الذي تعمله هذه القيمة من الأمداد يكون هو الواجب عليه أن يصومه، فلنقل مثلاً أن هذه الأمداد ظهر أنها ألف مد فيجب عليه أن يصوم ألف يوم فيكون بناء على ذلك إخراج المثل أهون عليه، والإطعام أهون عليه من الصيام، لكن هو على كل حال مخير بين هذه الثلاث.
وأمَّا إذا لم يكن للصيد مِثلٌ فيُخرِج ثمن الصيد، يُحمل إلى مكة أو يصوم، انتهى الخيار الأول يكون قد انتهى فيبقى عنده الخيار الثاني أو الثالث فقط ما عنده غيرهما، ومثال ذلك أن يصطاد جراداً أو أن يصطاد عصفوراً صغيراً، هذان لا مثل لهما فيتوجب عليه عندئذ أن يُخرج إما القيمة او أن يصوم، إما عليه الإطعام أو الصيام.
قال رحمه الله:ولا يأكل ما صاده غيره إلّا إذا كان الصائد حلالاً ولم يصده لأجله.
حُكمُ أكل المُحرِم من صيدٍ صَاده غيره، الآن انتهى من النقطة الأولى التي هي صيد المُحرِم، الآن انتقل إلى نقطة ثانية وهي ما صاده غير المُحرِم، أيجوز له أن يأكل منه أم لا يجوز؟ هذا فيه تفصيل، المُحرَّم على المُحرِم هو ما صاده المُحرِم، هذه النقطة الأولى ما صاده المُحرِم فهو مُحرَّم على المُحرِم أن يأكله، سواءً كان هو نفسه الذي صاد أو غيره، أو صِيد لأجله أو أعان على صيده.
عندنا ثلاث حالات:
· إمّا أن يصطاده مُحرِم فهذا يَحرُم عليه أن يأكله.
· أو أن يصطاده حلال شخص (غير مُحرِم) لكن صاده لأجل المُحرِم.
· أو أن يكون قد أعان الصائد على الصيد.
الحالة الأولى والحالة الثالثة لا إشكال في كونه لا يجوز الأكل من هذا الصيد، تبقى الحالة الثانية وهي إذا صاد الحلال الصيد لأجل المُحرِم هل يجوز له أن يأكل أم لا؟ ورد في ذلك حديث من حديث أبي قتادة قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، فأحرم أصحابي ولم أُحرم فرأيت حماراً فحملت عليه (حماراً وحشياً) فاصطدته، فَذَكَر شأنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وذكرت أني لم أكن أحرمت وأني إنما اصطدته لك (لأجلك)، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأكلوا ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته له، هذا ما ذكره أبو قتادة وهذا ما جاء في هذا الحديث، وجاء حديث آخر جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صَيد البرّ حلال لكم ما لم تصيدوه أو يُصد لكم" أخرجه أبو داود وغيره، هذا الحديث الثاني "صَيد البر حلال لكم ما لم تصيدوه أو يصد لكم" هذا الحديث ضعيف أعلّه غير واحد من أهل العلم بالانقطاع فلا يُعوَّل عليه، نأتي إلى حديث أبي قتادة نجد أن حديث أبي قتادة الذي فيه لفظة "وأني إنما اصطدته لك" وفيه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأكل منه عندما أخبرته أني اصطدته له، هذان اللفظان ليسا في الصحيحين، الحديث أصله في الصحيحين وهذان اللفظان ليسا في الصحيحين تفرد بهما مَعمَر دون بقية الرواة، لذلك والله أعلم أعرض عنهما الشيخان (البخاري ومسلم) ولم يخرجا هذه الألفاظ، الحديث أصله في الصحيحين لكن دون هذين اللفظين، وبناءً على تضعيف الحديثين الواردين في ذلك فلا يُوجد ما يدل على تحريم أكل الصيد للمُحرِم إذا صيد الصيد لأجله من شخص حلال (يعني أنه غير محرم)، إذا صاد شخص غير محرم صيداً من أجل المُحرِم فله أن يأكل منه بناءً على ضعف هذين الحديثين، ويبقى عندنا المنع في حال أن يكون صاد صيداً محرمٌ، أو أنَّ يكون قد أعان على الصيد، دليل الإعانة جاء في ألفاظ حديث أبي قتادة في الصحيحين، في لفظ قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "كلوا" وهم محرمون، فهذا يدل على أن أكل الصيد للمُحرِم جائز، حديث أبي قتادة يدلّ على ذلك، على أنَّ أكل المُحرِم للصيد جائز، هذا الأول، ثم بعد ذلك تأتي القيود، وفيه قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: "أمنكم أحد أمره أن يحمل عليه أو أشار إليه؟" قالوا: لا، قال: "فكلوا ما بقي من لحمها"، وفي رواية: فناولته العضد فأكلها (أي النبي صلى الله عليه وسلم)، فالرواية في الصحيحين تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكل من الحمار الذي اصطاده أبو قتادة، هذا مما يؤكد شذوذ رواية مَعمَر فهذا يدل على أن المُحرِم له أن يأكل، فالصحيح في هذه المسألة والله أعلم أنه يجوز للمُحرِم الأكل من الصيد الذي صاده غير المُحرِم بشرط أن لا يكون أعانه عليه أو دلَّه عليه، وجاء في رواية من حديث الصعب بن جَثَّامة أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حمار وحش فرده النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأخذه منه، وقال له صلى الله عليه وسلم بأنَّه لم يقبله منه إلا لأنه مُحرِم، هذا الحمار الوحشي الذي أهداه الصعب بن جَثَّامة للنبي صلى الله عليه وسلم، إن كان حماراً حياً فالحكم على ما ذكرنا فيما تقدم، الحمار الحي هو الصيد لا يجوز للمُحرِم أن يأخذ الصيد، أن يملكه في حال إحرامه، أمَّا إن كان لحم حمار وحش صيد لأجل النبي صلى الله عليه وسلم فهنا يأتي التفصيل الذي ذكره المؤلف ويكون هذا دليلاً عليه، وهو أنَّه إذا صاد الحلالُ الصَّيد لأجل المُحرِم فلا يجوز للمحرم أن يأكله في هذه الحالة، لكنَّ الروايات التي في الصحيحين وهي الأصح والأقوى أنَّ الذي أهداه الصعب بن جَثَّامة للنبي صلى الله عليه وسلم كان حماراً وحشياً والله أعلم.
قال رحمه الله: ولا يُعضد من شجر الحَرَم إلّا الإذخر.
الآن انتقل إلى مسألة جديدة وهي مسألة القطع من شجر الحرم، هذا الحكم ليس خاصاً بالمُحرِم، هذا الحكم يتعلق بحرمة مكة والمدينة، قال: ولا يُعضد من شجر الحَرَم إلا الإذخر، لا يُعضد: أي لا يُقطع من شجر الحَرَم (أي الحرم المكي)، ومكة بلد الله الحرام، حرَّمه ربنا تبارك وتعالى، وحدودها معروفة، علاماتها اليوم ظاهرة، أول ما تدخل تجد علامات تدُلك على أن هذا حرم، في بدايته كي تعلم أنك إذا دخلت في منطقة التحريم، والحرم هذا حكم شرعي (التحريم حكم شرعي) ليس لأحد أن يُحَرِّم المكان الذي تهوى نفسه، كتسمية الجامعات بالحرم الجامعي، هذه تسميات لا أصل لها البتة ولا تجوز أصلاً، من الذي حرَّم تلك الأماكن، لا ينبغي أن تُطلق عليها مثل هذه الألفاظ، التحريم والتحليل هذا حكم شرعي لا يكون إلا لله تبارك وتعالى، وبما أنّه لم يأت ما يدل على تحريم هذه الأماكن فلا تسمى حرماً، وكذلك القدس لا تسمى حرماً لأنه لم يأت دليل من الكتاب والسنة على أنها منطقة محرمة كمكة والمدينة، وقولهم ثالث الحرمين الشريفين هذا يحتاج إلى دليل يقيمونه على قولهم هذا وعلى دعواهم، وتحريم مكة مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن مكة حرَّمها الله ولم يُحَرِّمها الناس فلا يَحِلّ لا مرئٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أنْ يسفك فيها دماً"، هذا المُحَرَّم الأول، المُحرَّم الأول في مكة هو سفك الدم، فالقتل في مكة مُحَرَّم، "ولا يَعضد بها شجرة"، لا يُقطع بها شجرة، هذا المحرم الثاني "فإن أحد ترَّخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له: إن الله أَذِن لرسوله ولم يأذن لكم"، إذا جاء أحد واستدل بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قاتل أو دخل مُقاتلاً إلى مكة فقولوا له: بأن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، "وإنما أُذن لي فيها ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب" وهو متفق عليه، وفي رواية: "ولا يُنَفَّر صيدها" هذا التحريم الثالث.
