شرح البيقونية مفرغا - 6

شرح المنظومة البيقونية

( الدرس السادس )

لفضيلة الشيخ

أبي الحسن علي الرملي

- حفظه الله -

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد؛

فهذا المجلس السادس من مجالس شرح البيقونية .

قال الناظم رحمه الله :

وما يُخالفْ ثقةٌ بهِ المَلاَ ...... فالشاذُّ والمقلُوبُ قسمانِ تلَاَ

إبدالُ راوٍ ما براوٍ قِسمُ......... وقلبُ إسنــــــــادٍ لمتنٍ قِسمُ

الملأ : هم الجماعة . أراد الناظم رحمه الله في هذين البيتين أن يعرف الحديث الشاذ والحديث المقلوب .

نبدأ بالحديث الشاذ :

الشاذ لغة : هو الفرد .

واصطلاحا : مخالفة المقبول لمن هو أولى منه .

قولنا المقبول ؛ يدخل فيه صاحب الحديث الصحيح وصاحب الحديث الحسن ، أي الثقة والصدوق .

وقولنا أقوى منه : أي : أقوى منه حفظا أو أكثر منه عددا ، فإذا خالف الراوي المقبول من هو أوثق منه في الحفظ يعتبر حديثه شاذا ، وإذا خالف جماعة أكثر منه عددا يعتبر أيضا حديثه شاذا .

مثاله : روى ابن خزيمة رحمه الله ؛ قال حدثنا بندار قال حدثنا محمد بن جعفر ، قال حدثنا شعبة ، عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر قال :

" صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكبر حين دخل في الصلاة ورفع يديه ، وحين أراد أن يركع رفع يديه ، وحين رفع رأسه من الركوع رفع يديه ووضع كفيه وجافى يعني في السجود وفرش فخذه اليسرى وأشار بأصبعه السبابة يعني في الجلوس في التشهد .

هذا هو شاهدنا من الحديث قال : " وأشار بأصبعه السبابة " .

الإسناد : يرويه شعبة بن الحجاج ، عن عاصم بن كليب عن أبيه كليب ، عن وائل بن حجر عن النبي صلى الله عليه وسلم .

هذا الحديث قال فيه شعبة عندما رواه عن عاصم بن كليب : "وأشار بأصبعه السبابة" فقط .

وروى هذا الحديث مع شعبة - أي تابع شعبة عليه - أحد عشر راويا .

أي : اثنا عشر راويا مع شعبة ، رووا هذا الحديث : وأشار بأصبعه السبابة .

ورواه ابن خزيمة أيضا من طريق زائدة بن قدامة ، عن عاصم بن كليب ، لاحظ أن الشيخ هنا عاصم بن كليب متحد ، تلاميذ عاصم بن كليب هم الذين اختلفوا ، شعبة من تلاميذ عاصم بن كليب ، سفيان الثوري وسفيان بن عيينة وزائدة بن قدامة ، هؤلاء كلهم من تلاميذ عاصم بن كليب ، جلسوا عنده ، وسمعوا منه الحديث ؛ حدث به اثنا عشر راويا بهذا اللفظ : " وأشار بأصبعه السبابة " ، أو بمعناه ، وحدث به زائدة بن قدامة وحده عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر قال فيه : " وأشار بأصبعه السبابة يحركها " ، فزاد لفظة " يحركها " .

قال ابن خزيمة رحمه الله ليس في شيء من الأخبار يحركها إلا في هذا الخبر ، زائدة ذكره ، أي زائدة بن قدامة هو الذي زاده .

