شرح ثلاثة الأصول الدرس التاسع

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ؛ أما بعد ؛
فهذا المجلس التاسع من مجالس شرح ثلاثة الأصول ، وقد انتهينا من الأصل الثاني من الأصول الثلاثة ، وسيبدأ المؤلف بالأصل الثالث .
قال – رحمه الله - : " الأصل الثالث : معرفة نبيّكم محمد صلى الله عليه وسلم . وهو : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم وهاشم من قريش ، وقريش من العرب ، والعرب من ذرّيّة إسماعيل ، ابن إبراهيم الخليل ، عليه وعلى نبيّنا أفضل الصلاة والسلام . وله من العمر : ثلاث وستون سنة ، منها أربعون قبل النبوة ، وثلاث وعشرون نبياً ورسولا ، نبئ بإقرأ وأرسل بالمدثر ، وبلده مكة ، وهاجر إلى المدينة .
بعثه الله بالنذارة عن الشرك ، ويدعو إلى التوحيد . والدليل قوله تعالى : { { يا أيها المدثر قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر } ومعنى { قم فأنذر } : ينذر عن الشرك ويدعو إلى التوحيد . { وربك فكبر } أي عظّمه بالتوحيد ، { وثيابك فطهّر } أي : طهّر أعمالك عن الشرك . { والرجز فاهجر } الرجز : الأصنام ، وهجرها تركها ، والبراءة منها وأهلها .
أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد ، وبعد العشر عُرِج به إلى السماء ، وقد فرضت عليه الصلوات الخمس ، وصلى في مكة ثلاث سنين ، وبعدها أمر بالهجرة إلى المدينة .
والهجرة : الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام ، والهجرة فريضة على هذه الأمة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام ، وهي باقية إلى أن تقوم الساعة . والدليل قوله تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا * إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا * فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا } .
وقوله تعالى { يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون } .
قال البغوي – رحمه الله - : " سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين بمكة لم يهاجروا ، ناداهم الله باسم الإيمان . والدليل على الهجرة من السنة قوله صلى الله عليه وسلم : " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها .
فلما استقر بالمدينة ؛ أمر ببقية شرائع الإسلام مثل : الزكاة والصوم والحج والجهاد والأذان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من شرائع الإسلام .
أخذ على هذا عشر سنين وبعدها توفي صلوات الله وسلامه عليه ، ودينه باق " .
بدأ – رحمه الله – بذكر الواجب على المسلم معرفته عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛
فقال : " وهو : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب " واسمه شيبة ، ويقال له شيبة الحمد ، وكان عند أخواله بني النجار في المدينة ، فرجع به عمّه المطلب ، وفي مسيره رآه الناس فسألوه عنه ؛ فقال هذا عبدي ؛ فأطلقوا عليه هذا الاسم .
قال : " بن هاشم ، وهاشم من قريش ، وقريش من العرب ، والعرب من ذرّيّة إسماعيل " . هذا قسم من العرب ، والعرب عند أصحاب الأنساب ثلاثة أقسام ؛ عرب بائدة ، وعرب عاربة ، وعرب مستعربة .
فأما العرب البائدة ؛ فهم الذين أبادهم الله ؛ ومنهم قوم عاد وثمود .
وأما العرب العاربة ؛ فهم القحطانيّون من حمير من أهل اليمن وفروعها .
والعرب المستعربة ؛ هم العدنانيّون من ذرية إسماعيل بن إبراهيم ، وسمّوا بذلك ؛ لأنهم تعلموا العربية من العرب العاربة ، وهم من الحجاز نزلوا مكة .
فإنه لما نزل إسماعيل وأمه مكة وخرج ماء زمزم ؛ مرّت بهم قبيلة جرهم وسكنت معهم ، وتعلّموا منهم العربية ؛ فسمّوا عرباً مستعربة .
قال : " ابن إبراهيم الخليل ، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام النبي المعروف . وله من العمر : ثلاث وستون سنة " أي أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وله من العمر ثلاث وستّون سنة ، وولد عام الفيل يوم الاثنين ، ولم يثبت حديث في أنه ولد عليه السلام يوم اثني عشر من ربيع الأول .
