تفسير سورة الأنعام (31-39)

تفسير سورة الأنعام (31-39)

{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)}

{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ} أي: خسروا أنفسهم وهلكوا بتكذيبهم المصير إلى الله، والبعث بعد الموت {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ} أي: القيامة {بَغْتَةً} أي: فجأة {قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا} يا ندامتنا، كلمة تقال لإظهار الندم {عَلَى مَا فَرَّطْنَا} أي: قصرنا وضيعنا {فِيهَا} أي في الدنيا من عمل الآخرة {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ} أثقالهم وآثامهم {عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} أي بئس الحمل حملوا.

{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)}

{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} باطل وغرور، لا بقاء لها، فهذا حال أهل الدنيا في لعب ولهو؛ لأن أعمالهم فيها تزول كما يزول لعب ولهو الصبيان، ولا يبقى منها إلا العمل الصالح {وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ} الجنة {خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الله باجتناب الشرك وما حرم عليهم {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أن الآخرة أفضل من الدنيا فتعملون لها عملها.

{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (33)}

{قَدْ نَعْلَمُ} يا محمد {إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} أي المشركون، يقولون: ساحر وكاهن وشاعر ومجنون وكذاب {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} لا ينسبونك إلى الكذب، فهم يعلمون أنك صادق فيما تقول وتدعوهم إليه {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} يقول: إنهم لا يكذبونك في السر؛ فإنهم يعلمون صدقك، وإنما يكذبونك بالقول عنادا وحسداً، كما قال {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14]

{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)}

{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} كذبهم قومهم كما كذبتك قريش {فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} قال الطبري: وهذا تسلية من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وتعزية له عما ناله من المساءة بتكذيب قومه إياه على ما جاءهم به من الحق من عند الله. يقول تعالى ذكره: إن يكذِّبْك يا محمد هؤلاء المشركون من قومك، فيجحدوا نبوتك، وينكروا آيات الله أنها من عنده، فلا يحزنْك ذلك، واصبر على تكذيبهم إياك، وما تَلْقى منهم من المكروه في ذات الله، حتى يأتي نصر الله، فقد كُذبت رسل من قبلك أرسلتهم إلى أممهم، فنالوهم بمكروه، فصبروا على تكذيب قومهم إياهم ولم يُثنهم ذلك عن المضي لأمر الله الذي أمرهم به من دعاء قومهم إليه، حتى حكم الله بينهم وبينهم. انتهى

{وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} لا مغير لما حكم به، وقد حكم في كتابه بنصر أنبيائه عليهم السلام، أي: إنه سينصرك، ويظهر دينك، كما نصر الرسل الذين كُذِّبوا من قبلك، قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173] وقال. {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا} [غافر: 51] وقال: {كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21] {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} من أخبار المرسلين أنهم قد نصروا بعد الأذى، وبعد الشدائد.

{وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)}

{وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} أي: عظم عليك وشق أن أعرضوا عن الإيمان بك، قال البغوي: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على إيمان قومه أشد الحرص، وكانوا إذا سألوا آية أحب أن يريهم الله تعالى ذلك طمعاً في إيمانهم. انتهى، فقال له تبارك وتعالى: إن شق عليك عدم إيمانهم {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا} تطلب وتتخذ نفقاً {فِي الْأَرْضِ} فتذهب فيه {أَوْ سُلَّمًا} أي: درجاً ومصعداً {فِي السَّمَاءِ} فتصعد فيه {فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} من الآيات التي يطلبونها فافعل {وَلَوْ شَاءَ اللهُ} هدايتهم {لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} فآمنوا كلهم {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} بذلك.

{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)}

{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ} لدعوتك يا محمد {الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} يعني: المؤمنين الذين يسمعون كلامك ويفهمونه ويتبعونه وينتفعون به، دون من ختم الله على سمعه {وَالْمَوْتَى} يعني الكفار، لأنهم موتى القلوب شبههم بالموتى {يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} يوم القيامة {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} فيخزيهم بأعمالهم.

{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)}

{وَقَالُوا} يعني: رؤساء قريش {لَوْلَا} هلا {نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} أي: خارق من الخوارق كما طلبوا وجاء طلبهم في قوله تعالى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا} {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أي: هو تعالى قادر على ذلك، ولكن حكمته تعالى تقتضي تأخير ذلك؛ لأنه لو أنزلها وَفْق ما طلبوا ثم لم يؤمنوا؛ لعاجلهم بالعقوبة، كما فعل بالأمم السالفة.

{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) }

{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} قيّد الطيران بالجناح تأكيدا، كما يقال: نظرت بعيني، وأخذت بيدي {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} قال مجاهد: أصناف مصنفة تعرف بأسمائها، يريد أن كل جنس من الحيوان أمة، فالطير أمة، والهوام أمة، والذباب أمة، والسباع أمة، تعرف بأسمائها مثل بني آدم، يعرفون بأسمائهم، يقال: الإنس والناس، وقيل: أمم أمثالكم في الخلق والموت والبعث، وقال ابن قتيبة: أمم أمثالكم في الغذاء وابتغاء الرزق وتوقي المهالك {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ} أي: في اللوح المحفوظ {مِنْ شَيْءٍ} أي: الجميع علمهم عند الله، ولا ينسى واحداً من جميعها من رزقه وتدبيره، سواء كان بريا أو بحريا {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} قال ابن عباس: موت البهائم حشرها، وقال أبو هريرة: يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة، البهائم والدواب والطير، وكل شيء فيقتص للجماء من القرناء، ثم يقول: كوني ترابا، فحينئذ يتمنى الكافر ويقول: يا ليتني كنت ترابا. وجاء عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لتردن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجماء من القرناء».

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)}

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} أي: مثلَهم في جهلهم وقلة علمهم وعدم فهمهم كمثل أصم -وهو الذي لا يسمع -أبكم -وهو الذي لا يتكلم -وهو مع هذا في ظلام لا يبصر، فكيف يهتدي مثل هذا إلى الطريق، أو يخرج مما هو فيه؟ {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} هو الإسلام. أي: هو المتصرف في خلقه بما يشاء.