الآيات 23-27 من سورة آل عمران

تفسير سورة آل عمران 23-27

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)}

{ألم تر} أي ألم تنظر يا محمد {إلى} سوء صنيع {الذين} يعني اليهود {أوتوا} أي أعطوا {نصيباً} أي حظاً {من الكتاب} وهو التوراة، أي ألم تنظر يا محمد إلى سوء ما فعله اليهود الذين أعطاهم الله علم التوراة، أي أن فعلهم هذا تتعجب منه، وهو أنهم {يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم} اختلف أهل العلم في هذا الكتاب، فقال بعضهم دُعوا إلى القرآن، فقال قتادة: هم اليهود دعوا إلى حكم القرآن فأعرضوا عنه، أي دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان بالقرآن والتحاكم إليه فيما اختلفوا فيه؛ فرفضوا.

وقال آخرون: هو التوراة، أي دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم لمّا كذبوه إلى الرجوع إلى التوراة التي فيها بيان نبوته صلى الله عليه وسلم وصدق ما جاء به، وتكون حَكماً بينهم؛ فرفضوا ذلك، مع أن التوراة كتابهم الذي يزعمون الإيمان به، ولكنهم عرفوا الحق وكفروا به حسداً وعناداً.

وهذا ينطق على النصارى أيضاً فعندهم الإنجيل، وفيها بيان صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدق ما جاء به، ومع ذلك كذبوه، فقال تعالى: {ثم يتولى} أي يدبر {فريق منهم} جماعة من الذين أتوا الكتاب {وهم معرضون} منصرفون عنه مكذبون به، وهم بحقيقته عالمون.

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)}

{ذلك} أي التولي والإعراض الذي حصل منهم {بأنهم} أي بسبب أنهم، أي سبب توليهم وكفرهم وإعراضهم أنهم {قالوا لن تمسنا النار} أي لن تصيبنا النار في الآخرة، أي لن نعذب في جهنم {إلا أياماً معدودات} أي: إلا أيامًا قلائل {وغرهم} الغرور: هو الإطماع فيما لا يحصل منه شيء {في دينهم} أي: ثبتهم على دينهم اليهودية {ما كانوا يفترون} والافتراء: اختلاق الكذب.

أي أطمعهم وخدعهم ما كانوا يختلقون من الكذب من قولهم: لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات، وإن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وأنه تعالى وعد يعقوب عليه السلام ألا يعذب أولاده إلا تحلة القسم، فطمعهم وخدعهم كذبهم.

وخلاصة ذلك: أنهم استخفوا بالعقوبة واستسهلوها اتكالًا على اتصال نسبهم بالأنبياء، واعتمادًا على مجرد الانتساب إلى هذا الدين، واعتقدوا أن هذا كافٍ في نجاتهم.

ومن استخف بوعيد الله زعمًا منه أنه غير نازل حتمًا بمن يستحقه؛ تزول من نفسه حرمة الأوامر والنواهي، فيقدم بلا مبالاة على انتهاك حرمات الدين، ويتهاون في أداء الطاعات. وهذا الحاصل اليوم من كثير من المسلمين.

{فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)}

{فكيف إذا جمعناهم} أي فأي حال يكون حال هؤلاء القوم الذين قالوا هذا القول، وفعلوا ما فعلوا من إعراضهم عن كتاب الله واغترارهم بربهم، وافترائهم الكذب؟ وهذا وعيد لهم شديد، وتهديد غليظ، فما أعظم ما سيلقون من عقوبة الله وتنكيله بهم عند جمعهم {ليوم لا ريب فيه} أي لحساب يوم أو في يوم لا شك فيه، وهو يوم القيامة {ووفيت} أي: أعطيت {كل نفس ما كسبت} أي: جزاء ما كسبت من خير أو شر تاماً {وهم لا يظلمون} أي: لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم.

{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)}

{قل} يا محمد {اللهم} أي يا الله {مالك الملك} يعني: يا مالك الملك، أي: يا من له ملك الدنيا والآخرة خالصاً دون غيره {تؤتي الملك من تشاء} تعطي الملك من تشاء من عبادك، فتملكه وتسلطه على من تشاء {وتنزع الملك ممن تشاء} أي وتسلب الملك ممن تشاء من عبادك.

{وتعز من تشاء وتذل من تشاء} وتعز من تشاء بإعطائه الملك والسلطان وبسط القدرة له، وتذل من تشاء بسلبك ملكه وتسليط عدو عليه {بيدك الخير إنك على كل شيء قدير} أي كل ذلك بيدك وإليك، لا يقدر على ذلك أحد؛ لأنك على كل شيء قدير، دون سائر خلقك، ودون من اتخذه المشركون من أهل الكتاب والأميين من العرب إلها وربا يعبدونه من دونك، كالمسيح والأنداد التي اتخذها الأميون ربا.

قال ابن كثير: قل يا محمد معظماً لربك وشاكرا له ومفوضا إليه ومتوكلا عليه: اللهم مالك الملك أي لك الملك كله تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء أي أنت المعطي، وأنت المانع، وأنت الذي ما شئت كان، وما لم تشأ لم يكن. وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة، لأن الله تعالى حول النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي الأمي المكي، خاتم الأنبياء على الإطلاق، ورسول الله إلى جميع الثقلين: الإنس والجن، الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله، وخصه بخصائص لم يعطها نبيا من الأنبياء، ولا رسولا من الرسل في العلم بالله وشريعته، وإطلاعه على الغيوب الماضية والآتية، وكشفه له عن حقائق الآخرة، ونشر أمته في الآفاق في مشارق الأرض ومغاربها، وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان والشرائع، فصلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين ما تعاقب الليل والنهار. انتهى

{تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)}

{تولج الليل في النهار} تولج: تدخل، أي تدخل الليل في النهار، حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة، والليل تسع ساعات {وتولج النهار في الليل} حتى يكون الليل خمس عشرة ساعة، والنهار تسع ساعات، فما نقص من أحدهما زاد في الآخر {وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي} قال ابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة: معنى الآية يخرج الحيوان من النطفة وهي ميتة، ويخرج النطفة من الحيوان، وقال عكرمة والكلبي: تخرج الحي من الميت، أي: الفرخ من البيضة، وتخرج البيض من الطير، وقال الحسن وعطاء: يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن، وقال غيرهم: يخرج النبات الغض الطري من الحب اليابس، ويخرج الحب اليابس من النبات الحي النامي. ولا تعارض بين كل هذا، فكله صحيح {وترزق من تشاء بغير حساب} قال ابن كثير: أي تعطي من شئت من المال ما لا يعد ولا يُقدَر على إحصائه، وتُقتِّر على آخرين لما لك في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة والعدل.