الدرس الثاني عشر - الجزء الثاني

ثم قال المصنف رحمه الله : " والنسخ إلى بدلٍ وإلى غير بدل ، وإلى ما هو أغلظ وأخف "
وهذا تقسيم آخر للنسخ ، فمن جهة أخرى فإنه ينقسم إلى نسخ لبدل ونسخ إلى غير بدل





أولا : نسخٍ إلى بدل ؛ ونعني به أن يُرفع الحكم الأول ويأتي مكانه حكمٌ آخر بدله ، هذا معنى النسخ إلى بدل .




وقد قال بعض أهل العلم : لا يجوز النسخ لغير بدل بل النسخ كله إلى بدل فلا يُرفع حكم إلا ويأتي حكم آخر مكانه والبعض قال كما قال المصنف رحمه الله ؛ وأنه يوجد نسخ إلى غير بدل .




والنسخ إلى بدل كثير وينقسم إلى : أخف أو أثقل أو مساوياً .




أولا : إلى الأخف وقد تقدم معنا مثاله في آية المصابرة فإنه كان يجب على الشخص أن يصبر أمام عشرة فما دون ،فنسخ إلى وجوب الصبر أمام اثنين أو واحد ، فهذا من الأثقل إلى الأخف ، وهو أهون بكثير




ثانيا : إلى الأثقل : ومثاله : نسخ التخيير في صيام رمضان إلى وجوب الصيام فقط ، ولا شك أن التخيير أهون وأخف فرفع التخيير الذي هو أهون وأخف وبقي الأثقل و الأشد وهو وجوب الصيام ، فصار النسخ من الأخف إلى الأثقل .




ثالثا : نسخ إلى بدل مساوي ، لا يختلف عنه في الخفة والثقل ، ومثاله نسخ استقبال بيت المقدس في الصلاة ، إلى استقبال الكعبة ، وهذا مساوٍ ليس أحدهما أخف من الآخر أو أثقل .




إذاً النسخ يجوز بهذه الصور الثلاث من الأخف إلى الأثقل ، ومن الأثقل إلى الأخف ، ومن المساوي إلى المساوي.




ثانيا : نسخٍ إلى غير بدل: والمقصود به أن يُرفع الحكم الأول ولا يأتي مكانه حكم آخر ؛ بل يرجع إلى البراءة الأصلية ،ومثلوا في النسخ إلى غير بدل بوجوب الصدقة بين يدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد كان المؤمنون مأمورين أولاً ألاّ يخاطبوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يقدموا صدقة ، ثم بعد ذلك نُسخ هذا الحكم وجاز لهم أن يخاطبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير صدقة فرُفع وجوب الصدقة إلى غير بدل فرجع إلى البراءة الأصلية .




ثم قال - رحمه الله - : " ويجوز نسخ الكتاب بالكتاب ، ونسخ السنة بالكتاب ، وبالسنة ، ونسخ المتواتر بالمتواتر ،ونسخ الآحاد بالآحاد والمتواتر ، ولا يجوز نسخ المتواتر بالآحاد "
ما تقدم كله لا إشكال فيه ؛ نسخ الكتاب بالكتاب أي نسخ آية بآية ، ونسخ السنة بالكتاب أي نسخ حديث بآية ، ونسخ السنة بالسنة يعني نسخ حديث بحديث ، ونسخ المتواتر بالمتواتر ؛ ويدخل فيه نسخ الآية بالآية أو نسخ الآية بالحديث المتواتر أو نسخ الحديث المتواتر بالآية ، ونسخ الآحاد بالآحاد يعني أن حديث الآحاد يجوز أن يُنسخ بحديث آحاد آخر ، ويجوز أيضاً نسخ الآحاد بالمتواتر فيكون حديثا متواترا ناسخا لحديث الآحاد .




أما نسخ القرآن بالقرآن فمثلنا له بآيتي المصابرة ونسخ السنة بالقرآن نحو نسخ استقبال بيت المقدس في الصلاة ؛ فإنه ثابت بالسنة ، ونُسخ بقول الله تعالى { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }[ البقرة/ 144 ] فالسنة نُسخت بآية . ونسخ السنة بالسنة مثل نسخ تحريم زيارة القبور بالإذن فيها في قوله - صلى الله عليه وسلم " : -كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة" فهذا الحديث نسخ حديثاً متقدماً فهو نسْخ سنة بسنة .
ثم قال في نهاية كلامه : " ولا يجوز نسخ المتواتر بالآحاد "




فأما المتواتر : فهو ما رواه جمع عن جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب من أوله إلى آخره ويكون مستندهم الحس . وقد شرحنا هذا الكلام وبيَّنّاه في المصطلح .




