تفريغ الدرس الخامس من شرح كتاب الصيام من بلوغ المرام الجزء الثاني

والحديث الأول حديث جابر يدل على عدم جواز الصيام في السفر لمن شق عليه الصوم لقول النبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أولئك العصاة أولئك العصاة " .

والحديث الثاني وهو حديث حمزة بن عمرو يدل على جواز الصيام في السفر لمن لم يشق عليه .

وقد اختلف أهل العلم في حكم صوم رمضان في السفر ؛ فقالت طائفة من العلماء : لا يجزئ الصوم عن الفرض في السفر ، بل من صام في السفر وجب عليه قضاؤه في الحضر ؛ أي أبطلوا صوم الفرض في حال السفر مطلقا ، واحتجوا بقول الله تعالى { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَو ْعَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }.

قالوا : فالواجب عليه أيام أُخَر غير أيام السفر والمرض .

واحتجوا بالحديث الأول أيضا الذي معنا ( حديث جابر ) .

وكذلك احتجوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " ليس من البر الصيام في السفر " هذا قول .

وقال جمهور علماء الإسلام - وهو الصواب - بأن صيام رمضان في السفر جائز وهو صحيح ، ولا يجب على من صام رمضان وهو مسافر لا يجب عليه أن يقضي .

ومعنى الآية عندهم { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر } فأفطر { فعدة من أيام أخر} .

وإن لم يفطر وصام فصيامه صحيح ، واستدلوا بالأحاديث الكثيرة التي تدل على صحة الصيام في السفر منها حديث حمزة بن عمرو الذي تقدم معنا فقد قال له النبي - صلى الله عليه وسل :" هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه " أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لحمزة هاهنا بالصيام في السفر ؛ دل ذلك على جوازه .

ومنها أيضاً حديث أنس " كنا نسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم " .

ومنها حديث أبي الدرداء قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر ، وما فينا صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله بن رواحة .

فهذا كله يدل على جواز الصيام في السفر .

فيكون معنى الآية غير ما ذهب إليه الأولون .

وأما قوله - صلى الله عليه وسل "أولئك العصاة " ؛ فهي واقعة عين ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أولئك القوم الذين تركوا الإقتداء به مع أنه فعله كي يقتدوا به ، فأفطر هو عليه الصلاة والسلام ليقتدوا به فلم يفعلوا فقال : " أولئك العصاة " لعدم اقتدائهم به عليه الصلاة والسلام .


وأما حديث " ليس من البر الصيام في السفر " فمعناه أن الصيام في السفر ليس من البر الذي يُتسابق إليه ويُتنافس فيه ؛ فقد يكون الفطر أفضل من الصيام في السفر إذا كان هناك مشقة أو كان الفطر يساعد على الجهاد مثلا ، والله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه وكما يكره أن تؤتى معاصيه .

وسبب هذا الحديث ، حديث " ليس من البر الصيام في السفر " ؛ سببه يدل على ذلك .

فسببه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في أحد أسفاره فرآى الناس متزاحمين ورجل قد ضُلّل عليه فسألهم عن أمره ؟ فقالوا : إنه صائم وبلغ به الظمأ هذا الحد فقال - عليه الصلاة والسلام - :" ليس من البر الصيام في السفر " ، أي الصيام الذي يؤدي بالشخص إلى هذه الحال ، هذا ليس من البر.

واختلف أهل العلم في مسألة أخرى ، وهي هل الأفضل الصيام أما الفطر في السفر ؟

الذين يقولون بأن صيام رمضان صحيح في السفر اختلفوا فمنهم من قال : الصيام أفضل .

ومنهم من قال : بل الفطر أفضل .

ومنهم من قال : هما سواء .

فذهب مالك والشافعي إلى أن الصوم أفضل لمن لا يلحقه مشقة .

وذهب الإمام أحمد إلى أن الفطر أفضل ولو لم يلحق الصائم مشقة .

والظاهر - والله أعلم - أن الشخص يختار ما هو أخف عليه وأبعد عن المشقة هذا الأفضل . والله أعلم

وأما متى يفطر المسافر الذي عزم على السفر ؟ المسافر الذي عزم على السفر له أن يفطر متى استعد للسفر وعزم عليه وجهز أموره وقارب على الانطلاق ، لحديث ابن عباس في البخاري خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم في رمضان إلى حُنين ، والناس مختلفون ؛ فصائم ومفطر ، فلما استوى على راحلته دعا بإناء من لبن أو ماء فوضعه على راحلته أو على راحته ثم نظر الناس المفطرون أفطروا .

وعن أنس أنه رُحِّلت له راحلته ولبس ثياب السفر فدعا بطعام فأكل فقيل له سنة ؟ قال : سنة ، ثم ركب .

أي أنه أكل قبل أن يركب بعد أن عزم على السفر واستعد له هذا هو وقت الإفطار بالنسبة لمن عزم على السفر .

قال الترمذي رحمه الله : وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث وقالوا : للمسافر أن يفطر في بيته قبل أن يخرج ، وليس له أن يقصر الصلاة حتى يخرج من جدار المدينة أو القرية . وهو قول إسحاق بن راهويه رحمه الله .


ثم قال المؤلف رحمه الله : وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : رُخّص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا ولا قضاء عليه " رواه الدارقطني والحاكم وصححه .

هذا صحيح عن ابن عباس رحمه الله ورضي الله عنه ، وأصله ما أخرجه البخاري عن ابن عباس أنه قال : في قول الله تعالى { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَة ٌطَعَامُ مِسْكِينٍ } قال ابن عباس : ليست منسوخة ، هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا . رواه البخاري .

وخالفه في هذا سلمة بن الأكوع وعبد الله بن عمر فقالا : إن الآية منسوخة بقول الله تبارك وتعالى { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } أي كان في بداية فرض الصيام من أراد أن يفطر وهو قادر على الصيام ؛ فله أن يفطر إذا أطعم .

فله أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا هذا ما فُرض بداية ، ثم نُسخ ذلك بقول الله تبارك وتعالى { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } .

وهذا القول أصح وأقوى من قول ابن عباس ؛ لأن ظاهر الآية يُسنده فمعني قول الله تبارك وتعالى { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } على الذين يستطيعون عليه ويقدرون عليه .

فقول سلمة بن الأكوع وابن عمر أصح وأقوى إن شاء الله .

واختلف أهل العلم فيمن لا يقدر على الصيام مطلقا سواء كان لمرض أو لكبر سن لا يقدر على الصيام ماذا عليه ؟

ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا .

واستدلوا بقول ابن عباس .

وذهب المالكية وبعض الشافعية وأبو ثور وابن المنذر وربيعة ومكحول وغيرهم إلى عدم وجوب الإطعام ، فقالوا : يفطر وما عليه شيء ؛ إذ لم يكلفه الله سبحانه وتعالى إلا بالصيام ولم يستطع عليه ؛ فسقط عنه الصيام ولا يوجد دليل يدل على وجوب الإطعام window.print(); setTimeout(function() { window.close(); }, 1);