قال : " منها أربعون قبل النبوّة " فجاءه الوحي وهو في سن الأربعين " .
قال : " وثلاث وعشرون نبياً ورسولاً " قضى صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وعشرين سنة وهو نبي ورسول .
قال : " نبئ بإقرأ " فقد كان صلى الله عليه وسلم يذهب إلى غار حراء ويتعبّد فيه على ملّة إبراهيم عليه السلام ، فلما بلغ الأربعين جاءه جبريل عليه السلام وهو في الغار فقال له : اقرأ ، قال : " ما أنا بقارئ " فأعادها عليه ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ما أنا بقارئ " ، حتى قال جبريل عليه السلام : " { اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق ... } " فقرأ عليه السلام ؛ فصار نبيّاً ، موحى إليه .
قال المؤلف – رحمه الله - : " وأرسل بالمدّثر " ؛ فإنه لما نزل عليه قوله تعالى : { يا أيها المدّثر قم فأنذر .. } ، كان هذا أمراً من الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بالتبليغ والإنذار للناس ، فصار رسولاً .
فالنبي عند المؤلف من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه ، والرسول من أوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه .
قال المؤلف : " وبلده مكة ، وهاجر إلى المدينة ، بعثه الله بالنذارة عن الشرك ، ويدعو إلى التوحيد " فقد كان صلى الله عليه وسلم يمشي في الأسواق وينادي بأعلى صوته : يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ، وكان عمّه يسير خلفه ويقول : لا تصدّقوه فإنه كذاب .
الشاهد أنه عليه السلام كان يدعو إلى كلمة لا إله إلا الله ، أي لا معبود بحق إلا الله ، وإلى ترك عبادة الأصنام ، وإفراده عز وجل بالعبادة .
قال : " والدليل قوله تعالى : { يا أيها المدثر قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر } ومعنى { قم فأنذر } : ينذر عن الشرك ويدعو إلى التوحيد " قال ابن كثير – رحمه الله - : " { قم فأنذر } : أي شمّر عن ساق العزم ، وأنذر الناس " قال : " وبهذا حصل الإرسال ، كما حصل بالأول النبوة " يعني بقوله تعالى : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } .
قال المؤلف : " { وربك فكبر } أي عظّمه بالتوحيد ، { وثيابك فطهّر } أي : طهّر أعمالك عن الشرك " وللسلف في معنى { وثيابك فطهر } تفسيران ؛
الأول : أَمْرُ الله لنبيه أن يتطهّر ويطهّر ثيابه بالماء .
الثاني : أَمْرُ الله لنبيه ألا يرتدي ثيابه على معصية ، بمعنى ؛ طهّر نفسك من المعاصي عموماً .
قال ابن كثير : " وقد تشمل جميع ذلك مع طهارة القلب " .
قال المؤلف – رحمه الله - : " { والرجز فاهجر } الرجز : الأصنام ، وهجرها تركها ، والبراءة منها وأهلها "
" الرجز ؛ الأصنام " ؛ وقد يطلق الصنم أحيانا ويراد به الوثن ، ويطلق الوثن ويراد به الصنم ، لكن بينهما عموم وخصوص .
قال أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، وهو أحد أئمة التابعين : " الرجز : الأوثان ؛ فهي أعم من الأصنام ؛ فالوثن ما عبد من دون الله من شجر أو حجر أو غير ذلك ، وأما الصنم فما عبد من دون الله وهو على صورة إنسان أو حيوان ، وقد يراد بالصنم الوثن والعكس " .
" والبراءة منها وأهلها " أي البراءة من الأصنام ومن يعبدها .
ولا يلزم نهي الله تبارك وتعالى نبيه عن الشرك والمعاصي وعبادة الأوثان ؛ تلبسه صلى الله عليه وسلم ؛ بل هو للتحذير والتنفير من هذه الأفعال ، كما قال ربنا عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم : { يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين } ؛ فإنه عليه السلام كان متقياً قبل أن تنزل عليه هذه الآية ، لكن الأمر هنا بالازدياد من التقوى .