الأول: أنَّه لا يجوز سفك الدم فيها.
الثاني: لا يجوز قطع الأشجار فيها.
الثالث: لا يُنَفَّر صيدها.
وتنفير الصيد أبلغ من القتل، وليس فقط أن يصطاد، لا يُحرَم فقط أن تصطاد صيدها، بل يَحرُم أيضاً أن تُنفر صيدها، أي أن تزعجه من مكانه الذي هو فيه وتُنَفّره منه، فهذا أبلغ من القتل.
"ولا يُختلى شوكها": لا يُقطع حتى الشوك الذي فيها.
"ولا تَحِّل ساقطتها إلا لمُنْشِد": الساقطة التي هي الضَّالة التي تضيع، الشيء الذي يضيع، اللُقطة هذه لا تَحِّل إلا لمُنْشِد، إلا لمن أراد أن يُبَّلغ عنها ويبحث عن صاحبها فقط، أما غير ذلك فلا تَحِّل البتة.
"ومن قُتِل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يُفدى وإما أن يُقتل"، فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول الله فإنا نجعله في قبورنا وبيوتنا، فقال رسول الله: "إلا الإذخر" متفق عليه.
الإذخر: نبات له رائحة طيبة استثناه النبي صلى الله عليه وسلم من تحريم قطع أشجار مكة لأنهم ينتفعون به، فاتفق العلماء على تحريم قطع أشجار مكة التي لا يستنبتها الآدميون في العادة، وعلى تحريم قطع خلاها، وهو الرطب من عشبها، واختلفوا فيما يستنبته الآدميون، الذي يعمل الآدميون على إنباته ويزرعونه هم بأنفسهم، والصحيح في مسألة الجزاء (هل من قطع شيئاً من أشجار مكة هل عليه جزاء؟) الصحيح في هذه المسألة أنّه لا جزاء عليه، ولكنّه يأثم بفعله ذلك والمسألة محل خلاف.
قال رحمه الله: ويجوز له قتل الفواسق الخمس.
ويجوز له (أي المُحرِم) قتل الفواسق الخمس لقوله صلى الله عليه وسلم: "خمسٌ فواسقُ يقتلن في الحل والحرم: الحية والغراب الأبقع(وفي رواية الغراب من غير ذكر الأبقع، والأبقع هو الذي في ظهره وبطنه بياض) والفأرة والكلب العقور والحدية" وهذا الحديث متفق عليه، الحدية وفي رواية جاءت الحدأة وهي طائر من الجوارح ينقض على الجرذان وعلى الأطعمة ويأخذها فيفسد على الناس طعامهم، والكلب العقور قيل هو الكلب المعروف، وقيل هو كل ما يفترس لأن كل ما يفترس من السباع يُسمى كلباً عقوراً في اللغة. فإذن هذا هو الراجح في الكلب العقور أنه كل مفترس، وفي رواية العقرب بدل الحية، واتفق جماهير العلماء على جواز قتلهن في الحل والحرم والإحرام (هذه المذكورات)، اتفق جماهير العلماء على جواز قتلهن في الحلِّ والحرم والإحرام، واتفقوا على أنَّه يجوز للمُحرِم أن يقتل ما في معناهن، ما هو المعنى الذي أذن النبي صلى الله عليه وسلم لقتلهن هذه الخمس بالذات؟ لماذا أذن النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهن؟ ما هو السبب؟ ما هي العلة حتى نلحق بها غيرها؟ الصحيح أن المعنى الذي جاء الإذن بقتلهن لأجله هو كونهن مؤذيات، فعلى ذلك نقول يجوز قتل كل مؤذٍ للمُحرِم في الحِلِّ وفي الحَرَم قياساً على هذه الخمس التي ذُكرت بالنص، فالخمس هذه أو الست بالنص والبقية ملحقة بها بعلة الإيذاء.
