مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ؛ ليفرِّق بين أهل الشرك وأهل التوحيد ، ويؤلف بين أهل الحق والتمجيد ، ويرفع عقد الولاء والبراء على غير الإسلام ، ويجعله على الحق المرام ، وليضع أهل الباطل اللئام ، ويعزَّ أهل الصدق الكرام .

أما بعد ، فقد أخبرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستفترق إلى فرق وجماعات ؛ وذلك ليحذرنا من التفرق والتشتت والتحزُّب الذي يوهن أمر هذه الأمة ويضعفها ويشتت شملها ، وحذّرنا ربنا – تبارك وتعالى – من الحزبية ونهانا أن نقع في شباكها كي لايحارب المسلم أخاه ، ويقتل من اجتمع معه على الدين الذي هو قوّته وحماه ، ولكي لايحصل بين المسلمين الخلاف والشجار ومنافرة القلوب ، فيقع ما وقع اليوم من ضعف واستكانة وخور وذل وهوان .

فقد تقسّمت الأمة إلى دويلات ، والدويلات إلى أحزاب وجماعات، كل يوالي (1) على دولته أو على حزبه أو على جماعته، ويعادي على ذلك ، صارفاً نظره عن قول الله –تبارك وتعالى - : { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرّقوا } [ آل عمران: 103 ]، غير مبالٍ بقوله :{ ولاتكونوا من المشركين من الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون } [ الروم :31 -32 ]، ناسياً أو متناسياً قوله – تبارك وتعالى - : { إن الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء } [الأنعام : 159] .

فإن ضيَّع كل هذه الآيات ؛ إما بغض الطرف عنها أو بتحريفها الذي يسمُّونه تأويلاً – زعموا – كما هي عادة أهل البدع في التخلُّص من دلالة الآيات البينات ؛ فهلّا وقف وقفة المتأمِّل مع قوله صلى الله عليه وسلم :" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً " وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه (2).

تأمَّل هذا الوصف الذي يجعل المؤمنين شيئاً واحداً ؛ فقط بصفة واحدة وهي صفة الإيمان لاغير ، مؤكداً ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى "(3).

كل ذلك من أجل تأصيل أصل أصيل ، وهو أن المؤمنين يجب أن لايفرق بينهم شيء ولايجمعهم شيء إلا دين الله-تبارك وتعالى-، عليه يحبون ويساعدون ، وعليه يبغضون ويعادون { لاتجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيّدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون } [ المجادلة :22] .

والحزب : هو طائفة من الناس تتخذ دستوراً توالي وتعادي عليه، فإن كان ذلك الدستور الكتاب والسنّة فهو حزب الله ، وإن كان غير ذلك فهو حزب الشيطان

وقال سبحانه : {ياأيُّها الذين آمنوا لاتتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولَّهم منكم فإنه منهم إن الله لايهدي القوم الظالمين } [المائدة : 51 ].

ومع ذلك كله فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من ربه – تبارك وتعالى – أن هذه الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة ، وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه أبو داود (4596) والترمذي (2640) وابن ماجه (3991) وغيرهم ، عن أبي هريرة وغيره ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الملّة ستفترق على ثلاث وسبعين ؛ ثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنّة ؛ وهي الجماعة " ، وهو حديث صحيح.

وقد اختلف العلماء في تصحيحه فمنهم من صححه ومنهم من ضعفه ، فنذكر المصححين له أولاً :

الترمذي ،ابن حبان ،الحاكم ، الضياء المقدسي ،ابن تيمية ،ابن القيم ، العراقي ، البوصيري ،الحافظ ابن حجر ، السيوطي، المناوي، وغيرهم ، واحتج به الآجري والبيهقي والخطابي وابن كثير وغيرهم ، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في " مجموع الفتاوى " (16/491) بعد أن ذكر هذا الحديث ، قال : "...وإن كان بعض الناس كابن حزم يضعف هذه الأحاديث فأكثر أهل العلم قبلوها وصدَّقوها " .

وأما الذين ضعفوه ؛ فضعفه ابن حزم من المتقدمين ، وهو معروف بتفرُّده وشذوذه في هذا الفن .

وأما من المتأخرين ؛ فهؤلاء على قسمين: منهم من هم من علماء هذه الأمة الأفاضل ، ضعّفوه بسبب عدم فهمه فهماً صحيحاً . وللردِّ عليهم وبيان معنى الحديث الصحيح الذي لا إشكال فيه ،انظر : " سلسلة الأحاديث الصحيحة " (1/ص404/رقم204) للعلامة المجدد الألباني – رحمه الله - .

ومنهم من هو من تلك الفرق الهالكة ، ضعفه كي يوهم الناس أن الأمة لم تفترق ، وأنهم جميعاً على الحق ؛ ليستمر على غيِّه وضلاله وانحرافه ، لحاجة في نفسه ، دون أن ينكر عليه المنكرون ، وكي يستطيع أن يصطاد العباد ويوقعهم في شباكه .

وهذه الطائفة لا كلام لنا معهم سوى ما سيأتي من بيان طريق الحق وطرق الزيغ والضلال ، ثم بعد ذلك كل إنسان يختار لنفسه الطريق الذي يحب أن يكون من أهله .

