الدرس التاسع

[الدرس التاسع]


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، أمّا بعد :
فهذا المجلس التاسع من مجالس شرح لمعة الاعتقاد، ومازلنا في ذكر الإيمان الغيبي .
عدّد المؤلف رحمه الله بعض المسائل التي يجب على كلّ مسلم أن يؤمن بها لورود الدّليل بها من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهذه الأمور لا تدرَك إلا بالسمع، لا تدرك إلا بالأدلّة السّمعيّة، بأدلّة كتاب الله وسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لا تدرك بالعقل ولا بالمشاهدة، وإنّما هي مسائل غيبيّة أخبرنا بها ربّنا تبارك وتعالى إمّا في كتابه أو على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فوجب علينا الإيمان بها.

قال المؤلف رحمه الله:"وعذاب القبر ونعيمه حقّ"
عذاب القبر للفجّار، ونعيم القبر للأخيار، للصالحين، حقّ ثابت، العذاب ثابت والنّعيم ثابت في القبر، والقبر حفرة من حفر النّار أو روضة من رياض الجنّة دلّت على ذلك الأحاديث الصّحيحة، وعذاب القبر ثابت بأدلة متواترة في الصحيحين، ولكن التواتر نوعان :
تواتر لفظي، وتواتر معنوي .
وهذه الأدلة التي وردت في عذاب القبر تواترها تواتر معنويّ لا لفظي، ماذا نعني بالتواتر اللفظي ؟ أن يأتي حديث مثلاً بلفظ معيَّن وأن يُروى بطرق كثيرة بنفس اللّفظ كقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:"من كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النّار" جاء هذا الحديث بهذا اللّفظ من طرق كثيرة، فهو متواتر تواتراً لفظياً، ورد بنفس اللفظ.
أمّا المتواتر تواتراً معونيّاً فهذا لا يرد بنفس اللّفظ ولكن تأتي عدّة أحاديث فيها ما يدلّ على ما ذكرنا فيه التّواتر، كعذاب القبر هذا، ورد حديث مثلاً أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم استعاذ من عذاب القبر كما جاء في الصّحيحين أنّه كان يقول في صلاته:" اللّهم إنّي أعوذ بك من عذاب القبر"، وورد أيضاً عن عائشة أنّها جاءتها يهوديّة فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر فاستفسرت وسألت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن عذاب القبر فصدّق وأكّد حدوث عذاب القبر وأنّ النّاس يعذّبون في قبورهم، هذا حديث آخر، وإن كان هذا حديث وذاك حديث آخر إلا أنّ الأوّل يدلّ على عذاب القبر والثّاني كذلك يدل على عذاب القبر، وكذلك الثّالث قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عندما مرّ بالقبرين، قال:" إنّهما ليعذّبان وما يعذّبان في كبير" فدلّ أيضاً هذا الحديث على عذاب القبر، فعندما تأتيك مجموعة من الأحاديث كهذه الأحاديث كلٌّ منها يفيد بوقوع عذاب القبر ، إذاً يكون عذاب القبر متواتراً تواتراً معنويّاً لا لفظياً، فأحاديث عذاب القبر متواترة كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله .
فقوله: "عذاب القبر ونعيمه حق" أي ثابت، نؤمن بذلك ونصدّق لأنه جاء به الكتاب وجاءت به السنّة، أمّا الكتاب ففي قوله تبارك وتعالى { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [ غافر/46]، النّار يعرضون عليها آل فرعون أين ؟ في القبر ، ويوم تقوم السّاعة يُدخلون أشدّ العذاب، فهذه الآية تدلّ على عذاب القبر، أمّا الأحاديث فكما ذكرنا متواترة، فبما أنّ عذاب القبر ثبت في الكتاب وثبت في السنّة فوجب علينا الإيمان به والتّسليم لما قاله ربّنا تبارك وتعالى وبما أخبرنا به نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، هكذا يكون الإيمان.
قال:"وقد استعاذ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم منه" لا شكّ في الصّحيحين أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول في صلاته:"اللّهمّ إنّي أعوذ بك من عذاب القبر" ، "وأمر به في كلّ صلاة" أيضاً في الصحيحين، أنّ الشّخص لا يدعنّ في دبر صلاته أن يقول : "اللهم إنّ أعوذب بك من عذاب القبر ومن فتنة المسيح الدّجال..." إلى آخر الحديث .

