شرح ثلاثة الأصول الدرس العاشر الأخير

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ؛ أما بعد
فهذا المجلس العاشر والأخير من شرح ثلاثة الأصول وأدلتها .
قال المؤلف – رحمه الله - : " ودينه باق . وهذا دينه ، لا خير إلا دلّ الأمة عليه ، ولا شرّ إلا حذرها منه ، والخير الذي دلّ عليه : التوحيد ، وجميع ما يحبه الله ويرضاه . والشر الذي حذر منه : الشرك وجميع ما يكرهه الله ويأباه . بعثه الله إلى الناس كافة ، وافترض الله طاعته على جميع الثقلين : الجن والأنس ، والدليل قوله تعالى : { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا } ، وأكمل الله به الدين ، والدليل قوله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } .
والدليل على موته صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : { إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } . والناس إذا ماتوا يبعثون ، والدليل قوله تعالى : { منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى } ، وقوله تعالى : { والله أنبتكم من الأرض نباتا * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا }.
وبعد البعث محاسبون ومجزيّون بأعمالهم ، والدليل قوله تعالى : { ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى } ؛ ومن كذب بالبعث كفر ، والدليل قوله تعالى { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبّؤن بما عملتم وذلك على الله يسير } .
وأرسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين ، والدليل قوله تعالى { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } ، وأولهم نوح عليه السلام ، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم ، والدليل على أن أولهم نوح عليه السلام قوله تعالى { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } .
وكل أمة بعث الله إليها رسولا من نوح إلى محمد ؛ يأمرهم بعبادة الله وحده ، وينهاهم عن عبادة الطاغوت ، والدليل قوله تعالى : { ولقد بعثنا في كل امة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } .
وافترض الله على جميع العباد الكفر بالطاغوت والإيمان بالله . قال ابن القيم – رحمه الله تعالى – الطاغوت : ما تجاوز به العبد حدّه من معبود أو متبوع ، أو مطاع ؛ والطواغيت كثيرة ورؤوسهم خمسة : إبليس لعنه الله ، ومن عُبِد وهو راض ، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه ، ومن ادّعى شيئا من علم الغيب ؛ ومن حكم بغير ما أنزل الله .
والدليل قوله تعالى : { لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } وهذا معنى لا إله إلا الله .
وفي الحديث : " رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله " .
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم " .
قوله : " ودينه باق " أي دين محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء به من عند الله عز وجل باق إلى يوم القيامة ؛ لأنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم ، فأبقى الله دين الإسلام إلى قيام الساعة .
قال : " وهذا دينه " أي دين الإسلام .
قال : " لا خير إلا دل الأمة عليه ، ولا شرّ إلا حذّرها منه " فقد قال اليهود لسلمان الفارسي رضي الله عنه : لقد علمكم نبيّكم كل شيء ، قال : نعم لقد علمنا كل شيء حتى الخراءة – أي آداب قضاء الحاجة - .
وقال أبو ذر : لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من طائر يقلّب جناحيه في الهواء ؛ إلا وذكر لنا منه علماً .
وهذا الأثر مع الذي قبله ؛ يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن كلّ شيء قبل موته ، فلا نحتاج لقول أحد مع وجود كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
قال : " والخير الذي دلّ عليه : التوحيد ، وجميع ما يحبه الله ويرضاه " ، وكل ذلك موجود في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا يخرج الخير الذي يحبه الله ويرضاه عن هذين الكتابين أبداً .
قال : " والشر الذي حذر منه : الشرك وجميع ما يكرهه الله ويأباه . بعثه الله إلى الناس كافة " وسيأتي الدليل على ذلك ، " وافترض الله طاعته على جميع الثقلين : الجن والأنس " فقد قال الله عز وجل { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } وقال { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } .
قال : " والدليل " أي على انه عليه السلام أرسل إلى الناس كافة ؛ { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا } ، وقد جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي .. " - قال - : " وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت للناس عامة " . متفق عليه .
إذن فالنبي صلى الله عليه وسلم مبعوث لجميع الناس ؛ وهو من خصائصه عليه السلام ؛ فقد كان يبعث الأنبياء من قبله كل نبي إلى قومه .
قال : " وأكمل الله به الدين ، والدليل قوله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } فدينه تبارك وتعالى كامل لا يحتاج من أحد أن يستدرك عليه أو يكمله ؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " وقال : " كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار " ؛ لأنه لا يجوز لإنسان أن يستدرك على ربه عز وجل ، وأن يأتي بدين من عنده ، فدين الله كامل لا نقصان فيه ؛ وهو ما في الكتاب والسنة ، فلا نخرج عنهما .