قال رحمه الله: وصيد حرم المدينة وشجره كحرم مكة.
هنا التحريم ليس فقط لمكة بل التحريم كذلك للمدينة لقوله صلى الله عليه وسلم: "المدينة حرم ما بين عَيْرٍ إلى ثور"، وعَيْرٌ: جبل، وثور جبل آخر، وقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ إبراهيم حرَّم مكة ودعا لها، وإني حرَّمت المدينة كما حرَّم إبراهيم مكة" متفق عليه، وفي رواية: "المدينة حرم من كذا إلى كذا لا يُقطع شجرها ولا يُحْدَث فيها حدثٌ، من أحدث حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين"، وفي رواية: "أن لا يُراق فيها دم ولا يُحمل فيها سلاح ولا قتال ولا يُخبط فيها شجرة إلّا لعلف" ومعنى يُخبط: يُضرب بالعصا ونحوها ليسقط ورقها، هذا كله يدل على أنَّ المدينة مُحرَّمة كتحريم مكة، وهي أيضاً معالمها واضحة، أول ما تدخل المدينة تجد علامات تَدلك على بداية الحرم ونهاية الحرم.
قال رحمه الله: إلّا أنَّ من قطع شجره أو خبطه كان سَلَبَه حلالاً لمن وجده.
هذا الحكم خاص بشجر المدينة دون شجر مكة، قال إلّا أنَّ من قطع شجره أو خبطه كان سَلَبَه حلالاً لمن وجده، فهذا من الأحكام التي يختلف فيها حرم المدينة عن حرم مكة، ودليل ما ذكر المؤلف حديث سعد بن أبي وقاص أنَّه وجد عبداً يقطع شجراً أو يَخبطه فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلَّموه أن يرُدَّ غلامهم أو يَرُدَّ على غلامهم ما أخذ منه، فقال: "مَعَاذ الله أن أرد شيئاً نَفَلَنِيه رسول الله" وأبى أن يَرُدَّ عليهم، أخرجه مسلم في الصحيح، والمراد بالسلب أنَّه يُؤخذ منه فرسه وسلاحه ونفقته التي معه، هذا كلّه يُؤخذ، وكذلك حتى ملابسه، فكل ما معه يأخذه منه، فهذا الحديث يدل على جواز سلب من قطع شجر المدينة، ولا يجب على من قتل صيداً أو قطع شجراً من حرم المدينة لا جزاء ولا قيمة، من قتل صيداً في المدينة أو قطع شجراً فيها لا يجب عليه جزاء ولا تجب عليه أيضاً قيمة الجزاء ولكنَّه يأثم ويكون لمن وجده يفعل ذلك أَخْذُ سَلَبِه، يكون له الحق في أخذ سلبه أما قيمة الجزاء فهذا لم يثبت فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله: ويَحرُم صيد وُجٍّ وشجره.
وُجٍّ: اسم وادٍ بالطائف، والطائف قريبة من مكة، ورد فيه حديث عند أحمد وأبي داود وغيرهما، قال فيه صلى الله عليه وسلم: "صيد وُجٍّ محرم" وفي رواية: "إن صيد وجٍّ وعِضاهه (كل شجر يُعضد وله شوك) حرام محرم لله عز وجل"، ولكن هذا الحديث ضعيف، في إسناده من لا يُعتمد عليه، وبناء عليه فلا يَحرُم صيده ولا شجره، وهذا الحكم ملغى غير صحيح بناءً على ضعف الحديث الذي ورد فيه: "صيد وُجٍّ محرم"، كما ذكرنا هو حديث ضعيف وبناءً على ذلك فهذا الحكم غير وارد، إنما التحريم فقط لمكة والمدينة.
نكتفي بهذا القدر إن شاء الله.