قال:"وفتنة القبر حقّ" الفتنة هنا بمعنى الاختبار والامتحان، أي الاختبار والامتحان الذي سيتعرّض له العبد في قبره حقٌّ ثابت لثبوته في الأحاديث الصحيحة الواردة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، منها أحاديث في الصحيحين ومنها حديث البراء بن عازب قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم:"إذا أُقعد المؤمن في قبره أُتي ثمّ شهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّداً رسول فذلك قوله { يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } [ إبراهيم/27] قال البراء: نزلت في عذاب القبر، فهذه الآية مع الحديث تؤكّد حصول الاختبار والامتحان وأيضاً حصول عذاب القبر، فيأتي العبد ملكان فيقعدانه ويسألانه (من ربّك ؟، وما دينك ؟، وماذا كنت تقول في الرّجل الذي بُعث فيكم ؟، فإن كان صالحاً قال: ربي الله، ونبيّي محمّد صلّى الله عليه وسلّم وديني الإسلام، وإذا كان غير ذلك قال: هاه هاه ، لا أدري) .
قال:"وسؤال منكر ونكير حقّ" أي حقّ ثابت أنّهما يسألان العبد في قبره، يأتيانه ملكان فيسألانه عن دينه وعن ربّه وعن نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، السؤال ثابت في الصّحيحين، أمّا تسمية منكر ونكير فقد وردت في رواية عند التّرمذي مختلَفٌ في صحّتها .
قال رحمه الله:"والبعث بعد الموت حقّ" المراد بالبعث خروج النّاس من القبور للحساب، وهو حقّ كما قال المؤلف أي ثابت
"
وذلك حين ينفخ إسرافيل عليه السلام في الصّور" إسرافيل ملك من ملائكة الله تبارك وتعالى، (ينفخ في الصور) أي ينفخ في قرن كبير، ينفخ نفخة فيخرج النّاس من قبورهم، قال: "{ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ }" (من الأجداث) يعني من القبور و (ينسلون) يعني يخرجون سراعا .
لا يستثنى من فتنة القبر إلا الشّهيد لقوله صلّى الله عليه وسلّم عندما سئل: ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشّهيد ؟ قال: "كفى ببارقة السّيوف على رأسه فتنة"، وكذلك "من مات مرابطاً في سبيل الله" والحديث وارد في صحيح مسلم بذلك، من مات مرابطاً في سبيل الله، هؤلاء لا يفتنون في قبورهم .
قال المؤلف رحمه الله:"ويحشر النّاس يوم القيامة حفاة عراة غرلا بُهما" بعد أن يخرج النّاس من قبورهم يُجمع الخلائق للحساب والقضاء بينهم فقال:" يحشر النّاس" أي يجمعون يوم القيامة"، (حفاة) لا نعال ولا أحذية، لا يلبسون نعالاً ولا أحذية، (عراة) لا ملابس عليهم، قالت عائشة رضي الله عنها: "وينظر الرّجال والنّساء إلى بعضهم ؟، قال:" يا عائشة الأمر أشدّ من ذلك" ما في مجال تتفرّغ تنظر إلى ذاك أو ذاك، الأمر فيه هول عظيم.
قال: (غرلا) أي غير مختونين، (بُهْما) أي ليس معهم شيء، يأتون ولا شيء معهم .
قال:"فيقفون في موقف القيامة"، قال صلّى الله عليه وسلّم : "يحشر النّاس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقُرصةٍ نقيّ ليس فيها علَم لأحد" هذا متّفق عليه، الأرض التي يحشرون عليها يوم القيامة بيضاء، عفراء، كقرصة النّقيّ أي كالرغيف المنخول، (ليس فيها علم لأحد) أرض فارغة لا شيء فيها، وهذا الحديث في الصحيحين .
قال:"حتّى يشفع فيهم نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم" أحاديث الشّفاعة في الصّحيحين، هذه الشفاعة الخاصّة بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وسيأتي التّفصيل فيها، عندما يحشر النّاس يوم القيامة، تقترب منهم الشّمس قدر ميل فيغرقون في عرقهم، كلٌّ على حسب ذنبه، ومنهم مَنْ يلجمه العرق إلجاماً لكثرة ذنوبه أعاذنا الله وإيّاكم، ويشتدّ الأمر عليهم كثيراً حتّى يأتون إلى الأنبياء، يأتون إلى الأنبياء كي يشفعوا لهم عند الله سبحانه وتعالى كي يبدأ بالحساب، فيأتون إلى آدم ويأتون إلى موسى وإلى عيسى وغيرهم من الأنبياء فيقول كلّ نبي منهم نفسي نفسي ويذكر ذنباً، إلى أن يأتوا إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيقول:"أنا لها أنا لها" ويذهب ويسجد عند ربّ العزّة تبارك وتعالى ثمّ يأذن له بالشّفاعة، فيبدأ بالحساب .
قال:"حتّى يشفع فيهم نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم ويحاسبهم الله تبارك وتعالى"، المؤمن تعرض عليه أعماله ثمّ يعفو الله عنه، مجرّد عرض،
وأمّا من نوقش الحساب عُذّب، كما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عندما سألته عائشة فقال لها صلّى الله عليه وسلّم:"من نوقش الحساب عذّب"، وأمّا السّبعين ألفاً فهؤلاء يدخلون الجنّة بغير حساب ولا عذاب كما جاء في الصّحيحين فلا ينجو من الحساب إلا السّبعين ألفاً الذين ذكروا في هذا الحديث، ولا ينجو من حرّ الشّمس في الموقف إلا السّبعة الذين يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه.
قال:"وتُنصب الموازين" أي موازين الأعمال، موازين جمع ميزان، والموازين هذه لها كفّتان كما سيأتي إن شاء الله، تنصب الموازين لوزن الأعمال، "وتنشر الدّواوين" الدّواوين جمع ديوان والمقصود به الكتب التي تكتب فيها الأعمال، "وتتطاير صحف الأعمال إلى الأَيمان والشّمائل { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً }"، نؤمن بكلّ هذا ونصدّق به لأنّ الله سبحانه وتعالى أخبرنا به، ولأنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم وهو الصادق أخبرنا أيضاً بذلك فنحن نستيقن أنّ كلّ هذا سيحصل .
قال المؤلف رحمه الله:"والميزان له كفّتان" أي الميزان التي توزن به الأعمال يوم القيامة له كفّتان، "ولسان توزن به الأعمال" أمّا له كفّتان فهذا وارد في حديث البطاقة الذي قال فيه النّبيّ صلى الله عليه وسلّم :"فتوضع السجلات في كفّة والبطاقة في كفّة" فعلمنا أنّ الميزان له كفّتان، وأمّا اللّسان فلم أجد عليه دليلاً .
قال:"والميزان له كفّتان ولسان توزن به الأعمال" وقد حصل خلاف بين أهل العلم هل الأعمال هي التي توزن ؟ أم يوزن النّاس أنفسهم ؟ أم توزن الصّحف ؟، خلاف بين أهل العلم، والظّاهر أنّ كلّ هذا يحصل لوجود الأدلّة في ذلك .


قال:"{ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } فالأعمال توزن يوم القيامة فإذا غلبت سيئات الشّخص حسناته فهو من الهالكين، وإذا غلبت حسناته سيّئاته فهو من النّاجين .
قال المؤلف رحمه الله:"ولنبيّنا محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم حوض في القيامة، ماؤه أشدّ بياضاً من اللّبن، وأحلى من العسل, وأباريقه عدد نجوم السّماء"، (أباريقه) يعني آنيته التي يُشرب بها، (عدد نجوم السّماء) أي كثيرة جدّاً، "من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا" لا يصيبه عطشاً البتّة، نسأل الله أن يجعلنا وإيّاكم من أهله، (لم يظمأ بعدها أبدا) طيّب وشربهم بعد ذلك في الجنّة إنّما هو للمتعة وليس لإذهاب الظّمأ، وجاءت بذلك أحاديث بمعنى ما ذكر المصنّف رحمه الله .
