تفريغ الشريط الرابع من شرح كتاب الصيام من بلوغ المرام الجزء الأول

شرح كتاب الصيام من بلوغ المرام

(الدرس الرابع )

للشيخ

أبي الحسن علي الرملي

- حفظه الله -

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد :

فنكمل إن شاء الله تبارك وتعالى في درسنا هذا شرح كتاب الصيام من بلوغ المرام وهو الدرس الرابع من دروس هذا الشرح .

قال المؤلف رحمه الله : وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال، فقال رجل من المسلمين : فإنك تواصل يا رسول الله ؟ فقال : وأيكم مثلي ؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني .

فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوماً ثم يوماً ثم رؤوا الهلال ، فقال : لو تأخر الهلال لزدتكم كالمُنَكِّل لهم حين أبوا أن ينتهوا " متفق عليه

هذا الحديث متفق عليه كما قال المؤلف رحمه الله أي أخرجه البخاري و مسلم من حديث أبي هريرة

والوصال هو صوم يومين فصاعداً من غير أكل وشرب بينهما .

أي عندما تغرب الشمس لا تفطر تبقى صائما إلى اليوم الثاني هذا يسمى وصالاً .

هذا الوصال نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه أصحابه ، فقال رجل من المسلمين : فإنك تواصل يا رسول الله ؟ وأفعاله عليه الصلاة والسلام كانوا يتأسون بها فقال عليه الصلاة والسلام : وأيكم مثلي ؟ أي هذا الوصال خاص بي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني " دل بهذا على أن هذا الفعل خاص به - صلى الله عليه وسلم - عندنا قاعدة أصولية أن الأصل في أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها للتأسي أي يشرع لنا أن نتأسى به بها لقول الله تبارك وتعالى { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }.

دل ذلك على أن التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مطلوب ومرغب به لكن هناك أفعال خاصة به - صلى الله عليه وسلم - هذه الأفعال تبيَّن في أدلة خاصة ، فإن جاء دليل يدل على أن الفعل خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيجب أن يُستثنى من التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيه ، كما في هذا الحديث الذي معنا ، كان عليه الصلاة والسلام يواصل في الصيام أي يصوم يوماً ثم يتبعه بيوم آخر دون أن يفطر ففعل ذلك الصحابة فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا الفعل .

وقال لهم : " أيكم مثلي ؟ " أي لا أحد مثلي ، في ماذا ؟ في كون الله تبارك وتعالى يطعمه ويسقيه .

ما معنى الإطعام والسقيا هنا ؟ معناه أن الله يجعل له قوة الطاعِم الشارب وليس معناه أنه يطعَم ويسقى حقيقة لأننا إذا قلنا إنه يطعم ويسقى حقيقة لا يكون مواصلاً .

ففي هذا الحديث نهي من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه وهو يتعدى لأمته عن الوصال فأبى الصحابة قطع الوصال فواصل بهم - صلى الله عليه وسلم - يوماً ثم يوماً وكان هذا في آخر الشهر فلما انتهى الشهر توقف عن الوصال .

وهذا فعله كالمنكل لهم أي عقاباً لهم على عدم استجابتهم لنهيهم عن هذا الفعل عاقبهم وأراد أن يواصل أكثر من يومين ، فلولا أنهم رؤوا الهلال لواصل بهم أكثر عقاباً لهم على فعلهم هذا .

فدل هذا الحديث على عدم جواز الوصال .

وقد اختلف أهل العلم في حكم الوصال ؛ فقال جمهور العلماء : إنه حرام ، الوصال حرام ، واستدلوا بهذا الحديث ( بهذا النهي ) وكذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - :" إذا أقبل الليل من هاهنا - وأشار عليه الصلاة والسلام قِبَل المشرق - وأدبر الليل من هاهنا - أي من جهة المغرب - وغربت الشمس فقد أفطر الصائم " .

قالوا : فقد أفطر الصائم أي يجب عليه أن يفطر ، ولا يجوز أن يواصل .

