تفسير سورة المائدة 106-110

تفسير سورة المائدة 106-110

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)}

أخرج البخاري في صحيحه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ، فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ، فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ، فَقَدُوا جَامًا مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا مِنْ ذَهَبٍ، «فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم»، ثُمَّ وُجِدَ الجَامُ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: ابْتَعْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ، فَقَامَ رَجُلاَنِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، فَحَلَفَا لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا، وَإِنَّ الجَامَ لِصَاحِبِهِمْ، قَالَ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ} [المائدة: 106]. انتهى

تميم وعَدي كانا نصرانيين عندما حدثت القصة المذكورة في الحديث، وتميم أسلم بعد ذلك رضي الله عنه، وأما عدي فلم يسلم (جاما) كأسا (مُخوّصا) منقوشا فيه خطوط دقيقة طويلة كورق النخل (أوليائه) من أولياء السهمي

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} أي ليشهد بينكم {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي أسباب الموت {حِينَ الْوَصِيَّةِ} أي وقت الوصية {اثْنَانِ} أي: ليشهد اثنان، لفظه خبر ومعناه أمر {ذَوَا عَدْلٍ} أي: أمانة وعقل {مِنْكُمْ} أي: من أهل ملتكم، أي من المسلمين.

يخبر تعالى خبراً متضمناً للأمر بإشهاد اثنين على الوصية، إذا حضر الإنسان مقدماتُ الموت وعلاماته؛ فينبغي له أن يكتب وصيته، ويشهد عليها اثنين ذوي عدل من المسلمين ممن تعتبر شهادتهما {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي: من غير دينكم وملتكم، فعلى هذا إذا لم نجد مسلمين في السفر فنشهد على الوصية كافرين، قال شريح: «إذا كان الرجل بأرض غربة ولم يجد مسلما يشهده على وصيته، فأشهد يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا، فشهادتهم جائزة. فإن جاء رجلان مسلمان فشهدا بخلاف شهادتهما، أجيزت شهادة المسلمين، وأبطلت شهادة الآخرين» انتهى، فهذه شروط لجواز استشهاد الكافرِين عند فقد المؤمنين، وأن يكون ذلك في سفر، وأن يكون في وصية، ولا تقبل شهادة الكافر في غير هذا {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ} سرتم وسافرتم {فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} فأوصيتم إليهما ودفعتم إليهما مالكم، فإذا شككتم في صدقهما، وخفتم منهما خيانة، فالحكم فيهما أن {تَحْبِسُونَهُمَا} أي: تستوقفونهما {مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} قال جمع من السلف: بعد صلاة العصر، وقال البعض صلاة المسلمين، قال ابن كثير: والمقصود أن يقام هذان الشاهدان بعد صلاة اجتمع الناس فيها بحضرتهم {فَيُقْسِمَانِ} يحلفان {بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ} أي: شككتم ووقعت لكم الريبة في قول الشاهدين وصدقهما ، فيقولان {لَا نَشْتَرِي بِهِ} أي بيميننا {ثَمَنًا} أي: لا نحلف بالله كاذبين من أجل عوض نأخذه أو مال نذهب به أو حق نجحده {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} أي ولو كان المشهود عليه قريباً لنا لا نحابيه {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ} أضافها إلى الله تشريفاً لها وتعظيماً لأمرها {إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} أي إن فعلنا شيئاً من ذلك من تحريف الشهادة أو تبديلها أو تغييرها أو كتمها بالكلية؛ كنا من الآثمين.

{فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)}

{فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا} }أي فإن اشتَهَر وظهر وتحقق من الشاهدين الوصيين أنهما خانا أو غلّا شيئا من المال الموصى به إليهما {اسْتَحَقَّا} استوجبا {إِثْمًا} بخيانتهما وبأيمانهما الكاذبة {فَآخَرَانِ} من أولياء الميت {يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} يعني: مقام الشاهدين الوصيين {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ} أي: حق ووجب عليهم الإثم {عَلَيْهِمُ} أي: فيهم ولأجلهم الإثم، وهم ورثة الميت استحق الحالفان بسببهم الإثم {الْأَوْلَيَانِ} (الأوليان) تثنية الأَوْلى، والأَوْلى هو الأقرب، ومعنى الآية: إذا ظهرت خيانة الحالفين يقوم اثنان آخران من أقارب الميت {فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ} أي يحلفان بالله {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} يعني: يميننا أحق من يمينهما، أي يقولان: والله لأيماننا على أنهما كاذبان خائنان في وصية ميتنا؛ أحق وأصدق من أيمانهما على أنهما صادقان فيما ادعيا {وَمَا اعْتَدَيْنَا} عليهما بتهمة باطلة؛ أي: ما تجاوزنا الحق في أيماننا {إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} لأنفسهم بتعريضها لسخط الله وانتقامه.

وبعد حلف أقارب الميت المسلمين؛ ترد شهادة الكافرين وتجوز شهادة الأولياء.

