الدرس الرابع

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد ،،

فهذا المجلس الرابع من مجالس شرح الورقات

بدأ المؤلف - رحمه الله - بتعريف بعض الاصطلاحات المستعملة عند الأصوليين ولها تعلُّق بالتعريفات التي سبقت والتي ستأتي ، وهذه الاصطلاحات وإن كان بعضها مِن علم المنطق ؛ إلا أن لها تعلقاً كبيراً بهذا العلم ؛ فلا بدَّ من معرفتها .

قال المؤلف - رحمه الله - : " والفقه : أخصُّ من العلم "

أي " الفقه " بالمعنى الاصطلاحي أخص من " العلم " وذلك لأن الفقه في عُرْف العلماء - أي في الاصطلاح - إنما يطلق على معرفة الأحكام الشرعية خاصة ، كما تقدم معنا ، بينما يطلق " العلم " على ما هو أعمّ من ذلك ، فإن كل مَنْ أتقن صناعة علمية مِنْ نحوٍ أو طب أو هندسة أو غير ذلك قيل له عالِم - أي : عالم بذلك الفن الذي أتقنه - فالفقه نوع من أنواع العلم ،فـ " العلم " عام ، و"الفقه" خاص فكُلُّ فقهٍ علمٌ ، وليس كل علمٍ فقهاً ، تقول في الفقه بأنه علم وتقول مثلاً في علم الحساب بأنه علم وتقول في علم الهندسة بأنه علم وهكذا ، فالعلم أعم ، فإنه يشمل كل هذه الأشياء ومن ضمنها الفقه. فالفقه أخص والعلم أعم

ثم قال المؤلف - رحمه الله - : " والعِلْم : معرفة المعلوم على ما هو به في الواقع " العلم معرفة المعلوم - أي الشيء الذي تريد أن تعرفه - على ما هو به في الواقع - أي على حقيقته في الواقع - هذا يسمى علماً ، كإدراكك حقيقة الإنسان حيوانٌ ناطق ؛ وهو كذلك في الواقع ؛ فتكون قد حصَلتَ على علم .

ثم قال رحمه الله - : " والجهل تصور الشيء على خلاف ما هو به في الواقع " ، وهنا بدأ المؤلف بذكر الجهل ؛ والجهل أنواع :

أولا : الجهل البسيط : وهو عدم الإدراك بالكلية نهائياً- فتُسأل عن مسألة ما ؛ كجواز التيمم عند فقد الماء فتقول: لا أدري ، هذا يسمى جهلاً بسيطاً . وسمي بسيطاً ؛ لأنه غير مركَّب ، غير مؤلَّف من أكثر من جزء ، هو جزء واحد فقط ، مجرد جهل ؛ فهذا نوع من أنواع الجهل .

ثانيا : الجهل المركب وهو تصوُّر الشيء على خلاف ما هو به في الواقع - وهو ما ذكره المؤلف - أي تصور الشيء في ذهنك على خلاف حقيقته أي أن تدرك الشيء وتعرفه ولكن لا على حقيقته بل تعرفه معرفة خاطئة كأن يقال لك مثلاً : هل يجوز التيمم مع فَقْد الماء ؟ فتقول : لا يجوز ، هذا جهلٌ مركَّب ، تظن نفسك بأنك تعلم وأنت لا تعلم ، وسمي مركبا لأن فيه جُزءان ، الجزء الأول : الجهل - عدم العلم - ، الجزء الثاني : عدم علمه بجهله ، فهذا معنى المركب . الجهل البسيط هو فقط عدم العلم ، أما الجهل المركَّب ؛ فقد رُكِّب جهلٌ على جهل ، هو جاهل ويجهل أنه جاهل .

والجهل المركَّب أقبح من الجهل البسيط ، فالجاهل جهلاً بسيطاً يَعلَم نفسه أنه لا عِلم عنده فإذا علَّمته تعلَّم ، أما الجاهل جهلاً مركباً فهذا يصعب أن يتراجع عن خَطَئه. والظاهر أن المؤلف - رحمه الله - يذهب إلى أن الجهل نوعٌ واحد فقط وهو الجهل المركَّب فلا يَعدُّ الجهل البسيط جهلاً .

