شرح البيقونية مفرغا -2 الجزء الثاني

الحفظ نوعان : حفظ صدر وحفظ كتاب .

حفظ الصدر : الذي نسميه نحن اليوم حفظ عن غيب . وحفظ الكتاب : هو أن يكتب في كتابه الحديث الذي سمعه من شيخه ويحفظ الكتاب عنده بحيث لا يتمكن أحد من إفساد كتابه عليه ؛ بإدخال ما ليس من حديثه في كتابه أو تخريب شيء من أحاديثه .

المهم أن يحفظ كتابه عنده بشكل جيد بحيث لا تمتد إليه أيدي الناس وتعبث به .

بالتعبير العلمي يكون ضبط الصدر: هو أن يثبت ما سمعه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء .

هذا هو ضبط الصدر ؛ هو أن يثبت ما سمعه من أحاديث ، يثبتها في قلبه تثبيتاً جيداً بحيث يسردها متى طُلِب منه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء ، هذا ضبط الصدر .

وضبط الكتاب : وهو صيانته لديه مُذْ سمع فيه وصححه إلى أن يؤدي منه ، هذا ضبط الكتاب .

فإذا لم يكن الشخص عنده حفظ عن غيب جيد فله أن يكتب في كتابه وأن يحفظ كتابه إلى أن يؤدي منه .

هذا الشرط الثالث في قبول حديث المحدث ، وفي كون الحديث صحيحاً .

الشرط الرابع : وهو عدم الشذوذ .

قلنا في تعريفه : ما اتصل إسناده ( هذا واحد ).

بنقل العدل ( هذان ا اثنان ).

الضابط (هذا ثالث ).

عن مثله : يعني يُشترط في الإسناد أن يكون جميع الرواة بهذه الصفة عدول ضابطين .

بنقل العدل الضابط عن مثله :

الإمام البخاري : عدل ضابط

عن مثله : عبد الله بن يوسف التنيسي (عدل ضابط)

عن مثله : الإمام مالك (عدل ضابط)

إلى آخر الإسناد بهذه الصورة ، هذا معنى عدل ضابط عن مثله من أول الإسناد إلى آخر الإسناد بهذه الصورة .

إلى منتهاه : يعني إلى منتهى الإسناد من البداية إلى النهاية .

ولا يكون شاذا: هذا الشرط الرابع من شروط الصحيح ؛ أن لا يكون الحديث شاذاً ، وما معنى الشاذ عند أهل الحديث ؟

الشاذ لغة : هو الفرد ، شذَّ فلان عن القوم أي تفرَّد.

وأما اصطلاحاً : فهو مخالفة المقبول لمن هو أَوْلى منه .

( أريد منكم مبدئياً أن تحفظوا ثلاثة ألفاظ من ألفاظ الجرح والتعديل )

الأولى : لفظ ثقة ، وهذا يطلق على صاحب الحديث الصحيح الذي اجتمع فيه وصف العدالة والضبط - يعني الحفظ الكامل - يُقال فيه ثقة في ميزان الجرح والتعديل ، فإذا قيل في شخص ثقة ؛ فهو من صاحب الحديث الصحيح ، فإذا الإسناد كله ثقات يسمى الحديث صحيحاً بالنسبة للرواة ، هذه المرتبة الأولى .

المرتبة الثانية : مرتبة صدوق ، مرتبة صدوق تُطلق على صاحب الحديث الحسن .

وما الفرق بين الصدوق والثقة ؟

كلاهما عدلان لكن الفرق في الحفظ ، الثقة حفظه أكبر وأعلى من الصدوق .

الصدوق حافظ ولكنه لم يملك الحفظ الكامل .

حفظه نزلت رتبته عن رتبة صاحب الصحيح فهذا يسمى صدوقاً .

المرتبة الثالثة : مرتبة ضعيف وهذه مرتبة صاحب الحديث الضعيف ، يعني إذا كان في الإسناد راوٍ ضعيف فهذا الحديث إسناده يسمى إسنادا ضعيفا .

