الجمعة 11 شوال 1445 هـ
19 ابريل 2024 م
جديد الموقع   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (124-129)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (117-123)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (111-116)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (107-110)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (97-106)   تفسير القرآن: ‌‌تفسير سورة التوبة 94-96   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-48، كتاب الوضوء، الحديث 170و171و172و173و174و175   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-47، كتاب الوضوء، الحديث 166و167و168و169   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-46، كتاب الوضوء، الحديث 162و163و164و165   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-45، كتاب الوضوء، الحديث 157و158و159و160و161      

القائد الدميث إلى شرح الباعث الحثيث الجزء الخامس

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد ؛

فهذا المجلس الخامس من مجالس شرح الباعث الحثيث

قال المؤلف رحمه الله :

( وتكلم الشيخ أبو عمرو على التعليقات الواقعة في صحيح البخاري، وفي مسلم أيضاً، لكنها قليلة، قيل: إنها أربعة عشر موضعاً )

المعلق هو ما حذف من مبتدأ إسناده واحد أو أكثر .

نأخذ مثالا ؛ إن روى الإمام البخاري رحمه الله حديثا فأسقط شيخه أو أكثر من أول الإسناد فهو معلق فربما أسقط شيخه ، وربما أسقط أكثر من شيخه من أول الإسناد ، ويمكن أن يسقطه كله ، فيقول عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا ؛ أو قال أبو هريرة كذا وكذا ، وربما يذكر جزءا من الإسناد كأن يقول البخاري مثلا عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بين بهز بن حكيم والبخاري أكثر من راو .

الشيخ أبو عمرو تكلم عن تعليقات البخاري ومسلم ، وذكر أن التعليقات التي في صحيح مسلم قليلة ، قيل إنها أربعة عشر موضعا ، ذكرها النووي في مقدمة شرح مسلم ، وقال ابن حجر : إنها اثنا عشر حديثا ، ووجدت هذه الأحاديث موصولة ماعدا حديثا واحدا ، وذكرها الحافظ العراقي كلها، وذكرها ابن حجر في " النكت على مقدمة ابن الصلاح " .

قال ابن كثير رحمه الله - :

(وحاصل الأمر: أن ما علقه البخاري بصيغة الجزم فصحيح إلى من علقه عنه، ثم النظر فيما بعد ذلك ) فالتعليقات التي في صحيح البخاري نوعان :

النوع الأول وهو ما وصله البخاري في صحيحه في موضع آخر ، أي البخاري يخرج الحديث مثلا معلقا في كتاب الطهارة ثم يخرجه في كتاب آخر أو في نفس الكتاب موصولا ، فيذكره أولا معلقا ، ثم يذكره في موضع آخر موصولا ويذكر شيخه ومن فوقه فهذا لا إشكال في كونه من أصل مادة الكتاب وحكمه حكم البقية المسندة .

والنوع الثاني الذي لم يصله في موضع آخر من كتابه وهو قسمان :

القسم الأول : ما يرويه بصيغة الجزم .

والقسم الثاني : ما يرويه بصيغة التمريض .

صيغة الجزم : هي التي يكون فعلها مبنيا للمعلوم كـ ( قال ، حكى ، روى ) .

وصيغة التمريض فعلها مبني للمجهول كـ ( قيل ، حكي ، روي ) .

فيقول ابن كثير : ما علقه البخاري بصيغة الجزم ؛كأن يروي البخاري حديثا عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وبهز ليس شيخا للبخاري ؛ فيقول ابن كثير هو من البخاري إلى بهز بن حكيم صحيح ، أي الرواة الذين أسقطهم البخاري إلى بهز ثقات ، فبقي عليك أن تنظر في بهز ومن بعده الذين أظهرهم لك البخاري ، والذين أظهرهم هنا بهز وأبوه وجده .

فمعنى الكلام أن البخاري قد علق الحديث هنا إلى بهز بن حكيم ، والخبر صحيح إلى بهز فبقي أن تنظر فيمن بعد ذلك .