قال:"والصّراط حقّ يجوزه الأبرار ويزلّ عنه الفجّار"، الصّراط هو الجسر، جسرٌ ممدود على جهنّم ليعبر النّاس عليه إلى الجنّة وهو ثابت بالكتاب والسنّة، ويقرّره علماء أهل السنّة والجماعة ويؤمنون به، قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم { وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا } [ مريم/71]، فسّرها غير واحد من السّلف بأنّه وروده على الصّراط وهذا أصحّ تفسير لها، وقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم:"ثمّ يضرب الجسر على جهنّم وتحلّ الشّفاعة ويقولون: -أي الأنبياء- اللّهمّ سلّم سلّم" وجاء في صفته أنّه "مدْحضة مَزَلّة عليها خطاطيف وكلاليب وحسكة مفلطحة لها شوكة عُقَيْفاء تكون بنجدٍ يقال لها السّعدان" رواه البخاريّ وفي رواية " وبه كلاليب مثل شوك السّعدان غير أنّها لا يعلم قدر عظمها إلا الله ، يُخطف النّاس بأعمالهم" تأخذهم على حسب أعمالهم فمنهم مخدوش ومرسل - يعني يخدش ولكنّه ينجو - ومنهم مكدوس في جهنّم فتأخذه وتنزل به إلى نار جهنّم، نسأل الله أن يعافينا وإيّاكم،
جاء في صحيح أنّه يمرّ المؤمن على الجسر على الصّراط كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطّير وكأجاويد الخيل والرّكاب فناجٍ مسلَّم ، ومخدوش مرسل ، ومكدوس في جهنّم، (مخدوش مرسل) يعني مطلق، يذهب ينطلق
والسير على الصراط بالسرعات هذه المختلفة على حسب الأعمال، الأعمال هي التي تجعلك تسير بشكل أسرع من الآخرين، وجاء ذلك في صحيح مسلم في رواية واضحة في ذلك قال:" تجري بهم أعمالهم ونبيّكم قائم على الصّراط يقول: يا ربّ سلّم سلّم، حتّى تعجز أعمال العباد، حتى يجيء الرّجل فلا يستطيع السّير إلا زحفا" لأعماله القليلة .
قال رحمه الله:" ويشفع نبيّنا صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فيمن دخل النّار من أمّته من أهل الكبائر فيخرجون بشفاعته بعدما احترقوا وصاروا فحماً وحمما فيدخلون الجنّة بشفاعته، ولسائر الأنبياء والمؤمنين والملائكة شفاعات، قال تعالى { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ }، ولا تنفع الكافر شفاعة الشّافعين"،
الشّفاعة: هي التّوسّط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرّة، والشفاعة يوم القيامة نوعان:
شفاعة خاصّة بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وشفاعة عامّة له ولغيره من الأنبياء والملائكة والصّالحين والشّهداء، فالخاصّة بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هي الشّفاعة العظمى، شفاعة الموقف، الشّفاعة في أهل الموقف لقيام الحساب، وأمّا الشّفاعة العامّة فهي الشّفاعة فيمن دخل النّار من المؤمنين من أهل الكبائر أن يخرجوا منها، جاء في حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:" أمّا أهل النّار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن أناس أو كما قال تصيبهم النّار بذنوبهم أو قال بخطاياهم فيميتهم إماتة حتّى إذا صاروا فحما أُذِنَ في الشّفاعة فيخرجون" وأحاديث الشّفاعة في الصّحيحين كثيرة تدلّ على خروج المذنبين من النّار، وكما قال عليه الصّلاة والسّلام: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي"، فشفاعة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وشفاعة الملائكة، وشفاعة الصّالحين، كلّها ثابتة في أحاديث كثيرة لم يُنكرها إلا الخوارج والمعتزلة بناءً على أصولهم أنّ صاحب الكبيرة كافر لا يخرج من النّار، أمّا أهل السنّة والجماعة فيعتقدون أنّ صاحب الكبيرة مؤمن ناقص الإيمان أو أنّه فاسق يعذّب في نار جهنّم إن شاء الله سبحانه وتعالى له ذلك، يعذّب في نار جهنّم بقدر ذنوبه ثمّ يخرج منها كما صحّت بذلك الأحاديث الكثيرة.