مبدئياً أريد أن تحفظوا هذه الثلاث :

ثقة : لصاحب الحديث الصحيح وحديثه مقبول .

صدوق : لصاحب الحديث الحسن وحديثه مقبول . ضعيف : لصاحب الحديث الضعيف وحديثه مردود غير مقبول.

الآن نرجع إلى الشاذ :

قالوا : مخالفة المقبول من هو ؟ يعني الثقة والصدوق ، يعني صاحب الحديث الصحيح وصاحب الحديث الحسن .

مَن تم حفظه وقوي تماماً ، ومن ضعف حفظه شيئاً قليلاً بحيث يخطئ ولكن خطأه ليس شديدا ، هذان يدخلان في لفظ المقبول .

فنقول الآن : مخالفة المقبول لمن هو أَوْلى منه في الحفظ وأَوْلى منه في الصواب .

الأَولى هنا إما أن تطلق على الصفة أو العدد سنوضح ذلك إن شاء الله :

الآن افرض أنه جاءك ثلاثة أشخاص ينقلون لك خبراً يقولون لك : للشيخ الفلاني درس غداً الساعة العاشرة مساءً .

اثنان قالا لك هكذا ، جاء الثالث وقال : للشيخ الفلاني درس غداً الساعة التاسعة ليلاً ، الآن هؤلاء الثلاثة تنظر إلى حالهم هل هم عدول ؟ نعم الثلاثة عدول ، هل هم من ناحية الضبط والحفظ متساوون ؟ نعم عندكم في نفس المستوى في الحفظ ، طيب لماذا اختلفوا ؟ اثنان يقولان الساعة العاشرة مساءً ، وواحد يقول : الساعة التاسعة مساءً ، سترجِّح أنت من نفسك رواية الاثنين أم رواية الواحد ؟ تلقائياً ستقول : سأرجح رواية الاثنين ، لماذا ؟ تقول : لأن الاثنين أَوْلى بالحفظ من الواحد وأبعد عن الخطأ من الواحد.

إذاً ؛ رواية هذا الشخص الواحد ماذا سنسميها ؟في اصطلاح المحدثين رواية شاذة .

إذاً ؛ ما معنى رواية شاذة ؟

رواية العدل الضابط ولكنه يخالف من هو أقوى منه ، أقوى منه عدداً أو حفظاً .

الآن قلنا نحن في المثال الذي ضربناه أن الاثنين اللذين خالفاه في نفس المستوى معه في العدل والضبط ؛ لكنهما غلباه في العدد.

طيب مثال على الصفة :

أن يأتيك رجلان أحدهما عدل حافظ تماماً قوي في الحفظ والثاني عدل ولكنه في درجة صدوق وليس في درجة ثقة ، فأخبرك الثقة خبرا كهذا ، قال لك للشيخ الفلاني درس غداً الساعة العاشرة .

وقال لك الصدوق : للشيخ الفلاني غداً درس الساعة التاسعة ستقدِّم خبر من ؟ وتُخَطِّئ خبر من ؟ ستقدم خبر الثقة ؛ لأنه أقوى عندك في الحفظ - ففي العدالة متساوون - لكنه أقوى عندك في الحفظ ، الصدوق عدل ولكنه في حفظه بعض الشيء فهو أَولى بالخطأ من الثقة ، فتسمي رواية المخطئ رواية شاذة لماذا ؟ لأنه خالف مَن هو أَوْلى منه بالحفظ فكان الشخص هذا أَولى منه من ناحية الصفة ( صفة الحفظ ).

أما الصورة الأولى فخالف مَن هو أولى منه في العدد ، أولى منه من ناحية العدد فلذلك كانت روايته شاذة .

هذا هو الشاذ: مخالفة المقبول لمن هو أَوْلى منه .

