الآيات 7-9 من سورة آل عمران

تفسير سورة آل عمران 7- 9

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)}

{هو} أي الله تبارك وتعالى {الذي أنزل عليك} يا محمد {الكتاب} أي القرآن {منه آيات محكمات} واضحات بينات الدلالة، لا يشكل معناهن ولا يلتبس، قال البغوي: سميت محكمات من الإحكام؛ كأنه أحكمها فمنع الخلق من التصرف فيها؛ لظهورها ووضوح معناها. انتهى {هن أم الكتاب} أي أصل القرآن، المعتمد عليهن في الأحكام، وأخذ المعاني المرادة لله تبارك وتعالى في كتابه، ويرجع إليهن عند الاشتباه {وأخر متشابهات} ويوجد في القرآن آياتٌ أخر غير المحكمات تدل بلفظها وتركيبها على أكثر من معنى فتلتبس وتشتبه، هذا معنى المحكم والمتشابه هنا.

وفي موضع آخر وصف الله تبارك وتعالى القرآن كلَّه بالإحكام في قوله {أحكمت آياته} بمعنى أنه كلَّه متقن، لا عيب فيه، وفي موضع آخر وصفه بأنه كلَّه متشابه في قوله {كتاباً متشابهاً} بمعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في الحق والحسن والصدق.

{فأما الذين في قلوبهم زيغ} ميل عن الحق؛ أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل؛ كالخوارج وغيرهم {فيتبعون ما تشابه منه} يعني يأخذون بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، ويتعلقون به ويستدلون به على ضلالهم، فلا يأخذون بالمحكم ويجعلونه أصلاً، ويفهمون المتشابه بناء على المحكم كما يفعل الراسخون في العلم الطالبون للحق، بل يعكسون فيأخذون بالمتشابه ويحملون المحكم عليه، يفعلون ذلك {ابتغاء} طلب {الفتنة} الشبهات واللبس؛ ليضلوا بها جهالهم، قال ابن كثير: أي الإضلال لأتباعهم إيهاماً لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهو حجة عليهم لا لهم؛ كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} وتركوا الاحتجاج بقوله { إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} وبقوله {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرِّحة بأنه خَلْق من مخلوقات الله وعبدٌ ورسول من رسل الله {وابتغاء تأويله} تفسيره على هواهم، قال ابن كثير: أي تحريفه على ما يريدون، وذكر حديث عائشة في الصحيحين: قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ» {وما يعلم تأويله} أي تفسيره {إلا الله والراسخون} الثابتون المتمكنون {في العلم} كذلك يعلمون تفسير المتشابه برده إلى المحكم، وهم مع علمهم {يقولون آمنا به} أي بالمتشابه أنه من عند الله، ونفهمه بناء على المحكم، فمعناه الذي يوافق المحكم هو الحق الذي نأخذ به، ونترك المعنى الآخر {كل} من المحكم والمتشابه {من عند ربنا} تبارك وتعالى.

قال البغوي: وسئل مالك بن أنس - رضي الله عنه - عن الراسخين في العلم، قال: العالم العامل بما علم المتبع لما علم. وقيل: الراسخ في العلم من وجد في علمه أربعة أشياء: التقوى بينه وبين الله، والتواضع بينه وبين الخلق، والزهد بينه وبين الدنيا، والمجاهدة بينه وبين نفسه. انتهى

هذا التفسير الذي ذكرناه على أحد القولين في معنى قوله {ولا يعلم تأويله} إذا قلنا إن التأويل هنا بمعنى التفسير؛ فالله تبارك وتعالى يعلمه وكذلك العلماء الراسخون في العلم يعلمونه برده إلى المحكم، ويكون الوقف على قوله تبارك وتعالى والراسخون في العلم.

وعلى القول الآخر أن التأويل هنا بمعنى حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه، أي ما يصير الأمر إليه، وحقيقة ما يحدث في الآخرة مثلاً وكوقت قيام الساعة وما شابه، فيكون الوقف على لفظ الجلالة، فالله تبارك وتعالى وحده هو الذي يعلم تأويله بهذا المعنى، والراسخون في العلم يكون منهم الإيمان به فقط. والله أعلم

{وما يذكر} وما يتعظ بما في القرآن {إلا أولوا الألباب} أصحاب العقول.

قال ابن كثير رحمه الله: يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات، هن أم الكتاب، أي بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فمن رد ما اشتبه إلى الواضح منه وحكَّم محكمَه على متشابهه عنده؛ فقد اهتدى، ومن عكس انعكس، ولهذا قال تعالى {هن أم الكتاب} أي أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه {وأخر متشابهات} أي تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئاً آخر من حيث اللفظ والتركيب لا من حيث المراد. انتهى

{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)}

{ربنا لا تزغ قلوبنا} أي: ويقول الراسخون: ربنا لا تزغ قلوبنا، أي: لا تملها عن الحق والهدى كما أزغت قلوب الذين في قلوبهم زيغ {بعد إذ هديتنا} وفقتنا لدينك والإيمان بالمحكم والمتشابه من كتابك {وهب لنا من لدنك} أعطنا من عندك {رحمة} توثيقا وتثبيتا للذي نحن عليه من الإيمان والهدى {إنك أنت الوهاب} يعني: إنك أنت المعطي عبادك التوفيق والسداد للثبات على دينك وتصديق كتابك ورسلك.

{رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)}

{ربنا إنك جامع الناس ليوم} أي: تجمعهم في يوم {لا ريب فيه} أي: لا شك فيه، وهو يوم القيامة، فتجازيهم بأعمالهم كما وعدت بذلك؛ فاغفر لنا يومئذ، واعف عنا، فإنك لا تخلف وعدك أن من آمن بك واتبع رسولك، وعمل بالذي أمرته به في كتابك أنك غافره يومئذ {إن الله لا يخلف الميعاد} بمعنى الوعد.