ويُشترط لهذه الشّفاعة شرطان:
الأوّل : إذن الله في الشّفاعة، وهذا مأخوذ من قول الله تبارك وتعالى { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة/255]، فلا أحد له قدرة على أن يشفع إلا إن أذن له الله سبحانه وتعالى بذلك.
والشّرط الثّاني: أن يرضى أن يُشفع في المشفوع فيه فلا يشفع أحد في أحد إلا أن يرضى الله سبحانه وتعالى لفلان أن يشفع في فلان، قال { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } [ الأنبياء/28]، من ارتضى أن يشفعوا فيه، فأمّا الكافر فلا شفاعة له كما قال تبارك وتعالى { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } [ المدّثر/48].
قال رحمه الله:"والجنّة والنّار مخلوقتان لا تفنيان"، (مخلوقتان) أي موجودتان الآن ، (لا تفنيان) تبقيان إلى الأبد، لا تفنيان البتّة، "فالجنّة مأوى أوليائه" يأوي فيها الأولياء والصّالحون، "والنّار عقاب لأعدائه، وأهل الجنّة فيها مخلّدون" أي في الجنّة، "{ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ }" أي آيسون من رحمة الله تبارك وتعالى لا يخرجون من العذاب أبداً، لا يفتّر عنهم العذاب أبداً .
وقول المؤلف رحمه الله:"هما مخلوقتان" أي الجنّة والنّار، دليل ذلك قول الله تبارك وتعالى في الجنّة { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران/133] أي أعدّت فهي معدّة وجاهزة وموجودة للمتّقين، وقال أيضاً في النّار{ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [ آل عمران/131] وجاء في أحاديث كثيرة أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم رأى الجنّة ورأى أيضاً النّار ورأى أقواماً يعذّبون في نار جهنّم ورأى أقواماً ينعّمون في الجنّة في أحاديث كثيرة، حتّى إنّه همّ أن يأخذ منها عنقوداً من العنب كما جاء في الحديث قال:" إنّي رأيت الجنّة فتناولت منها عنقوداً ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدّنيا، ورأيت النّار فلم أرَ كاليوم منظرا قطّ أفظع منها"، وهذا الحديث متّفق عليه، وهذه القصّة في صلاة الكسوف .
وأمّا الجنّة والنّار وكونهما باقيتين لا تفنيان أبداً فأدلّة ذلك في الجنة كثيرة جدّاً، قال الله تبارك وتعالى { جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً } [ البينة/8] أي لا ينقطع خلودهم البتّة،
وأمّا في النّار فقال الله تبارك وتعالى { وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً } [ النساء/169/168]، وقال أيضاً { إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً } [ الأحزاب/65/64] ، وقال أيضاً { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } [ الزخرف/75/74]، وهذا كلّه ردّ على الذين قالوا بفناء النّار وهو قول مردود باطل لا يقبل من قائله لمخالفته لهذه الأدلّة الواضحة والصّريحة والمحكمة .
قال المؤلف رحمه الله:"ويؤتى بالموت في صورة كبش أملح"، عندما يستقرّ أهل الجنّة في الجنّة، وأهل النّار في النّار يؤتى بالموت في صورة كبش أملح، الأصل في الموت أنّه شيء معنويّ، ليس شيئاً محسوساً ولكنّ الله سبحانه وتعالى قادر على أن يفعل ما يريد فيأتي به في صورة كبش أملح، الأملح الذي هو فيه بياض وسواد إلا أنّ بياضه أكثر من سواده، "فيذبح بين الجنّة والنّار ثمّ يقال: يا أهل الجنّة خلود ولا موت، ويا أهل النّار خلود ولا موت" ما أعظم هذا الحدث عند أهل الجنّة وعند أهل النّار، أمّا أهل الجنّة فيزيد نعيمهم نعيماً، وأمّا أهل النّار فيزيد عذابهم عذابا، فأهل النّار ماكان لهم مفرّ ولا مخرج ممّا هم فيه إلاّ الموت فلمّا ذُبح الموت أمامهم ما بقي مفرّ من بقاء العذاب الذي هم فيه، نسأل الله أن يعافينا وإيّاكم وأن يحسن خاتمتنا وخاتمتكم .
قال الله تبارك وتعالى { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } [ مريم/39] نسأل الله سبحانه وتعالى العافية والسلامة.

نكفتي بهذا القدر