الآية 21 - 29 من سورة البقرة

الآية 21- 29 من سورة البقرة

{ يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون }

يا أيها الناس : هذا نداء من الله إلى جميع الناس الكافرين والمنافقين وغيرهم .

اعبدوا ربكم : هذا أمر من الله تبارك وتعالى للناس كافة بالخضوع والتذلل له بالطاعة مع كمال المحبة والتعظيم والخوف ، وترك عبادة غيره .

الذي خلقكم والذين من قبلكم : أي : ربكم المقصود بالأمر بعبادته هو الذي أوجدكم من العدم ، وأوجد من قبلكم من الخلق ، ولا يعني ذلك أن لكم رباً لم يوجدكم من العدم ؛ وإنما ذكر هذه الصفة للإيضاح والبيان ، ولأنهم يؤمنون بها ، فهي صفة كاشفة .

لعلكم تتقون : أي : لتصلوا إلى مرتبة التقوى ، وهي مرتبة عالية ، والتقوى هي أن تجعل بينك وبين الشيء الذي تخافه حاجزا تتقي به ، أي : شيئا يحميك منه ، وتقوى الله أن تجعل بينك وبين عذابه حاجزاً ، وهو الإيمان به وعمل الطاعات ، والحرص على ما يرضيه ، والبعد عن الشرك والمعاصي ، وما يغضبه .

{ الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون}

الذي جعل لكم الأرض فراشاً : أي : اعبدوا ربكم الذي خلقكم وخلق لكم الأرض ممهدة مسهلة كالفِراش للعيش عليها من غير مشقة .

والسماء بناء : أي : والذي جعل السماء سقفاً ، فكل ما علا على الأرض فاسمه بناء ٌ.

وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم : السماء هنا غير السماء الأولى ، والمراد بها هنا ؛ العلو ؛ لأن الماء - الذي هو المطر ينزل من السحاب ، والسحاب بين السماء والأرض ، فأنزل المطر من السحب فأخرج بسببه الثمرات المختلفة ليجعلها رزقاً لكم .

فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون : الند : المثيل ، أي : لا تتخذوا إلهاً تعبدونه مع الله ، وتجعلونه نداً له ، وأنتم تعلمون أنه هو الذي خلقكم ورزقكم ودبر أمركم ، وأنه لا خالق ولا رازق لكم غيره .

ومعنى هاتين الآيتين : أن الله - سبحانه - أمر الناس جميعاً بعبادته وحده ، وأن لا يعبدوا معه غيره ؛ لأنه هو وحده الذي يستحق العبادة ، وذلك لأنه هو الذي خلقهم وخلق لهم السموات والأرض ، ومنهما أقواتهم وأرزاقهم ومعايشهم ، وبهما قوام دنياهم. فأعلمهم أن الذي أوجدهم من العدم ، وخلق السموات والأرض ، وخلق جميع مافيهما وما هم فيه من النعم ؛ هو المستحق عليهم الطاعة ، والمستوجب منهم الشكر والعبادة ، دون الأصنام والأوثان ، والأولياء ، والصالحين الذين لا يضرون ولا ينفعون. وألزمهم بعلمهم أنه الخالق الرازق أن يعبدوه وحده ولا يشركوا به شيئاً . فتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية .

{ وإن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين }

الريب : الشك .

مما نزّلنا : القرآن .

عبدنا : هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي نبي الله صلى الله عليه وسلم .

من مثله : أي : سورة تماثل واحدة من سوره في الإعجاز والإتقان .

شهداءكم من دون الله : أعوانكم غير الله .

ومعنى هذه الآية : أن الله سبحانه وتعالى يخاطب الكافرين متحدّياً لهم بقوله إن كنتم في شك من صدق هذا القرآن الذي أنزلناه على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فأتحداكم أن تأتوا بسورة واحدة تماثل سور هذا القرآن في فصاحتها وإحكامها وجميع أوجه إعجازها ، فإن عجزتم عن ذلك فغيركم ممن هو أقل منكم فصاحة أعجز ، وعلمتم حينئذ أنه من عند الله ؛ لأنه لو كان من عند محمد لاستطعتم أن تأتوا بمثله لأنه بشر مثلكم .

وقد تحداهم الله تعالى جميعا متفرقين ومجتمعين ، سواء في ذلك أميُّهم وكتابيهم بهذا في غير موضع من القرآن ، ومع أنهم أفصح الأمم ، وشديدي العداوة والبغض للدين الذي جاء به نبينا الصادق الأمين ؛ إلا أنهم عجزوا عن هذا التحدي وذلك لأن القرآن كلام الله خالق كل شيء ، وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين ؟!