فالحديث الذي يعلق عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يذكر فيه أحد من الرجال ، ظاهر كلام ابن كثير الذي أخذه عن ابن الصلاح أنه يكون صحيحا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا لم يذكر أحدا من رجال الإسناد فيكون الإسناد صحيحا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما إذا ذكر بعض رجال السند ؛ فمعنى ذلك أن الإسناد صحيح إلى ذلك الرجل ، ثم انظر في بقية الإسناد ، قالوا لأن البخاري لن يستجيز إطلاق ذلك إلا إذا صح عنده ذلك عنه .

(وما كان منها بصيغة التمريض ) مثل روي وحكي ويروى ويذكر إلى آخره ( فلا يستفاد منها صحة ولا تنافيها أيضاً ) فما علق بصيغة الجزم ؛ فهو صحيح إلى من علق عنه ، أما ما علق بصيغة التمريض ، فلا نستفيد منه ضعفا ولا صحة ، هذا معنى كلام ابن كثير رحمه الله الذي أخذه عن ابن الصلاح . لماذا لا يستفاد منه صحة ولا ضعفا ؟

قال : ( لأنه قد وقع من ذلك كذلك وهو صحيح ) أي قد وقع من الأحاديث المعلقة المروية بصيغة التمريض في صحيح البخاري وهي صحيحة ، (وربما رواه مسلم) أي الحديث الذي وقع عند البخاري بصيغة التمريض ، وجد عند مسلم ، وكونه وجد في صحيح مسلم ؛ فلا نستدل بتعليق البخاري الحديث في صحيحه بصيغة التمريض على أنه ضعيف .

هذا ما ذكره ابن الصلاح ، والصواب بعد ذلك كله أن نقول: بما أن الحديث المعلق الذي لم يصله البخاري في صحيحه في موضع آخر لم يشترط البخاري صحته ؛ إذن فالصواب أن ينظر فيه ويبحث عن حاله ، سواء كان التعليق بصيغة الجزم أو بصيغة التمريض ، ثم يحكم عليه بالصحة أو الضعف . هذا هو الراجح في المعلقات عند البخاري في صحيحه .

قال رحمه الله - :

( وما كان من التعليقات صحيحاً فليس من نمط الصحيح المسند فيه) أي إن وجدت حديثا معلقا عند البخاري وهو صحيح ؛ فلا يعني ذلك أنه بنفس قوة الأحاديث المسندة الموجودة عند البخاري ، ولا هو من شرط الكتاب (لأنه قد وسم كتابه "بالجامع المسند الصحيح المختصر في أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه " ) أي الأحاديث المعلقات عند البخاري ليست من شرط البخاري في كتابه ؛ لأنه سمى كتابه الجامع المسند ، أي أحاديثه متصلة الأسانيد ؛ فخرج بذلك الأحاديث التي ليست مسندة ، فليست من أصل الكتاب .

قال :

(فأما إذا قال البخاري " قال لنا " أو " قال لي فلان كذا " ، أو " زادني " ونحو ذلك، فهو متصل عند الأكثر ) أي فهو متصل عند أكثر علماء الحديث ( وحكى ابن الصلاح عن بعض المغاربة أنه تعليق أيضاً ) فقالوا : ( يذكره للاستشهاد لا للاعتماد) أي يذكرها كشواهد لأحاديث أخرى أو متابعات ، ولا يعتمد عليها ( ويكون قد سمعه في المذاكرة ) المذاكرة أن يجلس الشيخ مع آخر فيذكر ما عنده من حديث ، وذاك الآخر يذكر ما عنده أيضا من أحاديث على سبيل التذكر والمدارسة ، وهذه تكون أضعف من مجالس التحديث والإملاء ( وقد رده ابن الصلاح ) أي هذه الدعوة من هؤلاء المغاربة ردها ابن الصلاح ( بأن الحافظ أبا جعفر بن حمدان قال : إذا قال البخاري : وقال لي فلان ؛ فهو مما سمعه عرضا ومناولة ) وهذا قول آخر في الصيغ المذكورة ؛ أن هذا ليس من المعلقات بل هو مما سمعه البخاري عرضا ومناولة .

والعرض : هو أن تمسك الكتاب وتقرأ على الشيخ أحاديثه وهو يقرك ، فإن سكت أو قال نعم ؛ فهو حديثه ، وإن اعترض وقال لا ، فهو ليس بحديثه .

