تفسير سورة المائدة 41-43

سورة المائدة 41-43

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)}

هذه الآية لها سبب نزول صحيح، نذكره كي يعيننا على فهمها فهماً صحيحاً
أخرج مسلم في صحيحه عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَهُودِيٍّ مُحَمَّمًا
-أي مسوّدًا وجهُه بالحُمم، أي بالفحم- مَجْلُودًا -أي مضروباً بالسوط ونحوه- فَدَعَاهُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «هَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ؟»، قَالُوا: نَعَمْ، فَدَعَا رَجُلًا مِنْ عُلَمَائِهِمْ، فَقَالَ: «أَنْشُدُكَ بِاللهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ» قَالَ: لَا، وَلَوْلَا أَنَّكَ نَشَدْتَنِي بِهَذَا لَمْ أُخْبِرْكَ، نَجِدُهُ الرَّجْمَ، وَلَكِنَّهُ كَثُرَ فِي أَشْرَافِنَا، فَكُنَّا إِذَا أَخَذْنَا الشَّرِيفَ تَرَكْنَاهُ، وَإِذَا أَخَذْنَا الضَّعِيفَ أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ، قُلْنَا: تَعَالَوْا فَلْنَجْتَمِعْ عَلَى شَيْءٍ نُقِيمُهُ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ، فَجَعَلْنَا التَّحْمِيمَ، وَالْجَلْدَ مَكَانَ الرَّجْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ»، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة: 41] إِلَى قَوْلِهِ {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} [المائدة: 41]، يَقُولُ: ائْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ أَمَرَكُمْ بِالتَّحْمِيمِ وَالْجَلْدِ فَخُذُوهُ، وَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالرَّجْمِ فَاحْذَرُوا، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فِي الْكُفَّارِ كُلُّهَا. انتهى

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ} كفر {الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} أي يبادرون إلى الكفر ويتعجلون فيه من شدة رغبتهم فيه، وحرصهم عليه {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ} من الذين يظهرون الإيمان بألسنتهم {وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} وقلوبهم خاوية من الإيمان، فهم في الحقيقة لم يؤمنوا، فإيمان الظاهر دون إيمان القلب ليس إيماناً حقيقة، بل هو نفاق، والمقصود المنافقون {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} يعني اليهود، وهؤلاء كلهم {سَمَّاعُونَ} أي: هم قوم سماعون {لِلْكَذِبِ} أي: قابلون للكذب مستجيبون له {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} أي يستجيبون لأقوام آخرين، وهؤلاء الآخرون لا يأتون مجلسك يا محمد، وهؤلاء اليهود {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} جمع كلمة {مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} أي: من بعد أن وضعه الله موضعه؛ فأحل حلاله، وحرم حرامه، أي لا يضعونه على ما أنزله الله، بل يبدلون كتاب الله الذي أنزل عليهم، ويغيرونه ليوافق أهواءهم، من ذلك تبديلهم الرجم في حد الزاني المحصن بالتحميم والجلد {يَقُولُونَ} لبعضهم البعض {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} أي: تعالوا لنتحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم فإن أفتاكم بالجلد والتحميم الذي حرفناه وبدلناه في التوراة في حد الزاني المحصن؛ فاقبلوا، واجعلوه حجة بينكم وبين الله، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ} وإن لم يفتكم بهذا، وأفتاكم بالرجم {فَاحْذَرُوا} من قبوله واتباعه، فلا تقبلوا منه، واحذروه أن يغير ما أنتم عليه، هذا يقولونه وهم يعلمون أن الحق في الرجم حتى في شريعتهم {وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ} كفره وضلالته {فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا} فلن تقدر على دفع أمر الله فيه {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} لم يرد هدايتهم، قال البغوي: وفيه رد على من ينكر القدر {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} أي: للمنافقين واليهود، فخزي المنافقين الفضيحة وهتك الستر بإظهار نفاقهم، وخزي اليهود الجزية أو القتل أو السبي أو النفي، ورؤيتهم من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيهم ما يكرهون {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} الخلود في النار.