جلس ثلاثة عشر راويا عند عاصم بن كليب يسمعون الحديث ، ثم خرجوا من عنده ، فحدثوا بهذا الحديث ، كلهم قال : " وأشار بأصبعه السبابة " ، ما عدا واحدا قال " وأشار بأصبعه السبابة يحركها ؛ فماذا يكون حكم هذه الزيادة ؟

هذه الزيادة لو كانت محفوظة لرواها بقية الرواة ، فلماذا رواها هذا الواحد ؟! الغالب على الظن أن هذه الزيادة ليست من حديث النبي صلى الله عليه وسلم لذلك لم يروها بقية الرواة وإنما رواها زائدة وحده فلذلك حكمنا على هذه الزيادة أي زيادة زائدة بأنها شاذة ؛ لأن زائدة وإن كان ثقة لكنه خالف اثني عشر راويا ، رووا هذا الحديث بغير هذه الزيادة التي رواها زائدة ، فهذه الزيادة تعتبر مخالفة عند أهل الحديث ويحكم عليها بالشذوذ .

وللفائدة أقول :

قال ابن رشد الحفيد المالكي في كتابه " بداية المجتهد " : واختلفوا في تحريك الأصابع لاختلاف الأثر في ذلك ، والثابت أنه كان يشير فقط " .

أي من غير تحريك وهذا هو الصحيح .

وأما المخالفة في الإسناد فكأن يروي أحد الرواة الحديث موصولا ، ويرويه من هو أحفظ منه أو أكثر عددا مرسلا ، فيكون الوصل شاذا وهي مخالفة في الإسناد خالف أحد الرواة من هو أقوى منه .

والمخالفة في المتن مثلنا لها في الدرس الماضي بحديث أبي هريرة الذي قال فيه عبد الواحد بن زياد بدل " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي سنة الفجر ثم يضطجع " ؛ قال : إذا صليتم سنة الفجر فاضطجعوا على يمينكم ، فجعلها أمرا ، وبقية أصحاب أبي صالح يروون هذا الحديث فعلا للنبي صلى الله عليه وسلم وليس قولا له ، وأيضا جاء الحديث عن غير أبي هريرة من فعل النبي صلى اله عليه وسلم لا من قوله ، فمخالفة عبد الواحد بن زياد في روايته لهذا الحديث عن الأعمش عن أبي صالح ، ومخالفة أصحاب أبي صالح مع وجود شيء من النكارة أصلا في رواية عبد الواحد بن زياد ، حكمنا على روايته هنا بالشذوذ .

هذه صورة الحديث الشاذ ، والخلاف يقع كثيرا في هذه الزيادات ، وحكم العلماء عليها ، فكن حذرا جدا من أي زيادة تجدها في حديث ، يكون أصل الحديث في الصحيحين ، أي إن وجدت حديثا أصله في الصحيحين ، وروي هذا الحديث خارج الصحيحين وفيه زيادة فكن حذرا من هذه الزيادة ، ولا أعني بذلك أن كل الزيادات التي خارج الصحيحين ضعيفة ، ولكن كن حذرا من ذلك ؛ لأن الضعف فيها كثير وكثير جدا ، فإن البخاري ومسلما قد يكونا أعرضا عنها لشذوذها ، وبعض طلبة العلم يتساهلون في قبولها على طريقة الفقهاء ، فإن قبول الزيادة مطلقا يتماشى مع طريقة الفقهاء ، لا مع طريقة المحدثين .

فعليك بالحذر من مثل هذه الزيادات فإنها في الغالب تكون أوهاما و ليست روايات صحيحة .

وأما بالنسبة للحديث المقلوب ، فالقلب يكون في السند ويكون في المتن .

القلب في الإسناد ؛ قد يكون خطأ من بعض الرواة ؛ في اسم راو أو نسبه ؛ كأن يقول أحد الرواة مثلا : عن كعب بن مرة بدلا من مرة بن كعب ، فأصله مرة بن كعب فيقلبه الراوي عندما يذكر هذا الاسم فيجعله كعب بن مرة ، فهذه صورة من صوره ، فقلب اسم الأب جعله اسما للابن ، واسم الابن جعله اسما للأب .