قال المؤلف : " أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد " وهذا لعظم منزلة التوحيد وقدره العظيم ، فالواجب على الداعي أن يعطي للتوحيد وقتاً كبيرا وجهدا عظيما ، لأنه عليه السلام قد قضى عشر سنين وهو يدعو الناس لتوحيد رب العباد ؛ ولأن التوحيد هو أصل الدين وأصل العبادة .
قال : " وبعد العشر عُرِج به إلى السماء " ، وكان مايزال في مكة ، وحصل هذا الصعود في ليلة الإسراء والمعراج .
والعروج ؛ هو الصعود .
قال : " وقد فرضت عليه الصلوات الخمس " في ذلك العروج ، " وصلى في مكة ثلاث سنين ، وبعدها أمر بالهجرة إلى المدينة " .
قال : " والهجرة : الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام "
الهجرة لغة ؛ من الهجر وهو الترك .
وشرعا ؛ هي كما قال المؤلف – رحمه الله - : " الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام " .
قال : " والهجرة فريضة على هذه الأمة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام " .
هي فريضة على من كان في بلاد الكفر ولم يكن قادراً على إقامة دينه ؛ فيجب عليه أن يهاجر من تلك البلاد .
وموطن العبد هي البلاد التي يتمكن من إقامة دينه فيها ، فالأرض كلها لله تبارك وتعالى ، وأينما تمكّنت من إقامة دينك فهذا هو مكانك .
قال أهل العلم : من لا يقدر على إظهار الدين في دار الحرب ، وقدر على الهجرة وجب عليه أن يهاجر ، ومن قدر على إظهار الدين استحب له أن يهاجر .
وهذا ما ذهب إليه الإمام الشافعي رحمه الله وغيره من أهل العلم ، ويستدلّون على ذلك بالآية التي سيذكرها المؤلف – رحمه الله .
قال : " وهي باقية إلى أن تقوم الساعة " أي الهجرة " والدليل قوله تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا * إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا * فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا } فهذه الآية تدل على أن المرء إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة دينه ؛ فلا يكون له عذر عند الله إذا كان قادرا على الهجرة ، فتكون واجبة عليه .
أما إذا كان مستضعفا غير قادر على الهجرة فهو معذور عند الله ، فعسى أن يعفو عنه ويغفر له .
قال : " وقوله تعالى { يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون } ؛ أي اعبدوني فيها ، فإن لم تتمكن من إقامة دينك في بلد ما فانتقل إلى بلد آخر .
قال المؤلف : " قال البغوي – رحمه الله - : " سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين بمكة لم يهاجروا ، ناداهم الله باسم الإيمان . والدليل على الهجرة من السنة قوله صلى الله عليه وسلم : " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها " . أخرجه أبو داود وغيره ، وهو حديث صحيح .
فهذا دليل على أن الهجرة باقية إلى قيام الساعة ، فإن الهجرة لا تنقطع حتى تنقطع التوبة والتوبة لا تنقطع حتى تطلع الشمس من مغربها ، وهو الوقت الذي ينتهي فيه قبول الإيمان ، ولا تقبل فيه التوبة وتقوم الساعة بعدها .
قال -* رحمه الله - : " فلما استقر بالمدينة " أي النبي صلى الله عليه وسلم " أمر ببقية شرائع الإسلام مثل : الزكاة والصوم والحج والجهاد والأذان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من شرائع الإسلام " فبقيت الشرائع تنزل وتزيد وتتجدد إلى أن مات صلى الله عليه وسلم وقد أكمل دين الله سبحانه وتعالى وبلّغ الرسالة التي أمر ببلاغها وشهد له أصحابه بذلك وأشهد الله سبحانه وتعالى على شهادتهم .
قال : " أخذ على هذا عشر سنين " أي وهو في المدينة " وبعدها توفي صلوات الله وسلامه عليه " ولكن " دينه باق " إلى قيام الساعة ؛ لأنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم .