شرح ثلاثة الأصول الدرس الخامس

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد فهذا المجلس الخامس من مجالس شرح ثلاثة الأصول وأدلته

قال المؤلف – رحمه الله - : " فإذا قيل لك ما الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها ؛ فقل : معرفة العبد ربه ودينه ونبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم .

فإذا قيل لك من ربك ؛ فقل : ربي الله الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمه ، وهو معبودي ليس لي معبود سواه ، والدليل قوله تعالى { الحمد لله رب العالمين } ، وكل ما سوى الله عالم ، وأنا واحد من هذا العالم .

فإذا قيل لك بم عرفت ربك ؟ فقل بآياته ومخلوقاته ، ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ، ومن مخلوقاته السماوات السبع والأرضون السبع ومن فيهن وما بينهما . والدليل ؛ قوله تعالى : { ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقكم إن كنتم إياه تعبدون } ، وقوله تعالى : { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين } . والرب هو المعبود ، والدليل قوله تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } .

قال ابن كثير رحمه الله - : " الخالق لهذه الأشياء ؛ هو المستحق للعبادة "

وأنواع العبادة التي أمر الله بها ، مثل الإسلام والإيمان والإحسان ، ومنه الدعاء والخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والخشوع والخشية والإنابة والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذبح والنذر وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها ؛ كلها لله تعالى والدليل قوله تعالى { وأن المساجد لله فلا تدعُ مع الله أحداً } ، فمن صرف منها شيئا لغير الله ؛ فهو مشرك كافر ، والدليل قوله تعالى { ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهن له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكفرون } "

قوله " فإذا قيل لك من ربك ؛ فقل : ربي الله الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمه " هذا تفصيل معرفة العبد ربه .

والتربية هي الرعاية ، أي هو الذي أنعم عليّ وعلى جميع الخلق بأنواع النعم ؛ كالخلق والرزق والحفظ والهداية والأمن وغير ذلك من النعم ، فهذه كلها منّة وفضل منّ بها على خلقه وتفضّل بها عليهم .

فالذي خلقنا ورزقنا وهدانا ووفقنا هو الله سبحانه وتعالى .

قوله : " وهو معبودي ليس لي معبود سواه " أي وربّي هو الذي يستحقّ مني العبادة، والذي يجب عليّ أن أفرده بها ، ولا أعبد معه غيره .

قال تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } هذا أمر من الله سبحانه وتعالى للعباد جميعا أن يخضعوا ويتذللوا له محبة وتعظيماً .

ثم قال { الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} فربنا الذي يستحق منا العبادة هو الذي أوجدنا وأوجد جميع الخلق من العدم .

وقوله { لعلكم تتقون } أي لعلكم ترزقون التقوى .

والتقوى أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية ، أي شيئاً يقيك عذاب الله سبحانه وتعالى ، وهذا الشيء هو طاعة الله واجتناب معصيته ، كما جاء في الحديث ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى " .

فالوقاية من النار أن تطيع الله وتجتنب معاصيه .

ويعجبني ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه سأل معاذ بن جبل عن التقوى ؛ فقال له معاذ : " يا أمير المؤمنين ! أمشيت يوماً في طريق فيه شوك ؟ " قال عمر : " نعم " قال معاذ : " فما فعلت ؟ " قال : " شمّرت واجتهدت " ، قال " فتلك التقوى " .

وبغضّ النظر عن صحّة هذا الأثر أو ضعفه ؛ ولكنه تفسير رائع للتقوى ؛ فإنك إن مشيت في طريق فيه شوك ستشمّر ثوبك لكيلا يعلق به الشوك ، ثم تجتهد في محاولة وضع قدمك في المكان البعيد عن الشوك واجتناب الأماكن التي يوجد فيها .

فالتقوى تكون بوضع قدمك في محل الطاعة واجتناب محل المعصية .

قال تعالى { الذي جعل لكم الأرض فراشاً } أي بسط لكم الأرض ، وجعلها سهلة للعيش فيها .

قال تعالى { والسماء بناء } أي جعل السماء سقفاً .

قال { وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم } أي أنزل من السحاب مطراً، ليخرج به من الثمرات رزقاً لكم .

فهذا الذي رزقنا هذه النعم وتفضل علينا بهذه الفضائل والخيرات ، هو الذي يستحق منا العبادة ولا يستحقّها غيره .

قال المؤلف رحمه الله - : " والدليل قوله تعالى { الحمد لله رب العالمين } " ثم فسّر المؤلف العالمين بقوله : " وكل ما سوى الله عالم ، وأنا واحد من هذا العالم " أي جميع المخلوقات ، وأنا واحد من هذه المخلوقات .

قوله : " فإذا قيل لك بم عرفت ربك ؛ فقل بآياته ومخلوقاته " أي فقل عرفت الله بآياته ومخلوقاته ، أي تأملت في عجيب صنع الله تبارك وتعالى فعرفت الله .

" الآيات " ؛ جمع آية ، والآية في اللغة هي العلامة التي تدلّ على الشيء .

و " المخلوقات " ؛ هي الأشياء التي أوجدها الله سبحانه من العدم .

وتطلق الآية على الآية الشرعية والآية الكونية ، والآية الكونية هي العلامات التي خلقها الله سبحانه وتعالى كالليل والنهار والشمس والقمر وغيرها .

وأما الآيات الشرعية ؛ فهي آيات كتاب الله عز وجل .

فإذا عنى المؤلف بقوله " وآياته " الآيات الشرعية ؛ فإنها ستكون هنا عطف متغايرات ، فالكونية شيء والشرعية شيء .

وأما إن عنى بالآيات ؛ الكونية والشرعية ؛ فإنه سيكون هنا من عطف الخاص على العام ؛ لأنها تشمل الآيات الكونية والشرعية ، والمخلوقات من الآيات الكونية .

قوله : " ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ، ومن مخلوقاته السماوات السبع والأرضون السبع ومن فيهن وما بينهما " . وعمَّ بذلك جميع والمخلوقات .

وسئل أعرابي ؛ بم عرفت ربك ؟ فقال : " الأثر يدل على المسير ، والبعرة تدل على البعير ، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ؛ ألا تدلّ على السميع البصير " .

فهذه هي الفطرة السليمة التي لم تتلوّث بأقوال الفلاسفة وأهل الكلام ؛ وإنما هذه الحوادث العظيمة دلّته على خالق عظيم حكيم عليم خبير ؛ فهذه الأشياء لا يوجدها إلا من ينصف بهذه الصفات .

قوله " والدليل ؛ قوله تعالى { ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقكم إن كنتم إياه تعبدون }

قوله " والدليل " ؛ أي والدليل على أن الليل والنهار و الشمس والقمر من آياته .

" { ومن آياته } " ؛ أي من علاماته الدالة على ربوبيته وقدرته .

" لا تسجدوا للشمس ولا للقمر } " ؛ أي : فهذه آيات من آياته ومخلوقات من مخلوقاته يتصرّف فيها كيف يشاء ، فلا تعبدوها ؛ لأنها مخلوقات أمثالكم ؛ فلا تستحقّ أن تعبد ، وإنما الذي يستحق العبادة

" { واسجدوا لله الذي خلقكم } " ؛ أي فهذا الذي يستحق العبادة .

ومن الأدلة على أن السماوات والأرض مخلوقات خلقها الله ؛

قال المؤلف : " وقوله تعالى { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين } " أي أن ربكم الذي خلقكم ورباكم بالنعم خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم علا وارتفع على عرشه .

والعرش فوق جميع المخلوقات ، وهو سرير الملك .

" { يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً } " أي يغطي الليل بالنهار ، والنهار بالليل بطريقة مستمرة ، واحداً تلو الآخر من غير فاصل .

" { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } " فكل شيء يمشي بأمر الله تعالى .

" { ألا له الخلق } " أي له الإيجاد من العدم .

" { والأمر } " أي له الأمر الشرعي والكوني ، فكل ما يحصل في هذا الكون بأمره تعالى .

والأمر الشرعي بيده ؛ فهو الذي يشرع ما يشاء ويأمر وينهى بما يشاء .