والمناولة : أن يناوله شيخه كتابه ويقول له هذا سماعي .

فأبو جعفر يقول هنا : قول البخاري " قال لي فلان " هذه أحاديث أخذها إما عرضا أو مناولة ، وليست سماعا من لفظ الشيخ .

قال أهل العلم : على سبيل التسليم ؛ فله حكم الاتصال .

ولكن أقوالهم هذه مردودة عليهم جميعا ؛ الذين قالوا هو تعليق و الذين قالوا هو عرض أو مناولة ؛ قالوا لأننا وجدنا البخاري يقول في بعض الأحاديث في مواضع " قال لي " ثم وجدناه يذكر نفس الحديث في موضع آخر في كتاب آخر يقول فيه " حدثنا فلان " ، فهذا يوضح أن الحديث عنده بنفس طريقة التحمل .

( وأنكر ابن الصلاح على ابن حزم رده حديث الملاهي حيث قال فيه البخاري : وقال هشام بن عمار ؛ فقال : أخطأ ابن حزم من وجوه ؛ فإنه ثابت من حديث هشام بن عمار )

البخاري رحمه الله روى حديث الملاهي ، وهو حديث أبي عامر أو أبي مالك ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف " هذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه ، قال فيه : " وقال هشام بن عمار " أي لم يروه بلفظ حدثنا أو أخبرنا أو سمعت هشام بن عمار ؛ بل قال " وقال هشام بن عمار " .

فعده ابن حزم حديثا معلقا ، ورده بناء على ذلك .

وقد شذ ابن حزم - رحمه الله في تضعيفه لهذا الحديث ، لذلك تجد أكثر من يتابعه على تضعيف هذا الحديث من أهل الأهواء الذين يتبعون أهواءهم ؛ لأن صحة هذا الحديث واضحة ، وإليك البيان :

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " الاستقامة " : " والآلات الملهية قد صح فيها ما رواه البخاري في صحيحه تعليقا مجزوما به داخلا في شرطه " .

وقال الإمام الألباني رحمه الله - : " وهذا النوع من التعليق صورته صورة التعليق ، كما قال الحافظ العراقي في تخريجه لهذا الحديث في المغني ، وذلك لأن الغالب على الأحاديث المعلقة أنها منقطعة بينها وبين معلقها ، ولها صور عديدة معروفة وهذا ليس منها لأن هشام بن عمار من شيوخ البخاري الذين احتج بهم في صحيحه في غير ما حديث " انتهى

والرد الأقوى على ابن حزم في تضعيفه لحديث المعازف ؛ هو ما ذكره ابن كثير رحمه الله - ؛ قال :

( قلت : وقد رواه أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه ، وخرجه البرقاني في صحيحه، وغير واحد، مسنداً متصلاً إلى هشام بن عمار وشيخه أيضاً كما بيناه في كتاب " الأحكام " ولله الحمد)

أي سلمنا لك يا ابن حزم أن الحديث عند البخاري معلق، ولكن خرجه أحمد وأبو داود وغيرهم من العلماء متصلا إلى هشام بن عمار ؛ فالعلة التي تتعلق بها قد زالت ، بل قد رووه أيضا متصلا إلى شيخ هشام بن عمار ، أي أن هشام بن عمار قد توبع عليه .

وقد تكلم عليه الشيخ الألباني رحمه الله في كتابه " تحريم الآت الطرب " بما يشفي العليل ويروي الغليل ، وبين أن الحديث صحيح متصل عن هشام بن عمار وعن شيخه ، فالشبهة ضعيفة جدا ؛ لذلك لا يتعلق بها إلا أهل الأهواء .

