منهج التيسير في الفقه الإسلامي/ الجزء الثالث

منهج التيسير في الفقه الإسلامي

الجزء الثالث

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ،

أما بعد ؛

فقد علمنا مما تقدم أن الشريعة الإسلامية سهلة ويسيرة ، وعلمنا معنى وصفها بالسهولة واليسر ، وذكرنا أن الأدلة المتقدمة تدل بالجملة على أن التيسير مقصد من مقاصد الشريعة المعتبرة .

ومقاصد الشريعة هي : " المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها " . كما عرفها الطاهر بن عاشور في كتابه : " مقاصد الشريعة الإسلامية " (ص50)، وتعرف باستقراء أدلة الشريعة .

ومن المعلوم عند أهل العلم – وهو الذي ذكره ابن عبد السلام في " قواعد الأحكام " ، والشاطبي في " الموافقات " – أن المشقة ملازمة للأحكام التكليفية ، وهو أمر واضح، ولو اعتبرنا منهج التيسير دائماً عند كل مشقة ؛ لأبطلنا الكثير من مقاصد الشريعة الأخرى التي هي آكد من مقصد التيسير ؛ كتحقيق المصالح وتكميلها ، ودفع المفاسد وتقليلها ، بل لأدى ذلك إلى تناقض الشريعة ؛ فإن المشقة ملازمة لتكاليفها .

فلابد من معرفة المراد من معنى المشقة المضادة للتيسير الذي وصفت به الشريعة الإسلامية ، فبمعرفة هذه المشقة يتبين لنا بطلان منهج التيسير ( تتبع الرخص ) الذي سلكه المتأخرون ، وحملوا عليه أدلة الشريعة .

قال الشاطبي في " الموافقات " (2/207) : " ... ولا بد قبل الخوض في المطلوب من النظر في معنى المشقة؛ وهى في أصل اللغة ؛ من قولك : شق عليّ الشيء يشق شقاً ومشقة إذا أتعبك ، ومنه قوله تعالى : { لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس } والشق هو الاسم من المشقة ، وهذا المعنى إذا أخذ مطلقاً من غير نظر إلى الوضع العربي اقتضى أربعة أوجه اصطلاحية :

أحدها : أن يكون عاماً في المقدور عليه وغيره ، فتكليف ما لا يطاق يسمى مشقة من حيث كان تطلُّب الإنسان نفسه بحمله مُوقِعاً في عناء وتعب لا يجدي ، كالمقعد إذا تكلف القيام ، والإنسان إذا تكلف الطيران في الهواء ، وما أشبه ذلك فحين اجتمع مع المقدور عليه الشاق الحمل إذا تحمل في نفس المشقة سمي العمل شاقا والتعب في تكلف حمله مشقة .

والثاني : أن يكون خاصاً بالمقدور عليه إلا أنه خارج عن المعتاد في الأعمال العادية بحيث يشوش على النفوس في تصرفها ويقلقها في القيام بما فيه تلك المشقة ،

إلا أن هذا الوجه على ضربين :

أحداهما :أن تكون المشقة مختصة بأعيان الأفعال المكلف بها ، بحيث لو وقعت مرة واحدة لوجدت فيها ، وهذا هو الموضع الذي وضعت له الرخص المشهورة في اصطلاح الفقهاء كالصوم في المرض والسفر والإتمام في السفر وما أشبه ذلك .

والثاني : أن لا تكون مختصة ، ولكن إذا نظر إلى كليات الأعمال والدوام عليها صارت شاقة ولحقت المشقة العامل بها ، ويوجد هذا في النوافل وحدها إذا تحمل الإنسان منها فوق ما يحتمله على وجه ما إلا أنه في الدوام يتعبه حتى يحصل للنفس بسببه ما يحصل لها بالعمل مرة واحدة في الضرب الأول ، وهذا هو الموضع الذي شرع له الرفق والأخذ من العمل بما لا يُحصل مللاً حسبما نبه عليه نهيه عليه الصلاة و السلام عن الوصال وعن التنطع والتكلف ؛ وقال :

" خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لن يمل حتى تملوا " وقوله : " القصد القصد تبلغوا " ، والأخبار هنا كثيرة ، وللتنبيه عليها موضع آخر . فهذه مشقة ناشئة من أمر كلّي ، وفى الضرب الأول ناشئة من أمر جزئي " .

قلت : هذان النوعان من المشقة منفيان في الشريعة ، والتيسير الموصوفة به الشريعة هو الذي رفع هذين النوعين من المشقة .

ثم قال رحمه الله : " والوجه الثالث أن يكون خاصاّ بالمقدور عليه وليس فيه من التأثير في تعب النفس خروج عن المعتاد في الأعمال العادية ، ولكن نفس التكليف به زيادة على ما جرت به العادات قبل التكليف ،شاق على النفس ؛ ولذلك أطلق عليه لفظ التكليف ، وهو في اللغة يقتضي معنى المشقة؛ لأن العرب تقول :كلفته تكليفاً إذا حملته أمراً يشق عليه ، وأمرته به ، وتكلفت الشيء إذا تحملته على مشقة ، وحملت الشيء تكلفته إذا لم تطقه إلا تكلفاً ؛ فمثل هذا يسمى مشقة بهذا الاعتبار ؛لأنه إلقاء بالمقاليد ودخول في أعمال زائدة على ما اقتضته الحياة الدنيا " .

قلت : هذا النوع من المشقة هو الذي ضل به أصحاب منهج التيسير ؛ حيث أخذوا ييسرون الكثير من التكاليف الشرعية التي لازمها هذا النوع من المشقة ، وأنت ترى أن أدلة الشريعة لم تعتبر هذا النوع من المشقة بحيث تنفيه ؛ لأن رفعه يؤدي إلى مفاسد كثيرة ، ويخل بمقاصد عظيمة .