قال المؤلف : " والرب هو المعبود " . أي الرب هو الذي يستحق أن يعبد ؛ إذ ليس كل من عُبِد رباً ؛ فقد عبدت الأصنام والأحجار والملائكة ، وعبد الصالحون ، وجميعهم ليسوا أرباباً ؛ ولكن الذي يستحق أن العبادة ويعبد بحق هو الله سبحانه وتعالى .

قال : " والدليل قوله تعالى { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون* الذي جعل لكم الأرض بساطاً } "

كان الكفار يؤمنون بأن الله هو الخالق الرازق المدبر ويقرّون بهذا ، ولكنهم كانوا يكفرون بعبادته ، فالله سبحانه وتعالى يبين لهم أن الذي يستحق العبادة وحده هو الذي يخلق ويرزق وينشئ .

" { الذي جعل لكم الأرض فراشاً } " ؛ أي بسطها لنا ليسهل العيش عليها ، " { والسماء بناء } " سقفاً ، " { وأنزل من السماء ماء } " أي من السحب ، " { فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً } " والند هو المثيل والنظير " { وأنتم تعلمون } " أي تعلمون أنه لا أحد يكون ندّاً لله أو مثيلاً أو يستحقّ ذلك . فأمر الله أولاً بالعبادة ، وعرّف من الذي يستحقّها ، ثم نهى عن الشرك به .

" قال ابن كثير رحمه الله - : " الخالق لهذه الأشياء ؛ هو المستحق للعبادة " ؛ وهذا هو معنى الآية .

ونجد هذا كثيراً في القرآن ؛ فيستدلّ الله تبارك وتعالى على توحيد الألوهية بتوحيد الربوبية ، أي بما أنك تؤمن بأن الله هو الخالق الرازق المدبر المنعم عليك ؛ فيجب حينئذ أن تعلم أنه هو المستحق للعبادة لا غيره .

وهذا معنى كلام أهل العلم ؛ أن توحيد الربوبية يستلزم ولا بد توحيد الألوهية .

وهذا كله تقرير من المؤلف رحمه الله أنه يجب علينا أن نعبد الله وحده ، وألا نعبد معه غيره ، فعرفنا الله وعرفنا أنه هو الذي يستحق العبادة ، ولا يجوز أن نصرف أي نوع من أنواع العبادة لغيره ؛ لأنه لا ندّ لله ولا نظير له ، ثم أراد أن يبين أنواع هذه العبادة التي لا يجوز أن تصرف لغير الله تبارك وتعالى ؛ فقال :

" وأنواع العبادة التي أمر الله بها " أي أن تكون له وحده " مثل الإسلام والإيمان والإحسان " ، وسيأتي تعريفها جميعا فيما بعد إن شاء الله - ، وهذا يشمل دين الإسلام كله

و " الإسلام " هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة وطاعة رسوله فيما أمر ونهى - والبراءة من الشرك وأهله " ، وهذا هو التعريف العام للإسلام .

وإذا اجتمع الإسلام مع الإيمان ؛ فالمقصود به حينها الأعمال الظاهرة كلها ، ويكون المقصود بالإيمان ؛ الأعمال الباطنة .

قال المؤلف رحمه الله - : " ومنه الدعاء والخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والخشوع والخشية والإنابة والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذبح والنذر وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها ؛ كلها لله تعالى " وسيأتي ذكر كل واحدة منها بالتفصيل يذكرها المؤلف ، ودليلها .

قال : " والدليل قوله تعالى { وأن المساجد لله } " ، والمساجد هي مواضع السجود ، وهي لله خالصة ، " {فلا تدعُ مع الله أحداً } " أي فلا تعبد مع الله أحداً البتة ، " فمن صرف منها شيئا لغير الله ؛ فهو مشرك كافر "؛ لأنه عبد غير الله معه " والدليل قوله تعالى : { ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهن له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكفرون } ، أي لا تعبدوا مع الله غيره ؛ فتسجدوا له .

والشاهد في هذه الآية ؛ أن الله حكم على من يدعو مع الله غيره بالكفر .

وقوله " { لا برهن له به } " لا يدل على أن للإنسان أن يدعو مع الله غيره ويكون له به برهن ؛ وإنما تسمى هذه صفة كاشفة مبينة وليست صفة مقيّدة ، أي أنه لن يكون له معبود يجد عليه دليلاً .