قال ابن كثير رحمه الله - :

" ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى، قال الله تعالى: { الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } [هود: 1]، فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف، فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يحاذى ولا يدانى، فقد أخبر عن مغيبات ماضية وآتية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء، وأمر بكل خير، ونهى عن كل شر كما قال تعالى: { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } [الأنعام: 115] أي: صدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام، فكله حق وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء، كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها، كما قيل في الشعر: إن أعذبه أكذبه، وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر، أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع، أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئا إلا قدرة المتكلم المعين على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح، ثم تجد له فيها بيتا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد وسائرها هذر لا طائل تحته.

وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلا وإجمالا ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة، سواء كانت مبسوطة أو وجيزة، وسواء تكررت أم لا وكلما تكرر حلا وعلا لا يخلق عن كثرة الرد، ولا يمل منه العلماء، وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات، فما ظنك بالقلوب الفاهمات، وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان، ويشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن، كما قال في الترغيب: { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } [السجدة: 17] وقال: { وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون } [الزخرف: 71]، وقال في الترهيب: { أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر } [الإسراء: 68]، { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير } [الملك: 16، 17] وقال في الزجر: { فكلا أخذنا بذنبه } [العنكبوت: 40]، وقال في الوعظ: { أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون } [الشعراء: 205 -207] إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة، وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي، اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب، والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء؛ كما قال ابن مسعود وغيره من السلف: إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن { يا أيها الذين آمنوا } فأرعها سمعك فإنه خير ما يأمر به أو شر ينهى عنه. ولهذا قال تعالى: { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } الآية [الأعراف: 157]، وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم، بشرت به وحذرت وأنذرت؛ ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات، وزهدت في الدنيا ورغبت في الأخرى، وثبتت على الطريقة المثلى، وهدت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم.

ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة" لفظ مسلم. وقوله: "وإنما كان الذي أوتيته وحيا" أي: الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه، بخلاف غيره من الكتب الإلهية، فإنها ليست معجزة [عند كثير من العلماء] والله أعلم. وله عليه الصلاة والسلام من الآيات الدالة على نبوته، وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت حصر، ولله الحمد والمنة " .

{ فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين }

فإن لم تفعلوا : إن لم تأتوا بسورة من مثله ، وقد تظاهرتم أنتم وشركاؤكم عليه وأعوانكم ، فتبين لكم بامتحانكم واختباركم عجزكم وعجز جميع خلقي عنه ، وعلمتم أنه من عندي ، ثم أقمتم على التكذيب به .

ولن تفعلوا : أي : لن تأتوا بسورة من مثله أبداً ؛ لعجزكم عن ذلك لأنه من عند الله .

فاتقوا النار : وذلك بالإيمان بما جاء به الرسول الكريم ، وعدم المكابرة على الحق بعدما تبين لكم بعجزكم وعجز جميع خلقي عن أن يأتوا بمثله ، فقد قامت عليكم الحجة بذلك؛ فإن استكبرتم وعاندتم فاعلموا أنكم أصحاب النار .

التي وقودها الناس والحجارة : الوقود هو الحطب الذي تشتعل به النار ، والناس هم أصحاب النار من بني آدم ، والحجارة هي حجارة الكبريت ، وهي أشد الحجارة حرّاً إذا أحميت .

أعدت للكافرين : أي : أرصدت النار لتكون مثوى للكافرين ، وهذا دليل على أن النار مخلوقة موجودة الآن والأدلة على ذلك كثيرة ، وهي عقيدة أهل السنة وخالف في ذلك المعتزلة .

{ وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون }

البشرى : هي الإخبار بما يظهر أثره على البشرة ، والغالب أن يستعمل في السرور ، وقد يستعمل في الشر ؛ مقيّداً بذكر الشر المبشَّر به .

الذين آمنوا : أي: الذين أقرّوا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وعملوا بجوارحهم.

وعملوا الصالحات : بجوارحهم ؛ والصالحات؛ كل ما أمر الله تبارك وتعالى به فهو من الصالحات ، وذكر الأعمال الصالحات هنا للتأكيد عليها ؛ وإلا فهي من الإيمان كما هي عقيدة أهل السنة ، وهذا كقوله تعالى : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } ومعلوم أن الصلاة الوسطى من الصلوات ؛ ولكن أفردت بالذكر للتأكيد عليها .

ولا يستحق الجنة إلا من صدق بقلبه وعمل بجوارحه .

جنات : جمع جنة ، وهي البستان الذي يحتوي على الأشجار والثمار والخيرات .

تجري من تحتها الأنهار : أي : الأنهار تجري من تحت أشجارها وثمارها وغروسها لا من تحت أرضها .

كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً : أي : من الجنات ، يعني كلما رزقوا من أشجار البساتين التي أعدها الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات .

قالوا هذا الذي رزقنا من قبل : أي : أنهم أتوا بالثمر في الجنة ، فلما نظروا إليه ؛ قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا .

وأتوا به متشابهاً : أي : ثمر الجنة يشبه ثمر الدنيا في الاسم والشكل ، ويختلف في الطعم والذوق .

ولهم فيها أزواج مطهرة : أي : وللمؤمنين في الجنات زوجات مطهرات من البول والغائط والحيض والنفاس وغير ذلك من القاذورات .

وأهل الحجاز يقولون : زوج الرجل ؛ وجمعها : أزواج ، وأهل تميم يقولون : زوجة الرجل ، وجمعها : زوجات .

وهم فيها خالدون : أي : والمؤمنون في الجنات باقون على الدوام لا يخرجون منها أبداً ، وهذا من أعظم أسباب السعادة ؛ أن تكون في نعيم لا انقطاع له أبداً .

والمعنى : أن الله رغّب بهذه الآية عباده في الإيمان وحضهم على عبادته بما أخبرهم به أنه أعدّه لأهل طاعته والإيمان به عنده ؛ كما حذرهم في الآية التي قبلها بما أخبر من إعداده ما أعد لأهل الكفر به والجاعلين معه الآلهة والأنداد - كالذين يعبدون قبور الصالحين من عقابه عن إشراك غبره معه ، والتعرض لعقوبته بركوب معصيته وترك طاعته .

{ إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذي كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين }

P>

إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها :أي : لا يمنعه الحياء من ضرب الأمثال بالأشياء الصغيرة و الحقيرة ؛ أن يجعل أي شيء مثلا لآخر سواء كان هذا الشيء بعوضة أو ما هو أعظم منها حقارة وصغراً .

فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم : فأما الذين صدّقوا الله ورسوله ؛ فيعلمون أن المثل الذي ضربه الله هو كلامه وهو من عنده ، ويرون أن فيه آيات بينات .

وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً : وأما الذين لم يصدّقوا الله ورسوله فيقولون مالذي أراد الله بهذا مثلاً ؟ قالوا ذلك لأنه لم يتبين لهم الحق لإعراضهم عنه فوقعوا في الحيرة .

يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً : هذا بيان للحكمة التي ضرب الله المثل بالشيء الحقير لأجلها ، فقال : يضل به ؛ أي : بالمثل كثيراً من الناس ، ويهدي به الكثير منهم .

وما يضل به إلا الفاسقين : ولا يضل بهذا المثل إلا من كان فاسقاً ، وأصل الفسق في كلام العرب : الخروج عن الشيء ، يقال منه : فسقت الرُّطبة : إذا خرجت من قشرها ؛ ومن ذلك سُمّيت الفأرة فويسقة ؛ لخروجها عن جحرها . فالفاسق يشمل الكافر والعاصي ؛ لأنهما خرجا عن طاعة الله ؛ ولكن فسق الكافر أشد وأفحش .

والمراد به في الآية : الفاسق الكافر ، بدليل أنه وصفهم بقوله تعالى { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون } ، وهذه الصفات صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين .

{ الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون }

الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه : هذا وصف الفاسقين ، وصفهم بأنهم الذين حلوا العهد الذي بينهم وبينه ، من بعد تغليظه وتأكيده ، وهو الإيمان به وبرسله ، فإن هذا العهد مأخوذ على كل إنسان ، إذا جاء رسول بالآية الدالة على أنه رسول من عند الله ؛ فإن الواجب على كل إنسان أن يؤمن به ، وهؤلاء لم يفعلوا ذلك . والنقض ؛ هو حلُّ الشيء بعد إبرامه .

ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل : ويقطعون الرحم الذي أمر الله بأن يوصل ولا يقطع ، والمراد بالرحم : أهل الرجل الذين جمعتهم وإياه رحم والدة واحدة .

وقطعها ؛ يكون بظلمها في ترك أداء ما ألزم الله من حقوقها ، وأوجب من برِّها .

ووصلها ؛ أداء الواجب لها من حقوق الله التي أوجب لها ، والتعطف عليها بما يحق التعطف به عليها .