قال :

( ثم حكى ) أي ابن الصلاح ( أن الأمة تلقت هذين الكتابين بالقبول سوى أحرف يسيرة ) أي :أحاديث قليلة ( انتقدها بعض الحفاظ كالدارقطني وغيره ) أي : أن ابن الصلاح - رحمه الله - حكى أن الأمة تلقت الأحاديث التي في " الصحيحين " بالقبول وحكى ذلك غيره أيضاً وليس ابن الصلاح فقط ، سوى أحرف يسيرة ، أي : ما عدا أحاديث قليلة ، فما تلقته الأمة بالقبول لا يجوز لأحد أن يضعفها ؛ لأنه مسبوق بالإجماع ، ويجب إغلاق هذا الباب في وجوه أهل الأهواء والبدع الذين يتحينون الفرص لهدم سنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -

فإذا كان الحديث في الصحيحين وقد تلقته الأمّة بالقبول ولم ينتقده أحد من الحفاظ فلا يجوز لأحد أن يقدم على تضعيفه ؛ لأنه مسبوق بالإجماع .

سوى أحرف يسيرة عددها مائتان وعشرون حديثاً تقريبا ، انتقدها بعض الحفاظ كالدارقطني وغيره ، ذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح الأحاديث التي انتقدت على البخاري ، وذكر النووي - رحمه الله - الأحاديث التي انتقدت على مسلم ، ودافع عنها .

قال :

(ثم استنبط ) أي ابن الصلاح (من ذلك ) أي : من تلقي الأمة لأحاديث الكتابين بالقبول ( القطع بصحة ما فيها من الأحاديث) إلا ما انتُقد منها ، أي : أن هذه الأحاديث التي في " صحيح البخاري " وفي " صحيح مسلم " مقطوعٌ بصحتها ما عدا ما انتقده الحفاظ منها .
قال :

( لأن الأمة معصومة عن الخطأ فما ظنت صحته وجب عليها العمل به ) ، الأمة معصومة عن الخطأ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم :" لا تجتمع أمتي على ضلالة" ، فما اعتقدت الأمّة أنه صحيح فوجب العمل به ( لا بد وأن يكون صحيحاً في نفس الأمر ) أي : في حقيقة الأمر .

قال:

( وهذا جيد وقد خالف في هذه المسألة الشيخ محي الدين النووي وقال لا يُستفاد القطع بالصحة من ذلك . قلتُ ) أي : ابن كثير (وأنا مع ابن الصلاح فيما عوّل عليه وأرشد إليه والله أعلم ) .

هذه المسألة هي هل أحاديث الصحيحين التي لم تُنتقد تفيد القطع بصحتها ؟

هل هي صحيحة قطعاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أم أنها تفيد غلبة الظن فقط ؟

هنا حصل الخلاف .

ابن الصلاح يقول نعم أحاديث الصحيحين التي لم تُنتقد تفيد القطع.

النووي يقول لا هي تفيد الظن الغالب فقط ولا تفيد القطع .

ونحن نبدأ في المسألة من أوّلها .

قبل أن نتحدث عن أحاديث الصحيحين بخصوصها نتكلم عن المسألة عموماً ، يجب أن نعلم بداية أن جمهور العلماء قسموا الحديث إلى قسمين :

إلى أحاديث متواترة وأحاديث آحاد .

فما هو المتواتر ؟

المتواتر هو ما رواه جمع كثير عن جمع كثير يستحيل تواطؤهم على الكذب من أوله - أي من أول الإسناد - إلى آخره. ويكون مستندهم الحس.

هذا المتواتر يفيد العلم اليقيني .

أما أحاديث الآحاد فتنقسم إلى ثلاثة أقسام : إلى حديث مشهور وعزيز وغريب ، هذه الثلاثة تُسمى أحاديث آحاد ؛

فالمشهور : هو ما كان في أقل طبقة من طبقات إسناده ثلاثة فأكثر بشرط أن لا يصل إلى حد التواتر ،وسيأتي الكلام عليه بإطالة في موضعه .

وأما العزيز : فما كان في أقل طبقة من طبقات إسناده اثنان.

وأما الغريب : فما كان في أقل طبقة من طبقاته واحد فقط .

إذاً الحديث الذي يرويه واحد أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة ما لم يصل إلى حد التواتر هذا يسمى عند أهل العلم حديث آحاد .

و الحديث المتواتر سواء كان تواتره تواتراً لفظياً أو معنوياً يفيد اليقين .

والمتواتر اللفظي هو أن يأتي الحديث بنفس اللفظ كقوله " من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار "، فيكون بنفس اللفظ .