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد فهذا المجلس الخامس من مجالس شرح ثلاثة الأصول وأدلته

قال المؤلف – رحمه الله - : " فإذا قيل لك ما الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها ؛ فقل : معرفة العبد ربه ودينه ونبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم .

فإذا قيل لك من ربك ؛ فقل : ربي الله الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمه ، وهو معبودي ليس لي معبود سواه ، والدليل قوله تعالى { الحمد لله رب العالمين } ، وكل ما سوى الله عالم ، وأنا واحد من هذا العالم .

فإذا قيل لك بم عرفت ربك ؟ فقل بآياته ومخلوقاته ، ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ، ومن مخلوقاته السماوات السبع والأرضون السبع ومن فيهن وما بينهما . والدليل ؛ قوله تعالى : { ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقكم إن كنتم إياه تعبدون } ، وقوله تعالى : { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين } . والرب هو المعبود ، والدليل قوله تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } .

قال ابن كثير رحمه الله - : " الخالق لهذه الأشياء ؛ هو المستحق للعبادة "

وأنواع العبادة التي أمر الله بها ، مثل الإسلام والإيمان والإحسان ، ومنه الدعاء والخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والخشوع والخشية والإنابة والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذبح والنذر وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها ؛ كلها لله تعالى والدليل قوله تعالى { وأن المساجد لله فلا تدعُ مع الله أحداً } ، فمن صرف منها شيئا لغير الله ؛ فهو مشرك كافر ، والدليل قوله تعالى { ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهن له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكفرون } "

قوله " فإذا قيل لك من ربك ؛ فقل : ربي الله الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمه " هذا تفصيل معرفة العبد ربه .

والتربية هي الرعاية ، أي هو الذي أنعم عليّ وعلى جميع الخلق بأنواع النعم ؛ كالخلق والرزق والحفظ والهداية والأمن وغير ذلك من النعم ، فهذه كلها منّة وفضل منّ بها على خلقه وتفضّل بها عليهم .

فالذي خلقنا ورزقنا وهدانا ووفقنا هو الله سبحانه وتعالى .

قوله : " وهو معبودي ليس لي معبود سواه " أي وربّي هو الذي يستحقّ مني العبادة، والذي يجب عليّ أن أفرده بها ، ولا أعبد معه غيره .

قال تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } هذا أمر من الله سبحانه وتعالى للعباد جميعا أن يخضعوا ويتذللوا له محبة وتعظيماً .

ثم قال { الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} فربنا الذي يستحق منا العبادة هو الذي أوجدنا وأوجد جميع الخلق من العدم .

وقوله { لعلكم تتقون } أي لعلكم ترزقون التقوى .

والتقوى أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية ، أي شيئاً يقيك عذاب الله سبحانه وتعالى ، وهذا الشيء هو طاعة الله واجتناب معصيته ، كما جاء في الحديث ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى " .

فالوقاية من النار أن تطيع الله وتجتنب معاصيه .

ويعجبني ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه سأل معاذ بن جبل عن التقوى ؛ فقال له معاذ : " يا أمير المؤمنين ! أمشيت يوماً في طريق فيه شوك ؟ " قال عمر : " نعم " قال معاذ : " فما فعلت ؟ " قال : " شمّرت واجتهدت " ، قال " فتلك التقوى " .

وبغضّ النظر عن صحّة هذا الأثر أو ضعفه ؛ ولكنه تفسير رائع للتقوى ؛ فإنك إن مشيت في طريق فيه شوك ستشمّر ثوبك لكيلا يعلق به الشوك ، ثم تجتهد في محاولة وضع قدمك في المكان البعيد عن الشوك واجتناب الأماكن التي يوجد فيها .

فالتقوى تكون بوضع قدمك في محل الطاعة واجتناب محل المعصية .

قال تعالى { الذي جعل لكم الأرض فراشاً } أي بسط لكم الأرض ، وجعلها سهلة للعيش فيها .

قال تعالى { والسماء بناء } أي جعل السماء سقفاً .

قال { وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم } أي أنزل من السحاب مطراً، ليخرج به من الثمرات رزقاً لكم .