ودين الله عز وجل شامل لمصالح العباد كلها إلى قيام الساعة ، وهو صالح لكل زمان ومكان ، وكل مشكلة قد تطرأ على الناس في هذا الزمان وغيره إنما يكون حلها وعلاجها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، منها ما نُصّ عليه في كتاب الله أو سنة رسوله ، ومنها ما يستخرج بالاستنباط من الأدلة الكلية والقواعد العامة المأخوذة منهما . فنحن أغنياء بكتاب الله وسنة رسوله عن عقول البشر وشطحاتهم . وقد جرّب الناس عقولهم ؛ فما تمكّنوا من إصلاح أمورهم إلى يومنا هذا ، والواقع أمامنا شاهد بذلك ؛ فهذه الخلافات والنزاعات والفتن كلها بسبب البعد عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتخاذهما دستوراً توضع الأحكام بناء عليهما ، لا بناء على عقول البشر .
قال : " والدليل على موته صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : { إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } " ، فيبيّن هاهنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر من البشر يموت كما يموتون ؛ فكل البشر سيذوق الموت .
وقد شهد الصحابة رضوان الله عليهم موته صلى الله عليه وسلم وعاينوه وقرّروه ، فليس لأحد بعد ذلك أن يخرج عن هذه النصوص الواضحة الصحيحة وعن المنهج الذي كان عليه الصحابة ، فيدّعي أنه عليه السلام لم يمت ، ويستغيث به أو بغيره من المخلوقين فيما لا يقدر عليه إلا الله تبارك وتعالى .
قال : " والناس إذا ماتوا يبعثون " هذا مبحث الإيمان بالبعث بعد الموت وهو ركن من أركان الإيمان .
قال : " والدليل قوله تعالى : { منها خلقناكم } ، أي من الأرض ، { وفيها نعيدكم } أي إلى الأرض ، { ومنها نخرجكم تارة أخرى } بالبعث يوم القيامة .
قال : " وقوله تعالى : { والله أنبتكم من الأرض نباتا * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا }" . وهي بمعنى الآية التي قبلها .
قال : " وبعد البعث محاسبون ومجزيّون بأعمالهم ، والدليل قوله تعالى : { ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى } " فكل يجازى بما عمل ؛ فيجب الحرص على عمل الخير والبر ليكون الجزاء خيرا .
والناس في المحاسبة ثلاثة أقسام ؛
فمنهم من لا يحاسب ؛ وهؤلاء الذين ذكروا في حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عقاب .
ومنهم من يحاسب حسابا يسيرا ولا يناقش الحساب ؛ وهؤلاء هم الناجون من العذاب .
ومنهم من يحاسب ويناقش الحساب .
وأما الكفار فقد اختلف أهل العلم ؛ هل يحاسبون أم يصرفون إلى جهنم مباشرة .
قال : " ومن كذب بالبعث كفر ، والدليل قوله تعالى { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبّؤن بما عملتم وذلك على الله يسير } " ، فإن البعث ركن من أركان الإيمان من أنكره فقد كفر .
قال : " وأرسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين ، والدليل قوله تعالى { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } ، و الإيمان بالرسل هو أحد أركان الإيمان فقد أرسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين بالجنة والنعيم لمن أطاعهم وآمن ، ومنذرين بالنار والعذاب لمن عصاهم وكفر ؛ وبهذا تكون قد قامت الحجة على الناس .
قال : " وأولهم نوح عليه السلام " والناس من آدم إلى نوح كانوا على التوحيد ، إلى أن صوّر قوم نوح صور الصالحين ثم مرّ عليهم الزمن ووسوس لهم الشيطان فعبدوهم ، فأرسل الله نوحاً مبشراً ومنذراً .
قال : " وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم ، والدليل على أن أولهم نوح عليه السلام قوله تعالى { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } " ، فكان نوح عليه السلام أول الرسل ، ويؤكد ذلك حديث الشفاعة ؛ أن الناس يأتون إلى نوح فيقولون له : أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض .
وأما قوله " وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم " ففد قال الله عز وجل : { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين } . وقال عليه الصلاة والسلام : " وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي " .
والرسل كثر ؛ منهم من سمى الله في كتابه ومنهم من لم يسمّ .
قال : " وكل أمة بعث الله إليها رسولا من نوح إلى محمد ، يأمرهم بعبادة الله وحده ، وينهاهم عن عبادة الطاغوت ، والدليل قوله تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } " والدليل ما ذكره ، وكذلك قوله عز وجل : { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } .
وكل رسول بعثه الله كان يأمره بدعوة الناس إلى إفراد الله تعالى بالعبادة ، والكفر بعبادة من سواه ؛ وهي دعوة جميع الرسل ، فقال الله { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } فالتوحيد أصل دعوة الرسل .
