الآيات 218-219 من سورة البقرة

تفسير سورة البقرة الآية 218-219

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)}

{إن الذين آمنوا} «الإيمان» في اللغة التصديق، وأما في الشرع فهو اعتقاد بالقول وقول باللسان وعمل بالجوارح والأركان {والذين هاجروا} «الهجر» في اللغة الترك؛ ومنه: «هجرت فلاناً» إذا لم تكلمه؛ وفي الشرع له معنيان: عام، وخاص؛ فأما العام فهو هجر ما حرم الله عزّ وجلّ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» ؛ وأما الخاص فهو أن يهجر الإنسان بلده ووطنه لله تبارك وتعالى ، بأن يكون هذا البلد بلد كفر لا يقيم فيه الإنسان دينه؛ فيهاجر من أجل إقامة دين الله، وحماية نفسه من الزيغ، كما جاء في الحديث في الصحيحين: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله..» ؛ والمراد بالهجرة في الآية ما يشمل المعنيين: العام، والخاص.

{وجاهدوا في سبيل الله} «الجهاد في سبيل الله» هو قتال الكفار لتكون كلمة الله هي العليا {أولئك} أي الموصوفون بالإيمان والهجرة والجهاد {يرجون رحمة الله} «الرجاء» الطمع في حصول ما هو قريب؛ ومعلوم أن الطمع بما هو قريب لا يكون قريباً إلا بفعل ما يكون قريباً به؛ وهؤلاء فعلوا ما تكون الرحمة قريبة منهم؛ والذي فعلوه: الإيمان، والهجرة، والجهاد؛ فإذا لم يرْجُ هؤلاء رحمة الله فمن الذي يرجوها؟! فهؤلاء هم أهل الرجاء؛ فالرجاء لا بد له من أسباب؛ وحسن الظن لا بد له من أسباب. يقول أهل العلم: "من رجا طلب ومن خاف هرب".

فهؤلاء يرجون أن يرحمهم الله فإذا رحمهم نالوا خير الدنيا والآخرة.

قوله تعالى: {والله غفور رحيم} قد يقول قائل: ما محل ذكر اسم الله «الغفور» هنا مع أن هؤلاء قاموا بأعمال صالحة؟ الجواب أن القائم بالأعمال الصالحة قد يحصل منه شيء من التفريط، والتقصير؛ ولذلك شرع للمصلي أن يستغفر الله ثلاثاً بعد السلام؛ وأما ذكر «الرحيم» فواضح مناسبته؛ لأن كل هذه الأعمال التي عملوها من آثار رحمته؛ وسبق الكلام على هذين الاسمين الكريمين.

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)}

{يسألونك عن الخمر والميسر} أي يسألك يا أيها الرسول أصحابك عن الخمر وشربها، والمراد بالخمر كل شراب خامر العقل، فستره وغطى عليه؛ على وجه اللذة، والطرب.

وقد أنزل الله في الخمر أربع آيات: آية تبيحه، وهي قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } [النحل: 67]، وآية تعرض بالتحريم، وهي هذه الآية؛ وآية تمنعه في وقت دون آخر، وهي قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } [النساء: 43]؛ وآية تمنعه دائماً مطلقاً، وهي آية المائدة التي نزلت في السنة الثامنة من الهجرة؛ وهي قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) }

وقوله تعالى: {والميسر} المراد به القمار، بهذا فسره السلف رضي الله عنهم؛ وهو كل كسب عن طريق المخاطرة، والمغالبة؛ وضابطه: أن يكون فيه بين غانم، وغارم.

{قل} أي لمن سأل عن الخمر والميسر {فيهما} أي في الخمر والميسر {إثم كبير} أي عظيم، وفي قراءة: {كثير} ؛ والفرق بينهما أن الكبر تعود إلى الكيفية؛ والكثرة تعود إلى الكمية، والمراد بالإثم الكبير قالوا: هو في الخمر أن شارب الخمر يضيع عقله فلم يعد يعرف ربه فيغيب عنه ذلك وهو أعظم الإثم، وأما في الميسر فلما فيه من الاشتغال به عن ذكر الله، وعن الصلاة، ووقوع العداوة والبغضاء بين المتياسرين بسببه، وهذا كله تترتب عليه آثام كثيرة {ومنافع للناس} ؛ جمع منفعة؛ منافع الخمر كانت أثمانها قبل تحريمها، فكانوا يستفيدون منها بالتجارة بها، وما يصلون إليه بشربها من اللذة، ومنفعة الميسر فيما يحصلون عليه من القمار {وإثمهما أكبر من نفعهما} والإثم بشرب الخمر، وبالقمار؛ أعظم وأكبر مضرة عليهم من النفع الذي يتناولون بهما؛ لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض وقاتل بعضهم بعضا، وإذا ياسروا وقع بينهم فيه بسببه الشر؛ فأداهم ذلك إلى ما يأثمون به.

قال قتادة أحد أئمة التابعين: قوله: " {يسألونك عن الخمر والميسر، قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} [البقرة: 219] فذمهما الله ولم يحرمهما لمِا أراد أن يبلغ بهما من المدة والأجل، ثم أنزل الله في سورة النساء أشد منها: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} [النساء: 43] فكانوا يشربونها، حتى إذا حضرت الصلاة سكتوا عنها، فكان السكر عليهم حراماً. ثم أنزل الله جل وعز في سورة المائدة بعد غزوة الأحزاب: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر} [المائدة: 90] إلى: {لعلكم تفلحون} [المائدة: 90] فجاء تحريمها في هذه الآية قليلها وكثيرها، ما أسكر منها وما لم يسكر، وليس للعرب يومئذ عيش أعجب إليهم منها ". انتهى

{ويسألونك ماذا ينفقون} أي ويسألك يا أيها الرسول أصحابك: أي شيء ينفقون من أموالهم فيتصدقون به {قل العفو} فقل لهم يا أيها الرسول أنفقوا من أموالكم العفو، وهو الفضل، أي ما زاد على نفقاتكم ونفقات من تلزمكم نفقاتهم من الأزواج والعيال وغيرهم

قال الطبري بعدما ذكر الخلاف في العفو، قال: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى العفو: الفضل من مال الرجل عن نفسه، وأهله في مؤونتهم وما لا بد لهم منه. وذلك هو الفضل الذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإذن في الصدقة، وصدقته في وجه البر. انتهى

والتصدق بالفضل على الاستحباب، وهو بيان لما يحبه الله تبارك وتعالى من النفقة، لا على الوجوب.

والصدقة لا تجوز مع تضييع الحقوق الواجبة من النفقة على العيال. وتكلم هنا ابن جرير بكلام نفيس طيب حول هذه المسألة، ولولا خشية الإطالة لذكرناه.

{كذلك يبين الله لكم الآيات} أي كما فصل لكم هذه الأحكام وبينها وأوضحها؛ كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه ووعده ووعيده.

{لعلكم تتفكرون} «التفكر» إعمال الفكر للوصول إلى الغاية، لعلكم تتفكرون {في الدنيا والآخرة} قال ابن جريج: أما الدنيا فتعلمون أنها دار بلاء ثم فناء، والآخرة دار جزاء ثم بقاء، فتتفكرون، فتعملون للباقية منهما. انتهى

في الدنيا والآخرة جاءت في الآية التي بعدها.