القول الثاني لأهل العلم : أنه جائز ( أن الوصال جائز )، واستدلوا بمواصلة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه قالوا : لو كان حراماً لما واصل بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فكونه واصل بهم بعد النهي دل ذلك على أنه جائز وليس محرماً ، وإنما النهي كان رفقاً بأمته ورحمة بهم فقط .

القول الثالث في المسألة : أنه جائز إلى السحر فقط ، علمنا أن وقت السحر آخر الليل .

فقالوا يجوز الوصال إلى وقت السحر.

قالوا : مع أن الأولى ترك ذلك أصلاً واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :" لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر " وهذا حديث أخرجه البخاري في صحيحه وهو صحيح .

هذا القول الثالث وهو الأخير أنه يجوز الوصال إلى السحر فقط هو قول أحمد وإسحاق وابن المنذر ( أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي بكر بن المنذر وابن خزيمة ) يعني بعض أهل الحديث ، هؤلاء كلهم من أهل الحديث ، وجماعة من المالكية وهذا القول أصح الأقوال لماذا ؟

لأن به نجمَع بين جميع الأحاديث ، ولا نهمل شيئا منها ، والعمل بجميع الأحاديث أولى من ترك بعضها .

قالوا : وأما إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه على الوصال بعد النهي ( الوصال أصبح عندنا الآن كم معنى له ؟ له معنيان : الوصال : بمعنى أن تربط صيام اليوم الأول باليوم الثاني وأكثر .

والوصال : بمعنى أن تبقى صائماً إلى السحر .

الوصال بالمعنى الأول منهي عنه فهو محرم .

والوصال بالمعنى الثاني جائز وتركه أفضل .

وقالوا : وأما إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه على الوصال بعد النهي فأراد به التنكيل أي العقاب ولم يرد به التقرير حتى نقول إنه جائز ؛ لأن الصحابة واصلوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقرهم عليه ، هو لم يقرهم على ذلك ولكن تابع معهم هذا الفعل كي يعاقبهم على عدم الالتزام بالنهي لذلك واصل بهم ، فهذا الفعل منه - صلى الله عليه وسلم - ليس إقراراً لهم كي نقول هو جائز بل هو عقاب لهم .

وبما أنه عقاب إذاً يدل على عدم الجواز لا يدل على الجواز ، وهذا المعنى مبين في نفس الحديث .

وكونه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الوصال إلى اليوم التالي رحمة بهم لا يمنع أن يكون النهي للتحريم ، بل يؤكده ؛ فإن من رحمته بهم أن حرمه عليهم فكونه نهاهم رحمة بهم لا يدل على أن ذلك جائزاً بل يدل على أنه محرم لا يجوز حتى وإن كان النهي رحمة بهم ورأفة بل من كمال رحمته بهم أن نهاهم عن هذا الفعل نهائياً .

ومن واصل إلى السحر لا يكون مواصلاً بالمعنى المنهي عنه وهو متابعة الصيام إلى اليوم التالي .

 هذا خلاصة القول في هذا الموضوع ( أي موضوع الوصال ) ؛ أنه لا يجوز - يَحرم - الوصال الذي بمعنى متابعة الصيام من اليوم الأول إلى اليوم الثاني أو الثالث أو الرابع هذا يحرم ، أما الوصال بأن تتابع الصيام إلى السحر فهذا جائز وإن كان تركه هو الأفضل والأحسن والمستحب أن تعجل في الفطر .

 وعنه رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " رواه البخاري وأبو داود واللفظ له ( أي لأبي داود ) .

 هذه المسألة الأولى من المسائل التي اختلف أهل العلم في كونها تبطل الصيام أم لا تبطله ، وهي قول الزور والعمل به والجهل والغيبة وما شابه ذلك ، هل هذه الأشياء تبطل الصيام أم لا تبطله ؟

قال هنا عليه الصلاة والسلام " من لم يدع قول الزور " قول الزور هو الكذب ، وقال بعض أهل العلم : هو كل قول محرم ؛ تدخل فيه الغيبة ، والنميمة ، والبهتان ، ويدخل فيه الكذب إلى آخر هذه الأقوال المحرمة .

والجهل الذي هو السفه بمعنى رفع الأصوات في الأسواق وسب الناس وشتمهم وما شابه ذلك ؛ فهذه محرمة في الصيام وفي غير الصيام لكن تحريمها في الصيام أشد تأكيدا .