قال : " وافترض الله على جميع العباد الكفر بالطاغوت والإيمان بالله " ولا يصح إيمان عبد إلا بهذين الشطرين ؛ الإيمان بالله ، والثاني الكفر بالطاغوت ، وهو معنى " لا إله إلا الله "
قال : " قال ابن القيم – رحمه الله تعالى – الطاغوت : ما تجاوز به العبد حدّه من معبود أو متبوع ، أو مطاع " ؛
أصل كلمة الطاغوت من الطغيان وهو مجاوزة الحدّ .
وفي الشرع ؛ هو ما عرّفه المؤلف – رحمه الله – لكنه لا يسمّى طاغوتاً إلا إذا كان راضيا بما ذكر ، أما إذا كان كعيسى عليه السلام وعلي رضي الله عنه وغيرهم من الصالحين ؛ فلا يسمّى طاغوتا ؛ لعدم رضاهم بعبادة من عبدهم .
فما تجاوز به العباد الحدّ ؛ فعبدوه أو اتبعوه في تحريم الحلال أو تحليل الحرام ؛ فهو طاغوت .
قال : " والطواغيت كثيرة ورؤوسهم خمسة : إبليس لعنه الله ، ومن عُبِد وهو راض " أي وهو راض بتلك العبادة ، ولم ينههم عنها ولم ينكرها مع قدرته على ذلك .
قال : " ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه " سواء أجابوه لدعوته أو لم يجيبوه ؛ فهو طاغوت .
قال : " ومن ادّعى شيئا من علم الغيب " والغيب ما غاب عنك ؛ وهو قسمان :
غيب نسبي ؛ وهو أن يغيب على البعض ويظهر للآخرين .
وغيب حقيقي ؛ وهو ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى ؛ وهذا القسم دعوى العلم به كفر ؛ لأن من ادعى علم الغيب مكذب لقوله تعالى : { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } . وقد قال عليه السلام – وهو نبي الله – أنه لا يعلم الغيب ؛ فغيره من باب أولى . فعلم الغيب من خصائص الله تبارك وتعالى .
قال : " ومن حكم بغير ما أنزل الله " ، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله في آخر هذا الكتاب .
قال – رحمه الله – : " والدليل " أي على وجوب الحكم بما أنزل الله والكفر بالطاغوت ؛ " قوله تعالى : { لا إكراه في الدين } " أي لا يُكْرَه أحد على الدخول في الدين فالحق بين واضح " { قد تبيّن الرشد من الغيّ } " أي قد تميّز الإيمان من الكفر بوضوح لا يخفى على أحد " { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } أي استمسك بالإسلام الحق ؛ " وهذا معنى لا إله إلا الله " .
قال : " وفي الحديث : " رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله " ؛ وهو حديث ضعيف ؛ ومن شاء أن يراجع ضعفه ؛ ففي " جامع العلوم والحكم " لابن رجب
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
مسألة الحكم بغير ما أنزل الله
الحكم بما أنزل الله من توحيد الربوبية ؛ لأنه تنفيذ لحكم الله الذي هو مقتضى ربوبية الله تبارك وتعالى وملكه وتصرّفه . وهو من أعظم الواجبات ولا سبيل إلى استقامة العباد على طاعة الله وتوحيده إلا بالحكم بما أنزل الله عز وجل .
وأما الحاكم إذا حكم بغير ما أنزل الله ؛ فنقول فيه كما قال أهل السنة والجماعة ؛
إذا حكم بغير ما أنزل الله مع اعتقاده أن الحكم بما أنزل الله لا ينفع أو أن الحكم بغيره أفضل ، أو أنه لا يصلح في هذا الزمن وهو للزمن الأول فقط ، أو أنه يعتقد جواز الحكم بغير ما أنزل الله ؛ فهذا يعد كفراً مخرجاً من ملّة الإسلام .
أما من حكم بغير ما أنزل الله وهو يعتقد أن الحكم بما أنزل الله أفضل وهو الصحيح والحكم بغيره غير جائز ، وأن حكم الله صحيح قائم في كل زمان ؛ فهذا يقال فيه أن كفره كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق كما قال ابن عباس رضي الله عنه ، وكذا مجاهد وطاووس وغيرهم من أئمة السلف .
إذن ففي المسألة تفصيل بالنسبة للحاكم بغير ما أنزل الله ؛ وهو دائر ما بين الكفر الأصغر والكفر الأكبر ؛ فإن كان يعتقد بأن الحكم بغير ما أنزل الله أفضل أو أنه حكم جائز ؛ فكفر مخرج من الملّة ، وإن كان يعتقد أن الحكم بما أنزل الله هو الأفضل والأحسن ولا يجوز الحكم بخلافه ؛ فكفره كفر أصغر لا يخرج به من الملة .