ويخطئ الكثير من المسلمين في زمننا هذا بظنهم أن صلة الرحم هي الزيارة فقط ، وخاصة زيارة الأقارب في العيدين وخطؤهم في هذا الباب من وجهين :

الأول : أن صلة الرحم لا تقتصر على الزيارة ، وإن كانت الزيارة وتفقُّد حال الرحم من صلة الرحم ؛ ولكن صلة الرحم أعظم من ذلك ، كما قدّمنا بيانها ، ويجمعها قول بعض أهل العلم :أن توصل لذي رحمك كل مصلحة يحتاج إليها منك وتستطيع عليها ، وأن تدفع عنه كل مفسدة تستطيع دفعها عنه .

والخطأ الثاني : ظنهم أن الزيارة يوم العيد سنة وبعضهم يظنها واجبة ، وهذا خطأ ؛ فلم يشرع لنا لا في الكتاب ولا السنة زيارة المحارم في يوم العيد ، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنه كان يتقصّد زيارة المحارم في يوم العيد ، والله أعلم .

ويفسدون في الأرض : وذلك بالكفر والمعاصي .

أولئك هم الخاسرون : قال ابن جرير الطبري :الخاسرون جمع خاسر ؛الناقصون أنفسهم حظوظها بمعصيتهم الله من رحمته ، كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه فكذلك الكافر والمنافق خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كان إلى رحمته .

{ كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون }

كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم : أي : كيف تجحدون وجوده أو تعبدون معه غيره ، وقد كنتم عدماً فأخرجكم إلى الوجود ؟! وهذا استفهام إنكار وتوبيخ .

ثم يميتكم ثم يحييكم : أي : ثم يميتكم الله بعد أن أوجدكم من العدم ، ثم يحييكم للبعث .

ثم إليه ترجعون : أي : تُرَدّون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم .

قال ابن جرير الطبري : " وهذه الآية توبيخٌ من الله جل ثناؤه للقائلين:"آمنَّا بالله وباليوم الآخر"، الذين أخبر الله عنهم أنهم مع قيلهم ذلك بأفواههم، غيرُ مؤمنين به. وأنهم إنما يقولون ذلك خداعًا لله وللمؤمنين، فعذَلهم الله بقوله:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم"، ووبَّخهم واحتجّ عليهم - في نكيرهم ما أنكروا من ذلك وجحودهم ما جحدوا بقلوبهم المريضة - فقال: كيف تكفرون بالله فتجحدون قدرته على إحيائكم بعد إماتتكم، لبعث القيامة، ومجازاة المسيء منكم بالإساءة والمحسن بالإحسان، وقد كنتم نطفًا أمواتًا في أصلاب آبائكم، فأنشأتكم خلقًا سويًّا، وجعلتكم بشراً أحياءً، ثم أمتّكم بعد إنشائكم. فقد علمتم أن مَنْ فعل ذلك بقدرته، غير مُعجزِه -بالقدرة التي فعل ذلك بكم- إحياؤكم بعد إماتتكم وإعادتكم بعد إفنائكم، وحشركم إليه لمجازاتكم بأعمالكم" .

{ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم }

هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً : الله سبحانه وتعالى هو الذي امتن عليكم بإيجاد كل ما على الأرض لتنتفعوا به في دنياكم وتستعينوا به على طاعته .

ثم استوى إلى السماء : قال ابن كثير : أي : قصد إلى السماء ، والاستواء ههنا تضمّن معنى القصد والإقبال ؛ لأنه عُدّي بإلى .

فسواهن سبع سموات : أي : فخلق السماء سبعاً وأحكمها وأتقنها ، والسماء ههنا اسم جنس .

وهو بكل شيء عليم : ومن علمه أنه علم كيف يخلق هذه السماء .

وهذه الآية تابعة للتي قبلها في الاستفهام ، أي :

كيف تكفرون بالله وقد كنتم نطفاً في أصلاب آبائكم ، فجعلكم بشراً أحياءً ، ثم يميتكم ، ثم هو محييكم بعد ذلك ، وباعثكم يوم الحشر للثواب والعقاب ، وهو المنعم عليكم بما خلق لكم في الأرض من معايشكم وأدلتكم على وحدانية ربكم ؟!

وهذه الآية تدل على القاعدة الشرعية : " الأصل في الأمور الإباحة " ؛ لأن الله خلق لنا جميع ما في الأرض للاعتبار والانتفاع بها ، وذكر ذلك على سبيل الامتنان ، وهذا يقتضي إباحتها ، والله أعلم .