نذكر لكم مثالاً من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم – : أخرج الترمذي رحمه الله من حديث عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثاً قال فيه : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع عن يمينه ".

انظروا إلى هذه الرواية ، من يرويها ؟

عبد الواحد بن زياد ، عن من ؟ عن الأعمش ...إلى آخره .

طيب نظرنا إلى بقية أصحاب الأعمش الذين رووا عنه هذا الحديث فكيف رووا هذا الحديث ؟ رووه من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على يمينه ( مِن فعله وليس من قوله ).

عبد الواحد بن زياد رواه عن الأعمش كيف ؟ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به بينما بقية أصحاب الأعمش وهم جمع رووه عن الأعمش أنه من فِعْل النبي - صلى الله عليه وسلم - فماذا نسمي رواية عبد الواحد بن زياد هنا ؟ نسميها شاذة ، وإن كان عبد الواحد بن زياد ثقة ؛ لكنه خالف من هم أكثر منه عدداً ، فروايته هذه ماذا نسميها ؟ رواية شاذة .

هذا معنى الشاذ

هذا الشرط الرابع .

الشرط الأخير :

قال : ولا يكون شاذاً ولا معللا .

هذا الشرط الأخير ، ما هو المعلل ؟

المعلَّل ما فيه علة من الناحية اللغوية يُقال معلل أي فيه علة.

والعلة في اصطلاح أهل الحديث : سبب خفي قادح ، يقدح في صحة الحديث مع أن ظاهره السلامة منها ،في الظاهر عندما تنظر إلى الإسناد وإلى المتن تجده ظاهره سالماً ، لكن عندما تجمع طرق الحديث تتبين لك هذه العلة الخفية الباطنة التي هي حقيقةً قادحة ومفسدة لهذا الحديث .

فالمعلَّل من الناحية الاصطلاحية : هو ما فيه علة خفية قادحة .

العلة منها ما هو ظاهر ومنها ما هو خفي ، ومنها ما هو قادح ومنها ما هو ليس بقادح .

العلة الظاهرة : مثل أن يكون في الإسناد راوٍ ضعيف هذه علة في الحديث تجعلنا لا نقبله ولكنها علة ظاهرة مباشرة أول ما تنظر في الإسناد إذا كان عندك معرفة بالرجال مباشرة تقول : فيه فلان وهو ضعيف .انتهى الأمر .

يمر عليك إسناد فيه ابن لَهِيعَةْ تقول : هذا إسناد ضعيف فيه ابن لهيعة . انتهى الأمر.

فإسناد ظاهره فيه علة ظاهرة واضحة هذه تسمى علة ظاهرة وهي علة قادحة أيضاً ليش ؟ لأنها أثَّرت في الحديث وضعَّفته وضَعُفَ الحديث بسببها.

هناك علة غير قادحة مثل ماذا ؟

أن يأتي راو ويستبدل مكان راو راويا آخر ، ولكنه ثقة كأن يقول شخص مثلاً : يحدِّث عن سفيان بن عيينة فيُخطئ فيه ويقول عن سفيان الثوري .

هذه علة في الحديث ولكنها غير قادحة لماذا ؟

لأن سفيان بن عيينة وسفيان الثوري ثقات .

وإن كان الراوي أخطأ في تسميته إلا أنه لا يؤثر في صحة الحديث ؛ لأنه سواء كان سفيان الثوري أو كان سفيان بن عيينة كلاهما ثقة.

هذه علة في الحديث لكنها لا تقدح في صحته .

هذه العلة الظاهرة ، والعلة القادحة ، والعلة غير القادحة .

بقي عندنا العلة الأخيرة وهي العلة الخفية ما ذكرنا لها مثالاً

أذكر لكم هذه القصة وبها تعرفون معنى العلة الخفية

هناك راوٍ اسمه أبو أسامة حمَّاد بن أسامة ويُكنَّى أبو أسامة كوفي ( من أهل الكوفة ) ، وهناك راويان من أهل الشام واحد يسمى عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، وواحد يسمى عبد الرحمن بن يزيد بن تميم .

عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الشامي ثقة ، وعبد الرحمن بن يزيد بن تميم الشامي أيضا ضعيف .

وحمَّاد بن أسامة ثقة من أهل الكوفة .

انطلق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الشامي ودخل الكوفة وحدَّث فيها فسمع منه أهل الكوفة ، ولكن حماد بن أسامة لم يسمع منه ، فرحل عبد الرحمن بن يزيد بن جابر إلى الشام وجاء بعده عبد الرحمن بن يزيد بن تميم إلى الكوفة ، ذهب حماد بن أسامة إليه وسمع منه ، وقبل أن ينصرف قال له ما اسمك ؟

قال : اسمي عبد الرحمن بن يزيد .

حماد بن أسامة ظنه مَن ؟ ظنه عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الثقة ، فصار يحدِّث عنه ، ماذا يقول ؟ يقول : حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر.

انظر ، روايته عن من ؟

عن ابن تميم الضعيف ، ولكنه أخطأ وظن أن الذي حدثه عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، وأضاف (ابن جابر) ، وسمّاه باسم الثقة .

أنت إذا لم تكن تعلم هذه القصة ، عندما يمر بك إسناد فيه حماد بن أسامة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ماذا تقول ؟ حماد بن أسامة ثقة ، عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ثقة فالإسناد صحيح.

لكن علماء العلل نُقّاد الحديث الحُفّاظ عرفوا هذا الأمر لماذا ؟ لأن الواحد منهم رحمهم الله كان يحفظ أحاديث الشيخ وأحاديث تلاميذه وأحاديث شيوخه ، فكانوا رحمهم الله يحفظون أحاديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ويعرفونها ، ويحفظون أحاديث عبد الرحمن بن يزيد بن تميم ويعرفونها.

فلمّا أخذ حماد بن أسامة يحدِّث بأحاديث عبد الرحمن بن يزيد بن تميم وينسبها إلى ابن جابر عرفوا العلة ونبَّهوا عليها فقالوا : هذا أخطأ فيه حماد بن أسامة ، وحصل معه كذا وكذا من أين عرفوا ذلك ؟ مِنْ حفظهم .

مجرد باحث عادي لا يستطيع أن يُخرِّج هذه العلة ولا أن يتنبه لها ؛ لأنه لا يحفظ جميع أحاديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ولا يحفظ جميع أحاديث عبد الرحمن بن يزيد بن تميم ؛ فنحن نعتمد على هؤلاء النُّقاد في مثل هذه العلل الخفية.

هذه صورة من صور العلة الخفية .

طيب كيف نعرف أن الحديث فيه علة خفية أو ما فيه ؟

قال علي بن المديني رحمه الله : الباب إذا لم تُجمَع طرقه لا تُعرف علته ، فإذا أردت أن تعرف صحة الحديث من عدم صحته لا بد أن تجمع جميع طرقه وجميع رواياته من كتب السنن والمسانيد والمجاميع إلى آخره ، فتتبين عندئذ علة الحديث .

وسيأتي تفصيل ذلك أكثر وأكثر في موضعه إن شاء الله

فهذه شروط خمسة لا بد أن تتوفر كي يُقبل الحديث ويسمى صحيحاً :

الأول : اتصال السند.

الثاني : عدالة الراوي .

الثالث : ضبط الراوي .

الرابع : عدم شذوذ الراوي .

الخامس : عدم وجود العلة القادحة في الحديث .

هذه خمسة شروط لا بد من توفرها .

وتعرفون من ذلك مدى حرص علماء الإسلام على تصفية حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وتنقيته مما ليس منه فرحمهم الله وجزاهم الله عنا وعن الإسلام خيرا .

هذا الدرس مهم جداً وفيه كثير من الاصطلاحات فمن فهمه واستوعبه ستسهل عليه كثير من اصطلاحات هذا الفن .