الآية 1 - 5 من سورة البقرة

( تفسير سورة البقرة )

الآية 1 - 5 من سورة البقرة

وسميت سورة البقرة ؛ لذكر البقرة فيها

ولهذه السورة فضل وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم :" لا تجعلوا بيوتكم مقابر؛ إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة" ( 1)

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم :" اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه ،اقرأوا الزهراوين : البقرة وسورة آل عمران ، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان ،أو كأنهما غيايتان ، أو كأنهما فرقان من طير صوافَّ تحاجان عن أصحابهما،اقرأوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة ، ولا يستطيعها البطلة " (2)

قلت : "الزهراوان" : أي : النيرتان ، سميتا بذلك لهدايتهما قارئهما، بما يزهر لهما من أنوارهما ، أي : من معانيهما، أو لما يترتب على قراءتهما من النور التام يوم القيامة

"الغمامة و الغياية" : كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه كالسحابة والظلمة وغيرهما

وقوله : " فرقان من طير صوافّ تحاجان عن أصحابهما " : يعني كأنهما جماعتان أو قطيعان من طير باسطة أجنحتها في الهواء تدافع عن أصحابهما

وقوله :" أخذها بركة ، وتركها حسرة " ، أي : المواظبة على تلاوتها وتدبُّر معانيها والعمل بما فيها يعود بالخير على فاعل ذلك، ومن تركه عاد عليه بالحسرة والندامة عند الحاجة إليه

وقوله :" لا تستطيعها البطلة " : أي : السحرة لا يستطيعون عليها ، فهي نافعة لعلاج السحر

وسورة البقرة مدنية كلها بلا خلاف

وورد في بعض الأحاديث النهي عن قول :" سورة البقرة "، وأرشد إلى قول : " السورة التي تذكر فيها البقرة "، وهو حديث ضعيف لا يصح ، والثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول :سورة البقرة، كما في الحديثين المتقدمين ،وكذلك ثبت ذلك عن الصحابة الكرام رضي الله عنهم ، فلا يعوّل على ذلك الحديث

{الم}

الم : هذه أحرف مقطعة ، المراد منها والله أعلم - ؛ بيان إعجاز القرآن ، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، مع أنه مركب من هذه الأحرف المقطّعة التي هي من لغتهم العربية التي يتكلمون بها ، وبلغوا من الفصاحة والبيان والمعرفة فيها مبلغاً كبيراً ، ومع ذلك عندما أنزل الله هذا القرآن بهذه اللغة على درجة عظيمة من الفصاحة والبيان ؛ لم يستطيعوا أن يأتوا بعشر سور ولا حتى بسورة واحدة من مثل سوره في فصاحتها وبيانها وعظيم معانيها وتركيبها وأخبارها وأحكامها وغير ذلك من إعجازها؛ ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بدّ أن يذكر فيها الانتصار للقرآن ، وبيان إعجازه وعظمته. ولقد كان أعداء الإسلام ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم متواجدين بكثرة مع حرصهم على إثبات بطلان هذا القرآن ونبوّة نبينا صلى الله عليه وسلم ومع حرصهم على تناقل الأخبار التي تعارض ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يأت زمن من الأزمان خلا من أولئك القوم ، مع ذلك لم يستطع أحد أن يأتي بمثل هذا القرآن ، أو ينقل خبراً صحيحاً عن أحدٍ من العرب استطاع أن يأتي بمثل هذا القرآن بشهادة العرب الفصحاء على ذلك ، ولم يستطع أحد من الناس أن يأتي بخبر أخبر به القرآن أو حُكمٍ حَكَمَ به ، شهد العقلاء المنصفون على كذبه أو بطلانه ؛ مع أن الله أخبر في كتابه الكريم عن أخبار حصلت قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخبار ستحصل في زمنه وحصلت، وأخبار ستحصل بعد موته صلى الله عليه وسلم ،وحصل الكثير منها ، وأخبر عن أمور لم يكن أهل ذلك الزمان قادرين على معرفتها ، والوقوف على حقيقتها ، وتمكن العلم الحديث من الوصول إليها مما كان سبباً في إسلام الكثير من علماء الدنيا

{ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين }

ذلك الكتاب لا ريب فيه : أي : هذا القرآن لا شك فيه أنه نزل من عند الله ، وذلك كقول الله تعالى في سورة السجدة {الم ، تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين } [السجدة: 1-2]

هدى للمتقين : أي : وهو هدى للذين يخافون الله سبحانه وتعالى - ، ويريدون رضاه ، يدلُّهم على مايبتغون من الطاعة والنجاة وخص هداية القرآن بالمتقين مع أنه هدى للناس أجمعين، لاختصاص المتقين بالنفع بهداية القرآن ، أما غير المتقين فتصلهم هدايته ، ولكنهم لا ينتفعون بها

واعلم أن الهداية هدايتان : هداية توفيق للإيمان بالله وطاعته ، وهذه بيد الله سبحانه وتعالى . قال ابن كثير رحمه الله في " تفسيره " عند هذه الآية: "ويطلق الهدى ويراد به ما يقر في القلب من الإيمان ، وهذا لا يقدر على خلقه في قلوب العباد إلا الله عز وجل- . قال تعالى : { إنك لا تهدي من أحببت } [القصص:56 } ، وقال : { ليس عليك هداهم } [ البقرة : 272] ... إلى غير ذلك من الآيات " .أ.هـ وهداية بيان وإرشاد للحق ، وهذه يقوم بها الأنبياء وورثتهم؛ وهي المرادة هنا . قال ابن كثير رحمه الله - : " ويطلق - أي : الهدى ويراد به بيان الحق وتوضيحه والدلالة عليه ، والإرشاد إليه. قال تعالى: { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } [الشورى:52] . وقال : { إنما أنت منذر ولكل قوم هاد } [ الرعد : 7] ..."أ.هـ . والتقوى : هي أن تجعل بينك وبين الشيء الذي تخافه حاجزاً تتقي به ، أي : شيئاً يحميك منه ، وتقوى الله أن تجعل بينك وبين عذابه حاجزاً ، وهو الإيمان به وعمل الطاعات ، والحرص على ما يرضيه ، والبعد عن الشرك والمعاصي ، وما يغضبه .

{ الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون}

الذين يؤمنون بالغيب : هذا وصف للمتقين ، أي المتقون الموصوفون بالإيمان بالغيب ، والإيمان في اللغة هو الإقرار، الذي هو التصديق والانقياد ، وفي الشرع : الاعتقاد بالقلب والقول باللسان والعمل بالجوارح والأركان ، أجمع علماء السلف على ذلك ، نقل الإجماع الإمام الشافعي وغيره ، لا يجزىء أحد هذه الثلاثة عن الآخر والغيب : ماغاب عنك ولم تدركه حواسك ، كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويدخل في ذلك ماثبت في الشرع ولم يدركه عقلك، فإدراك الأشياء بالعقل ليس شرطاً للإيمان بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن العقل لا يدرك كل شيء بكلياته وجزئياته، فهناك أمور تثبت بالشرع ، يعجز العقل عن إدراكها ، مع كونه إذا علمها من طريق الشرع لا يكذبها لأنها لا تتناقض مع إدراكه ، والشرع لا يأتي بما يناقض العقل ، ولكنه يأتي بما لا يدركه العقل استقلالاً ،ولا فرق في ذلك بين المسائل العقدية والعملية لذلك جاء المدح لمن آمن بالغيب ، أي : وجد صحفاً فآمن بها، لا لمن آمن بالدلالات العقلية فقط ، وإن أسعد الناس بهذه الآية الذين آمنوا بما جاء في الكتاب والسنة دون معارضته بدلالات عقلية مبنية على خرافات سموها يقينيات ، ولو كانت كذلك لما اختلفوا فيها ، ومن أبعد الناس عنها الذين حكّموا عقولهم على دلالة الكتاب والسنة ، وآمنوا بالعقل وكفروا بالغيب الذي لم تثبته عقولهم لقصورها وتأثرها بمؤثرات خيالية ، ورفعوا أسلحتهم ومعاولهم على آيات الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فهدموها بزعمهم أن آيات الله ظنيّة الدلالة فيجب أن تُؤوّل، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم على قسمين : آحاد ؛ وهذه لا يحتج بها في العقيدة وبهذا تخلّصوا من أكثر السنّة ، والقسم الثاني، دلالته ظنيّة ، وبذلك تخلّصوا من السنة النبوية. فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وأحسن الله عزاءنا في عقول شيدت قواعدها على خيوط العنكبوت.

ويقيمون الصلاة : إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ، وإسباغ الوضوء فيها ، وتمام ركوعها وسجودها ، وإتقانها والصلاة في اللغة : الدعاء . وفي الشرع : هي أفعال وأقوال مخصوصة تؤدى في أوقات مخصوصة

ومما رزقناهم ينفقون :يدخل في ذلك جميع أنواع النفقات الواجبة والمستحبة ، كزكاة المال والنفقة على النفس والأهل والعيال والوالدين والأقربين وغير ذلك ، قال ابن كثير رحمه الله - : " كثيراً ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال ، فإن الصلاة حق الله وعبادته ، وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه ، وتمجيده والابتهال إليه ودعائه والتوكل عليه . والإنفاق هو الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم ، وأولى الناس بذلك القرابات والأهلون والمماليك ، ثم الأجانب، فكل من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل في قوله تعالى : { ومما رزقناهم ينفقون } ، ولهذا ثبت في "الصحيحين" عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت " ( 3)

{والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون }

والذين يؤمنون بما أنزل إليك : يعني يقرون بما جئت به من الله، وما جاء به من قبلك من المرسلين ، لا يفرِّقون بينهم ، ولا يجحدون ما جاؤوهم به من ربهم .

وبالآخرة هم يوقنون : أي : بالبعث بعد الموت، والقيامة والحساب، والميزان والجنة والنار ، لا يشكون في وقوع ذلك وهذه الآيات كلها في وصف المؤمنين عموماً .

{أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون }

المشار إليهم بقوله :( أولئك ) هم الذين تقدم وصفهم : الذين يؤمنون بالغيب ... .

على هدى : أي :على نور وبيان وبصيرة من الله تعالى ، واستقامة وسداد ، بتسديد الله إياهم وتوفيقه لهم .

وأولئك هم المفلحون : الفلاح في اللغة: الفوز والنجاة . ومعنى الآية : الذين تقدم وصفهم هم الفائزون الناجون في الدنيا والآخرة ؛ لتمسُّكهم وتقيُّدهم بالأوصاف المذكورة من التصديق بالغيب وإقام الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله تبارك وتعالى ، والتصديق والعمل بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، والتصديق بما جاء به الأنبياء من قبله ، والجزم بالبعث والنشور والجنة والنار . والله أعلم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أخرجه مسلم ( 780 ) من حديث أبي هريرة (2) أخرجه مسلم ( 804 و 805 ) من حديث أبي أمامة الباهلي والنواس بن سمعان الكلابي .

(3) البخاري ( 8 ) ، ومسلم ( 16 ) .