ثم قال رحمه الله : " والرابع أن يكون خاصاً بما يلزم عما قبله ؛فإن التكليف إخراج للمكلف عن هوى نفسه ، ومخالفة الهوى شاقة على صاحب الهوى مطلقا ، ويلحق الإنسان بسببها تعب وعناء ، وذلك معلوم في العادات الجارية في الخلق .

فهذه خمسة أوجه من حيث النظر إلى المشقة في نفسها انتظمت في أربعة .

ثم أخذ يفصل في هذه الأنواع .

قلت : والنوع الثالث والرابع من المشقة هو الملازم للتكاليف الشرعية وليس مقصوداً في أدلة التيسير ، وهما محل النزاع مع أصحاب منهج التيسير الذين تعلقوا بتلك الأدلة ليصلوا إلى أهوائهم . والله المستعان .

وقال الإمام الشاطبي رحمه الله ( 2/214) موضحاً الفرق بين المشقة التي لا تنفك عن العبادة ، والمشقة التي شرعت لها الرخص ، وتخفف لأجلها الأحكام ؛ قال رحمه الله : " فإنه لا ينازع في أن الشارع قاصد للتكليف بما يلزم فيه كلفة ومشقة ما ؛ ولكن لا تسمى في العادة المستمرة مشقة كما لا يسمى في العادة مشقة طلب المعاش بالتحرف وسائر الصنائع ؛ لأنه ممكن معتاد لا يقطع ما فيه من الكلفة عن العمل في الغالب المعتاد بل أهل العقول وأرباب العادات يعدون المنقطع عنه كسلان ، ويذمونه بذلك فكذلك المعتاد في التكاليف

وإلى هذا المعنى يرجع الفرق بين المشقة التي لا تعد مشقة عادة والتي تعد مشقة وهو أنه إن كان العمل يؤدي الدوام عليه إلى الانقطاع عنه أو عن بعضه أو إلى وقوع خلل في صاحبه في نفسه أو ماله أو حال من أحواله ؛ فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد وإن لم يكن فيها شيء من ذلك في الغالب فلا يعد في العادة مشقة وإن سميت كلفة فأحوال الإنسان كلها كلفة في هذه الدار في أكله وشربه وسائر تصرفاته ولكن جعل له قدرة عليها بحيث تكون تلك التصرفات تحت قهره لا أن يكون هو تحت قهر التصرفات فكذلك التكاليف فعلى هذا ينبغي أن يفهم التكليف وما تضمن من المشقة ".

ومن أراد التوسع فليرجع إلى " قواعد الأحكام " لابن عبد السلام ، و" الموافقات " للشاطبي ، و " الفروق " للقرافي .

وأخيراً أقول : إن أصحاب هذا المنهج ما أرادوا من وراء تعلُّقهم بالنصوص والقواعد العامة إلا التخلص من أحكام الله تبارك وتعالى بدعوى الاجتهاد والتعلق بمقاصد الشريعة .

ومن كان هذا حاله فهل يجوز استفتاؤه والوثوق به ؟!

قال السمعاني في " قواطع الأدلة " (2/353) عند بيان شروط المفتي من العلماء : " فنقول : المفتي من العلماء من استكملت فيه ثلاث شرائط :

أحدها : أن يكون من أهل الاجتهاد ، وقد قدمنا شروط المجتهد وصفته .

والشرط الثاني : أن يستكمل أوصاف العدالة في الدين حتى يثق بنفسه في التزام حقوقه ، ويوثق به في القيام بشروط .

والشرط الثالث : أن يكون ضابطا لنفسه من التسهيل ، كافاَّ لها عن الترخيص ؛ حتى يقوم بحق الله تعالى في إظهار دينه ويقوم بحق مستفتيه .

وللمتسهل حالتان :

إحداهما أن يتسهل في طلب الأدلة وطرق الأحكام ويأخذ بمبادئ النظر وأوائل الفكر ؛ فهذا مقصر في حق الاجتهاد ؛ فلا يحل له أن يفتي ولا يجوز أن يستفتى ، وأن جاز أن يكون ما أجاب به حقا ؛ لأنه غير مستوف لشروط الاجتهاد ؛ لجواز أن يكون الصواب مع استيفاء النظر في غير ما اختلف فيه .

والحالة الثانية : أن يتسهل في طلب الرخص وتأويل الشبه ومعنى النظر ؛ ليتوصل إليها ويتعلق بأضعفها ، وهذا متجوز في دينه متعد في حق الله تعالى ، أو غارٌّ لمستفتيه ، عادل عما أمر الله سبحانه به في قوله : {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه } ، وهو في هذه الحالة أعظم مأثما منه في الأولى ؛ لأنه في الحالة الأولى مقصر وفى الثانية متعد ، وإن كان في الحالتين آثماً متجوزاً ، لكن الثاني أعظم وكما لا يجوز أن يطلب الرخص والشبه كذلك لا يجوز أن يطلب التغليظ والتشديد وليعدل في الجواب إلى ما يوجبه صحة النظر من الحكم الذي تقتضيه الأدلة الصحيحة ، فإن دلت على التغليظ أصاب ، وإن دلت على الترخيص أصاب ، وإن كان للتغليظ وجه في الاجتهاد أمسك عن ذكره . فهذه الشروط التي يجب أن يكون عليها المفتي ؛ فإن أخل بها لم يحل للفتيا ، ولايحل لسائل علم بحاله أن يستفتيه " .

والله أعلم ، وهو الموفق .