فهذا الذي رزقنا هذه النعم وتفضل علينا بهذه الفضائل والخيرات ، هو الذي يستحق منا العبادة ولا يستحقّها غيره .

قال المؤلف رحمه الله - : " والدليل قوله تعالى { الحمد لله رب العالمين } " ثم فسّر المؤلف العالمين بقوله : " وكل ما سوى الله عالم ، وأنا واحد من هذا العالم " أي جميع المخلوقات ، وأنا واحد من هذه المخلوقات .

قوله : " فإذا قيل لك بم عرفت ربك ؛ فقل بآياته ومخلوقاته " أي فقل عرفت الله بآياته ومخلوقاته ، أي تأملت في عجيب صنع الله تبارك وتعالى فعرفت الله .

" الآيات " ؛ جمع آية ، والآية في اللغة هي العلامة التي تدلّ على الشيء .

و " المخلوقات " ؛ هي الأشياء التي أوجدها الله سبحانه من العدم .

وتطلق الآية على الآية الشرعية والآية الكونية ، والآية الكونية هي العلامات التي خلقها الله سبحانه وتعالى كالليل والنهار والشمس والقمر وغيرها .

وأما الآيات الشرعية ؛ فهي آيات كتاب الله عز وجل .

فإذا عنى المؤلف بقوله " وآياته " الآيات الشرعية ؛ فإنها ستكون هنا عطف متغايرات ، فالكونية شيء والشرعية شيء .

وأما إن عنى بالآيات ؛ الكونية والشرعية ؛ فإنه سيكون هنا من عطف الخاص على العام ؛ لأنها تشمل الآيات الكونية والشرعية ، والمخلوقات من الآيات الكونية .

قوله : " ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ، ومن مخلوقاته السماوات السبع والأرضون السبع ومن فيهن وما بينهما " . وعمَّ بذلك جميع والمخلوقات .

وسئل أعرابي ؛ بم عرفت ربك ؟ فقال : " الأثر يدل على المسير ، والبعرة تدل على البعير ، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ؛ ألا تدلّ على السميع البصير " .

فهذه هي الفطرة السليمة التي لم تتلوّث بأقوال الفلاسفة وأهل الكلام ؛ وإنما هذه الحوادث العظيمة دلّته على خالق عظيم حكيم عليم خبير ؛ فهذه الأشياء لا يوجدها إلا من ينصف بهذه الصفات .

قوله " والدليل ؛ قوله تعالى { ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقكم إن كنتم إياه تعبدون }

قوله " والدليل " ؛ أي والدليل على أن الليل والنهار و الشمس والقمر من آياته .

" { ومن آياته } " ؛ أي من علاماته الدالة على ربوبيته وقدرته .

" لا تسجدوا للشمس ولا للقمر } " ؛ أي : فهذه آيات من آياته ومخلوقات من مخلوقاته يتصرّف فيها كيف يشاء ، فلا تعبدوها ؛ لأنها مخلوقات أمثالكم ؛ فلا تستحقّ أن تعبد ، وإنما الذي يستحق العبادة

" { واسجدوا لله الذي خلقكم } " ؛ أي فهذا الذي يستحق العبادة .

ومن الأدلة على أن السماوات والأرض مخلوقات خلقها الله ؛

قال المؤلف : " وقوله تعالى { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين } " أي أن ربكم الذي خلقكم ورباكم بالنعم خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم علا وارتفع على عرشه .

والعرش فوق جميع المخلوقات ، وهو سرير الملك .

" { يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً } " أي يغطي الليل بالنهار ، والنهار بالليل بطريقة مستمرة ، واحداً تلو الآخر من غير فاصل .

" { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } " فكل شيء يمشي بأمر الله تعالى .

" { ألا له الخلق } " أي له الإيجاد من العدم .

" { والأمر } " أي له الأمر الشرعي والكوني ، فكل ما يحصل في هذا الكون بأمره تعالى .

والأمر الشرعي بيده ؛ فهو الذي يشرع ما يشاء ويأمر وينهى بما يشاء .