والأدلة على ما ذكرنا في كتاب الله كثيرة ؛ منها قوله عز وجل : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } و { من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } و { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلّموا تسليما} والأدلة في الكتاب والسنة كثيرة على وجوب الحكم بما أنزل الله وشرع .
أما التفريق بين الحكم بغير ما أنزل الله في مسألة معينة والحكم بغير ما أنزل الله في التشريع العام ؛ فقول خطأ - مع تبني بعض أهل العلم له – لأنه تكفير باللازم .
ومعنى التشريع العام ؛ أن يضع الحاكم قانوناً ويلزم الناس به ويجعله تشريعا عاماً لهم .
فيقولون يلزم من ذلك أنه راض بهذا القانون ويعتقده أفضل من حكم الله .
لكن هذا اللازم ليس بلازم ؛ فقد صرّح بعض الذين يريدون غير حكم الله بخلاف هذا ؛ فقال فيما يدّعيه : نحن لو حكّمنا شرع الله ما استطعنا أن نعترض عليه ولا أن نخالفه ، لكن إذا وضعنا قانونا من عندنا استطعنا أن نتلاعب فيه كما نشاء .
فهذا من اتباع الهوى وليس من باب تفضيله حكمه على حكم الله سبحانه وتعالى .
فإذن هناك أسباب أخرى غير تفضيل حكمهم على حكم الله سبحانه ، تدفعه هذه الأسباب إلى الحكم بغير ما أنزل الله .
ونحن لا ندافع عن الذين ظلموا أنفسهم ونحذرهم من هذا الفعل الذي مآل صاحبه إلى الهاوية والهلاك عياذا بالله ، وكفاه شرّا أنه دائر بين أحد الكفرين إما الأكبر أو الأصغر .
لكن ما يجعلنا نركّز على مثل هذه المسائل ؛ هو أن أهل الأهواء اتخذوها ذريعة إلى الخروج على الحكام وسفك دماء المسلمين وإلى الإفساد في الأرض بحجة الجهاد ؛ وحقيقة كان عملهم فسادا وليس جهاداً ؛ فقد أفسدوا في الأرض فسدا عريضا بحجة تكفير الحكام ، وبناء عليه كفروا الوزراء والجيش والأمن ، ثم استباحوا الدماء والأموال والأعراض نسأل الله العافية والسلامة من بلائهم.
واحتج هؤلاء بقول الله { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } وكذلك بقوله تعالى { إن الحكم إلا لله } ، وكما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : " كلمة حق أريد بها باطل " فقد أرادوا من وراء ذلك استباحة دماء وأموال هؤلاء القوم الذين ظلموا أنفسهم .
وقد قال الحافظ ابن عبد البر – رحمه الله – في كتابه " التمهيد " في آية { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } : " ليست على ظاهرها ، والخوارج يستدلّون بآيات ليست على ظاهرها " ؛ وذكر منها هذه الآية .
وكذلك قال الآجري في " الشريعة " : " ومما يتّبع الحرورية من المتشابه قول الله تعالى { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } " .
و الحرورية هم الخوارج .
وهذه الآية هي متعلَّق الخوارج من قديم الزمان لسفك دماء المسلمين واستباحة أموالهم وأعراضهم ، نسأل الله العافية والسلامة .
فالواجب على المسلم أن يتقي الله سبحانه وتعالى ويبتعد عن التكفير بقدر ما يستطيع حتى يأتيه أمر واضح من الكتاب والسنة وفهم سلف هذه الأمة ، ولو رجعنا إلى سلف هذه الأمة لوجدنا أنهم يفسرونها على المعنى الذي ذكرناه ، وأهل السنة والجماعة متفقون على التفسير الذي ذكر فيه التفصيل ، فيجب الوقوف عند هذا التفسير - وهو تفسير السلف – كي لا نخرج عن الطريق المستقيم .
وكما ذكرنا فإنهم اتخذوا مسألة التشريع العام ذريعة للخروج ، ولو سلّمنا معهم بأن الحاكم بالتشريع العام يلزمه ما ذكروه من لازم ، وأنه كافر بهذا اللازم ؛ فإن هذا التكفير تكفير اجتهادي وليس تكفيرا نصيا أو كفراً بواحاً كما قال صلى الله عليه وسلم ؛ فلا يجوز الخروج على الحاكم به . ومع هذا فإنهم لا يقدّرون مصالحا ولا مفاسدا ولا يعتبرون القدرة ، ولا شيئا من الأمور التي اعتبرها علماء الإسلام في مسألة الجهاد ، وتفاصيل موضوع الجهاد موجودة في كتب الفقه ، وإن يسر الله الوصول إليها فصلنا القول فيه ، والله أعلم .