{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)}

قال الله تعالى في بيان حكمة هذا الحكم: {ذَلِكَ} الحكم المذكور من رد اليمين على الورثة {أَدْنَى} أقرب إلى {أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} ذلك الذي حكمنا به من رد اليمين على الورثة؛ أجدر وأحرى أن يأتي الشهود والأوصياء بالشهادة على وجهها، أي: أقرب إلى الإتيان بالشهادة كما حصلت من غير تغيير فيها {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي: أقرب إلى أن يخافوا من تكذيب أيمانهم ورد اليمين على الورثة فيحلف الورثة على خيانة الشهود وكذبهم فيُفتَضَحوا ويغرموا، فإذا خافوا هذا لا يحلفون كاذبين {وَاتَّقُوا اللهَ} أن تحلفوا أيمانا كاذبة أو تخونوا الأمانة وفي جميع أموركم {وَاسْمَعُوا} سماع قبول، أي وأطيعوا {وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي الخارجين عن طاعته ومتابعة شريعته.

{يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)}

قال ابن كثير: هذا إخبار عما يخاطب الله به المرسلين يوم القيامة، عما أجيبوا به من أممهم الذين أرسلهم إليهم {يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ} وهو يوم القيامة {فَيَقُولُ} لهم {مَاذَا أُجِبْتُمْ} أي: ما الذي أجابتكم به أممكم في الدنيا؟ وما الذي رد عليكم قومكم حين دعوتموهم إلى توحيدي وطاعتي؟ {قَالُوا} أي: فيقول الأنبياء {لَا عِلْمَ لَنَا} إلا علم أنت أعلم به منا، أي ما نعلمه من ردهم وجوابهم أنت أعلم به منا، فلا يخفى عليك ما عندنا من علم ذلك ولا غيره مما خفي من العلوم وما ظهر.

لا شك أنهم يعلمون ماذا أجابهم قومهم، ولكنهم تأدبوا مع الله.

قال ابن كثير: هو من باب التأدب مع الرب جل جلاله، أي لا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيء، فنحن وإن كنا أُجبنا وعرفنا من أجابنا، ولكن منهم من كنا إنما نطلع على ظاهره لا علم لنا بباطنه، وأنت العليم بكل شيء، المطلع على كل شيء، فعلمنا بالنسبة إلى علمك كلا علم، فإنك أنت علام الغيوب. انتهى

{إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)}

يذكر تعالى ما امتن به على عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه السلام مما أجراه على يديه من المعجزات الباهرات وخوارق العادات، فقال: {إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} قال الحسن: ذكر النعمة شكرها، وأراد بقوله (نعمتي) أي: نعمي، لفظه واحد ومعناه جمع، كقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] {وَعَلى وَالِدَتِكَ} مريم، ثم ذكر النعم فقال: {إِذْ أَيَّدْتُكَ} قويتك {بِرُوحِ الْقُدُسِ} يعني جبريل عليه السلام {تُكَلِّمُ النَّاسَ} يعني: وتكلم الناس {فِي الْمَهْدِ} أي وأنت صغير طفل قبل أوان الكلام {وَكَهْلًا} كبيراً وأنت نبي {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ} يعني الخط {وَالْحِكْمَةَ} يعني: العلم والفهم {وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ} أي تصور وتشكل {مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} كصورة الطير {بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا} حياً يطير {بِإِذْنِي} لك في ذلك، أي فتنفخ في تلك الصورة التي شكلتها بإذني لك في ذلك، فتكون الصورة التي على شكل طائر؛ طيراً ذا روح تطير بإذن الله وخلقه {وَتُبْرِئُ} وتصحح {الْأَكْمَهَ} الأعمى {وَالْأَبْرَصَ} هو الذي به وضح، أي بياض في جلده {بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي } من قبورهم أحياء، أي تدعوهم فيقومون من قبورهم بإذن الله وقدرته وإرادته ومشيئته، وتقدم تفسير هذا في سورة آل عمران {وَإِذْ} أي واذكر نعمتي عليك إذ{كَفَفْتُ} منعت وصرفت {بَنِي إِسْرَائِيلَ} يعني اليهود {عَنْكَ} حين هموا بقتلك {إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} يعني: بالبراهين والحجج القاطعة على نبوتك ورسالتك من الله إليهم {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا} ما هذا {إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} يعني: ما جاءهم به من البينات.

قال ابن كثير: أي واذكر نعمتي عليك في كفي إياهم عنك حين جئتهم بالبراهين والحجج القاطعة على نبوتك ورسالتك من الله إليهم، فكذبوك واتهموك بأنك ساحر، وسعوا في قتلك وصلبك فنجيتك منهم، ورفعتك إلي، وطهرتك من دنسهم، وكفيتك شرهم، وهذا يدل على أن هذا الامتنان كان من الله إليه بعد رفعه إلى السماء الدنيا، أو يكون هذا الامتنان واقعا يوم القيامة، وعبر عنه بصيغة الماضي دلالة على وقوعه لا محالة، وهذا من أسرار الغيوب التي أطلع الله عليها نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم.