تفسير سورة المائدة 51-54

تفسير سورة المائدة 51-54

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)}

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} تعينونهم وتنصرونهم في الدين، قال ابن أبي زمنين: أي في الدين {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} في المعونة والنصرة، قال الطبري: عنى بذلك أن بعض اليهود أنصار بعضهم على المؤمنين، ويد واحدة على جميعهم، وأن النصارى كذلك بعضهم أنصار بعض على من خالف دينهم وملتهم {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} فينصرهم في الدين، قال ابن أبي زمنين: أي في الدين {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} واحد منهم لا من المسلمين {إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} قال الطبري: إن الله لا يُوفِّق من وضع الوَلاية في غير موضعها فوالى اليهود والنصارى مع عداوتهم الله ورسوله والمؤمنين؛ على المؤمنين، وكان لهم ظهيرا ونصيرا؛ لأن من تولاهم فهو لله ولرسوله وللمؤمنين حرب، وقد بينا معنى الظلم في غير هذا الموضع، وأنه وضع الشيء في غير موضعه بما أغنى عن إعادته. انتهى

{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)}

{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي: نفاق يعني المنافقين الذين يوالون اليهود {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} في أهل الكتاب، أي يسارعون في معونتهم وموالاتهم {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} يعني: نفعل ذلك لأننا نخشى أن تنقلب الأمور فنحتاج إلى نصرهم إيانا، أي نخشى ألا يتم أمر محمد صلى الله عليه وسلم فيدور الأمر علينا، فنحتاج نصرتهم لنا {فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} بالقضاء من نصر محمد صلى الله عليه وسلم على من خالفه {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} قيل: بإتمام أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: عذاب لهم {فَيُصْبِحُوا} يعني هؤلاء المنافقون {عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ} من موالاة اليهود {نَادِمِينَ} أي لعل الله أن يأتي بأمر من عنده ينصر به المؤمنين على الكافرين من اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر؛ فيصبح هؤلاء المنافقون على ما أسروا في أنفسهم من موالاة اليهود والنصارى ومودتهم، وبغض المؤمنين؛ نادمين.

{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)}

{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} يعني يقول الذين آمنوا في وقت إظهار الله تعالى نفاق المنافقين {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ} حلفوا بالله {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي: حلفوا بأغلظ الأيمان {إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} أي: إنهم لمؤمنون، يريد أن المؤمنين حينئذ يتعجبون من كذب المنافقين، وحلفهم بالباطل {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} بطل كل خير عملوه {فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} خسروا الدنيا بافتضاحهم، والآخرة بالعذاب وفوات الثواب.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)}

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} من يرجع منكم عن دينه الحق الذي هو عليه اليوم، فيبدله ويغيره بدخوله في الكفر، إما في اليهودية أو النصرانية أو غير ذلك من صنوف الكفر {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} فسوف يجيء الله بقوم بدلاً منهم، هم خير من الذين ارتدوا، يحبهم الله ويحبون الله، قال الحسن: علم الله تبارك وتعالى أن قوماً يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم صلى الله عليه وسلم، فأخبر أنه سيأتي بقوم يحبهم الله ويحبونه، فلن يضر إلا نفسه {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} يعني: أرقاء رحماء بالمؤمنين، ولم يرد به الهوان، بل أراد أن جانبهم لين على المؤمنين {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي: أشداء غلاظ على الكفار يعادونهم ويغالبونهم، من قولهم: عزه أي غلبه. قال عطاء: أذلة على المؤمنين: كالولد لوالده والعبد لسيده، أعزة على الكافرين: كالسبع على فريسته، نظيره قوله تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ} يقاتلون لإعلاء كلمة الله {وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} يعني: لا يخافون في الله لوم الناس، وذلك أن المنافقين كانوا يراقبون الكفار ويخافون لومهم، وأخرج الشيخان في صحيحيهما عن عبادة بن الصامت قَالَ: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَعَلَى أَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَعَلَى أَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا، لَا نَخَافُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ» {ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} أي: محبتهم لله ولين جانبهم للمسلمين، وشدتهم على الكافرين، من فضل الله عليهم {وَاللهُ وَاسِعٌ} واسع الفضل، يعطيه من يشاء {عَلِيمٌ} بمن يستحقه.

قال ابن عباس: وعيد من الله أنه من ارتد منكم؛ أنه سيَستبدلُ خيراً منهم.