ثم قسَّم المؤلف - رحمه الله تعالى - بعد ذلك العلم إلى قسمين علم ضروري وعلم نظري ؛ فعرَّف العلم الضروري فقال : " والعلم الضروري : ما لم يقع عن نظر واستدلال " ومثَّل له بالعلم الواقع بإحدى الحواس الخمس الظاهرة فقال : " كالعلم الواقع بإحدى الحواسّ الخمس الظاهرة "

وسمي العلم الضروري ضرورياً ؛ لأنك تتعلمه شِئتَ أم أبَيْت ، ليس باختيارك فلا تحتاج إلى البحث عن دليل له ونظر وتَفَكُّر في الدليل كي تصل إلى هذا العلم ، هو علمٌ يهجم عليك ولا تتمكن من دفعه ، يجعلك تتعلمه رغما عنك ، لذلك سمي علماً ضروريا ، فإذا نظرت مثلاً إلى رجلٍ طويل ستَعْلم أنه يتصف بصفة الطول دون البحث عن دليل لتعلم أنه طويل أو قصير ، فبمجرَّد أن رأيته تعلمت أنه طويل ، فأصبح علماً ضرورياً لا يمكنك أن تدفعه حتى وإن كان الأمر لا يعنيك إن كان طويلاً أو قصيراً ، هو علمٌ قد حصل عندك . وكذلك علمك بأن النار محرِقة ، تحرِق بمجرد لمسِها تعلم ذلك سواء قصدت تعلُّم ذلك أم لا ، فعِلْمُك بأن النار محرقة بمجرد لمسك لها علمٌ ضروري لا يمكنك دفعه فلا تحتاج في ذلك أن تقيم الأدلة والبراهين وتبحث في هذه الأدلة وتنظر فيها كي تُثبت بأن النار محرقة ، هذا علم ضروري الأمر منته فيه لا يحتاج إلى بحث ولا إلى استدلال .

هذا معنى العلم الضروري : تَضْطَر إليه .

فقال المؤلف - رحمه الله - : هو ما لم يقع عن نظرٍ واستدلال و" النظر " المقصود ها هنا هو التفكر في الدليل وليس النظر بالعين .

و" الاستدلال" طلب الدليل كما سيأتي .

فقال المؤلف في تعريف العلم الضروري : ما لم يقع عن نظر واستدلال .

والحواس الخمس هي السمع والبصر واللمس والشم والذوق ؛ السمع : ما تسمعه بأذنك ، البصر: ما تراه بعينك، واللمس : ما تلمسه بيدك ، والشم : ما تجد ريحه بأنفك ، والذوق: ما تتذوقه بلسانك ؛ فإنه يحصل بمجرد الإحساس بها من غير نظر واستدلال ، مجرد أن تشعر بهذا الشيء يحصل عندك العلم لا تحتاج إلى دليل على ذلك . هذا هو العلم الضروري ؛ علم يقيني لا يتطرق إليه الاحتمال ، واضح ، صريح ، يقيني .

فبيَّن المقصود من الحواس الخمس بقوله : " وهي السمع والبصر واللمس والشم والذوق " و هذه الفقرة وهي : " السمع والبصر واللمس والشم والذوق فإنه يحصل بمجرد الإحساس بها من غير نظر واستدلال " هذه ليست في بعض النسخ وهي مثبتة في نسخٍ أخرى والنسخة المقابَلة عندي على عدة مخطوطات ليست مثبتة فيها هذه الزيادة فربما تكون من كلام الشارح المَحِلِّي - رحمه الله - ، على كلٍ هي بيَّنت المراد ، وفي بعض النسخ زيادة " كالمتواتر " وهذه النسخة ليست عندي كذلك ، أي المتواتر كذلك علمه علم ضروري ، كوجود بغداد مثلاً ، قد تواتر الخبر من قِبل الناس أنَّ في العراق بلادا اسمها بغداد وهي موجودة فهذا معروف بالتواتر وهو علم ضروري أيضاً .

قال - رحمه الله - : " وأما العلم المكتسَب : فهو الموقوف على النظر والاستدلال و يقال للعلم المكتسب أيضاً علم نظري .

ومكتسَب أي : اكتسبه الشخص بعد نظرٍ واستدلال ، ونظري : نسبة إلى النظر لأنه يحصل بالنظر ، وهو العلم الذي يحصل عن طريق البحث عن الدليل ، والتفكُّر فيه فهذا يحتاج إلى استدلال ، بحث عن أدلة ونظر في هذه الأدلة وتَفكُّر فيها حتى يحصل عندك علم بالمسألة .

إذاً فالعلم اليقيني منه ما هو علم ضروري ومنه ما هو علم نظري وبما أن المؤلف - رحمه الله - ذكر النظر والاستدلال في تعريف العلم بنَوعيه ؛ فأراد أن يعرِّف النظر والاستدلال فقال :

" والنظر : هو الفِكْرُ في حال المنظور فيه " أي التفكُّر في حال الدليل الذي تنظر فيه ، تتفكَّر فيه ، تُقَلِّب الفِكر فيه - في الدليل - ليوصلك إلى المطلوب ؛ هذا هو النظر في الاصطلاح .

قال : " والاستدلال : هو طلب الدليل " ، الاستدلال : الألف والسين والتاء تأتي للطلب فالاستدلال طلبُ الدليل ، والاستعاذة طلبُ العَوْذ ، والاستعانة طلبُ العَوْن ، والاستسقاء طلب السُّقيا ،فكله مبدوءٌ بالألف والسين والتاء ، وفي الغالب تأتي الألف والسين والتاء بمعنى الطلب ، وتأتي أحياناً لأغراض أخرى كالتحوُّل ، مثلاً : استحْجَر الطين ، فدخلت الألف والسين والتاء عليها في بدايتها ؛ أي تحوَّل الطين إلى حجر . لكنها في الغالب تأتي للطلب كما عندنا ها هنا .

ثم قال المؤلف رحمه الله : " والدليلُ : المرشد إلى المطلوب " الدليل في اللغة : المرشد إلى المطلوب ، سواء كان هذا المرشد إلى المطلوب حسياً - يعني محسوسا - كالدليل الذي يدل الناس على الطريق في السفر ، ، أو معنوياً - معنى من المعاني وليس شيئاً محسوساً - مثل الدليل الشرعي الذي يؤخذ منه الحكم الشرعي هذا يسمى دليلاً .

والفقهاء يطلقون الدليل على ما أفادهُمُ المطلوب - أي شيء يوصلهم إلى المطلوب يطلقون عليه دليلاً -سواء كان بطريقٍ قطعي أو بطريقٍ ظني ، لا يهمهم . وأما المتكلمون فإنهم يخصون الدليل بما كان قطعياً ويطلقون على ما أفاد الظن " أمارة " ، فالدليل ما كان عندهم قطعياً أما إذا كان الدليل عندهم ظنياً فلا يسمونه دليلاً بل يطلقون عليه أمارة . هذا عند المتكلمين ونحن ذكرنا هذا عمْداً لأنه سيأتي لنا بحث يتعلق بهذا الموضوع .

ثم قال المؤلف - رحمه الله - : " والظن : تجويز أمرين أحدهما أظهر من الآخر . والشكُّ : تجويز أمرين لا مزيَّة لأحدهما على الآخر " . يسمى الإدراك علما يقينيا إذا كان إدراكك للشيء إدراكا جازما لا يتطرق له احتمال ، كإدراكك بأن الكل أكبر من الجزء ، هذا أمر يقيني هل له احتمال غير هذا ؟ لا بل الكل أكبر من الجزء قطعاً فيسمى علما يقينيا ، وإذا أدركت الشيء مع احتمال ضد المرجوح - أي احتمال ضعيف - سُمِّيَ ظناً ، كأن ترى غيماً في السماء في وقت الشتاء فتقول : ستمطر ولكن احتمال أن لا تمطر قائم عندك فأنت لستَ مستيقناً بأنها ستمطر ولكن رأيتَ علامات قوية كوَّنت غلبة الظن في نفسك مع وجود احتمال عدم المطر ، فـالاحتمال " الراجح " يسمى " ظناً " ، والاحتمال الأضعف وهو " المرجوح " يسمى " وهْماً " ، فإذا عرفنا ما هو الظن وما هو الوهم ، الأقوى وهو الراجح يسمى ظناً ، والأضعف وهو المرجوح يسمى وهماً ، من الاحتمالين الموجودين . فإن استوى الأمران ، فسألك أحدهم هل ستمطر اليوم في ظنك ؟ قلت : الله أعلم ، الاحتمال قائم ربما تمطر وربما لا تمطر ، أشك في ذلك ، يعني خمسين في المائة لخمسين في المائة ، هذا يسمى شكاً ، فالشك تَساوي الاحتمالَيْن ، لاحظ ماذا قال المؤلف : " والظن : تجويز أمرين " في مثالنا يجوز أن تمطر ويجوز أن لا تمطر - أحدهما أظهر من الآخر - إذاً الظاهر أنها ستمطر والأضعف أنها لن تمطر فالظاهر هذا يسمى ظناً .

" والشك: تجويز أمرين " عندنا احتمال أن تمطر واحتمال أن لا تمطر - لا مزية لأحدهما على الآخر - ليس عندنا ترجيح لأحد الأمرين ، بل هما في نفس الدرجة ، هذا يسمى شكاً .