أو أن يبدل راو ما براو آخر كأن يكون الحديث مثلا مشهورا عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن أبيه ، فيأتي أحد الرواة فيجعل مكانه نافعا مولى ابن عمر ، والحديث ليس لنافع ولا يعرف عن نافع ، إنما المعروف أن سالما هو راوي هذا الحديث ، فيأتي أحد الرواة الذين يريدون أن يرووا الغرائب ليقبل الناس على حديثهم ، ويجدون عندهم أشياء جديدة ؛ فيقلبون صاحب الحديث ؛ يغيرون سالما ويجعلون مكانه نافعا ، فيصبح هذا الحديث غريبا لا يعرفه المحدثون ، فالمحدثون يعرفون أن هذا الحديث من رواية سالم عن ابن عمر ، فإذا وجدوا الحديث من رواية نافع عن ابن عمر ، يجدون حديثا غريبا فيأخذونه من هذا الذي فعل هذا الفعل ، وهذا في الغالب يقع من الكذابين الوضاعين الذين يغيرون ويبدلون في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فهذا القسم الأول الذي قال الناظم رحمه الله فيه : إبدالُ راوٍ ما براوٍ قِسمُ .

ثم ذكر القسم الثاني وقال : وقلبُ إسنــــــــادٍ لمتنٍ قِسمُ.

القسم الثاني من المقلوب الذي ذكره الناظم رحمه الله وهو إبدال إسناد كامل لحديث بإسناد آخر .

مثلا : حديث إنما الأعمال بالنيات يرويه يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما الأعمال بالنيات.."، وحديث آخر " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته " ، وإسناده : شعبة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم .

فإذا جاء شخص وقلبها ؛ فجعل الإسناد الأول للحديث الثاني ، والإسناد الثاني للحديث الأول ، فيصبح الحديث كالتالي : شعبة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : إنما الأعمال بالنيات .

و الثاني : عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته " .

فهذا قلب إسناد لمتن ؛ أخذ الإسناد من الحديث الأول وجعله للحديث الثاني ، وأخذ الإسناد من الحديث الثاني وجعله للحديث الأول ، وهذه الصورة هي التي فعلها محدثو بغداد - فقد كان من عادة المحدثين رحمهم الله أن يختبروا بعضهم البعض ليعرفوا مدى حفظ الراوي فإنه لما دخل محمد بن إسماعيل البخاري بغداد فسمع به أصحاب الحديث فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر وإسناد هذا المتن لمتن آخر ودفعوا إلى عشرة أنفس إلى كل رجل عشرة أحاديث وأمروهم إذا حضروا المجلس أن يلقوا ذلك على البخاري واخذوا الموعد للمجلس فحضر المجلس جماعة أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خراسان وغيرها ومن البغداديين فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب إليه رجل من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث .

فقال البخاري : لا أعرفه . فسأله عن آخر ، فقال : لا أعرفه . فما زال يلقي عليه واحدا بعد واحد حتى فرغ من عشرته ، والبخاري يقول : لا أعرفه ، فكان الفهماء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون : الرجل فهم . ومن كان منهم غير ذلك يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الفهم .

ثم انتدب رجل آخر من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة ، فقال البخاري : لا أعرفه . فسأله عن آخر ، فقال : لا أعرفه . فسأله عن آخر ، فقال : لا أعرفه .

فلم يزل يلقى عليه واحدا بعد آخر حتى فرغ من عشرته ، والبخاري يقول : لا أعرفه .

ثم انتدب إليه الثالث والرابع إلى تمام العشرة حتى فرغوا كلهم من الأحاديث المقلوبة والبخاري لا يزيدهم على لا أعرفه ، فلما علم البخاري أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال :أما حديثك الأول فهو كذا ، وحديثك الثاني فهو كذا ، والثالث والرابع على الولاء حتى أتى على تمام العشرة فرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه وفعل بالآخرين مثل ذلك ورد متون الأحاديث كلها إلى أسانيدها وأسانيدها إلى متونها فأقر له الناس بالحفظ وأذعنوا له بالفضل .