وما ليس بمتواتر فهو آحاد . ويريد المصنف أن الأضعف لا ينسخ الأقوى وهذا خطأ ؛ والصواب أن العبرة في النسخ بالصحة فإذا صح الحديث جاز أن يكون ناسخاً .




عمدة الذين قالوا أن المتواتر لا ينسخ بالآحاد :




وعمدة الذين قالوا بقول المصنف أن المتواتر مقطوع به يقيني والآحاد مظنون ولا يجوز ترجيح الظن على اليقين .




الرد عليهم :




والرد عليهم ؛ هو أن النسخ واقع على استمرار الحكم ليس على الخبر اليقيني ؛ أي أن الرفع إنما كان لاستمرارية الحكم وهو ظني أيضاً وليس يقينيا ، أي ليس قطعيا ، إذاً فهو نسخ ظن بظن .




وكذلك يُرَدّ عليهم بأهل قباء ؛ فإنهم غيَّروا قبلتهم لخبرِ واحدٍ جاءهم بالخبر ، فغيروا القبلة ، وخبر الواحد ظني إلا أن تحتف به القرائن ، ودعوى احتفاف القرائن تحتاج إلى دليل هنا مع أن قبلتهم الأولى كانت قطعية عندهم ، ومع ذلك غيَّروها بخبر الواحد ، إذاً فخبر الواحد ينسخ المتواتر أيضاً على الصحيح .




النسخ عند السلف




ويجب أن نعلم أن النسخ عند السلف أعم منه عند الأصوليين لئلا يحصل الخطأ ؛ فيطلِق السلف النسخ على تخصيص العام مثلاً أو تقييد المطلق أو تبيين المجمل وعلى النسخ الذي تقدم أيضاً ، فالنسخ عند السلف أعم من المعنى الذي يطلقه عليه الأصوليون .
قال ابن القيم رحمه الله :" فالنسخ
عند الصحابة والسلف أعم منه عند المتأخرين، فإنهم يريدون به ثلاثة معان:




أحدها: رفع الحكم الثابت بخطاب.




الثاني: رفع دلالة الظاهر إما بتخصيص، وإما بتقييد، وهو أعم مما قبله.




الثالث: بيان المراد باللفظ الذي بيانه من خارج، وهذا أعم من المعنيين "




فيستعملون النسخ في البيان فتنبهوا لذلك لتحسنوا فهم كلام السلف .




شروط النسخ




أولا : ويُشترط في النسخ تعذر الجمع بين الدليلين فإن أمكن الجمع فلا نسخ لإمكان العمل بالدليلين ، والعمل بكلا الدليلين أولى من إهمال أحدهما .




ثانيا : يُشترط أيضاً أن تعلم التاريخ ، فتعرف المتقدم والمتأخر ليكون المتأخر ناسخاً للمتقدم .




ثالثا : يُشترط أن يكون الناسخ قرآناً أو سنة صحيحة ، فالسنة الضعيفة لا تَنسخ لأنها ليست دليلاً شرعياً ، وكذلك الإجماع والقياس كل هذا لا يَنسخ على الصحيح ؛ لأن الإجماع حصل بعد زمن التشريع فلا يصلح ناسخاً ، والقياس لا يُستعمل أصلاً إلا مع عدم النص فكيف يكون ناسخاً للنص ، لأن القياس مع النص يسمى قياساً فاسد الاعتبار كقياس إبليس فلا يجوز القياس ولا يُلجأ إليه إلا عند الضرورة عند عدم وجود النصوص الشرعية ؛ فلا يكون ناسخاً .
الشرط الرابع و الأخير : أن يكون المنسوخ حُكماً شرعياً ، أما رفع البراءة الأصلية فلا يسمى نسخاً لأن البراءة الأصلية ليست حكماً شرعياً .




البراءة الأصلية : عدم وجود حكم شرعي أي عدم ثبوت دليل من الكتاب أو السنة على مسألة ما ، قبل نزول الحكم يكون الأمر على البراءة الأصلية ؛ أي لا يوجد حكم ، ثم بعد أن يوجد الحكم تُرفع هذه البراءة الأصلية ، فهذا لا يسمى نسخاً لأنه ليس رفعاً لحكم شرعي .
هذا ما أردنا أن نذكره في موضوع النسخ وأرجو إن شاء الله أن يكون واضحاً ونكتفي بهذا إن شاء الله