وأما المعنوي كعذاب القبر مثلاً وردت فيه أحاديث كثيرة ، كحديث الدعاء في الصلاة ؛ " اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر " وكالحديث الذي في الصحيحين " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر على رجلين يعذبان في قبورهما وما يعذبان في كبير " فهذا يدل على عذاب القبر وذاك يدل على عذاب القبر ، لكن الحديث ليس واحد ، ويوجد أحاديث كثيرة تدل على عذاب القبر فأحاديثه متواترة تواتراً معنوياً ؛ أي أن الأحاديث ليست بنفس اللفظ ولكن كلها تدل على عذاب القبر .

الحديث المتواتر سواء كان تواتره لفظياً أو معنوياً قطعي لا خلاف في ذلك بين أهل العلم .

ولكن الخلاف حصل في أحاديث الآحاد ، فعندنا في حديث الآحاد ثلاثة مذاهب ؛ هل هي تفيد اليقين أم تفيد الظن فيها ثلاثة مذاهب للعلماء :

المذهب الأول : أنها تفيد اليقين ، ومن الذين قالوا بهذا القول ابن حزم ، ودليلهم ؛ هو أن الله سبحانه وتعالى كلفنا بالعمل بخبر الآحاد , وبما أن الله سبحانه وتعالى كلفنا بالعمل بخبر الآحاد إذاً فيجب أن يكون الخبر يقينياً ، لماذا ؟ قالوا : لأن الظن لا يُعمل به لقول الله تبارك وتعالى:{ إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً } فقالوا إذاً أحاديث الآحاد ليست ظنية بل هي يقينية لأننا مأمورون بالعمل بها .

المذهب الثاني : مذهب الذين يقولون بأنه لا يفيد إلا الظن ، ودليلهم هو أن كل راوٍ معرض للخطأ وممكن أن يقع منه ، وممكن أن يقع منه أيضاً الكذب ، قالوا بما أن الراوي من الممكن أن يقع منه الخطأ ومن الممكن أن يكذب إذاً فخبره لا يفيد اليقين ، ولكن يفيد الظن ، هذا القول الثاني .

القول الثالث : وهو القول الوسط ، و عندهم فيه تفصيل ؛ قالوا : أحاديث الآحاد عندنا ليست سواء ؛ فمنها ما احتف به قرائن - والقرينة أمر يشير إلى المطلوب - ، القرينة دليل يقوي الخبر .

قالوا من أحاديث الآحاد ما احتفّت به قرائن دالة على صدقه ، فهذا يفيد اليقين ومنها ما لا يحتفّ به قرائن وهذا يفيد الظن .

قالوا : من هذه القرائن إخراج الحديث في الصحيحين وعدم انتقاده فهذه قرينة تدل على أن الحديث ثابتٌ يقيناً .

وهذا هو القول الصحيح القوي والراجح في المسألة ، بل نقل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - اتفاق أهل الحديث قاطبة على أن أحاديث الصحيحين يقينية الثبوت - أي التي لم تنتقد - وسيأتي نقل كلام ابن تيمية - رحمه الله - وفي هذه الأقوال بعض الإشكالات خصوصاً الذين يقولون بأن أحاديث الآحاد كلها تفيد الظن ، إذ يُفتح المجال أمام أهل البدع والضلال لرد هذه الأحاديث خصوصاً في مسائل الاعتقاد فأهل البدع والضلال يقولون ما كان يقينيًّا يُؤخذ به في العقيدة وما كان ظنياً فلا يؤخذ به في العقيدة فأنت عندما تقول بأن أحاديث الآحاد كلها تفيد الظن يسرت لهم السبيل لردّ أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا القول خطأ .

والحديث إذا احتفت به قرائن أزالت شبهة احتمالية الخطأ من الراوي أو الكذب عنه ، كونه قد احتف بقرائن هذه القرائن قوت خبر الراوي بحيث أزالت عنه شبهة أن يكون قد أخطأ الراوي في الحديث أو كذب فيه .