{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)}

هؤلاء اليهود الذين وصفتهم لك {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} يسمعون القول الباطل ويقبلونه ويستجيبون له من قلة دينهم وعقلهم {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} وهو الحرام، كالرشوة، أي ومن كانت هذه صفته؛ كيف يطهر الله قلبه، وأنى يستجيب له؟! ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَإِنْ جَاءُوكَ} ليتحاكموا إليك {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} فأنت مخير، أي فلا عليك ألا تحكم بينهم؛ لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق، بل يريدون ما يوافق أهواءهم {وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ} فلا تحكم بينهم {فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} خير الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إذا حصل نزاع بينهم أي أهل الذمة وترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم، خيره في الحكم بينهم إن شاء حكم وإن شاء ترك. وقال: {وَإِنْ حَكَمْتَ} بينهم {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} أي بالعدل، وهو ما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى ولو كانوا ظلمة وأعداء، فلا يمنعك ذلك من العدل في الحكم بينهم {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي: العادلين.

قال غير واحد من السلف هذه الآية منسوخة بقوله تعالى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} فصار الحكم بينهم واجباً لا تخيير فيه، فعلى الحاكم إذا احتكم إليه أهل الذمة أن يحكم بينهم بالحق، وليس له ترك الحكم بينهم.

وقال آخرون هي محكمة غير منسوخة، والتخيير باق، وهذا هو الصحيح إن شاء الله، وهو اختيار الطبري؛ لأنه لا يصح دليل على النسخ.

فلا يجب على الحاكم المسلم إذا احتكم إليه أهل الذمة أن يحكم بينهم، بل هو مخير، ولكن إذا حكم بينهم فيجب أن يحكم بالعدل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. والله أعلم
قال السعدي: وليست هذه منسوخة، فإنه عند تحاكم هذا الصنف إليه يخير بين أن يحكم بينهم، أو يعرض عن الحكم بينهم، بسبب أنه لا قصد لهم في الحكم الشرعي إلا أن يكون موافقاً لأهوائهم.

وعلى هذا فكل مستفت ومتحاكم إلى عالم، يعلم من حاله أنه إن حكم عليه لم يرض، لم يجب الحكم ولا الإفتاء لهم، فإن حكم بينهم وجب أن يحكم بالقسط. انتهى
قلت: هذا في العالم، أما الحاكم والقاضي فيجب عليه الحكم بين المسلمين، والتخيير في غيرهم.

{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)}

{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ} وكيف يحكمك يا محمد هؤلاء اليهود بينهم، فيرضون بك حكما بينهم {وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ} التي أنزلتها على موسى، التي يقرون بها أنها حق، وأنها كتابي الذي أنزلته على نبيي، وأن ما فيه من حكم فمن حكمي، يعلمون ذلك ولا ينكرونه {فِيهَا حُكْمُ اللهِ} وهو الرجم، يعلمون أن حكمي فيها على الزاني المحصن الرجم.

{ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} يتركون الحكم به بعد العلم بحكمي فيه؛ جراءة عليّ وعصيانا لي.

قال الطبري: وهذا وإن كان من الله -تعالى ذكره- خطابا لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه تقريع منه لليهود الذين نزلت فيهم هذه الآية، يقول لهم تعالى: كيف تقرون أيها اليهود بحكم نبيي محمد صلى الله عليه وسلم مع جحود نبوته وتكذيبكم إياه، وأنتم تتركون حكمي الذي تقرون به أنه حق عليكم واجب، جاءكم به موسى من عند الله؟ يقول: فإذا كنتم تتركون حكمي الذي جاءكم به موسى، الذي تقرون بنبوته في كتابي؛ فأنتم بترك حكمي الذي يخبركم به نبيي محمد أنه حكمي أحرى، مع جحودكم نبوته. انتهى

{وَمَا أُولَئِكَ} الذين هذا فعلهم {بِالْمُؤْمِنِينَ} بك ولا بما جاءهم من الحق.