قال " من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " أي أن المقصود الأعظم من الصيام هو ماذا ؟ هو تقوى الله سبحانه وتعالى وصلاح النفس وليس هو مجرد التجويع والتعطيش ، يؤكد هذا المعنى قول الله تبارك وتعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ } ماذا ؟ {لعلكم تتقون } هذه هي الحكمة من شرعية الصيام .

والذي مارس الصيام وتعود عليه يعلم من نفسه كم يجلب له الصيام من تقوى ؟ وكم يجلب له من زيادة في الإيمان ؟ هذا هو المقصود من الصيام .

فالصيام سبب من أسباب زيادة الإيمان في القلب . قال : " فليس لله حاجة " الله سبحانه وتعالى لا يحتاج لأحد لكمال ملكه وكمال قدرته سبحانه وتعالى ، وكمال قوته ؛ فهو لا يحتاج لأحد .

والمقصود بقوله " فليس لله حاجة " أي لا يريد الله تبارك وتعالى منكم صياماً فيه جهل وقول زور ، بل يريد منكم صياماً يؤدي بكم إلى التقوى وإلى الصلاح وإلى ترك كل ما نهاكم عنه .

في هذا الحديث تأكيد تحريم قول الزور على الصائم وأنه ينقص أجره بفعل الزور والجهل ، وهل يفطر الصائم إن وقع منه ذلك ؟ اختلف أهل العلم في هذه المسألة ؛ والصحيح أنه لا يفسد الصوم ، ولكنه ينقص الأجر ؛ لأن النهي عن قول الزور والجهل ليس خاصاً بالصيام بل هو عام ويتأكد في الصيام . والله أعلم .

فلو كان خاصاً بالصيام لقلنا إنه يبطل الصيام ، ولكن بما أنه حكم عام محرم في الصيام وفي غير الصيام فلا يبطل الصيام . والله أعلم .

 ثم قال المؤلف رحمه الله : وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبِّل وهو صائم ويباشر وهو صائم ، ولكنه كان أملككم لأَرَبه " متفق عليه واللفظ لمسلم وزاد في رواية له " في رمضان "

 أي كان يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم في رمضان ، القُبلة معروفة .

والمباشرة : مباشرة الرجل أهله أن يُلصق بشرته ببشرتها ، أي يلمسها ويقبلها ونحو ذلك دون جماع ، هذا المراد هنا بالمباشرة .

وتطلق أحياناً المباشرة ويراد بها الجماع كما في قول الله تبارك وتعالى { فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ }.

لكن المباشرة هنا المراد بها ما ذكرنا ، غير الجماع ، لا يقصد بها المجامعة في هذا الموضع ؛ لذلك قالت عائشة رضي الله عنها : ولكنه كان أملككم لِأَرَبِه " هذه الرواية رويت " الإِرْب " ورويت " الأَرَب " .

رويت الإِربُ بكسر الهمزة وسكون الراء ، ورويت بفتح الهمزة وفتح الراء .

روايتان في هذا الحديث .

الأَرَب تعني أنه كان قادراً على منع نفسه من الجماع ، الأَرَب : بمعنى الحاجة ، وتعني عائشة رضي الله عنها أنه كان قادراً على منع نفسه من الجماع .

والرواية الثانية : الإِرْبُ بكسر الهمزة وسكون الراء ، لها معنيان :

الأول : بنفس معنى الرواية الأولى ( الحاجة ) .

والمعنى الثاني : العضو ، والمقصود هنا الذكر خاصة .

وبالجملة المعنى واحد أي أنه كان قادراً على ضبط نفسه عند المباشرة ، كان قادراً على منع نفسه من الجماع ، وعن الإنزال .

فهذا الحديث يدل على جواز التقبيل والمباشرة في الصيام ( جواز التقبيل والمباشرة بالعضو التناسلي وغيره ).

ولا حرج في ذلك لمن كان قادراً على أن يملك نفسه .

وأما من لم يكن قادراً على ذلك فلا يجوز له أن يباشر سداً للذريعة ....يتبع