وأما قول الذين قالوا بأن كل الأحاديث تفيد اليقين لأن الله أمرنا بالعمل بها وأن العمل بالظن غير جائز فقولهم غير صحيح لأن الظن نوعان:

نوع من الظن بُني على دليل فهذا الظن واجب العمل به كما قال -عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي جاء : " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض " - يعني عنده لسان يستطيع أن يفصح عن حجته أكثر من غيره - " فأقضي له على نحو ما أسمع " - على حسب ما سمعت ، أقضي على حسب ما عندي من بينات - " فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار أقطتعها له فلا يأخذها " .

أو كما قال -عليه الصلاة والسلام - هذا دليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا ذكر أنه يقضي بغلبة الظن وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قادراً على أن يقضي باليقين وأن الله سبحانه وتعالى لا يقره على خطأ ؛ لكن أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبين لنا حكماً شرعياً هاهنا أننا نعمل بغلبة الظن والقاضي يقضي على حسب ما عنده من بينات وأدلة ظاهرة ثم الباطن أمره إلى الله.

إذاً هذا دليل على جواز العمل بغلبة الظن ، وهناك أدلة أخرى كثيرة ذكرها العلماء في كتب المصطلح وفي كتب أصول الفقه.

إذاً فالظن عندنا ظنان:

ظن مذموم وهو الذي ذمه الله في كتابه وهو الظن الذي لا يبنى على دليل وليست معه قرينة .

وظن ممدوح ويجب العمل به وهو الظن الذي معه دليل ومعه بينة .

هذا هو الرد على الذين قالوا بأن أحاديث الآحاد كلها يقينية ويجب العمل بها لأننا أمرنا بالعمل بهذه الأحاديث .

وأما الذين قالوا بأنها كلها ظنية فقد ذكرنا الرد عليهم أن احتمالية الخطأ واحتمالية الكذب الواردة على الراوي قد ارتفعت وزالت باحتفاف الخبر بالقرائن كأحاديث الصحيحين مثلاً اتفاق البخاري ومسلم على تصحيح حديث ما ؛ قرينة قوية إذ البخاري ومسلم جبلان إمامان في علم العلل في علم الحديث فعندما يصححان حديثا ؛ فهذه قرينة قوية على قوة هذا الحديث وصحته .

وتلقي الأمة له بالقبول وعدم انتقاد أحد من علماء الحديث وعلماء العلل لهذا الحديث مع حرص العلماء على بيان الصحيح منها والضعيف قرينة قوية جداً ثانية تدل على أن أحاديث الصحيحين أحاديث قوية ويقينية الثبوت . هذا خلاصة ما أردنا أن نذكره في هذا الموضوع .

قال :

( حاشية ثم وقفت بعد هذا على كلام لشيخنا العلامة ابن تيمية مضمونه أنه نقل القطع بالحديث التي تلقته الأمة بالقبول عن جماعات من الأئمة ) بغض النظر عن كونهم من أهل السنة أم ليسوا من أهل السنة هؤلاء كلهم قالوا بالقطع بالأحاديث التي هي في الصحيحين ( منهم القاضي عبد الوهاب المالكي والشيخ أبو حامد الإسفراييني والقاضي أبو الطيب الطبري والشيخ أبو إسحاق الشيرازي من الشافعية وابن حامد وأبو يعلى ابن الفراء وأبو الخطاب وابن الزاغوني وأمثالهم من الحنابلة وشمس الأئمة السرخسي من الحنفية قال : وهو قول أكثر أهل الكلام من الأشعرية وغيرهم كأبي إسحق الإسفراييني وابن فورك قال وهو مذهب أهل الحديث قاطبة ومذهب السلف عامة) مذهب أهل الحديث كلهم ، ومذهب السلف عامة .

وهذا الكلام لشيخ الإسلام موجود في " مجموع الفتاوى " (13/ 351)

قال :

(وهو معنى ما ذكره ابن الصلاح استنباطاً فوافق فيه هؤلاء الأئمة ) .

هذا والله أعلم والحمد لله رب العالمين .


 

 

 

قائمة الخيارات
22 [0.9 %]
بقلم: أبي الحسن علي الرملي
الاربعاء 24 محرم 1432
عدد المشاهدات 3514
عدد التحميلات 71
جميع الحقوق محفوظة لشبكة الدين القيم © 2008-2014 برمجة وتصميم طريق الآفاق