ويكون القلب أيضا في المتن ، مثاله ما رواه مسلم في " صحيحه " في السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله ، قال في أثناء ذكره للسبعة ، قال " ورجل تصدق بصدقة أخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله " فجعل المنفق الشمال وليست اليمين ، بينما الصواب في الحديث ما أخرجه الشيخان في "صحيحيهما " : " حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " ، فقلب المتن ، وهذا هو القلب في المتن ، وهذا الحديث يسمى حديثا مقلوبا .

ثم قال الناظم رحمه الله :

والفردُ ما قيّدْتَهُ بثقةِ أو جمعٍ أو قصرٍ على رواية ِ

الحديث الفرد قسمه الناظم رحمه الله إلى ثلاثة أقسام :

القسم الأول ؛ المقيد بثقة ؛ أي الذي لم يروه ثقة إلا واحد معين

حديث لم يروه إلا راو واحد وهو ثقة ، فهذا يسمى عندهم فردا

والقسم الثاني ؛ المقيد بأهل بلد ، أي الذي لم يروه إلا أهل بلد معين كالشام والمدينة مثلا ، أو البصرة أو الكوفة ؛ بمعنى أنه إذا تفرد أهل بلد معين برواية حديث يسمى حديثا فردا ، وهذا الفرد من نوع الفرد النسبي ، وأشار لهذا النوع بقوله " أو جمع " أي يرويه جمع لكن هؤلاء الجمع قد اختصوا بصفة معينة ، كأن يكونوا من بلد معينة .

القسم الثالث ؛ المقيد بقصره على راو مخصوص ،أي : لم يروه عن فلان إلا فلان ، بمعنى أن الحديث يرويه مثلا نافع عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ويرويه عن نافع ثلاثة ؛ مالك بن أنس والليث بن سعد وعبيد الله بن عمر ، ويرويه عن عبيد الله بن عمر جماعة وعن الليث بن سعد جماعة ، لكن لا يرويه عن مالك بن أنس إلا واحد ، فلنقل مثلا عبد الله بن مسلمة القعنبي ، فإذا وجدنا الحديث بهذه الصورة ، أي يروي عن كل من الرواة عن نافع جماعة إلا مالكا تفرد بالرواية عنه واحد فقط ؛ فهذا الفرد النسبي .

أي أنه صحيح أن القعنبي تفرد به ؛ لكن ليس مطلقا ، إنما تفرد به عن مالك فقط ، بينما التفرد المطلق هو الذي يرويه راو واحد من جميع الوجوه ، هذا يسمى تفرد مطلق ، فرد مطلق وهو نفس الغريب ، وهو ما تفرد به راو تفردا مطلقا .

وأما الفرد النسبي ؛ فهو فرد لكن بالنسبة لشخص معين ، أو بالنسبة لجماعة اتصفوا بصفة معينة .

أهل الكوفة تفردوا برواية حديث ؛ نسميه فردا ، هو في الحقيقة ليس فردا ، فالذين رووه جماعة ، ولكن هؤلاء الجماعة لما تفردوا به كان فردا نسبيا أي بالنسبة إليهم ، بالنسبة للوصف الذي اشتركوا فيه هو فرد ، ولكنه في الحقيقة ليس فردا ، كذلك التفرد عن راو معين كما مثلنا ، عندما يتفرد عبد الله بن مسلمة عن الإمام مالك هو فرد ، لكنه فرد نسبي حقيقة ، ولم يتفرد به عبد الله بن مسلمة القعنبي مطلقا فقد رواه عن نافع ثلاثة ، ورواه عن اثنين من هؤلاء الثلاثة جماعة ، ولكنه لم يروه عن مالك إلا عبد الله بن مسلمة ، فعبد الله بن مسلمة تفرده فقط بروايته عن مالك ، لا تفردا مطلقا .

هذا هو معنى الفرد المطلق والفرد النسبي ، المطلق أن يتفرد به الراوي مطلقا لا يشاركه في روايته أحد، الفرد النسبي أن يتفرد به بوجه من الوجوه وليس مطلقا .

ثم قال رحمه الله

وما بعلةٍ غُمُوضٍ أو خفَا مُعلّلٌ عِنْدَهُمُ قد عُرِفَا

المعلل لغة : هو ما فيه علة .