صليت ، وبعد الثالثة شكَكْتَ أصيلتَ ثلاثاً أم أربعاً ؟ فأقول لك اعمل بالراجح ، بالأقوى ، تقول : ليس عندي أقوى ، إما ثلاث أو أربعة لا احتمال أقوى من الآخر ، فأنت الآن في درجة الشك ، تقول : غلب على ظني أنها ثلاث ، هذا هو الظن (الراجح) ، واحتمال أن تكون أربعاً وهْمٌ .

إذاً عندنا تعلُّق الإدراك بالأشياء : عِلمٌ وظنٌ وشكٌ ووهمٌ وجهلٌ مركَّب وجهلٌ بسيط .

هذه هي الأشياء التي يتعلق بها الإدراك ،" العلم " اليقيني ، و " الظن " تجويز أمرين أحدهما أظهر من الآخر ، و" الشك " تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر ، و"الوهم" إدراك الشيء مع احتمال ضدٍ راجح ، و"جهلٌ مركَّب" تصوُّر الشيء على خلاف ما هو به في الواقع ، و"جهلٌ بسيط" عدم إدراك الشيء بالكلية . وبإمكانك أن تُعرِّفها بطريقة أسهل فتقول :

العِلْم : إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً .

والظَّن : إدراك الشيء مع احتمالِ ضدٍ مرجوح .

والشَّك : إدراك الشيء مع احتمال ضدٍ مساوٍ.

والوَهْم : إدراك الشيء مع احتمال ضدٍ راجح.

والجهل البسيط : عدم الإدراك بالكلية .

والجهل المركَّب : إدراك الشيء على وجهٍ يخالف ما هو عليه .

فلعل هذه التعريفات تكون أسهل في حفظها .

ثم قال المؤلف رحمه الله : " وأصول الفقه : طُرُقُه على سبيل الإجمال ، وكيفية الاستدلال بها "

لمّا ذكر المؤلف معنى الأصول ومعنى الفقه فيما تقدم وذكر معنى الأشياء التي تحتاج إلى معرفتها في هذا الفن من العلم والظن والشك والنظر والدليل وذكر تعريف الفقه؛ أخذ في بيان المراد بقولنا " أصول الفقه " ؛ أي أراد أن يُعرِّف أصول الفقه باعتباره لقباً لهذا الفن فقال : " طرق الفقه على سبيل الإجمال " وأراد بطرق الفقه : أدلة الفقه .

لماذا لم يقل أدلة الفقه ؟

هذا كما قلنا بأن المتكلمين لا يطلقون على الدليل الظني دليلاً ، بل يطلقون عليه أمارة ، وكثير من أدلة أصول الفقه هي ظنية فإذا قال : " أدلة الفقه " أخرج الأدلة الظنية ، وهو لا يريد أن يخرجها فقال : " طرق الفقه " أي اعتبر مذهب المتكلمين في أن الدليل لا يطلَق على الظن ، لكن هذا لا عبرة به ؛ لأن أكثر الأصوليين والفقهاء لا يفرِّقون هذا التفريق إذاً فبدل أن نقول " طرق الفقه " نقول " أدلة الفقه الإجمالية " .

وقد عرفنا معنى الإجمالية والتفصيلية فيما سبق وتكلمنا عنها بما فيه الكفاية .

>قال : " وكيفية الاستدلال بها " وذلك يكون بمعرفة دلالات الألفاظ ؛ كالعام والخاص والمطلق والمقيد ، وكذلك يكون بمعرفة المرجِّحات عند تعارض الأدلة ، وبمعرفة الناسخ والمنسوخ وغير ذلك ، فمباحث أصول الفقه هي أدلة وكيفية الاستفادة منها ، ويجرّ ذلك إلى بيان حال المجتهد الذي هو المستفيد وبيان حال المقلِّد أيضا فالتعريف المشهور عند الأصوليين لأصول الفقه وعليه جمهور الأصوليين أن أصول الفقه : أدلة الفقه الإجمالية وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد .

وقد ذكرنا أدلة الفقه الإجمالية وتدخل فيها الأدلة العامة كالكتاب والسنة والإجماع والقياس ، كذلك تدخل فيها القواعد العامة وكيفية الاستفادة منها ؛ وذلك يكون بمعرفة دلالات الألفاظ وكيفية الجمع بين الأدلة عند التعارض وحال المستفيد الذي هو المجتهد وكذلك ألحقوا به المقلد .