قال المؤلف : " والرب هو المعبود " . أي الرب هو الذي يستحق أن يعبد ؛ إذ ليس كل من عُبِد رباً ؛ فقد عبدت الأصنام والأحجار والملائكة ، وعبد الصالحون ، وجميعهم ليسوا أرباباً ؛ ولكن الذي يستحق أن العبادة ويعبد بحق هو الله سبحانه وتعالى .

قال : " والدليل قوله تعالى { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون* الذي جعل لكم الأرض بساطاً } "

كان الكفار يؤمنون بأن الله هو الخالق الرازق المدبر ويقرّون بهذا ، ولكنهم كانوا يكفرون بعبادته ، فالله سبحانه وتعالى يبين لهم أن الذي يستحق العبادة وحده هو الذي يخلق ويرزق وينشئ .

" { الذي جعل لكم الأرض فراشاً } " ؛ أي بسطها لنا ليسهل العيش عليها ، " { والسماء بناء } " سقفاً ، " { وأنزل من السماء ماء } " أي من السحب ، " { فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً } " والند هو المثيل والنظير " { وأنتم تعلمون } " أي تعلمون أنه لا أحد يكون ندّاً لله أو مثيلاً أو يستحقّ ذلك . فأمر الله أولاً بالعبادة ، وعرّف من الذي يستحقّها ، ثم نهى عن الشرك به .

" قال ابن كثير رحمه الله - : " الخالق لهذه الأشياء ؛ هو المستحق للعبادة " ؛ وهذا هو معنى الآية .

ونجد هذا كثيراً في القرآن ؛ فيستدلّ الله تبارك وتعالى على توحيد الألوهية بتوحيد الربوبية ، أي بما أنك تؤمن بأن الله هو الخالق الرازق المدبر المنعم عليك ؛ فيجب حينئذ أن تعلم أنه هو المستحق للعبادة لا غيره .

وهذا معنى كلام أهل العلم ؛ أن توحيد الربوبية يستلزم ولا بد توحيد الألوهية .

وهذا كله تقرير من المؤلف رحمه الله أنه يجب علينا أن نعبد الله وحده ، وألا نعبد معه غيره ، فعرفنا الله وعرفنا أنه هو الذي يستحق العبادة ، ولا يجوز أن نصرف أي نوع من أنواع العبادة لغيره ؛ لأنه لا ندّ لله ولا نظير له ، ثم أراد أن يبين أنواع هذه العبادة التي لا يجوز أن تصرف لغير الله تبارك وتعالى ؛ فقال :

" وأنواع العبادة التي أمر الله بها " أي أن تكون له وحده " مثل الإسلام والإيمان والإحسان " ، وسيأتي تعريفها جميعا فيما بعد إن شاء الله - ، وهذا يشمل دين الإسلام كله

و " الإسلام " هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة وطاعة رسوله فيما أمر ونهى - والبراءة من الشرك وأهله " ، وهذا هو التعريف العام للإسلام .

وإذا اجتمع الإسلام مع الإيمان ؛ فالمقصود به حينها الأعمال الظاهرة كلها ، ويكون المقصود بالإيمان ؛ الأعمال الباطنة .

قال المؤلف رحمه الله - : " ومنه الدعاء والخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والخشوع والخشية والإنابة والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذبح والنذر وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها ؛ كلها لله تعالى " وسيأتي ذكر كل واحدة منها بالتفصيل يذكرها المؤلف ، ودليلها .

قال : " والدليل قوله تعالى { وأن المساجد لله } " ، والمساجد هي مواضع السجود ، وهي لله خالصة ، " {فلا تدعُ مع الله أحداً } " أي فلا تعبد مع الله أحداً البتة ، " فمن صرف منها شيئا لغير الله ؛ فهو مشرك كافر "؛ لأنه عبد غير الله معه " والدليل قوله تعالى : { ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهن له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكفرون } ، أي لا تعبدوا مع الله غيره ؛ فتسجدوا له .

والشاهد في هذه الآية ؛ أن الله حكم على من يدعو مع الله غيره بالكفر .

وقوله " { لا برهن له به } " لا يدل على أن للإنسان أن يدعو مع الله غيره ويكون له به برهن ؛ وإنما تسمى هذه صفة كاشفة مبينة وليست صفة مقيّدة ، أي أنه لن يكون له معبود يجد عليه دليلاً .