واصطلاحا : ما فيه علة خفية قادحة .

والعلة : سبب خفي قادح يقدح في صحة الحديث ، مع أن الظاهر السلامة منها .

يأتيك الحديث ، تنظر في إسناده فتراه إسنادا صحيحا ، وتظن أن هذا الحديث صحيح ، فإذا جمعت طرقه تبين لك ما فيه من علة قادحة ، فهذا الحديث يسمى حديثا معللا .

ومثلنا له في الدروس الماضية حين ذكرنا المعلل ؛ بقصة حماد بن أسامة ، فذكرنا أنه وجد راويان أحدهما عبد الرحمن بن يزيد بن جابر وهو ثقة ، والآخر عبد الرحمن بن يزيد بن تميم وهو ضعيف ، دخل عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الثقة الكوفة وحدث بها ، ففات أسامة بن حماد السماع منه ، ثم خرج عبد الرحمن بن يزيد بن جابر من الكوفة ودخلها عبد الرحمن بن يزيد بن تميم وهو ضعيف ، فسمع منه حماد بن أسامة ، وبعد ما سمع منه سأله عن اسمه ، فقال : أنا عبد الرحمن بن يزيد ، فظن حماد بن أسامة أنه عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الثقة ، فصار يحدث عنه بأحاديث ويقول في تحديثه : حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر .

فأنت عندما تمر على إسناد كهذا ، تراه إسنادا متصلا ، وترى رجاله عدولا حفاظا ، فتقول هذا حديث صحيح ، فإذا رجعت إلى كلام أهل العلم الحفاظ الذين حفظوا حديث الشيخ وحديث تلاميذه ؛ تجدهم قد عرفوا أن حماد بن أسامة لا يروي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، وإنما يروي عن ابن تميم ، كيف عرفوا ذلك ؟! بحفظهم أحاديث ابن تميم وأحاديث ابن جابر ، فلما أخذ حماد بن أسامة يحدث بأحاديث ابن تميم ويقول عن ابن جابر عرفوا أنها ليست أحاديث ابن جابر بل أحاديث ابن تميم ، وأن الأمر قد اختلط على حماد بن أسامة ؛ فحذروا منه .

فهذه القصة تبين لك عظم علم الحفاظ النقاد الذين كانوا يحفظون أحاديث الشيخ وأحاديث تلاميذه ، فإذا حفظوا هذا الحفظ الشديد القوي عرفوا إذا أخطأ الشخص ورى حديثا ليس من حديث شيخه ، وبينوا ذلك .

هؤلاء النقاد الكبار عندما ينقدون حديثا ، ويقولون هذا الحديث ليس من حديث فلان ، فليس لنا إلا أن نسلم لهم بهذا الكلام ؛ لحفظهم وعلمهم ونقدهم ولا نستطيع أن نصل لما وصلوا إليه .

فكيف يعرف الآن الحديث المعلل ؛ كما قال علي بن المديني رحمه الله : " الباب الذي لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه " .

وقال الخطيب البغدادي : " والسبيل إلى معرفة علة الحديث ، أن يجمع بين طرقه وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانتهم في الحفظ ، ومنزلتهم في الإتقان والضبط " .

بهذه الطريق يمكن معرفة الحديث إذا كان معللا أم لا .

وأعرف الناس بهذا النوع وهو نوع دقيق ؛ من جمع بين العلم والحفظ والخبر ، وهؤلاء أمثال عبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان والإمام أحمد وعلي بن المديني والنسائي والدارقطني ، وغيرهم رحمهم الله ، فهؤلاء كان لهم نقد ولهم علم وحفظ يقدمون على غيرهم لأجل ذلك.

ويأتي بعدهم أصحاب المرتبة الثانية الذين كانوا يجمعون بين العلم والخبرة وفاتهم حفظ الذين قبلهم ، ولم يصلوا إلى خبرتهم وقوتهم العلمية ؛ كالذهبي والمزي والحافظ ابن حجر وغيرهم .