ولا بد لنا مع هذا الحديث وغيره من الأدلَّة التي تدلُّ على أن طريق الحق واحد وطرق الضلال كثيرة من بيان أمرين :

الأمر الأول :ضابط طرق الضلال وتلك الفرق .

الضابط الذي يجعل الفرق خارجة عن الفرق الناجية ، منفصلة عنها ، داخلة في الفرق الهالكة ، والذي يبين طرق الضلال ؛ ذكره الشاطبي في كتابه " الاعتصام " (3/162 فما بعدها – مكتبة التوحيد ) حيث قال :" ... غير أن الأكثر في نقل أرباب الكلام وغيرهم أن الفُرقة المذكورة إنما هي بسبب الابتداع في الشرع على الخصوص ،وعلى ذلك حمل الحديث من تكلّم عليه من العلماء ،ولم يعدّوا منها المفترقين بسبب المعاصي التي ليست ببدع ، وعلى ذلك يقع التفريع – إن شاء الله – ".

وقال نعيم بن حماد – رحمه الله – وهو شيخ البخاري :" من ترك حديثا معروفا ، فلم يعمل به ، وأراد له علة أن يطرحه ؛ فهو مبتدع " .

قلت : فمن خالف الأدلة المحكمة وابتدع بدعة بذلك ؛ فهو مبتدع .

ومن ذلك مخالفة منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام في المسائل العقائدية التي أجمع عليها السلف رضي الله عنهم. والله أعلم .

الأمر الثاني : معرفة الفرقة الناجية .

أفضل ما تعرّف به الفرقة الناجية ؛ ماعرّفها به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: " ما أنا عليه وأصحابي " ،وهي الطائفة المنصورة . قال الإمام عبد الله بن المبارك ، ويزيد بن هارون ، وعلي بن المديني ، وأحمد بن حنبل ، والبخاري : "هم أصحاب الحديث " (4 )

وقال الخطيب البغدادي – رحمه الله - : " فقد جعل رب العالمين الطائفة المنصورة حراس الدين ، وصرف عنهم كيد المعاندين ؛ لتمسُّكهم بالشرع المتين ، واقتفائهم آثار الصحابة والتابعين ، فشأنهم حفظ الآثار وقطع المفاوز والقفار ، وركوب البراري والبحار في اقتباس ما شرع الرسول المصطفى ، لا يعرجون عنه إلى رأي ولا هوى ،قبلوا شريعته قولاً وفعلاً ، وحرسوا سنته حفظاً ونقلاً ، حتى ثبّتوا بذلك أصلها ، وكانوا أحق بها وأهلها ، وكم من ملحد يروم أن يخلط بالشريعة ما ليس منها ، والله تعالى يذبُّ بأصحاب الحديث عنها ، فهم الحفاظ لأركانها ، والقوّامون بأمرها وشانها ، إذا صدف عن الدفاع عنها فهم دونها يناضلون ، {أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون } [ المجادلة : 22 ] "(5).

فأهل الحديث هم أخص ُّ الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم المتمسِّكون بكل ما دلَّ عليه ، ولا يقدِّمون على الدليل من الكتاب والسنة عقلاًَ ولا رأياً ، بل المقدّم عندهم الكتاب والسنة في العقائد والأحكام وكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، لا يفرِّقون بين آحاد ومتواتر بل كل ماثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بخبر العدول أخذوا به واعتنقوه وعملوا به ، ما لم يعارضه دليل من الكتاب أو السنة أقوى منه ، ولا يبالون بالاعتراضات العقليّة الكاذبة ، الناتجة عن توهُّمات وأخطاء ظنّها أصحابها قطعيات ، وماهي إلا أوهام وخيالات ، ولو كانت كما يزعمون لما اختلف المعتزلي مع الجهمي ، ولا الأشعري مع المعتزلي ، ولا غيرهم ممن يقدِّم العقل على النقل ، وليس هؤلاء بأهل لأن يكونوا من أهل السنة أو أهل الحديث ؛ لأنهم لا يقدمون الكتاب والسنّة على غيرهما كما يفعل أهل الحديث بحق .

فمن أراد النجاة والبعد عن المزاعم والأخطاء والأكاذيب والأهواء ؛ فليتمسك بالكتاب والسنة على النهج الذي كان عليه نبينا صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ومن اتبعهم بإحسان كالأئمة الأربعة وغيرهم - رضي الله عن الجميع - والله أعلم .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يوالي: يحب وينصر ويساعد .

(2) أخرجه البخاري (481 ) ، ومسلم (2585 ) من حديث أبي موسى الأشعري .

(3) أخرجه البخاري (6011 ) ، ومسلم (2586 ) من حديث النعمان بن بشير .

(4) أخرجها الخطيب البغدادي في " شرف أصحاب الحديث "(ص25 – 27 ). وقال البخاري في " صحيحه " (6/2666-دار ابن كثير) : " هم أهل العلم " ، ولا

تعارض بين القولين ؛ فمراده – رحمه الله - : أهل العلم الذين هم على عقيدة ومنهج أهل الحديث . وقد أشار رحمه الله إلى هذا المعنى في كتابه :" خلق أفعال

العباد(ص60 –المعارف )حيث فسر الأمة الوسط بالطائفة المنصورة ثم ذكر جماعة من أهل الحديث ثم قال : " وهؤلاء المعروفون بالعلم في عصرهم ... " .

(5) " شرف أصحاب الحديث "( ص10).